فضائل الإنسان
وهنا أخذتني الغيرة، وذهبت سكرة الحق، وجاءت فكرة التعصب للجنس والنخوة والحمية. فقلت في نفسي: يا للعار ويا للشنار! روح من الأرواح تجلت لك ساعة من الزمان، فتشرح لها حال الإنسان، فيذمنا عند العوالم الأخرى، ويا عار الأمم الأرضية، إذا رجع صديقي الوجدان إلى كوكب المريخ أو المشتري، أو ركب متن مُذَنَّب هالي وساح في النظامات الفلكية العالية، وربما قابل علماء أورانوس ونبتون، وربما ركب كوكبًا آخر، فصعد إلى المجرة التي فيها ما لا يتناهي من الملايين النجمية، فيخبرهم بأخلاق الأمم الحاضرة، وما فيها من زور وبهتان، وجهل فاضح، أوَأكون أنا السبب في نشر هذه الأخبار في عوالم السماء عن أرضنا! فوالله لأذكرنَّ محاسن الإنسان، كما ذكرت مساويه، وأنشر فضائله، كما أذعت نقائصه، ولأذيعنَّ الخير كما أذعت الشر. كل هذا خطر لي وأنا ساكت.
فدنوت إليهِ فوجدتهُ يتبسم. فقلت له: أيها الملَك الطاهر، والصديق الخالص، إن الإنسان وإن أساء فقد أحسن، وإن ضل فقد هُدِيَ، ألا ترى أن منا الأنبياء والمرسلين، والحكماء والعلماء والصالحين والأولياء، وفينا صفة الرحمة! فمن منا لا يجزع لمصيبة حلَّت بأخيهِ الإنسان! ومن من المصريين والشرقيين لم يجزع لحوادث زلازل الطليان، وقد اختلف القومان، وبَعُدَ المكان، وتباين الدينان، ولقد آنست قومًا من فقراء الروم يطلبون الإحسان، والمعونة، أمام كنيسة رومية في شارع الحمزاوي بالقاهرة، فبكيت ورحمت، وآنست مرة غلامًا روميًّا يبكي، وقد ضلَّ الطريق، فسألتهُ فكلمني بلغته فلم أفهم، فجزعت ولم يسكن ألمي إلَّا بعد أن أسلمتهُ لرجل من بني جنسه فعرفهُ، وَأَنَّهُ ضال طريق المدرسة، وإنا ليسرنا شعر شعرائهم، وعلم كبرائهم، كما يُفرحهم علمنا ورُقِيُّنا، ويسوءهم جهلنا وضعفنا، وإن غطت الشهوات على العقول، وزاحم الطمع الرحمة، والشدة اللين، والشر الخير، فالإنسان مركب من الخير والشر، والصالح والطالح، والطيب والرديء، هكذا كان وهكذا سيكون. فلما انقضى الحديث، ودَّعني ذلك الصديق الحميم، وانصرف ومعه الفؤاد، وقال: إن شاء الله يكون الاجتماع في الليلة القادمة، فأغمضت عيني، واستيقظت في الصباح وأنا جذل فرح بما وعيت، فقيَّدته في ورقة وأنا لا أدري، أذلك حقيقة أم خيال، وعجبت كما سيعجبُ القارئون.