الفلسفة العتيقة والفلسفة الجديدة وكيف كان توزيع العقول على أفراد الإنسان والمنافع على الأرض وكيف جهلها الإنسان
واعلم أن القضية العتيقة القائلة بأن الأقوى يغلب الأضعف وأن الضعيف أسير القوي، لا تنطبق على العصر الحاضر، فأبيقور المخترع لها، وداروين المقرر كانا في زمن، وأنتم أحوج إلى قضية جديدة، ولقد أبنَّا تفنيدها وشرحنا نقضها، والقضية الجديدة «العقل فوق القوة» وهو أضمن للسلامة، وأقدر على الكفاية، يغني الناس عن الحرب والكفاح، والمدفع والسلاح، إن الإنسان نوع واحد، وعقله أولى بكفايته، والمادة تكفيه شئونه، فليُرِحْ أخاه وليتحد معه على استخراج ما في الوجود من الحكمة، فمقال أبيقور وداروين مما يتلاشى مع الزمان، ويتغير بتغير الأجيال، ومثل هذا لا يناسب الأعصر الحالية كما سنوضحه بأعلى من هذا فيما بعد.
الإنسان ترقى في العلم، وانحط في الأخلاق، وسفل في الأعمال، لله در علماء الطبيعة والفلك، لله در الرياضيين، لله در علماء الحقائق، وما أجهل العقل السياسي في العالم، أمركم عجيب، استخرجتم المنطق فصدقت قضاياكم في أكثر ما استخرجتموه من الطبيعة، كمسألة أرشميدس وإضرابها كسائر القضايا الهندسية والحسابية، فنلتم كثيرًا من العلوم. فقلت له: إن لدى أممنا نوادي علمية، وآثارًا حكمية، وما من دولة أوروبية أو أمة شرقية إلَّا وضربت في العلم بسهم وأخذت من الحكمة بنصيب، وما منهم إلَّا له مقام معلوم، يحضون على الارتقاء والمحبة العامة والسعادة الإنسانية.
فسكت مليًّا وأشار إلى خادم حاضر، فما كان أسرع أن أحضر له خريطة زرقاء بهية، فنظر وتبسم ضاحكًا. فقلت في نفسي: ممَّ يضحك! لعله نظر في أحوال الأمم الوحشية، وهلَّا قرأ علوم الأكاديميات الأوروبية، ولو أنهُ استطلع حكمة الفرنسيين، وعلم الألمانيين، لخرَّ على الذقن ساجدًا، ولسلم لي، وأعظم قدري واحترم جنسي، فبينما هذه الآراء تخالج قلبي إذ رأيتهُ أنفذ إليَّ سهام نظراته، ووجه شطري بواتر إشاراته، وقوارس عباراته فقال: أي الأمم الإنسانية أعرق في المدنية؟ وأيهنَّ فتحت لكم أبواب السياسة، ومنحتكم أُعطيات الحرية؟ فقلت: الأمة الفرنسية، فقهقه ضاحكًا، فقال: لعلك راقك الأكاديمية! فقلت: نعم، وقلت في نفسي: ماذا عسى أن يقول؟ ووالله لقد نصرني الله عليهِ بأعظم حجة وأجلِّ برهان.
فقال: لعله دهشك أنهم يعطون كل عام ما يقرب من ثلاثمائة ألف فرنك ثوابًا وعطايا على الأعمال العلمية والاكتشافات الأخر، وإن هذا المقدار موزع على ٧٨ قسمًا يتسلمها علماء الفنون المختلفة، وأساطين العلوم النافعة، أو تظن أن ذلك سعادة الإنسانية، وارتقاء الأمم الأرضية، ولعلك تقول أن ذلك المقدار من المال الذي لا هو في أي سنة مقطوع، ولا عن أي مُجيد في العلوم ممنوع، دعا الناس للعمل وحثهم على التسابق والتنافس، وتقول لمثل هذا فليعمل العاملون، ولو أنك تبصرت في جلية الأمر، وتحققت خفي السر، لعلمت أن أكثر ذلك خدمة شخصية للأمة الفرنسية، فإن أكثرها راجع لتاريخها وآدابها ولغاتها وعظمتها وإسعادها، وليس للخدمة العامة من نصيب إلَّا قليلًا كالتي وضعها «جوست» و«بلويه» و«زيجوا» وهي نحو ستة آلاف أفرنك، فللإنسانية العامة اثنان في المائة من أعمال أعظم أكاديمي في الدنيا، وقد أسسهُ السيد ريشليو وصي هنري الثالث لارتقاء اللغة الفرنسية، نعم هو الواضع وهو المقرر، فلم يتسنَّ لخلفائه أن ينظروا في المنفعة العامة إلَّا قليلًا، فليس لديكم ريشليو لنوع الإنسان، كما كان لفرنسا قبل نحو أربع قرون.
الأمم غافلة والناس جاهلة. اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ، ما أجهل الناس، ما أبعدهم عن الحقائق، ما أقربهم إلى الوحشية، وأبعدهم عن الإنسانية، إنهم في غفلة معرضون.
فإذا كانت هذه فرنسا التي بها افتخرت وبعظمتها وفضلها احتججت، فكيف بالأمم التي عنها سكت، لا جرم أنهنَّ أشباهها في الفضيلة، وأخواتها فى الأعمال العامة، فهلا جعلت أكثر الجوائز، وقدمت العطايا والنوافل، لأعظم القربات، وأرفع الدرجات، وهي المنافع العمومية، والسعادة الكلية، للأمم البشرية، ولو أنهم فعلوا ذلك لتقدمت الأمم الأرضية، وقامت الجمعيات الإنسانية، وكيف ينكصون على أعقابهم، ويرتدُّون عن أشرف أعمالهم العامة، وهم لو وجهوا هممهم إلى المنافع العامة لكملت سعادتهم.
لمَ لم يوجهوا عزائمهم لإقامة أمرين اثنين وإصلاح فاسدَين: الأرض الزراعية، والعقول الإنسانية، كم في الأرض من قطع متجاورات، تصلح للإنبات، وهم يتحاربون، وأذكياؤهم عنها غافلون. ألم ترَ أن أكثر السودان لا زرع فيه وهو صالح للزراعة، والعراق والأناضول، وكثير من أرض الإسبان، وأراضٍ كثيرة من البلاد الإنجليزية. أوَلا يعلم حكماؤكم أن كل قطعة من الأرض في أمة بارت ولم تُزرع خسارة كبرى على سائر نوع الإنسان. أنا لا أقول قسموا الأرض الآن بالسوية، ولا أدخل معك في نظرية المال والعمل وما تفرع عنهما من الآراء والمذاهب الاشتراكية، فلذلك وقت آخر، وإنما أقول: كيف غفل علماؤكم عن الأرض؟ كيف تركوها؟ أوَيظن علماء الأمم جهلًا أنهم لا يعنيهم شأن دولة أخرى وهي إذا بارت أرضها خسرت ثمرتها؟
ومن عجب أنهم يقدمون الحجج، وينفذون الأساطيل في اللجج، لحماية مجرم في السياسة، أو شاب أزهقته الحماسة، أوَلا يحمون الأرض من أن تبور، كما يحمون الرجل الحماسي من القتل، أَلَا إن الأرض أولى بالحماية، وأحق بالرعاية، فإنها يعيش بريعها الإنسان والحيوان. وهلا تحتج تلك الأمم القوية على من يدعون أبناءهم جاهلين، يتخبطون في دياجير الظلام، أوَليس الجاهل ميتًا؟ ألا إن ذَنْبَ الإهمال أشبه بجرم الإهلاك، ومن أهمل العقول الإنسانية أحق باللوم والتعنيف ممن أزاح الرءوس عن أبدانها، وفصل الأرواح من أجسامها. ألَا إن من أهمل عقلًا أو تعمد جهله، فقد حشر جمًّا غفيرًا إلى الحيوان، وأنزلهم عن مراتب الإنسان، وأماتهم موتة العار، وجعلهم من الفجرة الأشرار. ألَا إن ذلك شر ممن أذاق النفوس كأس الحِمام، وأوردها مناهل الإعدام، فالأولون يضلون، والآخرون مهلكون. ألَا إن الهلاك الروحي والفساد الاجتماعي، شر مقامًا من خسارة ألوف من نوع الإنسان. ألَا إن الفساد العقلي ينمو بالاختلاط ويزداد بالاجتماع، وجريمة العدم قاصرة على محلها لا تتعدى جرمها، وجُرمان أكثر من جرم، وويل أهون من ويلين، وعذاب واحد أهون من عذابين اثنين، فتبًّا للأمم الغافلة والعقول النائمة.
هلا علم عقلاء أهل الأرض أن خسارة عقل واحد في الشرق دمار على الغرب، وشقاء في الشرق يئول إلى خراب في الغرب، وكيف يسكت علماؤكم عن البحث في سائر العقول البشرية، أوَلا يعلمون أن المعارف الإنسانية موزعة عليهم بقسطاس مستقيم، إن الحديد والنحاس والقصدير وسائر المعادن، وضعت في الجبال وطبقات الأرض على درجات شتى كثرة وقلة، حسب الحاجة الداعية إليها بقسطاس مستقيم، فترى الذهب قليلًا؛ لأنه ملك المعادن وأس القضاء في المعاملات والتجارات، وتليه الفضة القاضية في البيوع الجزئية، قلَّ الذهب، ووليتْهُ الفضة، ولو كثرا في جبالكم ووفرا في معادنكم وفرة زائدة عن حاجاتكم ما صلحا للمبادلة، ولا أجزآ في المعاملة، وكثر الحديد والنحاس وغيرها لتقوم بأعمالكم، حكمة بالغة ونواميس صادقة، فهل جهلتم يا بني آدم فظننتم أن عقولكم وزعت على أجسامكم توزيعًا مهملًا وقسمت قسمة ضيزى، كلا ظن خادع ورأي سخيف، وكما أن الذهب غائر في طبقات جبال كثيرة، وتوزع في أقطار عديدة، وكذا الحديد والنحاس والقصدير، فهكذا العقول والذكاء والفطنة الداعية لاستثمار الأرض واستخراج منافع المادة من الهواء والماء والكهرباء.
ليس في الشرق ولا في الغرب من عقل إلَّا وهو موضوع لحكمة، ومجبول على فضيلة كعناصر الشجرة المخبوءة في البذرة. «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»، فخيارهم في فطرهم المهملة خيارهم في عقولهم المتعلمة، لنعلم الأمم العالمة الجاهلة، لتقم مقام الأب الوصي لا مقام الجاني والسيد الظالم، لا تَدَعُوا شبرًا من أرض في كُرَتِكم الأرضية بلا زرع، المجامع العلمية غافلة عن الحض على المنافع العامة إلَّا قليلًا، وكيف يجهلون خسارة العقول البشرية، إنها لكم مخلوقة، إن عقلين أفضل من عقل، وأمتين فاضلتين أفضل وأنفع لهما من أمة عاقلة وأخرى خاملة، وأمم عاقلة وكرة أرضية أو كوكبية فاضلة عاقلة تكون أسعد سبعين مرة من أهل أرض أو كوكب جمعوا بين جهل وعلم وكمال ونقص، فهلا كان من الأمم حولكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض بترك زراعتها، وعن خراب العقول بتعمد إهمالها إلَّا قليلًا منهم، وكثير منهم فاسقون.
يا أيها الناس اعقلوا، يا أيها الناس افهموا، لقد أفهمناك أيها الإنسي حال نواديكم العلمية في أعظم أممكم الغربية، وها هو أكاديمي فرنسا وأنتم جميعًا عن الإصلاح العام في الأرض والعقول غافلون، إذا كان هذا شأن أكابر علمائكم فكيف بأغرار أممكم وجهال دولكم من عامتكم السفهاء وغوغائكم الضعفاء، إذ يتبعون آراء التخريب والتدمير والعداء والإيذاء، ألم يكفكم أن غادرتم العقول جاهلة، والنفوس خاملة، والأرض بائرة، بل تجاوزتم ذلك إلى ما هو أشد إنكالًا وأفظع جرمًا وأدعى للعجب، فقد سعيتم ضد الفطرة على خط مستقيم، أوَتجهلون ما أوصى به غلادستون الإنجليزي، وما نصح به غمبتا الفرنسي من ضرب، وما تلقاه الألمانيون عن وليم الملك وبسمرك الوزير من تدمير، وما أشار به غلادستون وبطرس الأكبر في الروس من تدمير، ليسود السلام.
إن أكثر الناس جاهلون، إن أكثر الناس يتبعون داعي الشر ونذير السوء، أنتم لا تزالون على الوحشية، ربوا أبناءكم جميعًا على المحبة العمومية بحيث يكون ذلك في سائر الأمم الأرضية، تعاهدوا جميعًا صفقة واحدة على زرع سائر الأراضي، فإن أعوزكم الزراعون فأنفذوا إلى الأمم ترسل من رعاياهم من يرغبون ويحتاجون، ثم ليتخذوا الأرض الجديدة لهم وطنًا وليكونوا من الأمة الجديدة كما فعلت الممالك المتحدة الأمريكية، وليتجنسوا بجنسيتهم، وليدخلوا في جامعتهم، هذا يكون مبدأ السلام العام في الكرة الأرضية، لا تكونوا مع الجهال، لا تكونوا من الجهلة الأغرار الذين يكرهون نوع الإنسان.
أين عقول علمائكم، كيف يذرون النعم الأرضية، ويتحاربون حروبًا سبعية. أضرب لك مثلًا عن إهمال النوع الإنساني لعقله ولأرضه ولمائه، هذه مصر وسودانها، إن مصر لا تنال من النيل إلَّا نحو عشر مائه، وأكثر مائه ذاهب في الغابات السودانية، والأراضي الإفريقية، وفي مصر والسودان أجود الأطيان، تكفي أناسًا عدد دولة الألمان والنمسا والطليان، فلو أن القطرين أوتيا حكمة وعلمًا وجعلوا لهم نظامًا مسنونًا، وقانونًا معلومًا، ودعوا من الأمم من يدخل تحت رايتهم، ويستظل بظل وطنهم، ويدخل في جماعتهم، ثم ينظمون الماء ويزرعون الأرض، ثم فعل مثل ذلك في كل أمة ودولة في مشارق الأرض ومغاربها لأصبح الإنسان في سعادة.
هذه أول سعادة الإنسان، ووراءها سعادة أخرى عالية ستنالها الأمم في أزمانها المقبلة، كم عند لوردات الإنجليز وأهل أمريكا من أرض جردت من الزرع ولا خير فيها إلَّا اصطياد الظباء في الخلوات، فلم لا يزرعون. قُتل الإنسان إنهُ كان ظلومًا كفارًا، مسكين الإنسان وأي مسكين! ضلت أممكم، وجهلت دولكم، وطاحت العقول، وذهبت الرسوم، فلا سعادة لكم ولا هناء، فارجعوا عن غيكم، وثوبوا إلى عقولكم، وكونوا متحابين، وللعقول والأرض مصلحين.
ثم قال: انظر، فنظرت. فقال: ألا ترى إلى هذه الشجرة؟ (هي شجرة لَبْخٍ ذي منظر بهيج لا يشبه ما في أرضنا)، وقد وزع العصارة المجتذبة من الأرض على أوراقه وأثماره وحبوبه، ومنح كل ورقة قسطها، وأعطى كل أنبوبة حقها، وأهدى كل حبة أو ثمرة ما تحتاجه في الحياة، ألا لا يسعد الإنسان على سطح الكرة ما لم يصل إلى تقسيم أعماله على حسب الاستعداد والقوى والملكات، الشجرة ساق وفروع صغيرة وأخرى كبيرة وأزهار وأثمار وألياف وصمغ وشوك وورق، وكل ذلك له حد محدود من الأغذية والعصارات، فتوزع على كل منها ما يحتاجه.
أفليس الإنسان شجرة تفرعت، وأصلًا نما، وجنسًا انفلق إلى فصائل، والفصائل إلى أفخاذ كثيرة وأفراد متباينة، وكل له استعداد لعمل وصنعة، فلم لا يشغل كل فيما خلق له؟ خصصت الثمرات بغذائها الصافي والأوراق بعصارتها، والألياف بقوامها وقوتها، ألا فلتقم كل أمة من أمم العالم بما حدد لها من القوى والملكات، ألا لتوزِّع الحكومات على الأفراد الأعمال الإنسانية على سنة طبيعتها، أفلا ينظرون إلى الألوان كيف اختلفت، وإلى الأصوات كيف تباينت، وإلى العقول لم تشتبه، وإلى الأحوال المتقاربة المتباعدة، فليضعوا كل أمة فيما خصصت له، وكل فرد فيما يناسبه ويلائمه ويواتيه ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.