حِكَم في فترة اللقاء كتبتها في كُنَّاشَتِي
ظللت مضطرب الفؤاد مشغول القلب بقية شهر مايو ويونيو وبعض شهر يوليو سنة ١٩١٠ أتربص صديقي فلا يلقاني، واشتاق رؤيتهُ فلا يراني، وكم ليلة أرقت وسهرت، وكم من ساعة خلوت وفكرت، ودعوت فلا سميع ولا مجيب، ثم أرجع فأقول، يا ليت شعري، ماذا أقول إذا أشعت الحديث بين الناس وأذعت هذا السر المكتوم، وما أدري أهذا يقظة أم منام، إن هذا الأمر لعجيب، ثم اشتعلت في قلبي جذوة نار الفكر والنظر، وكان كل شيء أراه أو أسمعهُ أو أذكره في هذه الدنيا يناديني: السلام السلام العام يا بني الإنسان، إنكم جاهلون، وصبيان غافلون، وكأنما الشمس بهذا تناجيني، والقمر يخاطبني، والزهر يحدثني، والنهر يناجيني، والطير به يغني، وكل جميل وعجيب يذكرني، فكتبت في مذكرتي تلك المدة ما أعرف من الحكم.
الحكمة الأولى
ذهبت إلى مدينة حلوان لأروِّح النفس وأفرج الهم بالهواء النقي، فلما أن جنَّ الليل وأرخى سدوله نظرت السماء صافية زرقاء بهية، تبسمت فيها النجوم، وضحكت الكواكب، وأشرقت أكنافها، وكأن الكواكب تتناجى بالسلام ويُسارُّ بعضها بعضًا بالكلام، منظر عجيب. فقلت: يا ليت شعري هذه النجوم في السماء آمنة مطمئنة متحابة متجاذبة، كل في فلك يسبحون، وفي منظرها الجميل عبرة وحكمة لعقلاء الأمم أن يتصافوا ويتحدوا ويكون بعضهم لبعض ظهيرًا. الحيوان يعجز أن يدرك سر هذا الجمال وأدركه الإنسان، فأين المحبة وأين السلام، وأين رحمة الإنسان، وأين جمال العقول كما جملت هذه النجوم.
الحكمة الثانية
نمت في تلك الليلة وأنا في طرب من حسن سماء المدينة وجمال هوائها، فلما استيقظت صباحًا وأشرقت الغزالة تغشى وجه الأرض بخالص ذهبها وأنا جالس في منزل جميل فيه روضة غنَّاء ذات دَوْمَات تتغنى على أغصانها الأطيار، والرياح تهب على الأشجار، وتلعب بأغصانها، وتقبل أوراقها، وتضاحك أزهارها، فكنت أسمع لها غويرًا وصفيرًا وغناء مختلف النغمات، فخامرني الطرب، ولن أشبهها إلَّا بأجمل موسيقى، تنوعت نغماتها، وتداخلت أصواتها، واختلفت فنونها، وهي إلى الطبيعة أقرب، وكأن الموسيقيين في العالم نسخوا صورة من صور نغمات الأشجار عند هبوب الرياح، ثم قلت: لم أطربتني هذه النغمات، إن ذلك لِتَلَاؤُمِها، وتحابِّها، وتوافُقِها، مع اختلافها قوة وضعفًا، وارتفاعًا وانخفاضًا، ثم قلت: أفليس الإنسان موسيقى الإنسان، الإنسان أحق بهذا الاتحاد، لا عقل عند الهواء، ولا فكر عند الأشجار، والإنسان عاقل، فكيف حرم الموسيقى في السياسة، ونالتها تلك المخلوقات التي سخرت له إن هذا لعجب عجاب.
الحكمة الثالثة
جاءني خطاب من صديق لي في اليابان، فأجبته بخطاب وأودعتهُ صندوق البريد، ثم هجس بخاطري، وخطر بروعي أن سائر الأمم والممالك تخدم خطابي وتوصله إلى اليابان.
إن الدول الأوروبية والممالك الشرقية وسفنها التجارية حافظة لخطابك، لولا السفن البريدية والطرق البحرية والعلوم الفلكية والسوق التجارية والمعاهدات الدولية ما وصل كتابي لليابان، أنا أضع الكتاب بفلوس قليلة، وأمم الشرق والغرب تحمله، الإنسان كنفس واحدة، اختلفت صورها، إن هذه الفكرة تدعو لتحاب الأمم واتحادها، ما السبيل وما العمل!
الحكمة الرابعة
دخلت زقاقًا من أزقة القاهرة خاليًا من المشاة والركبان فأحسست بوحشة وقلت: سرور الإنسان بالإنسان، فالحرب جهل، إنها تضاد المحبة العامة، ألا ساء مثلًا المحاربون.
الحكمة الخامسة: ركوب الحمار
سريت ليلًا إلى إحدى القرى، وأنا راكب حمارًا، ومعي خادم، وقد أنزل القمر من لدنه فضة ذائبة ملأ بها الجو، وغشي بها وجه الأرض، وزين بها وجوه الأشجار والبحار والأنهار والمزارع والسبل، أخذ الحمار يعدو فوق جسر ممدود بجانب نهرٍ جارٍ، حتى إذا ركبت وتوسطت الطريق نزلت للسلام على صاحبٍ سلَّم عليَّ، فما أن أردت الركوب كرَّة أخرى تعسر عليَّ ولم يكن لبرذعة الحمار من رِكاب، وآنست هنالك منحَدرًا سهلًا تنزل من الطريق إلى الأرض التي بجانبه، فأخذ الخادم بخطامه، وأنزله إلى المنحدر، وبقيت في أعلى الجسر، وركبت، فلما استويت على ظهره اعترتني دهشة، وقامت بنفسي فكرة، إني أيقنت أن في هذه سرًّا مكتومًا مخزونًا، إن ركوب الحمار على هذا المنوال يعرفه العامة والأطفال ليس أمرًا ذا بال، ولكني أيقنت أن فيه سرًّا عجيبًا وحِكمًا وغرائب.
إن في ذلك لمَثلين؛ مثلًا أدنى، ومثلًا أعلى.
أما الأدنى فأنك ترى الأمم العاقلة الرشيدة تنتهز فرصة نوم الأمم الجاهلة الضعيفة، فترسل لها شرذمة من قومها يسومونهم سوء العذاب، فيذللونهم ويحكمونهم ويتخذونهم خدمًا وحشمًا خاضعين، فالحمار مثل الأمم الجاهلة، والخادم مثل رجال حكومات الأمم القوية، وأنا مثال نفس تلك الأمم، ونزول الحمار للمنحدر مَثل لخضوع الأمم الجاهلة.
أما المثل الأعلى فإن الإنسان له شهوة كالبهائم، وغضب كالسباع، وعقل كالملائكة، فالشهوة البهيمية ألجأتهُ إلى الأكل واللباس، والشهوة الغضبية تَظهر بالقتال والسلاح والقهر كما تفعل السباع والوحوش، والعقل به عقل النظام والحكمة والفضيلة، فإذا عقل الإنسان جعل الشهوة والغضب مثل الحمار، والعلماء والحكماء يقودون تينك الشهوتين، وإذن يركب العقل كما ركبت، ويجري في الطريق السوي كما جريت بحماري على الجسر قريبًا من بوبسطيس «تل بسطه»، وإذن يضيء سنا قمر العدل على وجه البسيطة كما أضاء القمر السماوي تلك الليلة وأنا في فرح وسرور.
كم في العالم من علم ظاهر والناس عنهُ غافلون، هذه مسألة بسيطة سهلة، إنها مثال لما في العالم من الحكم، إن عقولنا فيها خزائن مفتحة الأبواب، وفي العالم من الجمال والبهاء ما لا يستطاع وصفه، إنهُ لحاضر وما منعنا أن نفقهه إلَّا الشهوات. السلام سهل وليس يعوزه إلَّا إرادة الإنسان، وما أقربه من الإنسان إذا أراد أن يعقله، ولو عقل لعمل، والسلام.
الحكمة السادسة: طير الكناري «عصفور»
جلست في بهوٍ فسيح مزدان بجمال الأشجار ونضرة الأزهار، فسمعت تغريدًا عجيبًا وصوتًا بديعًا ما سمعت مثله ذا نغمات مطربة فرفعت طرفي إذا طيْران أصفران صغيران يتغنيان، فسألت: ما هذا؟ فقالوا: كناري، فعلمت أنه ليس الخبر كالعيان، وما راءٍ كمن سمع، وإن للسمع والبصر في النفس أثرًا ليس للخبر، ولقد قرأت عن هذا الطير في كتب الإفرنج، فما أثر في نفسي تأثير سماعه، ولقد أدهشني أنه صغير الحجم عجيب الصوت، وقلت: يا ليت شعري لو أنا أخذنا حجرًا مساويًا لهذا الطير في الحجم، وقارناهما لوجدنا بونًا بعيدًا، وفرقًا شاسعًا.
الحجر والطير من الأرض وما عليها، كلاهما من المادة، إنهُ ما أحسن صورة الطير، ولا هندس رسمه، ولا أجمل صوته، وأودع جسمه هذه «الحكم التشريحية والطبيعية والكيماوية ونواميس الضوء والإبصار في عينيه وإدراكه ومخيلته وذاكرته وخزانة إدراك مصورة معانيه في عقله»، ما فعل ذلك كله إلَّا إتقان الصنعة. الحجر والطير المتساويان حجمًا كلاهما من المادة، وأبعد المسافة بينهما دقة الصنع والإتقان في أحدهما، وبساطته في الآخر، أفلا يكون هكذا الإنسان، ولعل الفرق ما بين الإنسان اليوم وحاله في مستقبل الأيام كالفرق ما بين الحجر والطير.
الإنسان اليوم يظلم الإنسان، ويغشه، ويكذب، ويثقل عليهِ، كما يثقل الحجر الساقط من جبل على السائرين.
فلعل الإنسان يصقل عقله بالحكمة، ويتوارى عن هذه المخازي والظلم، فيحلق في جو سماء الحكمة، ويتعامى عن الدنايا ويكون كطير الكناري جمالًا في علمه، وكمالًا في حكمته، ويطير في جو الجمال، وحكمة الصانع الحكيم.
التعليم يصل بالإنسان إلى نهاية كماله، يجمعه على أخيه بالمحبة، ويعلمه حب أخيه، يستخرج من قلبه نور الحب، ويشرق من وجدانه شمس الشوق والرحمة والعطف على سائر نوع الإنسان.
الإنسان اليوم لم يفهم نفسه، لم يبلغ رشده، لم يعقل جمال نفسه، فليتعلم الحب والرحمة والحكمة والفضيلة والإحسان.
الحكمة السابعة: الياسمين
زرت صديقًا فأهداني باقة ياسمين، فآنست بهجة ونظامًا، وحسنًا وإتقانًا، وجمالًا بديعًا، زهرة الياسمين ذات خمس أوراق بيض ناصعات، تقاربت أسافلها وتباعدت أعاليها، وشكلت أطرافها العليا هيئة شكل خماسي الأضلاع، منظم الأوضاع، بحيث لو قست ما بين رءوسهن للقيتها متساوية المقياس، إن فيها لجمالًا، وإن عليها لبهاء، وإن فوقها لبريقًا، عطرت الهواء بذكي ريحها، وسرت الجلاس والإخوان بأريج عبيرها، فما شبهتها إلَّا بالأرواح الإنسانية، لو أن الناس نقبوا عنها لاكتشفوا أسرارها، كما أدركوا أسرار البخار والكهرباء، وعناصر الهواء وأصول الماء.
الروح جميلة صافية مشرقة في أصلها أشبه شيء بزهرات الياسمين، أوراقها الخمسة العفة والشجاعة والعلم والعدل واحتمال الحوادث بثبات، وجمالها حبها سائر الناس، وريحها ينبثُّ منها إلى ما حولها وعلى القريب والبعيد وسائر نوع الإنسان.
الإنسان أحق من الزهر بجماله ونضرته ونظامه، ولا دليل على اتصاف المرء بتلك الصفات إلَّا حب سائر الأمم والممالك شرقًا وغربًا وإلا فلا جمال ولا كمال.
الحكمة الثامنة: رجلان إفرنجيان
قابلت في شارع الموسكي بالقاهرة رجلين إفرنجيين، أحدهما أعمى يتكفف الناس، والآخر يحمل ورق القمار ليبيعه، فأثر ذلك المنظر في قلبي، وأشفقت عليهما، وقلت إنني أحس بعطف عليهما، إنهما من نوع الإنسان، من ذا الذي قال: شرقي وغربي وأمة وأمة، هذا العطف مركوز في الجِبِلَّة، مفطور عليهِ الأجنَّة، إنهُ كالأثير يغدو فيه الإنسان ويروح، وكالهواء يحيط بالإنسان، وكضوء الكواكب والشمس والقمر يحيط بالقلوب والأجسام.
من ذا الذي صرف الناس عن المحبة والإخلاص، أنا من النوع الإنساني، وذو عطف وشفقة عليهم، أفليست الأمم الرشيدة ذات عطف على أخواتها الجاهلات كما لديَّ، أوَليست الأمة الجاهلة كهذا الإفرنجي الأعمى، أوَليس الضلال عن الهدى في العلم كعمى البصر عن ضوء النهار، أفليس للأمم الرشيدة عطف كما عندي على الأمم الجاهلة، إني أراهم يدفنون هذا الوجدان في قبور أجسامهم ويعملون ضد فِطَرهم، وهم عن الحب معرضون.
الحكمة التاسعة: كان أوقد مصباحه ضحى
آنست حانوتًا واسعًا أظلم داخله، والشمس طالعة ضحى، والناس غادون ورائحون. فقلت هكذا نوع الإنسان، نظم جسمه، وأحكم تدبيره، ومنح الحواس والعقل، وسخرت له الأرض والنبات، وأطاعه الحيوان، وأبيح له البحر، وأمكنه أن يعيش خالي البال، فأخذ يتغالى في أحوال حياته، ويتمادى في سرفه حتى أظلمت سماء حياته بظلمات الظلم والعداوات والحقد والحسد والمدفع والنار، كما أظلم داخل هذا الدكان بالبناء الذي عجز ضوء الشمس أن يسطع بفنائه، وردَّ ذهبها الخالص أن يزور رفارفه وساحاته.
فليضئ عقله بضياء الحب والإخلاص لأخيه، كما أضيء داخل الدكان، وليدم على التهذيب والتأديب والتمرين على الحب حتى يساوي نور الحب الساطع في قلبه نور شمس السعادة المشرقة في الخليقة والمضيئة في الطبيعة الشاملة لسائر الكائنات.
الحكمة العاشرة: الفرس والعربة
شاهدت رجلًا يسوق فرسًا تجر عربة ووراءها ولدها، فخُيِّل لي أن العربة الأمة المغلوبة، والسائق الغالبة، والفرس الآباء وولدها هم الأبناء، وأن الأمة الغالبة تسوم المغلوبة سوء العذاب، وتعطي أبناءها دروس الذلة والمسكنة بإذلالها الآباء، هكذا نوع الإنسان وهكذا كان.
الحكمة الحادية عشرة: الرضى
إن أحوال الناس متباينة، ولكلٍّ حالٌ تباين حال الآخر، والمرء ما دام حيًّا يتطلع لما هو أحسن وأجمل، فليكن المرء راضيًا بما هو فيه، ساعيًا فيما هو أعلى بحيث لا يشوش الرضا على العمل والسعي، ولا السعي على العمل والرضا.
الحكمة الثانية عشرة: بم امتاز الإنسان
الإنسان يغتذي ويلد ويموت، والنبات غذاؤه الأرض والهواء والشمس والماء، والإنسان غذاؤه خالص نبات وحيوان وهما من الأرض، فلا فرق بين الغذاءين إلَّا أن هذا سهل بسيط وذاك صعب المطلب غير بسيط، فاللحم واللبن والخبز وأنواع الفاكهة أغذية الإنسان يعوزها الطهي والنضج وغيرها.
إذا افتخر الإنسان بالأغذية والمال والثروة فقد جهل، وكيف يفخر بما سعد به النبات! النبات ليس له أرجل يمشي بها، ولا سكك حديدية، ولا بريد ولا كهرباء ولا لغة التخاطب، هو غني عن هذا كله، إن حياته بما هو حاضر لديه.
الإنسان مهد السبل ونظم البريد لتتيسر له الحياة ويعيش، الشجرة لا تحتاج للشجرة، فلا تنتقل إليها فلم يتيسر لها أسباب النقلة، الإنسان محتاج للإنسان فتيسرت له أسباب النقلة وها هو صنع البريد والكهرباء، فليتحاب الإنسان، فليتقرب من أخيه، فليكونوا أعوانًا ليستخرجوا من الأرض كنوزها، إلَّا أن الحرب تقطعهم، والحقد يؤخرهم، وربما لفظتهم الأرض، وجيء لها بقوم آخرين إذا تركوا مواهبهم وتحاربوا.
ألا إن معادن الأرض وفوائدها مخزونة إلى حين، فليحترس نوع الإنسان، وليقم في الأرض بالقسط، وليكونوا يدًا واحدة في مشارق الأرض ومغاربها وإلا حقت عليهم كلمة العذاب وتفجرت الأرض نارًا فأصبحوا فيها جاثمين كأن لم يغنوا بالأمس وهم هالكون.
الحكمة الثالثة عشرة: الكهرباء
لمع ضوء برقي تحت عجلة الكهرباء ضحى في حَمَارَة القيظ فأشرق وأضاء سناها الأزرق المحمر بشكل عجيب جميل. فقلت: الحياة أعمال ومشاق والعقول تضيء وتسعد.
الناس اليوم في عداوة وعذاب أليم من الحرب والضرب، فإذا أضاءت عقولهم كما أضاءت هذه الكهرباء أغدقت عليهم النعم، وأصبحوا في سلام آمنين، النور الساطع الساعة من الكهرباء، والكهرباء في سائر الأجسام المادية.
إن الأرواح الإنسانية فيها كهرباء المحبة والمودة والجاذبية الإنسانية، فإذا اكتشفت تلك الكهرباء أضاءت للناس، وأسعدتهم وبدلت العداوة بالمحبة والمشقة بالسهولة، وحملت عنهم مشاق الحروب والأذى والنفقات العظيمة، كما حملت الكهرباء عن الناس أثقالهم، وأدارت آلاتهم، وحملت أمتعتهم، وخاطت ملابسهم وأضاءت منازلهم.
وإذا كانت المادة حاوية لهذه المحبة الكهربائية أفلا تحمل القلوب ما هو أجلُّ وأبهى من أنواع الجمال والعشق والمودة الناجم عنها السعادات.
الحكمة الرابعة عشرة: أزرار صداري
ركبت الترام يومًا وأنا لم أزر أزراري فأحسست ببرد فأدركت أني نسيت أن أزر الأزرار، وقلت: أيؤاخذ المرء على النسيان أو يعذب الناس على غفلتهم! إن هذا لعجب عجاب، غفلت عن زر أزراري، فكيف أؤاخذ على ما لم أعلم.
ثم أيقنت أن هناك فرقًا ما بين الذنوب المادية، والآثام الروحانية، فالآثام الروحانية تكون على ما تعمدنا من الأعمال، والذنوب الجثمانية لا تذر قاصدًا، ولا ساهيًا، ولا ترحم جاهلًا بها ولا عالمًا، فلها قانون لا تتخطاه، وحد لا تتعداه، فالأمم الجاهلة تذوق العذاب، وتسام الخسف من الله والناس وإن صلحت نفوسها.
فالتقوى قسمان؛ تقوى الأرواح وهي التي قررها الأنبياء، وتقوى الأجسام وهي التي تتبع النواميس الطبيعية المحدودة.
وأهل الأرض نوعان نوع أحكموا نياتهم وقلوبهم كالبراهمة والبوذيين من أهل المشرق الأقصى، وقوم أصلحوا أجسامهم، واتقوا مصارعها، وساروا على نهج النظامات الطبيعية في الأحوال المادية، ولم يلاحظوا من آداب أرواحهم إلَّا على مقدار ما لاحظ أهل الشرق الأقصى من أحوال أجسامهم، فاستهزأ الجثمانيون بالروحانيين، وعدُّوهم من الأنعام، وساموهم سوء العذاب، والطرفان ضالان، ألا إن العدل أن يتوسط الطرفان، ويصير وسطًا في الجثمانيات والروحانيات، وإلا قامت قيامتهم وساءت حالهم أجمعين.
الحكمة الخامسة عشرة: الأرواح وتقاطعها وتواصلها
كنت في جماعة من الإخوان، ونحن جالسون في بهو، وهم مجدُّون في أعمالهم، منصرفون عما عدا أشغالهم. فقلت: إن لكل منهم شأنًا يغنيه، ولا يعلم أحد منهم ما في نفس أخيه، ولا يحس بما يحس به، فهم أشتات متفرقون، ثم فكرت من وجه آخر وقلت: أنا أحس بما يؤلمهم، وأجزع لما يدهمهم، إذا أصيب أحدهم بحرق أو غرق أو فقد صديق أو جرح عضو أو خدش عرض، أأنا إذ ذاك لا أشعر بمصيبته ولا أتأثر لنكبته؟ كلا، فالناس جميعًا يتراحمون ويتعاطفون ولو كان أحدهم شرقيًّا والآخر غربيًا، أَلَا إن بين النفوس عطفًا ورحمة يبرزها الفرح والترح كما تتقد النار في الأحجار، والكهرباء بالقدح والحركة، فهكذا المحبة العامة والسلام العام سيكونان بقدح زناد الآراء واستخراج شعور النوع الإنساني.
ما أجهل الناس اليوم، وما أجهل الإنسان، كان الإنسان لا يعلم الكهرباء إلَّا في الكهرمان عند حكِّه وفَرْكِه، فلما أن بحث عنهُ ألفاه مخزونًا في كل معدن وهواء وماء، وهو يرى في قلبه رحمة على عدوه إذا أصابه ضر كما كان يؤانس آثار الكهرباء في الكهرمان عند فركه، وقد اكتشف أن الكهرباء عامة في سائر أنواع المادة، فما باله لا يكشف الستار عن هذه المحبة والعطف العام الذي هو به أولى، بل هو الإنسانية الحقة، بل هو النور الإلهي، والشمس المضيئة.
يا ليت شعري من لي بمن أتلقى هذه الدروس العالية عنهُ حتى أبلغها لهذا الإنسان، أين عقولنا؟ أين محبتنا؟ أين الجمال؟ أين الفهم؟ أين العشق العام؟ اللهم أنت المعلم، فإذا لم تُفِضْ علمك على قلوب عبادك في مشارق الأرض ومغاربها فإنهم في العذاب خالدون.
هذه خمس عشرة مذكرة مما كتبته في مذكرتي في الفترة التي مضت في شهر يونيو وبعض يوليو، وهنا تم الفصل الحادي عشر.