أين الحكمة في المادة والعقل
فقلت: ما الحكمة في فوائد المادة إذا لم نعقلها؟ وما الفائدة في عجائب العقول البشرية إذا جهلوها؟ فقال: إن هذه المادة كلوح منقوش سطورًا، فالحيوان يقرأ جزءًا، وأنتم تقرءون سطرًا، وسائر السطور يقرؤها آخرون في عالم آخر، أما عقول النوع البشري فإنها مستمدة من العقل العام المحيط بالعالم الفائض من علم الله عز وجل، وهذا العقل يحيط علمًا بالمادة وعجائبها، والعقول البشرية تطلع قليلًا قليلًا على ما أودع فيه من الحكم، ولئن ذبل نبات أو مات حيوان بلا فائدة ترونها، فهناك فوائد تجهلونها، ومتى تحلل إلى عناصره، وكرَّ راجعًا إلى مادته، لم يعدم خواصه، وإنما هي كامنة، فلا معدوم في هذا الوجود، وأنهُ لا عدم البتة، ليس يعدم إلَّا المظاهر.
فأما الحقائق فإنها كامنة راسخة، فالمادة فيها كل نبات وحيوان وإنسان، هكذا عقول نوع الإنسان، إنها تحفظ عناصر السعادة، وإنما يعوزها الاستخراج والإنماء، فمن نظر إلى زنجي وإفرنجي قال لأول وهلة: إن الأول من التراب، والآخر من معدن الذهب، وضل عن هذا الزاعم أن البذرة متحدة، واختلفت المظاهر بالتعهد والتربية، وما الإفرنجي إلَّا من أولئك البرابرة التتريين، قوم جاءوا من آسيا وأحاطوا دولة الرومان، ثم غلبتهم، وورثتهم علومهم ولغاتهم وقوانينهم، والمتوحشون أسرع قبولًا للمدنية وأقوى أجسامًا، وترى الأرض التي بقيت بورًا أمدًا طويلًا أنضر زرعًا وأغزر شجرًا من الأرض التي أنهكها الزرع والحصاد، فكيف يهرف فريق من العلماء بقولهم متوحشون ومتمدينون، ويحكمون جهلًا على فريق أنهم لا يرتقون، وهم كانوا مثلهم في غابر الأزمان، فعقولكم البشرية لا تزال خاوية من الحكمة، واقفة في أول الطريق ولكنها على باب الهداية، إذ بدأتم تكشفون أسرار الخليقة، وستعتقون العقول من الرق، وتستخرجون كنوز الأرض النباتية والنامُوسيَّة، فهي الكافلة بنجاحكم، والكافية لإسعادكم وإزالة العوائق المخترعة، ولتعلموا أنكم نوع واحد، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.