العمود الأول: الأجسام الصلبة والفضاء الخاوي
بيد أن عددًا قليلًا من علماء الفيزياء يتمتَّعون بملَكة الخيال (أو بالأحرى، الرؤية الفيزيائية)، ولم يُحسم الجدل حول الاعتقاد بأن فاينمان كان يتمتَّع بهذه المَلَكة، وما إذا كان العالم يتكوَّن فعلًا من مثل هذه الجُسَيْمات إلا في السنوات الأولى من القرن العشرين، رغم أن فكرة الذرات طُرحت قبل ذلك بكثير.
عادةً ما يعود الفضل في التفسيرات الرائجة للنظرية الذرية (أو أيًّا ما ترغب في تسميتها به) إلى الفيلسوف ديموقريطوس، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، والفيلسوف إبيقور، الذي عاش في الفترة بين عامَي ٣٢٤ و٢٧١ قبل الميلاد تقريبًا. ولكن لم تكُن فكرتهما عن الأجسام الصغيرة، التي تتحرَّك في «الفراغ» وتتفاعل بعضها مع بعض، سوى رأي لأقلية، سخر منه فلاسفة مثل أرسطو الذي رفض فكرة الفراغ. ولم يُعَدْ إحياء الفكرة إلا في عام ١٦٤٩ على يد الفيلسوف بيير جاسندي، حين أشار إلى أن الذرات لها أشكال مختلفة ويمكنها أن تتَّحد معًا عبر آلية تشبه آلية الربط بين المشبك والعروة. وأكَّد على عدم وجود شيء على الإطلاق في الفجوات الموجودة بين الذرات. وكان هذا تمهيدًا لجدال استمرَّ لما يربو على مائتَي عام. من ناحية، كان هناك ما يمكننا تسميته بالمدرسة النيوتونية للفكر، تيمُّنًا بإسحاق نيوتن، والتي حبَّذت الفرضية الذرية؛ ومن ناحية أخرى، كانت هناك المدرسة الديكارتية، تيمُّنًا برينيه ديكارت، الذي بغض فكرة الفراغ أو الخواء. وتفاقم الخلاف بين المدرستَين في القرن التاسع عشر.
بدايةً من خمسينيات القرن التاسع عشر فصاعدًا، واستنادًا إلى الأعمال السابقة لجون دالتون، تزايد قَبول علماء الكيمياء لفكرة الذرات، وأن ذرات العناصر المختلفة لها أوزان مختلفة، وتتحد معًا لتُكوِّن الجزيئات، ومن ثم اعتُبر جزيء الماء، مثلًا، مزيجًا من ذرَّتَي هيدروجين متحدتَين مع ذرة أكسجين. واستطاعوا قياس أوزان (أو كتل على وجه الدقة) ذرات مختلِف العناصر من خلال مقارنتها بعنصر الهيدروجين، الذي يُعتبر العنصر الأخف وزنًا. بل واستطاعوا أيضًا حساب عدد الجُسَيْمات (سواء أكانت ذرات أم جزيئات) التي ينبغي أن توجد في عينة أي عنصر يتوافر وزنه الذري (أو الجزيئي) بالجرامات؛ أي ١ جرام من الهيدروجين، ١٢ جرامًا من الكربون، ١٦ جرامًا من الأكسجين، وهكذا. وكان من شأن كل عَيِّنة من هذه العينات أن يكون لها عدد الجسيمات ذاته. وصار هذا العدد يُعرف باسم ثابت أفوجادرو، نسبةً إلى العالم الرائد الذي طوَّر النظرية الكامنة وراءه، وهو عدد ضخم جدًّا. ولكن قبل أن أتطرَّق إلى مدى ضخامته، ينبغي أن أوضِّح وجه المعارضة لهذه الأفكار، تلك المعارضة التي ظلَّت قائمةً حتى في بداية القرن العشرين، والتي تُبرز مدى الروعة الحقيقية لفكرة الذرات هذه.
جاءت المعارضة من جانب علماء الفيزياء والفلاسفة الذين أشاروا إلى ما اعتبروه خطأً فادحًا في فكرة الأعداد الكبيرة للجُسَيْمات الدقيقة المتحرِّكة في حَيِّز الفراغ، لترتدَّ بعضها عن بعض وتسير في طريقها وفقًا لقوانين الحركة التي وضعها إسحاق نيوتن. والعنصر الجوهري في قوانين نيوتن أنها قابلة للعكس. والطريقة المعتادة لتسليط الضوء على هذا هي تأمُّل التصادم بين كرتَي بلياردو. كرة تتحرَّك، مثلًا، من ناحية اليسار، وتصطدم بكرة ثابتة، ثم تتوقَّف، في حين تتحرَّك الكرة الأخرى ناحية اليمين. إذا قمت بتصوير هذا الحدث على هيئة فيديو، وقمت بتشغيله عكسيًّا من النهاية إلى البداية، سيبدو جيدًا تمامًا. ستتحرَّك الكرة ناحية اليمين، وتصطدم بالكرة الثابتة، ثم تتوقَّف، في حين أن الكرة الأخرى ستتحرَّك ناحية اليسار. لا تشتمل قوانين نيوتن على «خط زمني». ولكن العالم الواقعي يحوي اتجاهًا للزمن يمثِّل جزءًا لا يتجزَّأ منه. الآن، إذا تخيَّلنا ضربة البداية لكرة الدفع البيضاء وهي تصطدم بالكرات المتراصَّة على طاولة البلياردو بحيث تنتشر الكرات في جميع الاتجاهات، فالموقف هنا غير قابل للتراجع والسير في الاتجاه العكسي، رغم أن كل تصادم يحدث بين الكرات يخضع لقوانين نيوتن. إن «تشغيل الفيديو عكسيًّا» ينتج عنه متوالية لا نراها مطلقًا في عالم الحياة اليومية؛ بمعنى أن نرى حركة تراجع الكرات من جميع الاتجاهات لتتصادم، وتعود في رصتها الأنيقة على هيئة مُثلَّث، بينما تقترب كرة واحدة نحو العصا.
عبَّر علماء القرن التاسع عشر عن سمة اللارجعة لعالم الحياة اليومية من خلال الحرارة، أو عِلم الديناميكا الحرارية. فأشاروا إلى أن الحرارة تنتقل دائمًا من جسم ساخن إلى جسم بارد. فعند وضع مكعَّب من الثلج في كوب ماء دافئ، فإنه يكتسب الحرارة من المياه ويذوب، إلا أننا لا نرى مطلقًا ماءً في كوب تزداد حرارته تلقائيًّا بينما تتكوَّن كتلة من الثلج في منتصف الكوب. ولكن قوانين نيوتن تسمح تمامًا بوقوع هذا السيناريو وسيناريو ضربة كرة البلياردو «المعكوسة». ولذا، كان الاستنتاج المبدئي لعلماء الديناميكا الحرارية في القرن التاسع عشر هو أنه لا يمكن أن تتألَّف الأشياء من جُسَيْمات صغيرة تتحرَّك وفقًا لتلك القوانين. ولكن حُلت المعضلة آنذاك.
يعود الجانب الفيزيائي إلى عمل قديم كان أينشتاين على دراية به على الأقل، ولكن على نحو محدود فحسب. ولم تكُن هذه نقطة الانطلاق لأبحاثه؛ لأنه مرةً أخرى كان يعمل عليها انطلاقًا من المبادئ الأولى، ولكن هذه المرة حاول أن يُقدِّر كيف لعيِّنة صغيرة من المادة — مثل ذرة من الغبار — مُعلَّقةٍ في سائل — كوب ماء مثلًا — أن تتحرَّك، بينما تنهال عليها ذرات وجزيئات مصطدمة بها من جميع الجهات. قام بدراسة هذا النوع من الحركة عالِم النبات الاسكتلندي روبرت براون في عشرينيات القرن التاسع عشر. كان اهتمامه نابعًا من مشاهدات، أجراها باستخدام الميكروسكوبات، لحبوب لقاح تتراقص في المياه بحركة مهتاجة، تشبه الركض في المكان. كان التفسير الطبيعي آنذاك هو أن حبوب اللقاح تنبض بالحياة، وتتحرَّك تحت تأثير قوتها الدافعة. ولكن اختبر براون هذه الفرضية من خلال فحص حُبيبات شظايا زجاج وحُبيبات جرانيت صلبة في المياه، ووجد أنها تتحرَّك بالطريقة نفسها. وأثبت هذا أن الحركة لا علاقة لها بالحياة، وصارت تُعرف باسم الحركة البراونية.
من الممكن أن تتطابق الحركات التي سنناقشها هنا مع ما يُسمَّى بالحركة الجزيئية البراونية، ولكن البيانات المتاحة لي عن هذه الحركة الأخيرة ليست دقيقةً للغاية، لدرجة أنني لا يمكنني تكوين رأي عن هذه المسألة.
«البيانات المتاحة» لم تكُن «دقيقةً للغاية»؛ لأنه لم يستطِع أن يكلِّف نفسه عناء البحث عنها، وثمة شك قوي في أن هذه العبارة حتمًا أُضيفت بعد أن قرأ صديق له مُسَوَّدة للبحث، ونبَّهه إلى وجود صِلة تربط بين هذا وبين الحركة البراونية. ولكن بغضِّ النظر عن دوافعه، فسَّر أينشتاين الحركة البراونية بواحدة من الرؤى الثاقبة التي تطرأ على ذهن العباقرة، ولكنها تجعلك تتساءل بعد ذلك لماذا لم يفكِّر أحد بها، مدعومًا بالتقديرات التي توفِّر للمختبرين شيئًا لاختباره.
لقد أدرك أينشتاين أن الجسيمات الكبيرة بما يكفي لفحصها باستخدام ميكروسكوبات حديثة — حُبيبات مثل حبوب اللقاح، أو شظايا الزجاج — كانت أصغر وأدق من أن تتحرَّك على نحو مرئي واضح إثر التصادم مع ذرة واحدة أو جزيء واحد. ولكن تُقصَف هذه الجسيمات في سائل باستمرار من كل الجهات بأعداد كبيرة من الذرات والجزيئات. ولا يمكن أن يكون هذا القصف متساويًا تمامًا. ففي أي لحظة، سيحدث عدد أكبر قليلًا من التصادمات على جهة، بينما يحدث عدد أقل من التصادمات على الجهة الأخرى. وسينزاح الجسيم قليلًا في الاتجاه الذي يشهد تصادمات أقل. لكن حينئذٍ سيتغيَّر التوازن، وسيُدفع ببطء في اتجاه مختلف. والنتيجة المجملة لهذا أن الجسيم يهتز، لا أقصد هنا الركض في المكان، وإنما العدْو البطيء في مسار متعرِّج والابتعاد تدريجيًّا عن المكان الذي بدأ من عنده. ويُعرَف هذا المسار الآن بالمسار العشوائي، وكانت هذه هي الرؤية الأساسية لأينشتاين.
إذا ثبت خطأ تقدير هذه الحركة؛ فإن هذه الحقيقة ستكون حجةً بعيدة المدى ضد مفهوم الحركة الجزيئية للحرارة.
بالطبع لم يثبت خطؤه، واعتُبِر هذا دليلًا دامغًا على حقيقة الذرات والجزيئات. ولكن هناك ما هو أكثر، أكثر ممَّا أدرك أينشتاين في عام ١٩٠٥.
توضِّح النظرية الحركية الجزيئية للحرارة التي ذكرها أينشتاين أن الأشياء اليومية الدارجة تنقسم إلى ثلاث حالات: صلبة أو سائلة أو غازية. يُعَد الغاز مثالًا نموذجيًّا للذرات المتحرِّكة في الفراغ، دون وجود أي شيء بينها. أمَّا السائل فيُصوَّر باعتباره مجموعةً من الذرات (أو الجزيئات) تنزلق بعضها أمام بعض بسلاسة وحرية إلى حد ما، ولا يوجد بينها فراغات. وأمَّا في حالة الجسم الصلب، تُصوَّر الجسيمات مُرَتَّبةً بإحكام في مجموعة، بحيث يُلامس أحدها الآخر، وأيضًا بلا أي فراغات بين الذرات أو الجزيئات. إذن لماذا وَصفتُ لوحة مفاتيحي وأصابعي باعتبارها حيزًا فارغًا عادة؟ كان هذا اكتشافًا مثيرًا حقًّا، وقد توصَّل إليه الباحثون في مانشستر في نهاية العَقد الأول من القرن العشرين؛ أي منذ أكثر من مائة عام بقليل.
كان هانز جايجر وإرنست مارسدن هما مَن قاما بإجراء التجارِب فعليًّا، وكانا يعملان تحت إشراف إرنست رذرفورد. كان رذرفورد واحدًا من الأعلام البارزين في مجال تطوير الفيزياء آنذاك. جاء من نيوزيلاندا، وعمل في تسعينيات القرن التاسع عشر بجامعة كمبريدج، في إنجلترا، حيث درس سلوك الأشعة السينية المُكتشفة حديثًا، وبعد ذلك، انتقل في عام ١٨٩٨ إلى جامعة ماكجيل في مونتريال، حيث درس الاكتشاف العظيم الآخر في ذلك الوقت، ألَا وهو النشاط الإشعاعي. واستقرَّ في مانشستر في عام ١٩٠٧. وفي غضون عام، توصَّل فريقه إلى أن أحد أشكال هذا الإشعاع، وسُمي أشعة ألفا، وهو عبارة عن تيار من الجُسَيْمات، كل جسيم منها مماثل لذرة هيليوم فقدت وحدتَين من الشحنة الكهربائية السالبة (أو إلكترونَين كما نعرف الآن). ونظرًا إلى أن هذا يترك ذرات الهيليوم المنزوعة الإلكترونات، والمعروفة أيضًا باسم جسيمات ألفا، بوحدتَين من الشحنة الكهربائية الموجبة، يمكن التحكُّم فيها باستخدام المجالات الكهربائية والمغناطيسية، وتوجيهها على هيئة أشعة وتسريعها؛ وممَّا يدل على سرعة تطوُّر الفيزياء خلال العَقد الأول من القرن العشرين أنه بحلول عام ١٩٠٩، كان فريق مانشستر يستخدم جُسَيْمات ألفا الناتجة عن النشاط الإشعاعي الطبيعي، وعالجها بهذه الطريقة لفحص بنية المادة بدقة.
كانت أول فكرة تبادرت إلى رذرفورد هي احتمالية وجود شحنة كهربائية سالبة مركَّزة في أعماق نموذج طومسون للذرة (نظرية بودينج الخوخ). وهذا من شأنه أن يجذب الشحنة الموجبة وجسيمات ألفا السريعة الحركة ويرسلها لتتأرجح حول الشحنة السالبة وتعود في الاتجاه الذي جاءت منه، مثل مذنَّب ينجذب بفعل جاذبية الشمس ويتأرجح حولها قبل أن يعود إلى الفضاء العميق. وبعد سلسلة متواصلة من التجارِب الدقيقة لتكوين صورة أوضح لما كان يجري، توصَّل إلى فكرة أفضل، توافقت مع نمط الومضات بمزيد من الدقة. لا بد أن ثمة شحنةً كهربائية «موجبةً» مركزةً في مركز الذرة (التي تسمَّى الآن النواة)، يُحيط بها سحابة أكبر بكثير من الشحنات السالبة ذات الإلكترونات. تنساب أغلب جسيمات ألفا عبر سحابة الإلكترونات وتمضي في طريقها، بيد أن العدد الصغير نسبيًّا الذي وصل إلى النواة مباشرةً انعكس بفعل شحنته الموجبة وارتد عائدًا. وبالاستعانة بإحصائيات التجرِبة، حيث تأثَّر جسيم واحد من بضعة آلاف جسيم بهذه الطريقة، استنتج رذرفورد في عام ١٩١١ أن حجم النواة كان أقل من مائة ألف جزء من حجم الذرة. وقد أُعلن عن اكتشاف تركيز الشحنات في قلب الذرة خلال اجتماع علمي في مانشستر، ونُشر في مايو ١٩١١، رغم أن رذرفورد لم يُعلن تأييده القاطع لفكرة النواة «الموجبة» الشحنة إلا في عام ١٩١٢. وكان لا بد من انتظار تطوُّر نظرية الكم لتفسير السبب وراء عدم وقوع الإلكترونات السالبة الشحنة داخل النواة الموجبة الشحنة، ولكن منذ تلك اللحظة فصاعدًا لم يَعد ثمة شك في أن الذرة أغلبها مساحة فارغة، وسرعان ما أصبح واضحًا أن جسيمات ألفا ما هي إلا أنوية هليوم.
بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يألفون مثل هذه الأرقام الصغيرة، يمكن تخيُّل خواء الذرة على نحوٍ تصويري أكثر. لو كان حجم النواة بحجم حبة الرمال، لكان حجم الذرة في حجم قاعة ألبرت. كذلك يعادل فارق الحجم بين الذرة والنواة تقريبًا فارق الحجم بين جسدك وواحدة من خلاياك. أمَّا بالنسبة إلى جمهور الألعاب الرياضية، فلو كان حجم النواة يضاهي حجم كرة جولف، لوصل قطر الذرة إلى نحو ٢٫٥ كيلومتر. أظنك قد كوَّنت صورةً الآن. إن القوى الكهربائية التي تعمل في سحب الفضاء شبه الخاوي المحيط بالنوى الصغيرة هي فقط ما يمكِّن الذرات من التماسك معًا لتكوين الأجسام «الصلبة». وسلوك الإلكترونات الموجودة في السحب المحيطة بالنوى أيضًا هو ما يُتيح لنا استكشاف المادة التي تتكوَّن منها النجوم.