في درس تعليم الأطفال الحب العام
هنالك طلبت أن أفهم طريقة الحب العام في مدارسهم. فقلت: لقد وعدتم أن تُروني طريقة الحب في مدارسكم؟ قال: نعم، وأشار إلى شاب، كأنه كوكب دري، عليهِ ثياب بيض، وفي يده كُرَة بيضاء مضيئة، فذهب أمامي وسار حتى وصلنا إلى مدرسة، فأدخلني قاعة والمعلم راسم على السبورة صورة إنسان، وهو يريهم الأعضاء عضوًا عضوًا ويشرحها شرحًا وافيًا لغرض علم التشريح، ثم يكر راجعًا ويقول: انظروا، فيريهم أسماء الأمم الكوكبية، مرسومة كل واحدة على عضو منها، وهو يقول هذه الأمة تجلب لنا ملابسنا من الأصواف والأوبار، ثم ينتقل إلى أخرى على عضو آخر ويقول: إن هؤلاء منا بمنزلة المعدة، فإن لديها أغذية وفاكهة، ثم يضع يده على الرِّجل ويقول: إن هذه الأمة المسماة كذا أبرع جنس في وضع الآلات البخارية.
وبعد أن أتم درسه، وأحكم وصفه وأجاد مدحه. قال: فنحن وهُم في الحياة كجسم واحد، لنا روح واحدة، ولو أن أمة من هذه الأمم ضعف أمرها، أو قل علمها، أو نقصت صناعتها لحصل لمجموع جنسنا خلل وألم، ولأصبحنا كجسم نزل به الضر، فيعيش في أسقام وأوجاع وآلام.
واعلموا أيها الأبناء الأحباء أن من الأمم في الكواكب الأخرى من جهلوا مقدار أنفسهم، فأخذوا يتخبطون في النظام، ويظن كل منهم أن يعيش بالقوة والغلبة، فيفعل فعل المجنون يفقأ عينه، ويحيا حياة العميان، ولذلك ترونهم لا يغمدون سيوفهم، ولا ينامون ولا يدعون فرصة للسلاح إلَّا زادوه وأعدوا العدد للكفاح والسلاح.
ثم أبرز لهم صورة إنسان أعمى وإنسان آخر مقطوع اليد وإنسان مقطوع الرجل، وقال: يا أبنائي، إنهم تارة يكونون كهذا الأعمى لا قائد له، وتارة يكونون كهذا المقطوع اليد، فتقل صناعاتهم، وتارة يكونون كهذا المقطوع الرجل، فلا يجدون من يسهل لهم سبل النقل بين البلدان المتنائية المترامية الأطراف، المتباعدة الأكناف، وتراهم يجهلون فطرهم، ولا يعرفون قيمة ما أعطوا من أرضهم الواسعة، فيكبكبون ويزدحمون في بقعة، فإذا ضاقت بهم الحيل، وضاقت عليهم أنفسهم اقتتلوا بالعصا والسيف، وترى الأمة تحارب الأمة، والأرض واسعة فلا يعمرونها.
ومن عجب أن كثيرًا من أراضي الممالك الظالمة قد تترك بلا زرع لتبقى بورًا نزهة للمالكين، ومرتعًا للوحوش والأنعام ليصطاد المالكون وينعم المترفون، وطورًا تدَّعي الأمة القوية زورًا وبهتانًا على أخرى غافلة أو ضعيفة دعوى باطلة، فتقاتلها على أرضها جهلًا وظلمًا، ثم تكذب وتقول: إني أرقيهم، إني أعلمهم، وهي لا تخجل من الكذب والزور.
فقال صبي من الصبيان: إذا علموهم فكيف يسيطرون عليهم؟ فقال الأستاذ: يدَّعون أنهم لا يصلحون لحكومة أنفسهم. فقطَّب الصبي وجهه وقال: إذن هؤلاء أقل إنسانية وعقلًا من الحمير؛ لأنها لها جمعيات تعيش معًا، وأقل عقلًا وإدراكًا من الزنابير، فإذن هؤلاء ليسوا من البشر، ولا من الحشرات، فمن أي العالم هم. فقال الأستاذ: هذه ليست دعوى صادقة، ولو صدقوا لعلَّموا ولم يسيطروا، ولكنهم كاذبون. فقال الصبي: يا سيدي، فأولئك الظالمون الطاغون ليسوا من نوع الإنسان أيضًا؛ لأنهم لا شرف لهم، وهم كاذبون. فقال: إنهم إنسان جاهل.
ثم قال: فاحترسوا يا أبنائي من بغض عشيرتكم وبني جنسكم، ولقد وزعنا أممنا على كرتنا الكوكبية، وخصصنا كل طائفة بعملها، فليس تستغني أمة عن أمة، ولا فرد عن فرد، وإنما ضربت لكم هذا المثل لتعلموا نعمة الله عليكم، وما أوتيتم من نظام وسعادة، ولتعرفوا وتعلموا شرفكم إذا قارنتم نظامكم العالي الفاضل بنظامهم الفاسد الخالي من الخير، ولقد أصبحت أممنا الكوكبية متحابة متعاشقة متوادة، كل يحب أخاه، ويعلم أن سعادته بحياته وشقاءه بفقره، ولقد صرفنا قواتنا في استثمار وعمارة أرضنا، وصرفوا قواهم في إيذاء بعضهم، والاستحواذ على ما ملكوا ظلمًا وعدوانًا وكسلًا، وبعدًا عن الفضيلة والشرف، وجهلًا بحكم هذا الكون.
فقال صبي: أين عقولهم؟ فقال: يا بني، غلبتها الشهوات، وطمستها العداوات، وحجبتها أنواع المطامع، وغشتها ظلمات الهلع وأنواع البدع والضلالات، وأكثرهم لا يكادون يعقلون، صم بكم عمي فهم لا يبصرون، فاستعدوا أيها الأبناء لسعادتكم، واستبشروا بعزكم، واعلموا أن أكرم أمة على كوكبنا أمة كانت أكثر نفعًا، وأعز نفسًا، وأوفر عملًا.
ثم دق الجرس فانصرفوا يبتسمون وهم من أهل الأرض يسخرون، فدلف إليَّ ذلك الشاب ودلفت معه إلى رحبة المدرسة وفنائها الواسع، فألفيت رياضًا بديعة وبهجة وجمالًا ونور الشمس يتلألأ في الطرقات، وعلى أوراق الأشجار، وفي ثنايا الأغصان، نور بهيج في خضرة وزرقة واصفرار، ورأيت بدائع الأزهار تتمايل طربًا يمينًا وشمالًا وأمامًا وخلفًا، وكأن الحشرات الطائفات في خلالها ذهب بهي مصنوع من نور الشمس، وبعضها أزرق، كأنه مصنوع من لون الزرقة السماوية وله عيون مستديرات محوطة بلون ذهبي بديع، وهناك ما لا يقدر الواصفون قدره، ولا يتناول العارفون سره، ولا يستطيعون أن يقصوا خبره، ولا يطمعوا في اسْتِكْنَاهِ خبره.
هنالك نظرت نظام حديقة المدرسة فألفيتها خريطة جغرافية، ألفيتها طرقًا رملية، ورياضًا سندسية زبرجدية، فترى مسافات من الرمل خاليات من الأشجار، تمثل البحار الملحة، وتكاد الصنعة الهندسية في بطاحها تمثل المحيط، ومحيط المحيط وهيئة الأمواج، وزرقة الماء، وابيضاض حواشيه الفضية، وترى الدوحات تمثل الأمم أمة أمة، مقيسة قياس الدرجات العرضية والطولية، فترى الصبيان يلعبون الكرة في تلك الرحبات الرملية، حول تلك الرياض الدولية، والقارات الخضراوية، فترى الشابين يتسابقان ويقول أحدهما للآخر: سِرْ معي شوطًا من مملكة «الصين» مثلًا إلى مملكة الروس.
ثم وقفوا بغتة وأنشدوا نشيدًا لم افهمه، وموسيقاهم تصدح، فطربت طربًا وأغشي عليَّ، وغبت عن الشهادة إلى الأحلام، وقلت: هكذا يكون الجمال والسعادة والهناء، العين في مناظر بهجة، ومحاسن بديعة، والأذن في جو من الموسيقى الكوكبية البهية، والقلب في بحر العرفان والأنوار، فهل بعد هذا بهاء وجمال، وهل يبلغ الإنسان هذه السعادة، لمثل هذا فليعمل العاملون.
وبينما أنا غارق في الجمال والبهاء والغناء والموسيقى إذا رجل عظيم الهامة طويل القامة أخذ يوقظني، وقال: قم، فاستيقظت من أحلام إلى أحلام، ومن عالم الخيال إلى عالم الخيال، وقال: قد غشتك الأنوار، وأحاطت بك نغمات الأوتار، وتجلى على عقلك نور الحكمة، وارتديت بالوقار، فغشي على عقلك وأحيط بقلبك، فهل تدري ما معنى الغناء وما الشعر الموزون الذي به غنى المغنون؟ فقلت: لا، وأسعدك الله. فقال: ذلك الشعر الدولي، والحب الإلهي، إنا نربي شبابنا على المحبة العامة بحيث نوقظ فيهم عاطفة أخوية، ومحبة جنسية، لينالوا السعادتين، ويفرحوا باللذتين.
فقلت: وهل هذا الغناء ونغمات الموسيقى داعية لمحبة الدول القاصية، والأمم النائية، وإن حال بينكم وبينهم بعد الشُّقة، وطول المدة، وفصلهم عن أقطاركم جبال عظيمة، وتخوم شاسعة، وسهول رملية، وضروب حجرية.
فقال: إنما مثل الحب في نوعنا العالي الشريف كمثل الكهرباء لا تثور إلَّا بالعرك، ولا تظهر إلَّا بالاحتكاك، فالحب نار في الأشجار إن أوريته ظهر، وإن تركته استتر، الحب الإنساني ساكن في القلوب، ثابت في العقول، قائم بالأرواح، وأكثر الناس لا يعقلون، ولا يعرفون، ها أنتم هؤلاء أبرز لكم الحب العام في سائر الأجسام. فقلت: ماذا تريد بالحب العام؟ فقال: الماء والنار والكهرباء والأثير؛ الماء لا يخلو منهُ هواء في جميع الأجواء، إنهُ لبخار طائر، وهو رطوبة غائصة في الطين. والنار جزء من الماء، وهو المسمى أكسوجين، وهي جزء من الأحجار في سائر الأقطار والقرى والأمصار. والكهرباء حب لا يذر عنصرًا ولا مركبًا ولا ماءً ولا نباتًا ولا جامدًا ولا سائلًا. والأثير أصل الكائنات وعنصر المركبات، وهو في كل مكان، وفوق كل زمان، الكهرباء ما ظهرت لكم، ولا أمدتكم بالذخيرة والماء، والدولاب والقطار إلَّا بقوة بحثكم عنها وتفتيشكم في ثنايا المركبات، حتى عرفتم موجبها وسالبها، ومستقرها ومستودعها، فهل تظنون أن الحب يَعمكم بلا بحث ولا تنقيب ولا جد ولا تشمير.
أيقن أيها الإنسان الصغير أنه يوم تقوم قائمة المحبة بينكم، وتثور عاطفة القرب في جنسكم تنالون من السعادة والهناء أضعاف أضعاف ما جنيتم من فوائد الكهرباء، ذلك هو اليوم الذي فيه تعقلون، وفي سعادته تفرحون، وتمرحون، وقد آن أوان سعادتكم، واستخراج الحب من فطرتكم، كما استنبطتم الماء، وأوريتم النار من الأحجار، وأثرتم الكهرباء من الزجاج والماء، وأرسلتم البريد في طريق الأثير بلا سلك تنصبونه ولا قدر تغلونه، ولا فحم توقدونه، فأوقدوا اليوم نار قلوبكم، واستخرجوا نور أرواحكم، وهلموا إلى سعادتكم، وقوموا إلى شرفكم وإنسانيتكم، وتمتعوا بحبكم وشمروا عن ساعد جدكم، وكونوا بالعلم والعقل فرحين، حتى تكونوا من أصحاب اليمين، فهذه المغاني التي سمعت، والمعاني التي بها طربت نقدح بها نار المحبة، ونجتلي بها نور المودة، فهذا تفسير ما أطربك تذكرة لك ولقومك فسوف تعقلون.
وهنالك قضى التلاميذ لعبهم، وأتموا رياضتهم، وسمعت رنات مطربة ونغمات مبهجة، فقفل التلاميذ إلى حجراتهم راجعين، ودلفوا إلى أماكنهم فرحين.
فقلت: يا للعجب! هذه الأجراس المدرسية، ذات نغمات شجية من ذات المثالث والمثاني، لتسر نفوس المتعلمين، وترقى بعقول الناشئين.
ثم سمعت نغمات خفية، ورنات شجية، تتخلل الفصول من آن إلى آن، فأخذتني هزة الطرب، وزاد بي العجب، وقلت: ما هذا الجمال والبهاء والحسن.
وهناك كان التعارف بالشيخ الوقور السيد «جامون» بعد طول شوقي إليه، ثم انطلق معي إلى الحجرات فرأينا الأساتذة، إذا آنسوا في التلاميذ سآمة أو مللًا أمروا أن يضرب على الأوتار، فيطربونهم ويفرحون، ولدروسهم ينشطون.
فأذكرني ذلك التدريس شعراء الربابة في البلاد الشرقية، فإنهم يطربون السامعين بشعرهم وموسيقاهم، فعلمت أن في الأرض آثارًا جهلها المتأخرون، وأن للعلم سبيلًا جميلًا، وللتعليم طرقًا أجلُّ مما عليهِ أكثر المعلمين، وبالإجمال إن التعليم وصل في مدارسهم إلى درجات عالية، بحيث تعشقه النفوس، وتألفه العقول، كما تألف الغذاء والغناء.
فهذا ما فهمته فيما رأيته وسمعته، فلما أن خرجنا من المدرسة، والدروس قائمة في أوقات العمل، مشى ومشيت في رحباتها، وباحات بساتينها الباسقة الأشجار، الزهية الأفنان، إذا عامل من عَمَلَةِ البستان أرسله الناطور إلى روضة ليسقيها بالماء، فآنست شجرة ورد زاهرة الزهور، وأغصانها الخضر النضرات، المحلاة بأوراقها الزبرجدية، وأقراطها العقيقية كأنها تتقدم إليَّ بالزهرات الوردية.
إن في الشجرة مئات منها، ولو رأيت ثَمَّ رأيتهن يشبهن أيدي الغانيات، يهدين الباقات الزهرية، لزُوَّار دوحاتها، وقُصَّاد ساحاتها، وشاهدت في يد العامل أنبوبًا فضيًّا بهيًّا، يتدفق الماء منهُ ويتقاذف بين ثنايا الأشجار، وفي طبقات الحشائش السندسية.
ومن عجب أن الماء في آن انصبابه على أرض الدوحة ترى فيه ألوان قوس قزح، من أصفر فاقع وأزرق زاهر وأخضر ناضر وأحمر قانٍ وبرتقالي زاهر وبنفسجي بهيج، وكأن الماء بِلَّوْرٌ في تحليل ألوان الشمس السبعة.
وفوق ذلك شاهدت في ثنايا تلك الألوان الخطوط السود الشمسية، تتقاطع أثناء تلك الألوان البهية، فزاد تعجبي، وعلمت أن تركيب مادتهم على طريقة تكفل إبراز الحقائق العلمية، وإظهار العجائب الحكمية.
فلما رآني السيد «جامون» مطرقًا مفكرًا قال: لعلك سحرك المنظر، وسرك المشهد؟ قلت: إي والله. قال: ألم تكن لكم يا أهل الأرض عبرة، انظر انظر كيف تقدمت الشجرات لكم بوردها العَنْدَمِيِّ، تأملوا أخلاق الورد، وجمال الزهر، ما لكم عن الجمال غافلين، وعن الفضيلة عادلين، وعلى الرذيلة عاكفين! ألم ترَ الماء وهو يتدفق منصبًّا على الأرض، كيف تراه خطوطًا مائية جارية، لا يقهر قويها ضعيفها ولا غليظها دقيقها، ولا يتعدى كبارها على صغارها، وذلك أن الماء رفع في أعلى مكان، كما سيرفع بالتعليم نوع الإنسان، فلذلك أخذ كل خط مائي مكانه ونال طلبه مما استعد له من العمل والسبيل.
إن الإنسان إذا تعلمت جماعاته، وقام كل امرئ وأمة بما جبلت عليهِ نفوسهم، وما يليق بعقولهم، عمل كل على مكانته، وجروا إلى غاياتهم، جري هذه السائلات الماشية إلى أرضها، فأما إذا بقيت على فطرتها، وتمكنت طبيعتها، بغى بعضها على بعض، كما يجري الماء في الأنهار.
فقلت له: لقد رفعت الشجر علينا، وأكبرت الماء المنصب عنا، ونحن أفضل من الحيوان، وأرقى من الجماد، وأعلى من النبات.
فقال: لقد فعل النبات ما خلق له، وأنفذ الحيوان ما أعد له، وجرى الجماد لغايته، فأما أنتم فلم تزالوا جاهلين خاملين، أنتم لا تعلمون لمَ خلقتم، إنكم في ذلك مختلفون، أفرأيتم الشجر الذي من فاكهته تأكلون، إنهُ لا سمع له ولا بصر ولا شم ولا ذوق ولا عقل ولا رجل بها يمشي ولا يد بها يبطش، وأوتي كل ما اشتهاه من غذاء ودواء وحياة، أفرأيتم الحيوان الذي به تنتفعون، إنهُ أوتي حواس وأعضاء وآلات بها يسعى، وهو درجات بعضها فوق بعض بمقدار الحاجة وما تقوم به الحياة، فلا تظنوا أنتم والحيوان أن مواهبكم وعقولكم وحواسكم خلقت إلَّا لإتمام ما نقصكم من مواد الحياة.
فقلت: كأنك تريد أننا لم نرتقِ عن الجماد إلَّا بالآلام والتعب، وأن عقل العاقل وسمع السامع وبصر المبصر دلالة على نقص اعتراه، فاتخذ تلك الحواس وسائط ليبلغ شأو النبات، وما هو ببالغه.
قال: بعض ذلك قد كان، ولكن الحكمة الكبرى والفائدة العظمى للنصب الذي عالجتموه، والعمل الذي سلكتموه، والعقول المركوزة، والغرائز الموضوعة، والحواس المضيئة، والأعضاء المعينة أن تتعلموا الاستقلال والحرية، وترفعوا بأنفسكم وترقوا بعقولكم عن الدنايا ولا تعوِّلوا على الطبع والجبلَّة.
فقلت: وكيف ذلك؟ قال: إن النبات لا حياة ولا حس له إلَّا على مقدار حاجته، وهو موفى المادة غزير الرزق، والحيوان أقلُّ منهُ رزقًا وأكثر نصبًا، أنتم أكثر نصبًا وأقل حظًّا من القسمين.
ذلك لأنكم تتعلمون كيف تعتمدون على أرواحكم وعقولكم ونفوسكم، فإذا فاضت نفوسكم وقبضت أرواحكم إلى عالم غير هذا كانت أقرب إلى الحرية، وأبعد عن الذل بما لها من القوة والملكة الفاضلة، والكبرياء عن المادة، والتدبير والعقل المنير، بمقدار نصبكم وتعبكم، وكثرة حاجاتكم، فما عقولكم وما حياتكم الدنيا إلَّا مدرسة تنمو فيها العقول، وإلا كانت هذه الحياة لعبة صبيانية، فالعمل والعقل والتفكر والتأمل والتدبير، كل ذلك ترقية لعقولكم، لتكونوا في عالم أرقى، فالنبات وإن كان موفر المادة، حسن الصورة، جميل الهيئة، ليس يحس بعناء ولا نصب، ولا ألم ولا تعب، فإن نفسه ضعيفة ضئيلة ليست حرة.
وهكذا نفوس الحيوان، فهي وإن كانت أعلى مقامًا، وأرقى نظامًا، من نفوس النبات، فهي لا تزال أدنى من نفس الإنسان على تلك النسبة المفهومة.
فقلت: هذا رأي غريب، ما سمعت به في العالم الأرضي. فقال: إن هذا نص عليهِ العلامة القطب الشيرازي في كتابه المسمى بالأسفار، وهو أربعة أجزاء، وإني رأيتك تقرأ هذا الكتاب، ولكنك نسيت هذا المقام.
ثم قال: إذا فهمت هذا فلتعلم أن الأمم الأرضية الغاصبة حقَّ غيرها جاهلة ضعيفة الرأي لا يعلمون لمَ خُلقوا، إنهم يعتمدون على ما كسبه غيرهم، فتنحط نفوسهم، وينطفي نور عقولهم، فالحروب والخداع، وزور السياسة، كل ذلك حاطٌّ لعقولهم، مُنزل لها من سموها، جهلت الأمم الغاصبة، واللهِ مساكين، مساكين، إنهم يعلمون أبناءهم الكسل، ويظنون أنهم عاملون، يقولون كونوا كاذبين مرتشين غاصبين في صورة مصلحين.
لأضرب لك مثلًا رجلًا كان له ابن شرير سرق من خَتَنِه متاعًا غاليًا، فامتعض الخَتَنُ وكلَّم أبا الصبي، فتعصب ذلك الأب الغِرُّ لابنه وقال: أوَمِثْلُ ولدي يُتَّهم، وهو ذو عز وشمم؟! فتأصلت مَلَكة السرقة فيه، فسرق مال أبيه، فأصبح من النادمين.
هكذا تلك الأمم المسكينة الضالة الفاجعة لغيرها، دخلت عليها الحيلة، وداهمتها الغفلة، وغشت على عقولها الضلالات والخرافات، فظنت غلبة غيرها حرية، والظلم مدنية، وهم يهلكون غيرهم، وما يهلكون إلَّا أنفسهم وما يشعرون، فسيرجع أبناؤهم بعد حين، وقد نَمَت فيهم الرذيلة والطمع، وحكمت على عقولهم سخيمة الشَّرَهِ، فمزقت أممهم على مدى الزمان كما جرى لدولة الفرس والرومان، فهل الأمم اليوم منتهون.
الإنسان اليوم يظن أنه مسارع للحرية، كلا والله لا حرية لمن يأكل كسب الكاسبين، وينتشل متاع غيره، وقد بينا لك أن دروسكم الدنيوية، وحياتكم الإنسانية، لا فضل فيها إلَّا للحرية، وهي لكم أعلى مزية.
ثم قال: أيُحمد السفر عندكم أم يُذم؟ وهل أمر به علماء التربية؟ قلت: إنهُ حسن مرغوب فيه، وأما قول علماء التربية فإني لا أذكره في هذا الشأن. فقال: تذكَّرْ. فقلت: آه نعم، قرأت في كتاب إميل القرن التاسع عشر أن السياحات والسفر من أعلى مقامات التربية الجسمية والعقلية، فإنه داعية للحرية، فإن الرجل الذي لا يرى الأمم القاصية، ولا يعرف أحوالها، ونظاماتها القائمة، يظل خائفًا جزعًا، وجبانًا هلعًا، فلا يألف إلَّا وطنه وكان أشبه بالشاة والشجرة، فيحق عليهِ ظلم الظالمين، ويطغى عليهِ كل جبار عنيد.
فقال: فأنتم أيها الناس في سفر سائرون، فالإنسانية في الحقيقة هي السفر الأكبر والشرف الأعظم، فإذا أخلدتم إلى الأرض واثَّاقلتم فيها باتكالكم على مال غيركم فإنكم بهذا تظلمون أنفسكم، وتهلكون أممكم.
إذا علمت أن حرية الإنسان داعية لسعادته فهل لك أن تعلم أن أحوالكم الإنسانية ونصبها وتعبها داعية إلى أن تكون العقول محررة من الرق والعبودية مما تألفون بالنقلة من حال إلى حال، فإذا فارقت الروح الجسد كانت في رَوح وراحة، وكلما كانت أكثر عوائق غشتها غواش طبيعية، كما كانت في الحياة الإنسانية الدنيوية، هذا ما تدل عليهِ المقدمات الطبيعية.
فلما أن أتم حكمته، وأكمل نصيحته رجعت إلى نفسي، وفكرت في سري، وقلت: يا ليت شعري، هذا عجب عجاب، من هؤلاء الذين يذكِّرونني؟ أنا الآن في المنام، أنا في حلم، لكن الذي أراه حقائق، والذي أسمعه من أدق الدقائق، ومن عجب أن أولئك يقولون ما أعلم، ويعلمون ما أقول، وما أدري لعل هؤلاء القوم الذين أعشقهم، وأهيم بقولهم، وأغرم بصورهم، وأدهش بحكمهم، وأسر لقولهم، هم صور عقلية، وأشخاص مجردون من نفسي، إن أدمغتنا فيها هيئة مدرسة تعليمية وصورة نظامات «ناديَّة» شورية، فما من امرئ إلَّا أحس في عقله بقوة تحدث الصور، وتحلل المركبات وتركب المحلولات، وتلك القوة المصورة (١).
ويعلم أن هناك قوة ترتب المقدمات، وتنتج النتائج، وتفهم الحساب، وتعرف الهندسة، وتقرأ الطبيعة وهي المسماة بالقوة المفكرة (٢).
وكل ذلك في العقل مخزون وفي النفس موجود وهي القوة الحافظة (٣).
وقد يتذكر الإنسان بعد ضلته، ويحضر الشيء بعد غيبته، بقوة اسمها المذكرة (٤).
وهذه القوى ذات علائق واتحاد وافتراق، والقوة الحاكمة عليها تسمى القوة العاقلة (٥).
وهي المدبرة لتلك الجماعات، والقائمة لتدبير تلك السياسات، والمتممة لتلك النظامات.
إن عقلي مملكة واسعة من رئيس ومرءوس، وحاكم ومحكوم، وطائع ومطاع، فالقوة الحاكمة تخضع لها تلك القوى، والإنسان يعلم من نفسه عواطف ومنازع وأوامر ونواهي، وفوق هؤلاء في نفوسنا زاجر واعظ يخفض ويرفع ويعطي ويمنع، فلعل هؤلاء قوى عقلي تشكلت كأنها سائلة مجيبة آمرة مأمورة.
وما أشبه هذه المحاورات بما يحس به المرء في سائر الحالات، أو لعل هؤلاء قوم ناسبوا عقلي وكانوا على مشربي، فاقتربوا من روحي فخالطوها ودنوا من نفسي فخاطبوها، وسواء كان الحق الآخرة أو الأولى فليس يهم الإنسان إلَّا العظات، فإن كان الخطاب من النفس إلى النفس، أو القول صادرًا من غيري إليَّ فالنتيجة محمودة، والعاقبة مقصودة، والغاية شريفة، وهي السلام العام في نوع الإنسان، وقد ظهرت الشئون الاجتماعية في هذه المحاورات المناسبة، وعلى العقول فهمها، وعلى الأمم نشرها بين الخواص في سائر الأمم والممالك في مشارق الأرض ومغاربها ليسير على منوالها العالمون، ويفقهها المتعلمون.
ثم نظرت فإذا السيد جامون أمامي فقلت: يا ليت قومي يعلمون، ليت إخواني بني آدم يرون ما رأيت ويسمعون ما سمعت، ولو أنهم جاءوا هذه الأرض الفيحاء لتعلموا من علمائها وتفقهوا من حكمائها، ولَمَا حُرِم أبناء آدم هذا النور والحب والعشق، ويا ليت شعري ماذا أفاد العلم والتعليم، وماذا أحدث الكليات، إنها لم تخرج إلا أعداء، ولم تداوِ داء.
فقال لي: أعلم أن قلوبكم فيها عنصر الغضب وعنصر الحب، فإنكم عالم من البهائم والملائكة مركبون، ولكم الأمر فيما ترغبون، فإن أردتم الأسدية، والحياة الحيوانية، فلكم ما تشتهون، وإن شئتم المحبة الأخوية فشأنكم وما تعملون، وقد سلكتم السبيل الأدنى وأثرتم ثائرة الغضب والقهر، ولما شاهدتم الأسد في الغابات، والكلاب في الطرقات، والذئاب العاويات، عمدتم إلى فطركم فقدحتم نار الغضب وأوريتم زناد الغلب، وشططتم في سيركم، وبعدتم في غوركم، وزعمتم أنكم صادقون، وإلى المدنية ساعون، كلا والله، قد كان زيد يقاتل عمرًا، فضم زيد له آلافًا وآلافًا، وكونوا جمعية، واجتمعوا أمة، وصنعوا كُرَة من نار الغضب، وسهمًا مسمومًا من بأس الظلم، وأرسلوها بشواظ من نار إلى آلاف مؤلفة من عمرو وأمم مؤدبة، فأتلفوا أجسامهم، ومزقوا جمعياتهم، ثم أخذوا يسلقونهم بألسنة حداد، ألا إنكم لآساد وأي آساد، وإني لأضرب لكم مثلين اثنين تذكرة لكم وهداية لأممكم، مثلًا لحالكم اليوم، ومثلًا لكم إذا ارتقيتم وإلى المحبة اهتديتم «المثال الأول».
أ، ب، ج هم الكسالى والظالمون المستبدون بمال أو جاه أو غيرها، د، ﻫ، و، هؤلاء هم المتعلمون الذين تنزلوا بالشهوات أسفل من الحيوان بالمكر والكذب والجبن وغيرها مما لم يجمعه حيوان، ولكن فيهم فضيلة يرقون بها عن الحيوان وإليها الإشارة بحروف ز، ح، ط.
فقال: انظر. فنظرت. فقال: إن تعاليمكم مشوهة ناقصة، مزيج من علم ودين وأخلاق وعصبية وتنازع وتدافع.
فهذه الخطوط الثلاثة المعوجة مثال لبعض القائمين بسياسة الأمم ممن تخرجوا من المدارس الكلية في الشرق والغرب، فإنهم جمعوا بين فضيلة الملائكة بالإحسان والحب العام وبين رذائل أسفل من عالم الحيوان، وأدنى من طبقات البهائم، فبينما ترى الرجل عالمًا جليلًا مغرمًا بالخير، أرفع من الحيوان، تلقاه ماكرًا كاذبًا فاتكًا، فهو بالأولى أرقى من الحيوان، وبالأخرى أسفل منهُ في هاوية النقصان، وترى الأسد لا يعلو إلى فضيلته، ولا ينحط إلى رذيلته، فالخط الأوسط رسمناه وحدة تقاس عليها الإنسانية، فما علا فهو إنسان، وما سفل فهو شيطان، وأشرفكم اليوم جمع بين النقيضين، ومزج بين الضدين، فهو من وجه أرقى من الحيوان، ومن آخر أسفل كالشيطان، فذهب شره بخيره، وقبحه بحسنه، ورديئه بجيده، وأسفله بعاليه.
وأما الخطوط الثلاثة المستقيمة خلف الخط الأوسط فإنها تمثل حال الإنسان الذي عاش شريرًا، وفرح بما يصيب الناس من أذى، وقر عينًا بمساويهم، حتى إذا سمع بنعمة أنعم الله بها على غيره ساءته، أو أصيب بمصيبة سرته، ويأكل بالسرقة، ويعيش بالخيانة، تسبيحه الكذب، وصلاته الغيبة، وزكاته النميمة.
فهل رأيت حيوانًا جمع سائر صنوف الشرور والرذائل على مثاله، وهل علمت ضبعًا أو كلبًا اتصف بخلاله؟ قلت: كلا. قال: أولئك أسفل من الحيوان، وهم أمثال الشيطان، ثم قال: وإذا نظرت إلى نسائكم الجاهلات، وعامتكم السفهاء، وأراذلكم الأدنياء، وغوغائكم الحمقاء، فإنك تراهم دائمًا يكيدون، ويمكرون، ويكذبون، فكيف يمدح بهذه الخلال التي عرفها الجاهلون من تعلموا في كلياتكم، فيقولون: سُوَّاس ماهرون وقواد قاهرون، اختلفت الأسماء، والمسمى واحد، بل العبيد والأذلاء والجبناء في ذلك المكر أساتذتهم، وهم فيه أئمتهم الأولون.
هذا تاريخ حياتكم ومثال خصالكم، الغضب في جبلتكم وقد أثرتموه حتى أوقد نار الحرب في أرضكم، وجعلكم سلفًا ومثلًا للآخرين، وأنت تعلم أن في علم الطبائع أعضاء أثرية يحيى بها الحيوان حينًا، ثم تصير فيه آثارًا ودلائل، بعد أن كانت ذات أعمال نافعة مادية.
فلو أنكم يا معشر الإنسان وجهتم هممكم العلية، ونفوسكم القدسية إلى إثارة ثائرة الحب الإنساني، والتعاشق الودي لأصبحتم في الأرض إخوانًا، ولغدا ذلك الغضب الإنساني أشبه بالغدد الأثرية في الأجسام الحيوانية.
فقلت: إني أريد أن أعلم إيضاح هذا المثل كيف رسمته، وعلى أي ناموس طبيعي وضعته. فقال: ذلك مثل رقاص الساعة «البندول» الساقط من أعلى إلى أسفل وفي أطرافه كرات الرصاص متجهًا نحو الأرض الجاذبة كما تجذب الطبيعة الأرضية ما حولها من الأجسام، فتعاليم كلياتكم ومدارسكم ترفع أخلاقكم إلى الأعلى، ولكنكم لا تزالون في الشهوات منغمسين، وتتنزلون عن درجة الحيوان جاهلين.
ألا ترى كيف رفعت الرءوس الثلاثة عن الخط الحيواني بالتعليم عند ز، ح، ط، وارتطمت من أسافلها في أوحال الظلم وسِجِّين الرذائل عند د، ﻫ، و.
وأما ثلاثة الخطوط المستقيمة شمال الخط الحيواني فذلك مثلٌ ضُرب للذين يتعلمون في مدارس اللصوص أو يتبعون خطوات الظالمين، وطعامهم من فضلات موائدهم، ولا خير لهم إلَّا فيما يسلبون وينهبون، فمثلهم كمثل الضبع والثعلب يغتذيان بما ألقت الآساد، أو كأنهم الحِدَأ «جمع حِدَأَة» تتبع الرمم غادرتها العُقبان، فتأكل فضلاتها، وتطعم عظمها المعروق ولحمها المنبوذ، ذلك إيضاح المثل المسطور فيما رسمناه.
تجلى الحق وظهر لذي عينين، وبرح الخفاء أن في قدرة ابن آدم أن يسامي الكواكب الدرية، ويرقى إلى الفضيلة والأخلاق العلية، ويسعد مع النفوس القدسية وذلك مثله في هذا الرسم.
لعلك رأيت أنابيب الماء المستمدة من مستودع مرتفع كيف ترى تدفق مائها، ألم ترَ أنها نضاخة يتدفق الماء منها بلا عوج، وكأنه سبيكة فضة أسطوانية، حولها قطرات تجري على خطوط مستقيمة، لا يعدو عليها ذلك الماء الغزير لضعفها، ولا يسطو عليها لدقتها، بل تراها مندفعة متدفقة سائرة في طريق واحد، جارية لغايتها، واصلة إلى مستوى الحدائق والجنات، تسقيها جميعًا كلًّا بقدره.
فالمستودع مثل المدارس في الأمم المستقبلة حين يرفعون عقولهم إلى مستوى الجمال البديع، منابذين طبائع الأسدية، عارجين إلى أفق الحب الخالص، كما رأوا الكواكب والأفلاك في العوالم العلوية، فيتخرج التلاميذ على المبادئ الحبية، ويعمرون الأرض وهم إخوان متحابون، على سرر المحبة متكئون، لا يمسهم فيها إلَّا نصَب الأعمال العلوية، والحوادث الجوية ونظام الجمعية، والتعاليم المدرسية، ومنابذة الطبائع الجِبِلِّية.
وإذًا تصير أخلاق المحبة عادة راسخة وطبيعة ثابتة، مثل ما نبذ الناس زواج المحارم في أكثر الأمم والممالك، مع أن النساء متساويات، وهنَّ بالطبع مشتهَيات، فأصبح التخلق خلقًا، والتطبع طبعًا، هكذا في كل شئونكم ستكونون، ولأعدائكم تتوادون.
الماء سائل، وقد رأيتم أن الصنعة رفعته في مستودعه، فنظمت حركاته، وأغدقت على الأرض بركاته، وإذا كان الماء بالصناعة أُخرج عن مألوفه الطبيعي، وارتفع عن مركزه الناموسي، وقرأ دروس العلا فأداها، وجرى على الأرض فأرواها، ثم ذهب إلى الأشجار فأنماها، أفأنتم أقل من الماء للرقي قبولًا؟ أو أنتم ألزم لفطركم المألوفة، وأحوالكم المعروفة، من الماء لمجراه، ومن البحر لمستودعه في مسراه، ستكونون جميعًا عالمين، ويصير الحب العام فيكم جبلة مألوفة، وطريقة معروفة، ويغدو ظلم الأعداء عارًا كظلم الأبناء، والغضب والحرب خزيًا كالفجور بالمحارم من النساء.
ولعمري إن من تحرَّج زواج محرمه «وهي وسائر النساء في الشهوة البهيمية سواء» لحريٌّ أن يخزى ويخجل من حرب إنسان آخر على ظهر الغبراء، متى لقن ذلك في صغره من الأهل والأصحاب، والمخالطين والأحباب، كما لقن احترام الأم وحب الأخت محبة روحانية خالصة من الشهوات البهيمية.
فالإنسان مستعد للفضيلة والعرفان في قرن واحد من الزمان إذا شمرت الأمم عن ساعد الجد وعممت التعليم، وجعلته من المهد إلى اللحد، ونطقت بالمحبة العامة الألسن في المحافل والمدارس والمنازل وذكروا بالخزي والعار مَن ظَلَم وفَتَك وأورث الدمار.
هذا مثلكم يا أيها الإنسان، في مستقبل الزمان. فقلت له: إن السيد «ستيد» صاحب مجلة المجلات الإنجليزية يسعى لنشر السلام العام بين الأمم الراقية. فقال: أَيَبْذُرُ في السباخ، أَيُفْرِخُ حيث لا إفراخ.
وهل يحصد الناس وهم لم يزرعوا، وهل ينفع الدهان الجمل الأجرب على وبره، أو يحصد الناس الزرع بلا غرسه وبذره، فلتبذروا بذور المحبة في أفئدة الطالبين في مدارس الأرض شرقًا وغربًا، واغمروها في ماء المحبة العامة قلبًا قلبًا، وزجُّوها في نور الود في الصِّبا، ثم اجنوا بعد ذلك الثمرات، واعقدوا فيما بينكم عقد المودات.
ثم رفعت طرفي إذا حولي أمم لا يعلم إلَّا الله عددهم جاءوا من كل حدب ينسلون، لينظروا هذا الإنسان الصغير كيف يكون. فقلت: ماذا تريد هذه الدهماء؟ وما تبتغي الجماعة وهذا السواد المقبل؟ فقال: إنهم جاءوا ليروك. فقلت: ماذا يقولون؟ فقال: يقولون: إنكم قرود الإنسانية. فقلت: وما قرود الإنسانية؟ فقال: حيوان نصفه بهيم ونصفه إنسان، وأنتم الآن هكذا يا معشر بني آدم.
ولكن آنست مشهدًا جميلًا ما رأت عيني مثله، آنست النظام والترتيب، آنست الجمال والنور، آنستهم جميعًا على الكراسي صفوفًا لا يحصرها العدُّ وهم لي ينظرون، ومن صغر جثتي وقصر قامتي وجهل أبناء جنسي يتعجبون، وعلمت أنهم عرفوا ما دار بيننا من الكلام بالجرائد العلمية، والمجلات الدورية، وقد عرفت في وجوههم نضرة النعيم.
فلما أن دنت الغزالة للغروب، تأهب القوم للوثوب، فلما أن أقبل الليل بجحفله وأسدل الظلام على النور أستاره وناء بكَلْكَلِه، آنست اللامعات الدراري الحسان تتلألأ في جو السماء، وتبهر الأبصار بنورها الوضَّاء، شاهدت فيها جمالًا لم أره، وحسنًا لم أشاهده.
وبينما أنا إليها ناظر ولها مُشاهد إذا فتاة تَبْهَر القمر نورًا والكواكب حسنًا، ظاهرة في الجو ذاهبة جائية في الهواء، فنظرتها إذا عليها ملابس زرق سندسية صافية زهرية، وأخرى بنفسجية، لو رأيت ثَمَّ رأيت وجهًا مشرقًا بدريًّا، طل من طوق حللها الزرق البهية كما يطل البدر الطالع من طوق الحلة الزرقاء السماوية، وهي تتغنى بأبيات وتنشدها بنغمات، كأنها المثالث والمثاني، بأبلغ الألفاظ وأرق المعاني، ما سمعت نظيرها على الكرة الأرضية من الآلات المطربة الشجية، لقد بهرني جمالها، وغشي على لبي غناؤها، فسمعت من نظمها ما ترجمته بالحرف الواحد.
يا أيها الناس اسمعوا مني وعوا، قارنوا سعادتكم ورفاهيتكم ومدنيتكم بما أوتيت حشرة أبي دقيق من الغبطة والسعادة، وما سُخِّر لها من الكواكب بالضياء، والماء بالسقاء، والهواء بالتغذية، والإنسان بالخدمة، والحيوان بالمساعدة.
بم تفتخرون؟ إن أعظم ما أوتيتم من السعادة أن حفرتم الأنهار، وسقيتم الأشجار، وجنيتم الأثمار، وأدرتم الدولاب، فنسج اللباس، وخاط الجلباب، ورفع الماء، وطحن الحب، وخبز العجين، وجمعتم البخار، وأثرتم الكهرباء، فدفعا القطار، وأرسلا البريد في البحار، والقفار، ورويا الأخبار، وحللتم العناصر، وصنعتم منها أجنحة طرتم بها في جو السماء، ثم قهرتم الأعداء بالسلاح.
هذا جل ما أنتم به تفتخرون، وأعظم ما به تستكبرون، هذه ثمرات مدارسكم، وغرس كلياتكم وملخص عقولكم، وجهد فلاسفتكم، وعلم حكمائكم أجمعين، حشرة أبي دقيق دبت على الأرض، وطارت في الجو، وقد كسيت ريشًا جميلًا مزوقًا بهيًّا للناظرين، ها أنتم ترونها تسكن القصور الخضر من الأوراق النضرات، والأزهار الباهرات، قد سخرت لها الشمس بضيائها، والقمر بنوره، والنجم بهدايته، مرسلات أضواءها إلى الأرض، تنمي النبات، وتجري الماء كما سخرت لكم، فأنتم وهي سواء، تأكلون وتشربون، ثم إنكم مسخرون بآلاتكم وعقولكم وكلياتكم، وما أوتيتم من معامل ومصانع وهندسة وحساب وآلات ميكانيكية «دولابية»، فبذلك تزرعون، وهنَّ آكلات فرحات طربات، مسخر لها طلاب العلم وعلماء الكليات في مشارق الأرض ومغاربها.
قل لقومك يا إنسي إنكم عندنا لم تسبقوا حشرة أبي دقيق البهية الطلعة الحسنة المنظر، فإن زعمتم أنكم أرقى منها بعقولكم ومدارسكم وكلياتكم فخبرونا ما الذي بها صنعتم، وما الذي به عن الحشرة امتزتم، أكلتم وأكلت، شربتم وشربت، لبستم ولبست، سخرت لكم العلوم والآلات وسخرت لها، خدمكم الناس والدواب طوعًا أو كرهًا وخدمتموها، فما بالكم تفخرون، مشيتم على الأرض وركبتم القطار، وطرتم في الجو، هكذا الحشرة زحفت دودة ثم مشت بأرجل ثم طارت في الجو، فبم أنتم أيها الناس تستكبرون؟ أهذا منتهى مدنيتكم؟ إذا كان هذا رأيكم، فابكوا على عقولكم، وكبروا أربعًا لوفاتها، وليكن اليوم آخر عهدنا بكم، أيها الناس الأرضيون.
ألا إنما فخركم الأعلى ومجدكم الأسمى، وسعادتكم العليا، وعزكم الأوفى، أن يتصافح الشرقي والغربي، والجنوبي والشمالي، والأسود والأبيض، ويكونوا إخوانًا على سرر متقابلين، وليكونوا لبعضهم أحبابًا فيسود السلام، كما أعان الطبيب الياباني العالم الألماني في اكتشاف دواء الزهري في هذه الأيام، فلولا تعلم اليابانيين ما برز منهم ذلك الطبيب الشرقي وساعده أخاه الغربي، إن في ذلك لآية لكم إن كنتم تعقلون، كلما كثر المتعلمون الصادقون اتسع نطاق السعادة.
ألا إن هذا هو الفرق بين الإنسان والحيوان، ولا خير في عقل لا يعلو بالعاقلين، ولا شرف في فطانة تقعد بالفطنين، ولأضرب لك مثلًا آخر، إنكم يا بني آدم مع الحيوان أشبه شيء بالبندول إن أرسلته على حاله أشبه الحيوان الأعجم في إرساله، وإن حركته أخذ يهتز حركات إلى يمينه أو شماله، فحال الحيوان كحال البندول عند وقوفه، إن لها غرائز لا تتعداها وطرائق لا تنساها.
فأما أنتم فأُطلق سراحكم، فاهتززتم ذات اليمين وذات الشمال، لما لكم من العقل الوافر، والفكر الحاضر، فحركة اليمين تمثل الفضيلة والشرف، وحركات الشمال تشبه الخسائس والرذائل بالترف، فأنتم خلقتم الأكاذيب، وأخلفتم المواعيد، وخنتم العهود، وخضعتم للملوك والأغنياء، وحبستم الأموال، وأغليتم المهور، وصنعتم الفجور، ووشمتم الجلود، وخرقتم الأنوف بالحلي، وفتحتم المنافذ في الآذان للأقراط، وهكذا مما أطال به سبنسر في كتاب التربية بأنواع الزينة الجاهلية، وتغاليتم في المآكل والمشارب والملابس، وأفرطتم في السلاح والكراع والقتال، وعبدتم الصور والتماثيل، وأخذتم العادات المرسومة عمن لا يعقلون من جهال الأمم.
إذا فعلتم هذا كله فإنكم من أهل الشمال، تنزلتم عن الحيوان، وأصبحتم من الأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وكانت حركات اهتزازكم إلى حال أسفل من حال الحيوان.
بئس ما يصنع الإنسان، إنهُ كان ظلومًا جهولًا، قُتل الإنسان ما أكفره، إن الإنسان لظلوم كفار، إن الإنسان لفي خسر إلَّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإذا كان التحاب والتواد والفضيلة وإغاثة الملهوف وصنع الجميل وإغماد السيوف، ومساعدة الأمم القوية الضعيفة والعالمة الجاهلة، واتحادهم وتضافرهم على استخراج المنافع الأرضية والحكم الكونية، فإنكم بذلك تبلغون مراتب الإنسانية، وتربئون بأنفسكم عن حال الحيوانية، وتكون حركاتكم ذات اليمين.
فبلغ قومك أيها الإنسي ما قلنا، وأفهمهم أن حركة بندولكم الإنسانية هي اليوم شمالية، وقد آن أن ترجع يمينية، فيسود السلام والوئام، لقد هُديتم النجدين وخُيِّرتم بين الطريقين، وقد سرتم في شرهما طريقًا وأضلهما سبيلًا، فقد آن الأوان واستدار الزمان، لتكونوا على صراط مستقيم، كما خُلقتم في أحسن تقويم.
ثم أشارت إلى ذلك الشيخ الأعظم السيد «جامون» وقالت إنهُ سيلقي عليك قولًا فاستحضر وبلِّغهُ لأهل الأرض لعلهم يعقلون. ثم غابت الحسناء عن الأبصار، وولت والقلوب معها، بعد أن قام الجمع وودعها.