جينات عسر القراءة والبيئة: أهو تفاعل معقد؟
يعاني كلٌّ من بوبي وميشا وهاري من عسر القراءة، وجميعهم لديهم عجز صوتي. العجز الصوتي عند ميشا أقل حدة من العجز الصوتي عند بوبي وهاري، ويبدو أنها تستطيع التغلب على الصعوبات التي تواجهها. ومع ذلك، فإن الشيء المشترك بين ثلاثتهم، كما سنرى، هو تاريخهم العائلي المرتبط بعسر القراءة والصعوبات اللغوية. من المنطقي إذن أن نشك في أنه عسر القراءة يعكس استعدادًا وراثيًّا في كل من هذه الحالات، وإن اختلفت مظاهره في الحالات الثلاث. وقد يرجع ذلك إلى وجود اختلافات في شدة العجز الأساسي، أو نظرًا إلى وجود اختلافات في الموارد التعويضية أو نظرًا إلى أنهم تعرضوا لتجارب مختلفة من حيث البيئة المحيطة بهم وفي ذلك التعليم. سيتناول هذا الفصل الأسس البيولوجية لعسر القراءة، وسيطرح السؤال: ما الدليل على أن عسر القراءة اضطراب وراثي؟ بعد ذلك سننتقل إلى دراسة دور البيئة بوصفها وسيطًا محتملًا للتأثيرات الوراثية.
هل عسر القراءة وراثي؟
لقد كان معروفًا منذ سنوات عديدة، بالتأكيد منذ الكتابات المبكرة لصامويل تي أورتون، أن عسر القراءة متوارثٌ في العائلات. وكغيرها من اضطرابات النمو العصبية، يبدأ عسر القراءة مبكرًا في الطفولة، ويستمر (على الرغم من أن تأثيره قد يقل بمرور الوقت)، ومن المحتمل أن يكون وراثيًّا. لنراجع الحالات الثلاث الموجودة لدينا. يعمل والد بوبي مهندسًا، ولا يعتبر نفسه «قارئًا جيدًا»، لكنه تابع مسيرة مهنية ناجحة في الصناعة، وتعمل والدة بوبي مديرة مكتب. يبدو أن عائلة والده شهدت تاريخًا من صعوبات الكلام وعسر القراءة، في حين أن عائلة والدته ليس لها هذا التاريخ. أما ميشا، فهي الطفلة الثالثة في أسرتها. كانت أختاها الكبريان تبليان بلاءً حسنًا في الدراسة الأكاديمية، إلا أن كلتيهما لم تجيدا الرياضيات. كان شقيق والدتها يعاني من مشكلات في القراءة في أثناء المدرسة، لكن أسباب هذه الصعوبات لم تُشخَّص قط. أما هاري، فقد شهدت عائلتا والديه حالات من عسر القراءة، وعلى الرغم من أن والديه لم تواجههما مشكلات في القراءة والكتابة أو الحساب، كان أحد أعمامه مصابًا بعسر القراءة، وكذلك ابنا عمه كلاهما.
للعوامل الوراثية المتعلقة بعسر القراءة أهمية كبيرة، لكنها معقدة. كما ذكرنا، لاحظ الأطباء السريريون خلال النصف الأول من القرن العشرين أن المشكلات المتعلقة بالقراءة تنتقل داخل الأسر، قبل أن تبدأ الدراسة الرسمية للموضوع في خمسينيات القرن العشرين. لكن العائلات تتشارك الجينات والبيئات أيضًا، فكيف يمكننا أن نعرف ما إذا كان سبب (أو أسباب) عسر القراءة جينيًّا أم لا؟ كما سنرى، فإن دراسة التوائم هي التي تمنحنا أفضل فرصة لفك تشابك تأثيرات الجينات، وفصلها عن تأثيرات البيئات المشتركة.
تستفيد دراسة التوائم من المقارنة بين التوائم المتطابقة (الأحادية اللاقحة)، الذين يشتركون في ١٠٠ في المائة من الجينات الموروثة، والتوائم غير المتطابقة (الثنائية اللاقحة)، الذين يشتركون في ٥٠ في المائة في المتوسط. نظرًا إلى أن نوعي التوائم يشتركان في البيئة (حتى سن المراهقة على الأقل)، يُفترض عادة أنه إذا كانت التوائم أحادية اللاقحة أكثر تماثلًا من التوائم الثنائية اللاقحة، فلا بد أن هذا يعكس — بشكلٍ أساسي — التماثل الجيني الأكبر للتوائم الأحادية اللاقحة. يتضح أن احتمالية أن يصاب التوءمان بعسر القراءة (معدل التوافق) أعلى في حالة التوائم أحادية اللاقحة (نحو ٩٠ في المائة) مما هو عليه في حالة التوائم ثنائية اللاقحة (نحو ٤٠ في المائة).
إنَّ معظم الأبحاث الرائدة التي تدرس الأسباب الجينية والبيئية لصعوبات القراءة وصعوبات التعلم الأخرى من جامعة كولورادو، حيث تمول معاهد الصحة الوطنية الأمريكية دراسة التوائم منذ عام ١٩٩٢، ومؤخرًا دراسة التوائم الطولية الدولية، وهي دراسة مقارنة للأطفال الذين يتعلمون القراءة في كولورادو وأستراليا والدول الاسكندنافية. وقد أكدت نتائج هذه الدراسات الأساس الوراثي للاختلافات الفردية في القراءة ابتداءً من سنوات التعليم المبكرة فصاعدًا. على الرغم من ذلك، أظهرت البيانات المقارنة أن البيئة لها تأثير أكبر قبل أن يبدأ تعليم القراءة الرسمي، فهي تعكس — دون أدنى شك — التباينات في بيئة تعلم القراءة والكتابة بالمنزل، وموقف الوالدين من القراءة. توجد أيضًا أدلة أولية على أن عمليات التعلم التي تنطوي عليها القراءة، ومن بينها ما ينطوي عليه تعلم الحروف، لها أساس وراثي مختلف إلى حدٍّ ما عن المهارات اللغوية التي تمثل أساس القراءة، ولا سيما الفهم القرائي.
بالتركيز على الطرف الذي تكون عنده مهارات القراءة في أدنى مستوًى لها (عسر القراءة)، قدمت هذه الدراسات دليلًا — لا جدال فيه — على أن انتماء الفرد إلى مجموعة من المصابين بعسر القراءة يرجع — بشكلٍ كبير — إلى الجينات المشتركة. كما أنها استُخدِمت لتقييم الدرجة التي تساهم بها الجينات في الارتباط بين سمتين. فثمة سمتان لهما أهمية خاصة، وهما القراءة وإحدى ركائزها الأساسية: الوعي الصوتي. الفكرة الأساسية هنا هي وجود ارتباط جيني قوي بين الوعي الصوتي والقراءة، أي فك الترميز، وهو ما يشير إلى وجود تأثيرات جينية مشتركة، ومن ثَم وجود أسباب مشتركة تؤثر في الآليات الأساسية لكل منهما.
في دراسة النمو المبكر للتوائم، قيست اللغة الشفهية في نفس الأعمار التي قيست فيها القراءة. وعليه، كان من الممكن تقدير الارتباط بين اللغة والقراءة. كان الارتباط معتدلًا، وهو ما يشير إلى أن ٢٥ في المائة من العوامل الوراثية المؤثرة نفسها تؤثر في اللغة مثلما تؤثر في طلاقة القراءة (أقل مقارنة بالتأثير في الوعي الصوتي). ومن المثير للاهتمام أن الارتباط الوراثي بين اللغة والفهم القرائي كان أعلى بكثيرٍ (أكثر من ٠٫٨)؛ وهذا يشير إلى أن هاتين السمتين أقرب من حيث الجينات التي تؤثر فيهما.
بشكلٍ عامٍّ، تتوافق نتائج مشروع دراسة النمو المبكر للتوائم مع تلك التي توصلت إليها مجموعة كولورادو، كما أنها تشير، ربما على غير المتوقع، نظرًا إلى أن القراءة سلوك مكتسب، إلى أن تأثيرات البيئة في القراءة صغيرة نسبيًّا. ومع ذلك، علينا أن نتذكر أن النتائج تقتصر على العينات التي خضعت للدراسة ومجموعة البيئات التي تعرضوا لها، كما أنها تمثل بعض التأثيرات الجينية، وليس جميعها. يمكن توقع أن تكون التأثيرات البيئية أقوى، في ظل نظام تعليمي يتسم بتباين كبير بين المدارس في جودة التعليم، وفي المناهج الدراسية المقدمة. علاوة على ذلك، لم تتحدث النتائج عن الأسباب الوراثية والبيئية التي أدت إلى ضعف القراءة على مستوى الأفراد، بل ارتبطت بأنماط جماعية. ورغم هذا كله، حتى إذا قبلنا أن هناك عوامل وراثية قوية تؤثر في قدرات القراءة لدينا، فإن هذا لا يعني أن التدخلات التي تستهدف القراء المتعثرين لا يمكن أن تكون فعالة.
إيجاد «الجينات المسئولة عن عسر القراءة»
إنَّ تقدير مقدار ما يُعزى إلى التأثيرات الوراثية من تباين في القراءة بين الأفراد قادنا — بطريقة ما — نحو فهم قابلية الانتقال بالوراثة، لكنه لم يساعدنا على تحديد الجينات التي ترتبط بعسر القراءة. من المهم أن نفهم منذ البداية أنه لا يوجد جين واحد يرتبط بعسر القراءة، بل، الأرجح أن تكون التأثيرات الجينية المؤدية إلى عسر القراءة ناتجة عن عدة جينات لها تأثيرات صغيرة تعمل معًا. شهد العقدان السابقان اهتمامًا كبيرًا بعلم الوراثة الجزيئي لعسر القراءة. على الرغم من أن التقدم كان سريعًا، وجرى تحديد الجينات المرشحة، نتوقع أن يتضمن الأمر آلاف الجينات، لذا لا تزال هناك فجوات كبيرة في المعرفة. فكثيرًا ما يقال إننا «بعيدون جدًّا عن تفسير جوانب قابلية الانتقال بالوراثة التي لا تزال مجهولة.»
تكوِّن جينات الفرد نمطَه الجيني، في حين تشكِّل الصفات الجسدية أو العقلية (ويشمل ذلك القراءة) النمط الظاهري. اهتم علماء الوراثة الجزيئية بكيفية ارتباط الفروق الفردية في القراءة (و«النمط الظاهري لعُسر القراءة» على وجه الخصوص) بالاختلافات في النمط الجيني بين الأشخاص المصابين بعُسر القراءة وبين أقاربهم غير المصابين. ونظرًا إلى أن الجينوم يتضمن ما بين ٢٠ ألف جين و٢٥ ألفًا موزعة على ثلاثة مليارات من أزواج قواعد الحمض النووي، فليست هذه بالمهمة الهيِّنة. علينا ألَّا ننسى أن الجينات تقوم بوظيفتها في سياق البيئة المحيطة، والبيئات المحيطة بالأفراد ليست واحدة، كما أن الجينات تتفاعل مع الجينات الأخرى أيضًا.
كانت المناهج الأولى التي تسعى لفهم الأساس الوراثي لعسر القراءة تتمثل في دراسات الارتباط الجيني. فمن خلال مقارنة الحمض النووي المقدَّم من أفراد مصابين بعسر القراءة، بالحمض النووي المأخوذ من الأفراد غير المصابين بعسر القراءة، والذين تربطهم صلة بيولوجية وثيقة بالأفراد المصابين، يمكن تحديد المناطق الموجودة على الكروموسومات؛ حيث يزداد التشابه بين الأفراد المصابين، ومن ثَم تحديد الاختلافات الوراثية المحتملة التي تؤدي إلى اختلافات في مهارات القراءة (القارئ الجيد مقابل القارئ الضعيف). وقد أدَّى هذا المنهج إلى تحديد مقاطع من الكروموسومات الخاصة بعسر القراءة على الكروموسومات ١ و٢ و٣ و٦ و١٥ و١٨. تتيح متابعة هذه الدراسات، باستخدام تقنيات أخرى، تحديدَ الأشكال المختلفة للجينات المحددة و«الجينات المرشحة» في هذه المناطق، والتي يتضح أنها تلعب دورًا في ظهور عسر القراءة. غير أن الارتباط بين الجين المرشح والجوانب المتعلقة بخواص عسر القراءة ضعيف نسبيًّا في معظم الحالات. علاوة على ذلك، لم يمكن تكرار النتائج دائمًا، ويبدو من المحتمل أن بعض الارتباطات قد تقتصر على مجموعات فرعية من الأفراد.
ما دور البيئة في نشأة عسر القراءة؟
لا يُعد عسر القراءة، بأي حالٍ من الأحوال، حالة خطيرة مثل بيلة الفينيل كيتون، كما أنه لا يوجد أي دليل على أنه يمكن تحسينه عن طريق النظام الغذائي أو الدواء، لكن البيئة التي يختبرها الأطفال المعرضون لخطر عسر القراءة قد يكون لها تأثير كبير في تطور معرفة القراءة والكتابة والتحصيل التعليمي. ومن المحتمل ألَّا يقتصر تأثير الآلية المتبعة لاحقًا للتخفيف من آثار عسر القراءة في التحصيل فقط، بل في تقدير الذات من الناحية الأكاديمية والرفاه. ولهذا سننتقل الآن إلى دراسة بعض العوامل التي يمكنها التخفيف من تأثير عسر القراءة.
«البيئة يا غبي!»
كان مَن صاغ عبارة «البيئة يا غبي» [تنويعة من شعار حملة بيل كلينتون الشهير «الاقتصاد يا غبي!»] محرر إحدى الدوريات الكبرى، وزعم أن الحلقة المفقودة في فهمنا للأساس الوراثي للعديد من المشكلات النفسية هي البيئة. فما دور البيئة في تطور عسر القراءة؟ من المعروف جيدًا أن البيئة تؤثر في نمو الطفل تأثيرًا قويًّا، ولا سيما في مهارة كتعلم القراءة. فنحن نلاحظ أنَّ الأطفال الذين نشَئُوا في عائلات تتسم بثراء مهارات القراءة والكتابة لديهم، يتطورون في تعلم القراءة بسرعة أكبر، ويمكن أن يكون للتعليم المدرسي آثار كبيرة في التحصيل العلمي. بشكلٍ أعم، تحدد البيئة الثقافية التي نولد فيها القيمة التي يعطيها المجتمع لمهارات القراءة والكتابة. فكيف يمكننا فهم كل هذه التأثيرات؟
معظم الأبحاث المرتبطة بتأثير البيئة في عسر القراءة تركز على الأنظمة المصغرة والمتوسطة. على الرغم من ذلك، يتعيَّن علينا أن ننتبه إلى السياق الثقافي الأوسع المتمثل في النظام المكبر. وقد تناولنا بالفعل تأثير الاختلافات بين أنظمة الكتابة في مدى سهولة تعلم الأطفال القراءة.
من المحتمل أن تزداد الصعوبات التي يواجهها الطفل عند تعلم القراءة إذا نشأ في بيئة متعددة اللغات، أو إذا كانت لغة بيئة التعلم التي يدرس فيها مختلفة عن لغته الأم. وبالمثل، ستكون هناك تحديات إضافية عندما يكون هناك ازدواج لغوي، وهي الحالة التي يوجد فيها شكلان مختلفان من اللغة نفسها داخل مجتمع واحد، لكن شكلًا واحدًا فقط هو المستخدَم في المدرسة. في مجتمع يعطي قيمة للقراءة والكتابة، ستكون فرص العمل المتاحة أمام الآباء الذين تكون مستويات القراءة والكتابة لديهم متدنية، ومن ثَم تكون موارد الأسرة أقل. وبالتبعية، فإن اختيار الحي سيكون حتمًا مقيدًا بدخل الأسرة، وهو غالبًا ما سيحدد جودة المدارس التي يرتادها الأطفال. من المؤسف أن دائرة الحرمان قد تؤدي إلى الحيلولة دون أنواع التدخلات التي تدعم الاحتياجات الإضافية للطفل المصاب بعُسر القراءة بشكلٍ أفضل.
البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة
في دراسة كندية كلاسيكية، تتبَّع الباحثون الأطفال من مرحلة الروضة (من خمس سنوات إلى ست) حتى الصف الثالث (من ثماني سنوات إلى تسع) لفحص تأثير البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة في تطوير القراءة المبكرة. قاست الدراسة جانبين من البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة خلال فترة الروضة: الأنشطة غير الرسمية المتمثلة في التعرض لقصص الأطفال، وذلك من خلال قياس معرفة الوالدين بعناوين كتب الأطفال ومؤلفيها، والأنشطة الرسمية التي تتضمن تعليم مهارات القراءة مباشرة.
كان الأطفال الذين جرت متابعتهم في هذه الدراسة ينتمون إلى عائلات من الطبقة المتوسطة، ومن المنطقي أن نتوقع أن أغلب هذه العائلات تتمتع بدرجة عالية من التعليم. ومن المنطقي أيضًا أن نتوقع أن البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة في عائلة يكون فيها أحد الوالدين مصابًا بعسر القراءة تختلف عن تلك التي يكون أفرادها من القراء النهمين. إذا كانت القراءة تتطلب مجهودًا شاقًّا، فإن احتمالية أن تستمتع بكتابٍ أو تقرأ جريدة أو تذهب إلى المكتبة أقل بكثيرٍ مقارنة بممارسة الأنشطة التي لا تتطلب القراءة، مثل أنواع الرياضة التي تتطلب مجهودًا بدنيًّا شاقًّا أو متابعة الأخبار على التلفزيون.
محدودة هي الدراسات التي تُجرى حول البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة في حالات عسر القراءة، غير أنه، بعد تحييد الباحثين لتأثير الظروف الاجتماعية والاقتصادية، أفادت الدراسات بأن البيئة المنزلية للأسر المصابة بعسر القراءة لا تختلف كثيرًا عن البيئة المنزلية للأسر العادية، وذلك على الرغم من أن الأنماط عكست اهتمامًا أقل بالقراءة من جانب الأسر المصابة بعُسر القراءة. فثمة دراسات تشير إلى أن الوالدين في الأسر التي «تتضمن مصابين بعسر القراءة» يقضون من الوقت في تعليم أطفالهم، لا سيما الأحرف، أطول مما يقضيه الوالدان في الأسر التي تمثِّل المجموعات الضابطة، وهو ما قد يبدو مخالفًا للتوقعات المستندة إلى افتراض أن هؤلاء الآباء لن يختاروا الأنشطة المرتبطة بالقراءة. توجد بعض الأدلة أيضًا على أن قراءة قصص الأطفال تُعد نشاطًا وقائيًّا للأطفال «المعرضين للإصابة بعسر القراءة». وفي مشروع ويلكوم للغة والقراءة أوضحنا أن قراءة قصص الأطفال يمكن أن تعزز الوعي الصوتي والقراءة. كما أوضحنا أيضًا أن البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة تمثِّل حلقة الوسط التي تربط بين تأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية واستعداد الطفل للتعلم في المدرسة. ومن النتائج الأكثر أهمية أن مهارات القراءة والكتابة واللغة التي يمتلكها أحد الوالدين، ويحملها معه إلى بيئته المنزلية (مما يعني أنَّ جينات أحد الوالدين تؤثر في البيئة) لها تأثير قوي في قراءة الطفل ولغته.
إضافة إلى تقييم الأطفال، قاست الدراسة مهارات اللغة والقراءة والكتابة لكلٍّ من الوالدين. في نموذج يتضمن العلاقات بين مهارات الأم والبيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة ومهارات اللغة والقراءة لدى الأطفال، وجدنا أولًا: أن لغة الأم يمكن أن تتنبَّأ بما ستكون عليه لغة الطفل، وثانيًا: أن المهارات الصوتية للأم تُعد مؤشرًا للتنبؤ بقدرات الأطفال على قراءة الكلمات والتهجئة. وقد أوضحنا أيضًا أن مهارات الأم تعطينا معلوماتٍ عن الجوانب غير الرسمية التي تتضمنها بيئة تعلم القراءة والكتابة المنزلية، لا الجوانب الرسمية، أي إنها تخبرنا عن مقدار تعرض الطفل لقصص الأطفال، لكنها لا تخبرنا عن مقدار النزعة لتعليم القراءة والكتابة بطريقة أكثر منهجية. الأهم من ذلك أنه بعد مراعاة الاختلافات في كيفية استخدام الأمهات للغة، لم يعُد التعرض لقصص الأطفال مؤشرًا بارزًا للتنبؤ بمهارات الطفل في اللغة والقراءة، بينما ظل تعليم القراءة والكتابة مباشرة مؤشرًا للتنبؤ بمهارات الأطفال في القراءة والتهجئة. يبدو إذن أن العلاقة بين الأنشطة المبكرة غير المنهجية المتعلقة بتعلم القراءة والكتابة في المنزل، ومهارات اللغة والقراءة لدى الطفل، تُعزى إلى مهارات الأم، التي لا يزال من الممكن أن تكون ناتجة عن عوامل وراثية انتقلت من الأم إلى الطفل عبر الجينات، وليس تأثيرات بيئية.
إنَّ الأبحاث بشأن البيئة المنزلية لتعلم القراءة والكتابة في الأسر التي تعاني من عسر القراءة لم تزل في مراحلها الأولى، ويلزم إجراء العديد من الأبحاث لتكرار النتائج التي توصلت إليها الدراسات السابقة. يتعين على الأبحاث المستقبلية أيضًا أن تتخطى تقييم «كم» الأنشطة المنزلية المرتبطة بتعلم القراءة والكتابة، وتتضمن أدوات لقياس «جودة» أنشطة تعلم القراءة والكتابة في المنزل. ثمة حاجة إلى أبحاث تقيِّم ما إذا كان تغيير ممارسات الآباء المصابين بعسر القراءة سيمكِّن أطفالهم من تفادي صعوبات القراءة، أم لا.
تأثيرات المدرسة
المدارس مؤسسات معقدة؛ لذا من الصعب قياس تأثيرها في مهارات القراءة الفردية للأطفال. تهدف الأبحاث المتعلقة بكفاءة المدرسة إلى تناول تأثير المدارس في مجموعة من النتائج التعليمية، لكن هناك العديد من المشكلات التي يجب حلها. منها على سبيل المثال، كيف يمكننا قياس «جودة» المدرسة، أو تنظيم الفصول أو اتجاهات المعلم؟ وكيف يمكننا مراعاة تأثيرات السياق السياسي الاجتماعي أو تأثيرات المدارس المجاورة في إنجازات المدرسة؟ على الرغم من هذه المشكلات، يمكن للمدارس أن تشكِّل فارقًا في نتائج الطلاب، حتى مع وضع سمات الطالب عند دخوله المدرسة أول مرة في الاعتبار. غير أنَّ هذه التأثيرات ترتبط بالتحصيل الكلي، ونحن لا نعرف بعد مدى نجاح المصابين بعسر القراءة في تحقيق النجاح في البيئات المدرسية المختلفة. تشير الأدلة المتناقلة إلى أن توفير موارد متخصصة، ويشمل ذلك مدارس متخصصة في عسر القراءة، من شأنه أن يغيِّر نتائج الأطفال الذين يعانون من درجة متقدمة من عسر القراءة، لكننا لا نمتلك بيانات جيدة تؤكد هذا الزعم، وقد تتعلق بعض هذه التأثيرات برفاهة الطفل وتقديره لذاته لا الإنجازات التعليمية.
علينا أن نحاول معرفة المزيد عن الأدوار التي يمكن أن تلعبها المدارس في تحسين حالة الأطفال المصابين بعُسر القراءة. ثمة خطوات صغيرة تتخذها المنظمات الوطنية التي تحث على التنوع في التدريس والتعليم. في إحدى المدارس «المجهزة لتلائم المصابين بعسر القراءة» يكون الجميع، بدءًا من مدير المدرسة ووصولًا إلى الحارس، على دراية بالمشكلات المحيطة بعسر القراءة. وتضمن هذه المدارس جودة التعليم المقدَّم إلى الشخص المصاب بعسر القراءة، كما تكون هناك علاقة وثيقة بين المعلمين وأولياء الأمور لدعم احتياجات الطالب المصاب بعسر القراءة. لا شك — بالطبع — في أهمية أن تسعى المدرسة لتحقيق هذه المعايير، لكن من الصعب تقديم دليل ملموس على مدى تأثر كل طفل يعاني من عسر القراءة بهذه الجهود.
تأثيرات التدريس والتعلم
على المستوى المصغر، ثمة مجموعة كبيرة من الأدلة التي توضح أن برامج التدخل المنظمة لتحسين مهارات القراءة يمكنها تحسين مهارات القراءة لدى الطفل. سنناقش الاستراتيجيات الفعالة لعسر القراءة في الفصل السادس، أما في الوقت الحالي، فنحن نشير فقط إلى أن هذه التدخلات من العوامل المهمة التي تؤثر في البيئة التعليمية للطفل. ونؤكد أيضًا أهمية التفكير في تأثيرات التدريس والتعليم في عسر القراءة على نطاقٍ أوسع. تستهدف برامج التدخل مهارات محددة، ويكون التركيز على تطوير مهارات القراءة والتهجئة بالنسبة إلى معظم الأطفال المصابين بعسر القراءة. ومع ذلك، من المهم أيضًا التأكد من تعديل البيئة، بحيث تلائم كلًّا من تبعات عسر القراءة، والصعوبات المستمرة التي تؤثر في الأداء في المدرسة، وفي بيئة العمل لاحقًا. فالعديد من الأطفال المصابين بعُسر القراءة يعانون أيضًا من مشكلاتٍ في تعلم الحساب؛ ميشا وأختاها — مثلًا — كن يجدن صعوبات في الرياضيات؛ كما أن طبيعتها الخجولة تؤدي إلى تأخرها بدرجة أكبر في مجال الحساب؛ إذ القلق بشأن الرياضيات تحديدًا ظاهرة معروفة. يواجه بوبي أيضًا صعوبات في تعلم جداول الضرب، لكن يبدو أنه يستوعب المفاهيم المرتبطة بالأعداد جيدًا. من المهم تقديم الدعم للتأكد من أن الصعوبات التي يواجهها عند التعامل مع العمليات الحسابية الأساسية لا تعيقه عن المضي قُدُمًا في التعلم، لا سيما وأنه يُظهر بالفعل اهتمامًا بمجالات العلوم والهندسة التي ستتطلب منه أن يكون بارعًا في الرياضيات. مرَّت سنوات طويلة منذ أن كان هاري طالبًا متفرغًا. وعلى الرغم من أنه تلقى الكثير من الدعم من والديه ومعلمه الخاص، كانت المدارس التي التحق بها أقل تفهُّمًا، ولم تقدم له دعمًا للتغلب على الصعوبات التي يواجهها. يمكننا القول إن إصابته بعسر القراءة زعزعت ثقته في نفسه ومهاراته الأكاديمية، وهو ما جعله يرفض مواصلة الدراسة رغم أنه كان يستطيع ذلك. أصبح بوبي بالفعل محبطًا من التعليم، وقد أسفر إحباطه عن مشكلات سلوكية واضحة. ما من سببٍ على الإطلاق يجعل لعسر القراءة هذا التأثير الأوسع في السلوك والتكيف العاطفي؛ فمع ظهور التكنولوجيا، يجب أن تكون المدارس قادرة على توفير سياقات مناسبة للتعلم لجميع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.