سؤال عن حال الإنسان
كل هذه الخواطر السانحات جالت بخاطري، وقد أخذتني سِنَة فنَوْم، في ليلة التاسع والعشرين من شهر مايو، وبينما أنا نائم إذا شخص دخل غرفتي، وهي موصدة الأبواب، مقفلة الشبابيك، محبوكة الستائر، فوَكَزَني برجله، وسمعت وأنا مغمض الأجفان، غائب عن عالم العيان، قائلًا يقول: قم أيها الإنسان، فلم أفتح عيني لمقالته، بل ظننته من أضغاث الأحلام، وخطرات المنام، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، فعاد الوكز، وعاودت الاستعاذة.
فلما كانت الثالثة فتحت عيني، إذا نور مشرق في ظلام الحجرة الحالك فدهشت من هجمته، بل ذعرت من هيبته، وأخذتني هزة الرعدة، لا هزة الطرب، ثم استجمعت قواي، وشددت فؤادي، وقلت: ما هذا، أنا في يقظة أم في منام، إن هذا إلَّا أضغاث أحلام.
ثم أغمضت عيني، إذا صوت أسمعهُ من ذلك النور الساطع، والضوء اللامع، يقول بلسان فصيح عربي مبين، لا تخف إني صديقك، وعاشق للحكمة مثلك، اتحدت روحي وروحك، قم لأحل لك معضلات المسائل، وأهم الوسائل، وأضع لكم يا أهل الأرض قانونًا مسنونًا، وصراطًا مستقيمًا، ولكنني قبل ذلك أسألك: أين الإنسان؟ ففتحت عيني، إذا شخص لم أرَ مثله في هذا العالم المُشَاهَد، كأنهُ شاب في سن العشرين، لم أتبين شكلهُ لمكان الظلام المحيط بنوره، متوسط القامة، عليهِ حلل مرصعة بالماس، منظومة بالذهب، محلاة بأنواع من الجواهر والأحجار الثمينة، لا أعرف لها في الأرض نظيرًا، ولا أكاد أميزها للدهشة وظلام الليل، فأعاد السؤال كَرَّة أخرى وقال: أين الإنسان؟ فقلت: نحن بني آدم نوع الإنسان. فقال: أوَهذا منتهى ما تصل له يد استطاعتكم في الكمال والأدب، والنظام والمدنية والفضل؟ وهل تجاريبك العلمية، ومباحثك العقلية، أرشداك إلى أن هذا هو الكمال في الإنسان؟
فقلت له: خبرني أيها السيد، من أين أقبلت؟ ومن أنت؟ فقال لي: إنني لي اسمان، الحقيقة والوجدان، وقد أقبلت من مُذَنَّب هالي، وأنا روح من الأرواح السائحة في العالم، وإني أحبك حبًّا جمًّا لحبك لنوع الإنسان، واهتمامك بنظامهِ العام.
ولما اقتربت من الأرض نظرت إليك نظر المحب الشفيق، والوامق الصديق، فجئت لأسامرك الليلة، وأجاذبك أطراف الصداقة والخلة، ثم ارجع من حيث أقبلت.
إني سألتك: أين الإنسان؟ فتلكأت في الجواب، وأوجبت بما لا يزيل اللبس، فأجب بالحقائق المعروفة لديك، واختصر اختصارًا، وليكن قولك إيجازًا، وإذا لم تفد الحقيقة فضع بدلها مجازًا.