في أنواع الحكومات والفلاسفة
فلما أن كانت الليلة الثالثة دخل الحجرة وأيقظني وأجلسني فآنست وجهًا يُخجِل القمر، وقد لبس ثيابًا بيضاء مصفرة ومعه ساعة من الذهب، فرجع إلى الكلام على حال الإنسان وقال: ما الذي عملتم بفطركم وعقولكم؟ فقلت: نظمنا الحكومات، وقرأنا الديانات، وأوسعنا العلوم واللغات، واخترقنا الجبال، وعبرنا الأنهار، وسخرنا الهواء، والحجر والماء، فنحن لذلك كله مسخرون. فتبسم وقال: سأريك قيمة ما وصفت، وأعرفك أنه ليس شيئًا مذكورًا في إنسانيتكم، أجبني: «أين الإنسان؟» أنتم متحاربون متقاتلون متعادون، أنتم ذئاب على أجسادكم ثياب، إنني إذ سحت العوالم السماوية، ونظرت نظاماتها السياسية، وقارنت سياستكم بسياستها، ودولكم بدولها، ما شككت أنكم يا أهل الأرض معذبون غَافلون، إني عجبت لكم، إن لكل امرئ منكم قلبين متضادين، ونفسين متناقضتين، ووجهين متشاكسين. فقلت: كلا، بل قلب واحد، ونفس وعقل ووجه. فقال: ألستم تقابلون بعضكم بما تعلنون، وهو مخالف لما تضمرون؟ ألستم تفشون، وتكذبون وتنافقون، وأنتم متظاهرون بالصلاح، وكثير منكم فاسقون؟ أوَهذه حياة الإنسانية؟! إن هي إلَّا حياة شيطانية.
ثم قال: خبرني، أليست حكوماتكم هي التي أكل عليها الدهر وشرب، ما هذه الحكومات، يا عجبًا للإنسان! يا ويل الإنسان! أطلق له السراح كما أطلق للمادة، فتدلى عن الحيوانية، وانحط أسفل من البهيمية؛ ألستم تخضعون للأوهام والدجالين والكذابين؟ ألستم تحسون بضعف أنفسكم أمام وارثي الملك فتملكونهم عليكم، والطبيعة والفطرة تناديكم، أين عقولكم؟ أين أحلامكم؟ «أين الإنسان؟» إن الفطرة قد تكفلت لكم بكل حكمة وسياسة، إن الحكمة العالية الإلهية سنت لكم القوانين، ونظمت لكم كل شيء وأنت غافلون. قلت له: فأفدني. فقال: سيريك الشيخ الوقور من بعد «جامون السماوي». (وسيكون له القول الفصل في آخر الكتاب.)
فقلت له: من أين استمد الإنسان أكثر الحكومات الحاضرة؟ فقال: إن الإنسان عاش مع الحيوان أمدًا طويلًا يتصارعان ويتجاولان، وقد ركبت فيكم صفات الشهوة لتعيشوا كالبهائم، وصفات الغضب لتدافعوا كالأسود، وصفات العلم والحكمة لترقوا وتسعدوا كالملائكة، ولكنكم يا معاشر الإنسان، لا تزالون مع الأنعام، ولا تقدسون إلَّا صفات الآساد.
فقلت له: إن فينا الأنبياء والحكماء والعلماء. فقال: أما أنبياؤكم فقد خالفتموهم، وأولتم كلامهم، وأما حكماؤكم فإن أكثرهم ساروا مع العامة، وعللوا ما وجدوه بلا بحث ولا تنقيب، كما فعل علماء اليونان في الأفلاك، وما قاله أرسطاطاليس في المُذَنَّبات، وداروين في السياسات، وسبنسر في المطعومات، وعامة علماء أوروبا في الصين واليابان. فدهشت إذ سمعت هذا القول، وعجبت كيف عرف أسماء الحكماء في الحديث والقديم. فقلت: أيها الصديق الفاضل، رعاك الله، أوضح لي ما ذكرت. فقال: أما علماء اليونان فإنهم لما رأوا قبة زرقاء، منظورة دائمة الوجود، قالوا: أنها لا تقبل الخرق ولا الالتئام، ولا الفساد ولا الفناء، وهي دائمة أبدًا وأمدًا. وهذا القول كذبتهُ العلوم، وذهبت دولته، وانهارت سياسته، فأنت ترى أنهم عللوا الكرة السماوية كما يلتمس علماء البيان حكمة الاستعارة المكنية، وكقولهم إن الكواكب السبعة البهية توسطتها الشمس كما تتوسط شمس القلادة قلادتها، وهي أثمن جوهرة العقد في جيد الحسناء، إذ تكون في وسط الخرزات البهجات، أفليس ذلك عيبًا في الحكمة وجهلًا بالنظام؟ أما أرسطاطاليس فإنهُ علل النيازك والكواكب ذوات الذَنَبِ بأنها أبخرة أرضية، صعدت في جو السماء وصادفت الكرة النارية فاشتعلت فحدث الضوء المنير، وأنت تعلم سقوط هذا الرأي في العلوم العصرية، والحكم الكونية، والاكتشافات الحكمية.
وأما داروين فإنه لما نظر جمال الدنيا وبهجتها وزخرفها وحكمها ونظامها ووقف على غلبة الأسود للظباء، والعنكبوت للذباب، والذئب للدجاج، والقوي للضعيف، ورأى الأمم القوية تفتك بالضعيفة وتبيدها من الوجود، جارى ما يشاهده من الناس، فحكم بألَّا فلاح إلَّا بالغلبة والقوة والسلاح والكراع، فأخذت الأمم تجد في السلاح والمدافع والرصاص، وهو حق أريد به باطل، وصدق أريد به كذب، وستفهم فيما بعد أنه أخذ القضية من أحد وجهيها، ولم يحقق مقالته ولم يحكم حكمته، ولعل أنصاره هم الضالون، وإلا فكيف عاش الفيل تحت الشجرة، والعصفور فوقها والنمل أمامها، والصَّعْوُ (الميكروب) في جسمها، والذباب يطن على أذنيها، والجميع في جو واحد، منعتهم من التزاحم حواجز طبيعية، أفلا تحجز الناس حواجز حكمية، ليطابق العقل الإنساني حكمة الكون العليا، ودرجته القصوى. ولم يكن هذا مذهب داروين وحده، بل سبقه به أبيقور اليوناني وهو يحدث عن العالم بطريق الحدس والتخمين، وهكذا ذكر هذه الغلبة العرب، ولكنهم لم يريدوا أن يجعلوها أساسًا للسياسات.
أما بعض علماء أوروبا فإنهم حكموا على الصين واليابان قبل الآن، أنهم لا يرتقون إلَّا لدرجتهم الحالية «إذ ذاك»، وعللوا ذلك بزوايا الوجوه، وأوضاع الأنوف، وربما جعلوا للألوان أثرًا في السياسة، فخاب ظنهم، وضل سعيهم، وكذبهم ما فعلتهُ اليابان مع الروس، وما قام به الصين من العلوم العصرية، وهي الآن آخذة في الارتقاء ساعية جهدها إلى العلاء، وأما سبنسر فإنهُ لما أحس أن كثيرًا من الناس قَرِمٌ للحم، مغرم بأنواع الطعام، فضل أدنى الخصلتين، وذم النباتيين، وقال: إن أكل اللحم صفة الآساد والنمور، وهي أمتن قوة، وأعظم سلطانًا، والأمم التي تأكل اللحم تقهر النباتيين، فكذبه أن قامت اليابان، وكذبتهُ بأوضح برهان، فإنهم بالأرز مغرمون، وعن إكثار اللحم معرضون، وقوَّى حجة استكثار أنواع الطعام على المائدة، ليسهل هضمها ويعظم نفعها، ولعمرك إن هذا عكس ما قرره الأطباء، وبرهن عليهِ الحكماء. وإنما قرر ذلك مجاراة للزمان، ومسايرة للشهوات الهائجة، في البلاد الشرقية والغربية.
فالعادة كثيرًا ما تضطر حكماءكم إلى أقوال غير صادقة، وتحملهم على قضايا لا يألفها المنطق، ولا تصدقها العقول العالية، والنفوس الشريفة الراقية. هذه قضايا حكمائكم، وآراء فلاسفتكم، يخضعون للعادات، وينقادون للشهوات، ومن منهم إلَّا حرض قومه على إهلاك غيرهم، وإبادتهم وتسخيرهم، وجعلهم سلمًا لسعادتهم، كأنهم خلقوا واسطة لغيرهم، وطريقًا لحياتهم، وإن هم إلَّا بشر مثلهم، إلَّا أنهم هم الظالمون.
فقلت: أوضح لي نظرية سياسات الأمم اليوم إيضاحًا شافيًا، وأَبِنْ لي نظيرها في الموجودات المشاهَدة، والمخلوقات الطبيعية الحية، وما برهان نقصها، وما سبب اختيارها وتفضيلها. فقال: لقد شاهد آباؤكم الأقدمون، وحكماؤكم السابقون أنواع النمور والأسود والصقور تعيش عيشة هنيئة، بتمزيق اللحوم، وتهشيم العظام، واقتناص الغزلان، وصغار الحيوان، فعمدوا إلى تقليدها، والسير على منهاجها، وقالوا: ما أهنأ عيش الأسود والنمور والذئاب، إن النمر يعتمد على قوته، والذئب والثعلب على خدعته، فتأكل اللحوم سَهلة هينة سائغة للقانصين، وقلدوها في سياستها، وزاحموها في وحشيتها، واستمدوا قوة من سلطتها، فاتخذوا الكراع والسلاح والقنا والسيف، وأكلوا ثمرات غيرهم، واستطابوا عيشة النهب والسلب، وهذه هي القوة السبعية الكامنة في الإنسان، قام بها أسوأ قيام، أخضع لها العقل الملكي، فأخذ يدبر ليكون وحشًا كاسرًا، وقاهرًا فاجرًا. فقلت له: أيها السيد، بارك الله فيك، إن هذا ليس ظلمًا، إن السباع محددة الأنياب، شاكية الأظفار، والشواهين والصقور ملتوية المناقير، قد حكم عليها أن تعيش على لحوم الغزلان والأرانب وأمثالها. فتبسم، ثم قال: وهل هذه براهينكم؟ الأسد لا يأكل الأسد، وإنما يأكل البقر والمعز والضأن، وقد أعدها الخالق الحكيم طعامًا للآساد، وما أقل الآساد! وما أكثر الأنعام والضأن والمعز! فأما أنتم يا معشر الإنس، فإنكم تسخرون أبناء جنسكم بلا ضرورة تلجئكم، ولا حاجة تحرجكم، فأنتم مختارون غير مضطرين، والآساد مضطرة. على أن أكل الآساد وسائر السباع لحكمة بالغة، ونظام عجيب؛ ذلك أن تلك الحيوانات إذا بقيت رممها وجللت وجه الأرض تعفن الجو بأنواع الحيوانات الصغيرة المسماة بالميكروب فيعم الوباء، ويكون البلاء بفساد الجو، ففتك السباع حكمة منظمة مدبرة، على أنها لا تبيد هذه الأنواع، فهي باقية أبدًا ما دامت الأرض والسماء، فقولكم: إن الأقوى يقهر الأضعف، كلمة حق أردتم بها باطلًا، وصدق أردتم به كذبًا، ونظام أردتم به خللًا، وعلم أردتم به جهلًا، إنكم يا معشر الإنسان ظالمون جاهلون.
أخبرني أي أمة من البقر حاربت أختها فأفنتها، ثم سخرت عجولها لأعمالها؟! وأي أسد اتخذ معه آسادًا، ونظم جيشًا فحارب آسادًا أخرى وسخرهم لمعيشته؟! وأي كلاب جمعت جموعها فأرهقت الكلاب، وأيتمت الأَجْراء، وأرملت الكلبات؟! فقل لي أيها الإنسي، «أين الإنسان؟» فقلت له: إن النمل لتحارب وتأسر وتسخِّر نملًا آخر في أعمالها. فقال: ويحكم يا معشر الإنس! وهل النمل أستاذكم؟ أتحققتم أن النمل الغالبة من جنس المغلوبة؟ ولعل الفرق بين الغالبة والمغلوبة، والبعد ما بين القاهرة والمقهورة في الشكل والإدراك، كما بين الإنسان والقرد، فيكون الغالب من غير نوع المقهور. ولعل هناك حِكمًا لا تدركونها، وأسرارًا لا تعلمونها، كالتي فهمتها الآن في نظرية الأسود والغزلان. يا أيها الإنسان، «أين الإنسان؟» ولئن ظننتم أن النمل القاهر والمقهور إخوان، فما بالكم تقلدون الحيوان في الضلال! فكيف تدعون أنكم أعلى مقامًا، وأرفع منارًا، وأهدى من القطا، وأرقى العالمين! وإذا كنتم تؤيدون نظرياتكم بأعمال الحيوان، وتَدَعُون الصالح، وتَصطفُون الطالح، فخبِّرني، رعاك الله، كيف تدَّعون بأنكم أرقى الحيوان! «أين الإنسان؟» فقلت له: كيف تنكر سيادتنا ورفعتنا، ونحن الأُلى رفعنا منار العلم، وأقمنا بينات الهدى، وبنينا الدُّور، وشيدنا القُصور؟ فقال: أيَّ دُور وأي قصور؟ إن الخطاطيف تبني، والعصفور وسائر الطيور، فحاصل ما تصنَعُون يشبه ما يفعله سائر الطير في الأشجار، والوحش في الفلا والقفار، ولقد عثر الباحثون عندكم على عنكبوت مائية، اتخذت لها بيتًا تحت الماء لتعيش فيه، بحيث يوضع مقلوبًا وتملأ قمته بالهواء، وهذه لم يتسنَّ لكم إلى الآن الاهتداء إليها.
وهل أتاك نبأ كلاب البحر في أستراليا، فإنها تضع حواجز للنهر كذلك الذي تسمونهُ العَرِم والنَّجَف، يخزن الماء ليكون حصنًا على أبواب بيوتها الغاطسة فيه، ولكل بيت من بيوتها دوران أعلى وأسفل، فالأعلى للجلوس، والأسفل لخزن الطعام، على أنكم برعتم في الأبنية، وإنما ذلك لوقاية الأجسام من العطب والعاديات، وليس ذلك فضيلة فيكم، ولا فخر لكم، فأنتم فيه والحيوان سواء، فبمَ امتزتم عليهِ، يا أيها الإنسان.
لعلكم تفخرون بسكة الحديد، ورسائل البرق والبريد، وتسخير الحيوان، وعبور البحار بالسفن الكبار، واتخاذكم الأثير بالبريد البرقي المسمى تلغراف ماركوني، وإنكم أخذتم تصعدون الجو في السفن الهوائية المسماة بالبالون والمنطاد. ولعلكم تفرحون بتشييد الحصون، وتحديد السلاح، وتدريب الجند على الكفاح، وأن الأمم الغالبة تنزع السلاح من المقهورة، وتتخذها خولًا وعبيدًا، وترفع منها العلم، وتذيع الجهل، ليكون الأولون آسادًا، والآخرون غزلانًا وأرانب وخرفانًا، فقل أين الإنسان؟ أوَهذه عقولكم؟ أنا ما سمعت في كوكب من الكواكب السماوية التي سحت فيها سكانًا شرًّا منكم، فأين الإنسان؟ أين الإنسان؟ أتدري كل ما به تفخرون وما أنتم عليهِ عاكفون، ذلك كله أعمال حيوانية، بل ألعاب صبيانية؛ فما سكة الحديد والقطار، إلَّا أنكم أوتيتم أرجلًا سريعة أسرع من كل حيوان، وأن فرق ما بينكم في سرعة النقل وبين الإبل السريعة العدْو لأقل مما بين عدْو الأرانب والنمل؛ فأسرع قطار ليس أسرع من جري الجمال البختية مرتين. والأرنب أسرع من النمل آلافًا مؤلفة. فقل لي: هل سرعة السير فضيلة جديدة؟ إذن كانت الأرانب إنسانًا. بل إنكم قبل ركوب القطار منذ ثلاثمائة عام مثلًا كنتم أبطأ من أكثر الحيوان جريًا، فالأسود والنمور والبقر والغنم كانت أسرع منكم، فإذن هي الأرقى والأعز الأعلى، وأنتم تدعون الفضل عليها بالعقل لا بالسرعة والبطء، فلا ينبغي لكم اليوم أن تتبجحوا بقولكم القطار والبخار. ولئن سلكتم هذا السبيل، وسرنا معكم فيما تدعون، وقلنا: أنتم فضلتم الحيوان في هذه. فأي فضل لكم في شيء ليس يجلب إلَّا الطعام والشراب؟! فأنتم لا ترحلون ولا تحلون إلَّا لمواد حياتكم من الطعام والزراعة والتجارة والسياسة، وكلها لغذاء الأجسام وكسوة الجلود ودفع الأعداء، فلَمْ تفضلوا بها الحيوان شيئًا مذكورًا، وما قلناه في القطار نذكره في البريد والرسائل البرقية، وإن هي إلَّا رسائل لمادة الحياة كما تعيش سائر الحيوان.
لندع التطويل ونرجئ إتمام البحث إلى مقال السيد جامون، فأنتم يا معشر الإنس اتخذتم الظلم عادة وفخرتم على سواكم جهلًا وزورًا، وقلدتم أسوأ الحيوان حالًا، وأقله فضيلة، وإني ما رأيت شرًّا منكم في تدمير جنسه، وتسخير قومه وخدعه في قوله ونفاقه في عمله. فدعوا الدعوى والعظمة، واعلموا إنكم غير ما تظنون. فقلت له: ما لك رفعت ووضعت، ومدحت وذممت، قد أثبت أن نفوسنا تشابه الهواء في قبوله للرقي وحسن الصنعة، وتضارع المادة في تشكلها وترقيها، وها أنت تسومنا السوء وتضعنا في أسفل سافلين؟ فقال: نعم، يقول الله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ فعقولكم قابلة للسعادة، وأنتم حكمتم عليها بالذل والحرمان والهوان، إذ اتخذ قدماؤكم نظام حياتهم على قاعدة أن الإنسان أنواع، فقوم نصبوا أنفسهم للسيادة واتخذوا غيرهم عبيدًا، فالأولون سباع والآخرون غزلان، ثم وجه الطرفان تعاليمهما على هذا المنوال، وتوارثوها جيلًا عن جيل، ثم تحدث أمور تختلف فيها الوجهة ويقهر المغلوبون ويذل الغالبون.