في الوحدات الإنسانية من اللغة والدين والوطن والجنس والمعاهدات والمصاهرات والملك الجامع والأب الأكبر والاجتماع في اللون وغير ذلك
وبينما نحن في الحديث، إذا رجل كأنه خادم قدِم ومعهُ صورتان آدميتان، فناولهما إلى ذلك الشيخ، فأخذهما وقلبهما، وأطلعني عليهما، إذا هما صورتا آدميين أبيض وأسود، ثم قال: إن هاتين الصورتين كانتا تلعبان لعبًا مزعجًا، في هذه السنة يوم أربعة يوليو سنة ١٩١٠، وكان يومًا مشهودًا، وحولَهما جمع عظيم من السود والبيض، فهل عندك علم بهما وبأخبارهما؟ قلت: نعم، إن الأسود يسمى جاك جنسون الأسود، والأبيض يسمى جفريس. فقال: خبرني عن حالهما، وعن حال الجمع المحتشد حولهما، ولا تكتم عني شيئًا، فإني موقن أني أفهم حالكم الاجتماعي بهذه الحادثة وأخبارها؛ فإني أعرف الأشياء بسيماها، وأستنتج من صغار الأمور كبارها، ومن أقلها أكثرها، ومن أحقرها أعظمها.
فقلت: إن ألواننا بني آدم مختلفة، فمنا الأبيض والأسود والأصفر والنحاسي، وكل طائفة تسكن أماكن من المعمورة وقد يتجاورون، وهذان الرجلان متجاوران في مملكة اسمها بلُغَاتنا أمريكا، ولقد تجاولا في الملاكمة؛ لينظر الجمع المحتشد أيهما أقوى جسمًا، وأطول يدًا، وأشد بطشًا، فمن غلب فله القِدْح المُعَلَّى، وقصب السبق في المال والشرف، ولقد غلب الأسود الأبيض، فغضب البيض على السود، وأخذوا يؤذونهم بالقول والعمل واليد واللسان.
فقال: أهذه أخلاقكم وآدابكم، أتدري لماذا يتخاصمون، وعلام يتجادلون؟ اعلم أنكم يا بني آدم عند العقلاء صبيان، لا تعرفون إلَّا العرَض، ولا تهتمون بالجوهر، ومن تعصب لمجرد اللون فإنهُ لا يعلم الحقائق ولا ينظر في أهم الأمور، وإذا كانت هذه أخلاقكم فإنكم لا تعلمون من الإنسانية شيئًا، قد اتحدتم في الأرواح والحواس الخمس والأعضاء الظاهرة والباطنة، ثم اختلفت الألوان فأصمت آذانكم وغَشَت على قلوبكم، فأدركتم الخلاف وجهلتم الوفاق، ولم تعلموا كيف تتحدون.
وأنا أقص لك قصص أحوالكم، أأنتم تعرفون نعمة الهواء، وهل تحسون بفضل ضوء الشمس، وهل تقولون: الحمد لله، فتفرحون بالسماء ونجومها والأرض وبحارها، وكثرة أشجارها وأنهارها وسحابها، وإذا اتجهتم إلى ربكم في خلواتكم فخبرني، أتحسون في أفئدتكم بالشكر على النجوم وجمالها والنار وإيرائها، وهذه العجائب المشتركة بينكم؟ قلت: إننا نشكر على كل ما اختُصصنا به من مال وجاه وشرف، وإذا عطشنا حمدنا الله على الماء، فإذا كان موفرًا حاضرًا لم نحس بشكره ولم نفقه نعمته. قال: فأنتم إذن عبيد منكودون لا تعرفون النعم إلَّا بمنعها ولا تفقهون الحكم والفضائل والآلاء العامة.
أخبرني إذا منع الهواء فكم زمن تعيش؟ قلت: ثلاث دقائق. قال: فالماء؟ قلت: ثلاثة أيام. قال: فالخبز؟ قلت: أيامًا كثيرة. قال: فأيها ألزم؟ قلت: الهواء. قال: ثم ماذا؟ قلت: الماء. قال: ثم ماذا؟ قلت: الخبز. قال: ثم ماذا؟ قلت: الفاكهة ونحوها. قال: فعلام تحزنون، وعلام تشكرون؟ قلت: على أقلها طلبًا، وأشدنا فيها نصبًا، وأكثرُنا في حزن على ما لا يحتاجه في يومه وإنما يكون زينة أو ذخيرة لغد أو لولد.
قال: أخلاقكم أخلاق حيوانية، ورب السماوات العلية، لو أنكم بعقولكم ناظرون، وللحقائق مقدرون، لعقلتم العطايا الضرورية، ولم تجزعوا على ما فاتكم من الفضلات، وما هو كنز لما هو آتٍ، فمن يحزن لمال مفقود، أو لرياسة أو لذهب أو فضة، وهو غافل عن هذه السماء وجمالها، والأرض وبهائها، والهواء ونسيمه، بحيث لا يحس بنعمتها، ولا يقنع عقله بقيمتها، وإنما هو غافل إلَّا عما خص به، جاهل إلَّا بما كنَزَ، فهو حري أن يتغاضى عن الروح الإنسانية، والاشتراك في الأعضاء الجسمية، والمنافع البشرية، ويتلهى بسواد الجلد وبياضه، أو يتعصب لمن تلون عقله بدين أو عقيدة تخالف مشربه، أو سكن في قارته أو عاش في مملكته، أو تكلم بلغته، أو عاهده على الكر والفر والضر والنفع، أو صاهره للإقدام والإحجام، كل ذلك لجهلكم يا معشر بني الإنسان.
إن اللغة والوطن، والدين والمعاهدة الدولية ومصاهرة الملوك وتلون الجلد، كل ذلك لا يغير الإنسانية ولا يُخل بالقضية، هذا فهمته من قضية الأسود والأبيض، وإذن ضاع الحق فيما بينكم، ولا عدل في الأرض. فقلت: لقد بيَّن روسو من علماء فرنسا عقده الاجتماعي، موضحًا فيه كيف تنتخب الأمة أعضاءها ونوابها، وكيف يولون الرؤساء والوزراء، وأبان أنهم مسئولون، فيُعزلون إذا ضلوا الطريق، وحادوا عن الحق، ومالوا عن الصراط السوي، فقامت قائمة الجمهوريات في الأمم ومنها ممالك ملوكية، وشايعه منتسكيو في رأيه، ثم نازعه في سلطة القضاء، فحكم أن لا يُعزل القضاة ما داموا أحياء، على شريطة صدقهم وعلمهم، وجعل أمرهم لنواب الأمة، والتشريع للنواب، وسلطة التنفيذ لمن يولون، والقضاء حرًّا لا سلطان عليهِ إلَّا للأمة، وهذا المنهج سار عليهِ كثير من الأمم.
فقال: هذه عارضة من عوارض النظام الإنساني، وجزئية من جزئيات علم الاجتماع في الأرض، وما هو إلَّا أنهُ مثل حال الصبيان في لعبهم، إذ يتفقون ويتحدون على أكثرهم نشاطًا وأفصحهم لسانًا، وأحبهم لإخوانهِ، وأعطفهم على مجموعهم، فيصطفونهم، ويقلدونهم أمور لعبهم، ونظام عملهم، حتى إذا حادوا عن الجادة ولوا غيرهم مكانهم، فما قاله روسو ومنتسكيو تعليم للكبار ما ستر عنهم الجهل والشهوات والمصائب، والتعاليم الباردة الحاجبة للعقول عن فطرتها، والصادة للنفوس عن حكمتها.
فالناس في طفولتهم مطبوعون على النظام والجمهوريات، فيصادفهم في طريقهم ويعارضهم في سيرهم رجل الدين المقلد، وعالم السياسة، والتربية، والعادات، وسوء الملكات، فتنسيه فطرته، وتوقعه في حيرته، فذكره أولئك العلماء بفطرته، وهذا ليس إلَّا عارضة من عوارض حياتكم الإنسانية، فهل هذه صورتكم عند التعصب للأوطان واللغات وما أشبهها؟
وليس روسو ومنتسكيو وأضرابهم بناظرين للنوع الإنساني ورقيه، إنما دفعوا جزءًا عارضًا، وأزاحوا ظلمًا يسيرًا، والإنسان لا يزال في ظلمه جاهلًا باغيًا حاسدًا محاربًا، وهل هناك قانون يشمل الممالك وسائر الدول؟ فقلت: عندنا الشرائع والقوانين في الممالك. فقال: وهل هناك قانون يشمل الممالك وسائر الدول بحيث لا يَظلِمون ولا يُظلَمون؟ وقد علمت ما لديكم من المدافع والبارود والحصون، وبالإجمال إن الذي حرض البيض على السود الإقبال على الأعراض، والجهل بجواهر الأشياء.
إن التعليم في مدارس الكرة الأرضية ناقص مبتور، وإلا فبالله، ما الذي جعل هؤلاء البيض يغضبون على السود، أليس لما يفعله معلموكم، يقولون: جنس أبيض وجنس أسود وأحمر إلخ، والحقيقة أنكم نوع واحد، لا يفرقه لون الجلد ولا العقيدة في القلب، ولا تباعد المكان ولا تعاهد الملوك، ولا اختلاف اللغات، وإن المعلمين لجهلهم يفضلون لونًا على لون، وأمة على أمة. عيب وجهل فاضح، يوغرون صدور الصبيان المساكين.
الصبيان يخلقون على الفطرة، وتعليم الأمم في مدارسها مشحون بالنقص والجهل، يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضًا، فهذا هو السر في حربكم وجهلكم، وأن يقتل بعضكم بعضًا وافتخاركم بما أنتم فيه تخوضون، فما حياتكم إلَّا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد والدول والمدافع والبارود، كل ذلك على القوت واللباس وما يؤدي إليهما من متاع، والحمار والأرنب والنعجة قد كفيت ذلك، فأكلت وشربت، ولبست، وأنتم بما تعملون تظنون أنكم أشرف الحيوان وأعلى طوائفه، وأنتم لا تشعرون.
أوَلا تخجلون أن تروا النعجتين تلعبان وترتعان وتأكلان، إحداهما بيضاء والأخرى سوداء ولم يعقهما لونهما عن أن تأتلفا، بل إنهما نظرتا لجوهرهما لا لعوارضهما، أوَلا ترون البقرة السوداء والحمراء ترتعان في روض واحد، أوَلا تشاهدون الحمام الأسود والأبيض وهو يطير بلا عداء ولا نفور.
قُتل الإنسان اليوم ما أكفره! كيف تحجزكم الأوطان أن تتقاربوا وقد أحس أهل الشرق بما أصاب أهل الغرب من الزلزال في إيطاليا، فرحمهم الصديق والعدو، والبعيد والقريب، ولم يصدهم حاجز الدين ولا اللغات، ولا الأوطان، ألا فلتقرءوا فطرتكم، ولتفهموا عقولكم، وكيف تحجزكم اللغات وأنتم ترون الطيور لكل طائفة لغتها في مشارق الأرض ومغاربها، ولكم أنتم لغة واحدة؛ لغة التصوير التي عمت مدارسكم في سائر ممالك الأرض.
ولقد كان التعبير عن صور المحسوسات والمعقولات أول لغاتكم، فلما أن تفننتم في مآكلكم، ومشاربكم ومعارفكم اصطلح كل فريق على مقاطع وضعها للتعبير عن تلك الصور المشاهدة، فتصورتم الحروف الهجائية الدالة على الصور دلالة اصطلاحية على المعاني، فهل الاختلاف في التعبير يدعو للبغض والنفور.
المعاني هي المحسوسات والمعقولات، وأنتم مستعدون جميعًا لفهمها، فهل اختلاف لباسها، والعبارة عنها باللغات ينسيكم فطرتكم، ويجعلكم فِرَقًا، وهل تكره ابنك وأخاك إذا ما لبسا غير لباسك أو تزيَّيا بخلاف أزيائك، إن هذا إلَّا ضلال مبين، إنكم ما أدركتم سر دياناتكم، إن أفاضلكم وأشرافكم، وهم الأنبياء رأوا أن كل فريق منكم يسكن أرضًا معلومة يتحدون على غيرهم، ويجعلون المكان عصبية، والقرابة سلاحًا، ويتخذون المصاهرة والوطنية سلاحًا يحاربون بهما من عداهم، فقام أنبياؤكم ينذرونكم سوء المنقلب، وقالوا: لا تعبدوا إلَّا الله وأحبوا سائر البشر، فأنتم إخوان لا يحجزكم عن الأخوة مكان، ولا تصدكم قرابة، فاتخذتم تلك الديانات والعقائد أسلحة تحاربون بها من خالفكم في عقيدة أو دين.
ولقد جعل الله عز وجل مصاهرة الأباعد ليتحد الناس، وليعلموا أنهم كبني رجل واحد، وامرأة واحدة، وحرم عليكم أخواتكم وبناتكم وكثيرًا من محارمكم؛ لأنكم تحبونهم ويحبونكم بالقرابة، وحلل لكم أن تتزوجوا من الأباعد لتتواصلوا ويتكاثر الأحباب، فالقريب لقرابتهِ والبعيد لمصاهرته، فلما أن فعلتم ذلك جعلتموها سلاحًا تشهرونهُ على من عاداكم، كما اتخذتم اختلاف اللغات والديانات والأماكن، وذلك لما طبع على قلوبكم من الطمع والجشع، وسوء الملكة وتربيتكم في مدارسكم ومنازلكم، وأنتم في عذاب الخزي تعيشون.