لم نقرأ إلَّا سطرين سطرًا من المادة وسطرًا من العقل
ثم قال: ألا إن مثل عقولكم كمثل المادة كما أسلفنا، وإن المادة فيها سبعون ألف سطر من حكم عجيبة، وما قرأتم منها في السياسة إلَّا سطرًا واحدًا، ثم لم تفهموا إلَّا جملة من السطر، وهي: «يغلب الأقوى الأضعف»، ألم ترَ إلى ما أودع فيها من الحيوان والنبات والمعادن، وأنتم كل يوم تخترعون وتكتشفون، وكم من نبات لا تعلمون، إن الحشائش والأشجار المحيطة بمنازلكم النابتة في حقولكم كافلة لشفائكم، ولكنكم لا تعلمونها، ولو علمتم منافعها لكنتم أنعم بالًا وأسعد حالًا، وكم في خفايا الأرض وبطون الأودية وعلى رءوس الجبال من المنافع، والناس عنها غافلون، ولم يقرأ الناس إلَّا سطرًا واحدًا، وحفظوا منهُ في السياسة الجملة المشئومة المذكورة.
وأما عقولكم فإنها عنكم مستورة مغمورة بالقوة الغضبية، والشهوة الحيوانية، ولم تستطيعوا أن تتخلصوا منها، ولم يتضح لكم من عقولكم إلَّا سطر واحد، مكتوب من جملة سبعين ألف سطر في الحكمة والعلم لا تزالون عنها غافلين، فالمادة والعقل صنوان في الإبداع، وفرسا رهان في الاتساع، والسطر الذي قرأتموه من عقولكم تلك العلوم العقلية والآراء الحكمية، ومنه أنكم أخذتم تحلون معضلة السياسة وأنتم لا تشعرون. فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: إنكم في سالف الزمان، سخرتم الأنعام، فأكلتم لحومها، ولبستم أصوافها وجلودها، وظننتم أن هذا غاية السعادة ومنتهى الرقي والمدنية، فلما كثرتم أيقنتم أن الأصواف لا تكسو عشر الإنسان وسائر دواب الحمل لا تقوم بحاجاتكم ولا تفي بمطلوبكم، فاخترعتم البخار والبريد البخاري والبرقي والأثيري «مركوني»، فذلك بلا ريب جملة فهمتموها من سطر من سبعين ألف سطر من حِكم عقولكم، وستعين على حل مسائلكم السياسية بعد حين، كما أنكم زرعتم القطن فألبس سبعة أعشار الناس أثوابًا وكساهم أردية، ولا جرم أن هذا الحل نهاية ما عرفهُ الإنسان، وأبرزه العرفان، وجربه الزمان. إنكم ما اتخذتم إخوانكم خَوَلًا وخدمًا، وأذللتموهم، إلَّا ليتمموا ما نقصه الحيوان من المنافع، ثم سلطتم أشعة عقولكم على المادة والنبات فألبستكم لباسًا حسنًا قطنيًّا، وأعطتكم بخارًا وقطارًا، فكفتكم بإرادة مبدعها، إنها لتكفل لكم الخير والنجاح، والعز والفلاح، إذا اتجه سائر نوع الإنسان إلى الطبيعة فذللها، وترك ذلك الجهل وذهب الكسل والخمول، والجور وظلم العالمين.