في الصعود إلى كوكب جديد فوق نبتون
في هذه الفترة تاقت نفسي لحل هذا المشكل السياسي في النوع الإنساني، نظرت في كتب الحكماء والعلماء فلم أجد حلًّا يشفيني، والأمم يقتل بعضها بعضًا ويلعن بعضها بعضًا، ورأيت علماء الأمم يضرمون نار العداوة والبغضاء إلَّا قليلًا منهم كالعلامة هربت سبنسر الإنجليزي، والفاضل اللورد أفبري، والعلامة مركس الألماني والسيدة المستشرقة المدام لبيديف «جلنار الروسية» وأحزابهم و… الأمريكي وكنت الألماني، فأولئك وأمثالهم يحبون نوع الإنسان، ومن عداهم سائرون على هوى الفكر العام كأهل السياسة الذين لهم قلبان ظاهر وباطن، فتاقت نفسي لكشف هذه الغمة، وتمنيت لو يتاح لي شهود الصديق وهو الوجدان، حتى كانت ليلة الأحد من شهر يوليو سنة ١٩١٠.
فبينما أنا نائم في غرفتي إذ أقبلت تلك الروح البهية في نحو الساعة الثانية بعد نصف الليل، فأيقظني، فرأيته ساطع النور عليهِ ملابس فضية اللون ووجه كالشمس إشراقًا، وقد صار أنضر حُسنًا وأبهج جمالًا وأبهى إشراقًا، فقال لي: قم لأريك هذا العالم البديع، وأطوف بك أكناف السماء، وأريك ما لم يقف عليهِ كثير من الحكماء، فقمت معه ولم أدرِ وما إخال إني سوف أدري أأنا في يقظة أم في منام، فسرنا في الجو لحظات، إذا نحن على سطح البحر الأحمر تحملنا سفينة، فنظرت إذا مركبة في الهواء تقرب منا رويدًا رويدًا، حتى إذا كانت منا قاب قوسين طلعنا فوقها وعلت بنا في الجو في لمح البصر وأنا أظنها القمر، فلما أن امتطيتها وهو آخذ بيدي آنست فيها أشجارًا، وعليها عصافير تغرد بألحان شجية وهي ذات ألوان بديعة، وكأن أرضها قد رويت قريبًا وهي مبتلة، أو كأن المطر قد سقتها، وأقلعت قبل أن تطأها أقدامنا، وما رأيت إنسانًا، ولا حيوانًا إلَّا تلك الطيور. فقلت في نفسي: إذا رجعت إلى أهل الأرض بشرتهم بأرض مباركة طيبة.
ما أسهل وصولهم إليها سأريهم هذه الأرض الواسعة الخالية من السكان فيعمروها ويقلوا من تناطحهم كما تتناطح الكباش والأعنز، وفرحت بهذه الأرض الجديدة، وقلت: متى يكثر الناس زرع الأشجار لتغرد عليها الطيور فتغتذي بالدود الآكل لشجرة القطن وغيره.
ثم أخذت أسأل صديقي الوجدان وهو أحب إليَّ من نفسي فلا صديق سواه ولا معين إلَّا حكمته وعلمه. فقلت: أيها الصديق رعاك الله، قل لي، أنحن الليلة في القمر؟ إن القمر ليس فيه هواء ولا ماء، فمن أين نبتت فيه هذه الأشجار فغردت عليها الأطيار؟ نعم إن في القمر جبالًا شامخات وأودية واسعات، ولكنه خالٍ من آيات الحياة وسمات الأحياء، إن القمر له دائرة لا يتعداها ومدار لا يتجاوزه فكيف تنزَّل من فلكه إلى سفينتنا فركبناه؟
إن ما شاهدته الليلة لا يرضاه العلم ولا تألفه العلوم الرياضية والفلكية. إنا قرأنا العلم والحكمة نحن أهل الأرض وعرفنا الكواكب والشمس والقمر ودرسناها حق دراستها، فلم نجد في القمر أثرًا للحياة.
ثم رفعت بصري إذا جمال النجوم باهر واضح ورأيت من الأنوار والعجائب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولقد تجاوزنا مدارات الكواكب السبعة، وشاهدنا النجوم الثوابت بأحجامها.
ما أجهل الإنسان، إنا محجوبون عن رؤيتها في هذه الأرض، فإذا صعدنا مسافات بعيدة نشاهد حركاتها العجيبة المدهشة.
وقفة لمشاهدة الجمال والعجائب بين سيار زحل وسيار أورانوس
هنالك أوقفت مركبتنا بغتة، وقال صديقي الوجدان، سل ما بدا لك الآن، وانظر عجائب الزمان، إنا في جو عجيب بين أنوار تتلألأ وجمال وبهاء، أرى زحل بحلقاته الثلاثة المحيطات به، أرى المريخ وهو محمر اللون يبهر الناظرين، لقد غشاني ما غشى من آيات الجمال والبهاء والنور البديع الساطع، وأنا أحسُّ بجمال في روحي وبهاء في قلبي حتى خُيِّل لي مشاكلة أرواحنا في جمالها لما يحيط بنا في ذلك العالم الجميل من المحاسن والأنوار، ثم أخذت أعيد الأسئلة على رفيقي. فقلت له: أنحن في القمر؟ وكيف تعدى دائرته؟ وكيف ينبت فيه الشجر، ويغرد الطير؟
نحن الآن في عالم الأثير ولا هواء في جونا ولا ماء، فكيف أحيا بلا هواء؟ إن الهواء لينقطع على بعد أقل من ثمانين كيلو مترًا من أرضنا، ومتى جاوزناه مِتْنَا، فكيف حييتُ الآن في هذا المكان، وأنا ما بين زحل وأورانوس؟ قلت ذلك وهو يبتسم وينظر نظرة المحب الودود المتعجب من السؤال. فقال: ما أضيق دائرة علمكم يا بني آدم! أما علمت أن لكل مقام مقالًا؟ ألم يقل شاعركم:
قلت: نعم. قال: إنكم يا معشر بني آدم تقيسون العوالم بمقاييسكم الناقصة، إن أرضكم صغيرة منبوذة لا وزن لها بالإضافة إلى ما لا يحصى من العوالم السماوية، وقد خلقتم وصورتم من نسيمها وهوائها ومائها وعناصرها التي لم تعلموا منها إلَّا ما يقارب الثمانين، وهل تحققتم أنه لن يخلق خلق إلَّا على شرائطكم الأرضية، وعناصركم الكونية، فلا تتعجب من حال صرت إليها، ولا تَقِسْها بحال كنت فيها.
إن لكم يا معاشر الإنسان أحوالًا تصيرون إليها، وستعلمون أن الحياة ليست خاصة بأوضاعكم الأرضية، ولا محصورة في أحوالكم الحيوانية، فأنت الآن بين الأجسام والأرواح تسيح في السماء العلا مع السائحين، وتنظر مع الناظرين، فأما المركبة التي أنت عليها فليست قمرًا ولا شمسًا ولا سيارات ولا ثوابت، وإنما هي مراكب تعرج عليها الأرواح إلى عالم الجمال والبهاء. ثم قال: انظر ما حولك من الجمال قبل مغادرة هذا المكان، فآنست أرضًا تجري جريًا حثيثًا وهي تتلألأ جمالًا وحسنًا لما يسطع من نور الشمس وبهائها عليها وحجمها عظيم كبير.
الأرض تجري مسرعة في الفضاء كأنها قُلَّة المدفع، إن قُلَّة المدفع تجري عشرة أميال في الدقيقة، والأرض تجري قدرها مائة مرة حول الشمس لتتم حركتها السنوية، وتجري حول نفسها قدر القُلَّة مرة ونصفًا، وهي مع الشمس والسيارات يجرين حول كوكب مجهول بسرعة القُلَّة ثلاثين مرة.
لعمرك لقد هالني ذلك المنظر، منظر حركات الأرض الثلاث تدور حول نفسها كهيئة النحلة في لعبة الأطفال، وهي بنفسها وهيئتها مندفعة تجري حول الشمس أسرع من القُلَّة مائة مرة، حركة عظيمة، وهذا المجموع الشمسي مسخر مسكين كأنهُ أرض تجري حول كوكب مجهول، يجري قدر القُلَّة ثلاثين مرة. أدهشتني الأنوار، وغشت على عقلي عجائب الحركات، نظرت أسفل إذا زحل يحيط به حلقاته الساطعة الجميلة، وهو يجري حول الشمس كأرضنا، وسنته ٢٩ سنة، والمريخ وهو كبير الحجم، عظيم الجرم، أكبر من أرضنا ١٢٠٠ مرة، ولقد تعجبت من الأقمار الساطعة، البديعة البهية الدائرة حول المريخ، فهناك قمران جميلان طالعان، وعجيب أمرهما، وبهي نورهما، ولما رأيت أقمار المشتري الأربعة زاد تعجبي، وما كنت أظن أن في العالم أقمارًا غير قمرنا، ولو جاز ذلك لكان قمر واحد.
فلما أن اطلعت على أقمار زحل ألفيتها ثمانية، فزاد تعجبي، فما أن نظرت أورانوس وأقماره الأربعة شاهدت ما لم يخطر على بالي، رأيت أقماره تدور على شكل عجيب، تدور من الجنوب إلى الشمال، فقمرنا الأرضي يسير حول الأرض في الاتجاه الذي فيه حركتها من المغرب إلى المشرق، فأما أقمار أورانوس فإنها تدور على زاوية قائمة، فإذا جرى في حركته من الغرب إلى الشرق دارت أقماره من الجنوب إلى الشمال، حينئذ أيقنت أن العوالم السماوية منوعة السير، كما تنوعت أشكال الأجسام الحية على سطح الأرض.
العدل والنظام
والأمر الجوهري النظام والعدل، لم أرَ كوكبًا حادَ عن خطتهِ ولا شمسًا غادرت فلكها، ولم تختل حركة الأرض اليومية ولا السنوية ولا حركة المجموعة الشمسية.
المشتري يجري حول الشمس مرة كل ١٢ سنة، وزحل يجري مرة كل ٢٩ سنة، والزهرة تتم دورتها في ٢٣ يومًا، والأقمار كلها دائرة دورًا منظمًا.
وهنالك قلت: يا الله، إن نظامك جميل، إنك لعدل، ما أجمل الكواكب! ما أبهى النجوم! وما أبدع حركاتها! لا خطأ فيها، مع شدة سرعتها، إن هذا لعدل، إن هذا لهو الميزان، فلماذا رأيت دول الأرض ظالمين؟ أرواحنا تحب هذا الجمال، إني له لمن العاشقين، فأين العدل؟ أين العدل؟ جَمُلت النجوم، وجرت بقسط ونظام وميزان، وجملت أرواحنا ولكنها سارت على غير هدى، يا رب إن ظاهر النجوم يوافق باطنها، ظاهرها الجمال، وباطنها الحركات المنظمة، ونحن في أرضنا كلنا طَلْق المُحَيَّا باسم مُرْضٍ أخاه، ولكن الأفئدة مملوءة حقدًا ودغلًا وغشًّا، إن الإنسان لظلوم كفار، إنهُ كان ظلومًا جهولًا، اللهم إني لا أرضى هذا الزور والبهتان، اللهم لا حياة ولا سعادة إلَّا بالصدق والفضيلة.
ما لي أرى أكابر الأمم وسُوَّاسَهم يقولون الإنسانية وهم مجمعون على جشعهم، وكأنهم جهال، بعض أهل التدين يترنمون بما لا يعلمون، أو يعلمون بما لا يعملون، هذه بَلِيَّة الإنسان، افترى عليهِ رؤساؤه الدينيون، وكذب رؤساؤه السياسيون.
وهنا قارنت ظاهر الإنسانية وباطنها بظاهر النجوم وباطنها، فَحِرْتُ في ذلك وقلت: لأسأل صديقي الوجدان، عسى أن يشفيني بالجواب، فلما أن طفقت أسأل صديقي ابتدرني قائلًا: انظر، انظر، إذا سحابات مكورة مزرقة مبيضة تجول في أنحاء الجو فأقبلت إحداهن إلينا، فامتطيناها، وقلت: باسم الله مجراها ومرساها، فلما استوينا على ظهرها تأملتها، إذا باطنها ناعم أملس لون ماء نهر النيل، حتى حسبتهُ ماء، ثم تبين لي أنه منطاد لطيف ومركب جميل مرصع الحافَّات بالجواهر، والأحجار الثمينة من الزمرد والمرجان والدُّرِّ، وما لا يبلغ الواصفون صفته، وهناك أحجار عجيبة بهجة باهرة للناظرين، فسارت بنا تخترق الآفاق. فقال: انظر، إذا نجم نبتون، وهو يجري بسرعة لا نظير لها حول الشمس، ثم أبصرت سيارات كثيرة ونيازك وذوات أذناب لا أحصي عددها، كلها دائرة حول الشمس.
ثم قال: ارفع رأسك وانظر، إذا هناك نجوم تسمى الثوابت لا تجري حول الشمس. فقال لي رفيقي: كم عدد النجوم التي أدركتموها بآلاتكم المقربة «التلسكوب»؟ قلت: إنها مائة مليون. قال: انظر، فنظرت إذا النجمة اليمانية وهي أضوأ من الشمس خمسين مرة وهي أبعد عنا بما يقاس مليون مرة ببعد الشمس، فالمسافة التي بين أرضنا وبين الشمس المقدرة بنحو ٩٠ مليونًا من الأميال تتضاعف مليونا مرة في بُعد النجمة اليمانية، فزاد تعجبي، ورأيت نجمًا آخر أضوأ من الشمس ٤٠٠ مرة وآخر أضوأ منها ١٠٠٠ مرة، والأعجب من هذا كله نجمة «أكتروس» فهي أضوأ من الشمس ٨٠٠٠ مرة، وتجري في الثانية ٣٥٥ ميلًا، فحينئذ بهرت وغشي على عقلي، وبقيت في سكون تام لا حراك لي مما اعتراني من الدهشة والحيرة، فأيقظني صديقي الوجدان، وقال: سل ما بدا لك الآن.
يريد بذلك أن تزول حيرتي، وتذهب وحشتي، ويؤانسني. فقلت: أليس النظام واحدًا؟ أليس عالم الإنسان تابعًا لهذا الجمال البديع؟ فمن أين جاء له الفساد؟ وكيف يقولون ما لا يعلمون، ويبطنون ما لا يظهرون؟ هل يعم النظام والجمال هذه العوالم العالية البديعة، ويذرنا نتخبط، ويقتل بعضنا بعضًا، ويطعن بعضنا بعضًا، ونحن في الحياة معذبون ظالمون جاهلون، أما أنا فلا أعتد في الحياة إلَّا بالجمال والنظام والصدق، فأما إذا خالف الظاهر الباطن، والعمل القول، فما أسوأ الحياة! وما أجهل الكاذبين المنافقين!
أين السعادة؟ أين الحياة؟ ما أحقر أخلاق الأمم! ما أضل سياستهم! ما أجهلهم! يا بني آدم تعالوا معي، تأملوا هذه الحكمة، اعجبوا من القسط والعدل. فأجابني الصديق قائلًا: إن الله عز وجل نظم هذا العالم وبث فيه خلائق وجعلكم أنتم خلائقه في الأرض، ولقد علمت مما شاهدت الآن أنها ذرة صغيرة من العوالم، بل إن مائة المليون من النجوم التي شاهدتها الليلة وعرفها علماؤكم إنما هي ذرة مما لا يتناهي من العوالم المحيطة بكم، ولا أحد يحيط علمًا بعددها، وإني قابلت سكان النجمة اليمانية، وسكان القطبية التي لا يصل ضوءها لكم إلَّا في خمسين سنة، فألفيتهم يعلمون من النجوم أضعافكم بملايين الملايين، وهم يعترفون بأنهم لا يعلمون من العوالم إلَّا ذرة صغيرة، ويقولون: وما أوتينا من العلم إلَّا قليلًا.
فأرضكم على هذا القياس كُرَة حقيرة جدًّا، ليست شيئًا مذكورًا، وقد جُعلتم خلفاء الله على ما عليها من الحيوان؛ لأنكم أنتم الأعلون الراشدون، وما منعكم أن تكونوا صادقين إلَّا أنكم إلى اليوم لم تكتشفوا عقولكم، ولا تزالون على أخلاق الحيوان.
إن الله وضع نظامًا لكم جميلًا يضارع نظام السماوات، يشاكل القسط والعدل في هذه العوالم، لا خلل ولا فساد، ولكنكم لا تزالون صبيانًا وأطفالًا، وإني أخاف إذا شرحت حالكم يشغلك عن النظر في جمال هذا العالم، وإني سائر بك إلى كوكب من الكواكب السائرة حول الشمس كأرضكم، لم يعلمهُ علماؤكم، ولم يكتشفه علماء فلككم، لنرى نظامهم وحكوماتهم، وسياساتهم، وتسمع دروسهم، وتلقيها على إخوانك الشرقيين والغربيين.
اعلم أن أهل الكواكب الأخرى ينظرون إلى نظامكم نظر الاعتبار، ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إذ أنقذنا من الجهل الذي وقع فيه هؤلاء الغافلون، وتراهم يعلمون صبيانهم في مدراسهم العدل بمشاهدة وقائعكم الحربية المصورة في مدارسهم، ويمثلون أحوالكم وأخلاقكم أمامهم ليعلموا ما هم عليهِ من النعم والحبور، والسعادة والهناء، وينهجون نهج العدل كالنظام السماوي.
فقلت له: إنا نحن أفضل العالمين. فقال: نعم، لكن بفطرتكم وعقولكم التي سيزول عنها الغشاء، ويزاح الغطاء، وتكونون أحسن حالًا وأنعم بالًا، كل ذلك ونحن نخترق العوالم ونشاهد بدائع الجمال، ومحاسن النجوم، حتى أقبلنا على كوكب بهيج جميل فألقينا به عصى التسيار، ووقف السحاب على سطحه واستقر.
أربعة آلاف أمة صادقة السياسة
هنالك نزلنا فوق سطح ذلك السيار الجديد الذي فلكه فوق فلك نبتون، وقد قال لي صاحبي: إن علماءكم لم يكتشفوه للآن، فنظرت إذا أرضه كأنها فضة نقيَّة محلَّاة بأشجار باهرة بيض، وأخرى خضر وزرق مختلف ألوانها، وصفر وحمر باهرة، وهناك من الأزهار والأشجار ما يُبهر الألباب، ولم أرَ شجرة تشبه أشجارنا، ولا ثمرة تضارع أثمارنا، وكل شجر فيها عطر أريج عجيب بهي، والأنهار تجري بما يشبه الماء وكأن حصباءها الدر والياقوت والمرجان، وكأنما جمالها جبال.
وقد كنت أظن ألَّا أحد من العقلاء هناك، إذا صديقي يقول: هل لك أن تشاهد «نادي الأمم»، فأدهشني هذا القول، فقلت: وهل هنا أمم؟ فقال: نعم، إن على هذا السيار أربعة آلاف أمة، كل أمة تبلغ مقدار الأمم التي على سطح أرضكم. فقلت: بخٍ بخٍ، وكيف يكون لهم مجلس واحد؟ فقال: نعم، إنهم عقلاء راشدون، فلا تتعجب، وسترى، فسرنا وقد هبَّت الرياح، وتغنت الأشجار، وغردت الأطيار، فكنت في حالٍ أشبه بالسكر لما رأيت وسمعت هناك في أصوات الأطيار من المغاني ما لا أذن سمعت، بل إن حفيف الأشجار له نغمات لا يعادلها على وجه الأرض رنات المثاني.
وإذن تذكرت إخواني الآدميين، أنى لهم أن يسمعوا وينظروا ويفرحوا ويروا من آيات الله الخافية في نفوسهم، فأخذ بيدي وسرنا حتى انتهينا إلى قصر عظيم يبلغ اتساعه مقدار مساحة ألمانيا، إذا رجال عظام الجثث جالسون على كراسي من الذهب والفضة والزمرد والياقوت والمرجان والجواهر والبلاتين والماس وغيرها مما لا أعلمهُ في الأرض من كل جميل الصنع بديع الإتقان، والقصر مبني بآجُرِّ الجواهر والماس، وقد رُصِّعَ بالياقوت والمرجان، وهو مزين بالبساتين البهجة البديعة الشائقة العطرة الحالية بالثمر، وهذه الجواهر الموصوفة ليس منها ما يشبه ما عندنا، وإنما دعوتها بهذه الأسماء لضيق نطاق اللغة أن تحيط بما هنالك، وإنما راعيت الأشكال والأمثال وقرب الدالِّ من المدلول، فلما أن دنوت من النادي رأيت قامتي لا تصل ركبة أحدهم، فأعظمت أمرهم، وانزويت في ركن، وخجلت من ضعفي وأنا أشاهدهم.
ولقد عجبت كيف يحيط مرأى بصري بجمعهم المحتشد، وهم على كراسيهم جالسون، مع أنهم مئات الألوف، وكيف يسمعون صوت الخطيب جميعًا، فأيقنت أن هواءهم وضياءهم على غير نظامنا مخالفان لما في جوِّنَا، فلما رأوني نظروا إلي متعجبين، ورَنَوْا بلحظاتهم لي رامقين، وكأنهم لم يروا في أرضهم حيًّا على شاكلتي، ولا مخلوقًا مثلي في صغر الجثة والأوصاف، فلذلك هم متعجبون، فأخذوا يكلمون صديقي، وأخذ يترجم. فقالوا: من أي الكواكب أنت؟ فقلت: من الأرض. فقالوا: أي حيوان أنت؟ فقلت: الإنسان. فقالوا: صف لنا أحوالكم الاجتماعية. فقلت: إننا أمم منا المتوحشون ومنا المتمدينون الأعلون. فقالوا: صفهم. فقلت: المتوحشون قوم ليسوا في رغد العيش، ولا يحسنون الصنائع ولا الزراعة ولا التجارة ولا السياسة، بل هم في ذلك قليلو البضاعة، وليس عندهم قطار البخار والحديد ولا الكهرباء، ولا يحسنون من السياسة إلَّا قليلًا.
فقالوا: صف لنا المتمدينين. فقلت: هم الذين نظموا مدنهم، وأقاموا العدل بينهم، وترقَّت صنائعهم وأحوالهم، وأصبحت بلادهم كجسم إنسان واحد فيه شرايين السكك الحديدية وأعصاب الرسائل البريدية، وعمموا التعليم، ونظموا المدارس، وأحكموا فن السياسة، إذ تقوم طائفة منهم بنشر لغتها وتجارتها ونفوذها، ويقولون: ننصر الإنسانية، ونقوم بحق البشر ونعدل في الرعية، ثم يسطون على الأمم الجاهلة فيمنعونها أن تنشر نور العلم بين ربوعها، فيتخذون طريقين متناقضين، وسبيلين مختلفين؛ يقولون: نحن نريد نفعكم، ولكنهم يخفون ما في أنفسهم، إذ يريدون أن يتخذوهم مسخَّرين مذللين لهم، كما يذللون الأنعام، وقليل من الأمم من صدقت نيته، ووضحت حجته، وبانت طريقته.
إذ ذاك رأيتهم جميعًا مبهوتين، وظهرت على وجوههم سيماء الإنكار، ثم قالوا: أفليس لأولئك المقهورين قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، أو عيون يبصرون بها، كأولئك الغالبين الكاذبين الحيوانيين؟ قلت: نعم، ولكنهم يسطون عليهم بالسلاح والحديد والبارود والمدافع فيميتونهم. فقالوا: أرنا أظافرك، فأريتهموها. فقالوا: يا هذا، إن عقلك منع ظفرك أن يطول. فما فهمت قولهم، ولا عرفت رمزهم. فقالوا: أتعرف السباع والنمور والضباع والآساد؟ قلت: نعم. قالوا: هذه لها مخالب وأظفار وأنياب تنشبها في فريستها وتنفذها في قنيصتها؟ قلت: نعم. قالوا: فأما أنتم فقد قصرت أظافركم، وطالت عقولكم؟ فقلت: نعم، وبهذه العقول صنعنا الأسلحة، وصرنا أشد بأسًا من الحيوان، وأقوى فتكًا من السباع، فإذا كان لها ظفر طبيعي، فإن لنا أظفارًا صناعية أقوى منها أضعافًا مضاعفة.
فعند ذلك تبسموا ضاحكين، وسخروا مني هازئين، وقالوا: يا هذا أنت تقول أنك إنسان؟ قلت: نعم. قالوا: فكيف انقلبت أسدًا؟ ألا إنك أشد منهُ فتكًا وأظلم منهُ نفسًا، فهل الإنسانية هي الأسدية؟!
إنا نظن أنكم ما قرأتم الحكمة ولا الفلسفة، ولا تعلمون أن المراتب ثلاث، الشهوة البهيمية، وقد غلبت في آكلات الحشائش والطيور التي لا تأكل اللحوم. والقوة الغضبية، وقد وضحت في الآساد والسباع، والقوة العقلية، وقد ظهرت في أعلى الحيوان وهو الإنسان. وأنت تزعم أنك منهم، ولكنك وصفتهم أسوأ وصف، إنما أنتم أكبر الآساد، ولستم من نوع الإنسان.
فقلت: ولِمَ خلق لنا العقل؟ فاستهزءوا بالقول، وقالوا: اسكت أيها الأسد. فقلت: أنا لست من الأمم الظالمة. فقالوا: ألست من الإنسان بزعمك؟ قلت: نعم. قالوا: وما جاز على أحد المثلين جاز على الآخر، فكلكم آساد، وأنتم في الشَّرَهِ والطمع أنداد، ثم أعرضوا عني واستكبروا، وولوا وأدبروا، ولووا عني كشحًا، وأخذوا يتشاورون، وأنا من الخزي في عذاب أليم، فشاهدت من آيات العدل وحسن النظام، والصدق في القول ما لا يحلم به أهل الأرض، ولكني كنت واجمًا كئيبًا لما أخجلوني، ولقد فطن لذلك صديقي الوجدان، فلما كانوا في فترتهم أخذ يخاطبهم، قائلًا: لا تسفهوا رأي هذا الإنسي، ولتعلموا أن لديهم شرائع وسننًا، وأحكامًا وحكماء، وعلماء وأنبياء هدوهم إلى الصدق، وأرشدوهم إلى الحق، فانبرى إليَّ أحدهم سائلًا، ما فعلتهُ فلاسفتكم؟ وما الذي به يأمر أنبياؤكم؟ فما أتم كلمتهُ حتى استيقظت، ووعيت ما دار من الحديث فكتبتهُ في مذكرتي.
كان ذلك ولا علم لأحد من الناس بما وعاه قلبي، أعاشر الإخوان، وأمازح الأصدقاء، وأسايرهم، وأكتم ما يهجس بخاطري من هذه المعاني، ثم أخلو بنفسي في اليقظة سائلًا: كيف السبيل إلى السلام العام؟ وماذا يساعد عليهِ؟ لله أولئك الذين يقابلونني ليلًا يقصون عليَّ حديث مدنياتهم الزاهرة، ويقولون: إننا نطيق أن نفعل كما فعلوا، فهل من سبيل إلى ذلك؟