العمود السابع: خفَّة الثلج المذهلة
يطفو الثلج فوق المياه. ذاك أمرٌ واضح وبديهي للغاية لدرجةِ أن غالبيتنا لا يتوقف ليفكِّر فيه مطلقًا. بيد أن هذا يُعَد سمةً أساسية ومميزة لبيئتنا، وهو أمر غريب بكل وضوح، كما يشير أحد التجارب المنزلية البسيطة. فإذا أخذت حاويتين شفَّافتين، وملأت إحداهما جزئيًّا بالماء والأخرى بزيت الزيتون، ثم وضعتهما في المجمِّد، سيتجمد كلا السائلين. سيتكوَّن الثلج من الماء، في حين سيتحول زيت الزيتون إلى مادة صلبة أشبه بالزبد. الآن، أخرِج الحاويتين من المجمِّد وضَعْهما على طاولة دافئة عند الذوبان. سيتكوَّن في إحداهما الماء السائل في القاع عندما يذوب الثلج، حتى لا يتبقَّى سوى طبقة من الثلج تطفو على سطح الماء. أما في الحاوية الأخرى، فتبقى الكتلة الموجودة في القاع صلبة، بينما يرتفع الزيت الذائب إلى السطح، مكوِّنًا طبقة سائلة فوق الكتلة الصلبة. الموقف الثاني أكثر تعبيرًا عن سلوك الأشياء. فأغلب المواد الصلبة أثقل (وأكثر كثافة) من شكلها السائل؛ ولذا تغوص لأسفل. ولكن لماذا يشذُّ الثلج عن هذه القاعدة، وكيف أثَّر ذلك على تطوُّر الحياة على كوكب الأرض؟
على الرغم من أن الناس قد لاحظوا من قبلُ ما يُطلق عليه أحيانًا «التمدُّد بالبرودة» الذي يحدث للماء عندما يقترب من درجة التجمُّد، فإن أول شخص أجرى دراسة علمية حقيقية لهذه الظاهرة هو بنيامين طومسون، كونت رومفورد، في العَقد الأول من القرن التاسع عشر. كان رومفورد شخصيةً نابضة بالحياة جديرًا بأن يُفرَد له كتاب وحدَه، بدأ حياته باسم بن طومسون في المستعمرات الأمريكية في عام ١٧٥٣، وقاتل في صفوف الجانب الإنجليزي في حرب الاستقلال الأمريكية، وشقَّ طريقه إلى بافاريا (حيث قادته خدماته الكثيرة للدوق لمنحه لقب الكونت)، وأجرى دراسات رائدة حول طبيعة الحرارة، وأسَّس المعهد الملكي بلندن. وخلال مسيرته العلمية، درسَ ما يحدث للمياه حين تقترب من درجة التجمُّد.
لا ينبغي اعتبارها كافية لكي نحدِّد، بدقة بالغة، درجةَ الحرارة التي تصل عندها كثافة المياه إلى الحد الأقصى لها؛ وإنما لإثبات أن درجة الحرارة هذه تفوق درجةَ حرارة ذوبان الثلج بدرجات عديدة على المقياس الحراري.
ولكن بعد مرور عام واحد فقط، قدَّم ورقة بحثية إلى المعهد الوطني الفرنسي يصف فيها تجربة دقيقة حدَّدت بدرجة معقولة من الدقة درجةَ الحرارة التي يصل عندها الماء إلى كثافته القصوى.
ملأ رومفورد حاويةً بثلجٍ على وشْك الذوبان، عند درجة تجمُّد المياه بالضبط. وداخل هذا الحمَّام الثلجي، كانت هناك حاوية أخرى، بداخلها إناء على هيئة كوب، متصل به مقياس حراري. وفوق الكوب مباشرة، كانت توجد كرة ساخنة يمكن غمسها في طبقة الثلج نصف الذائبة من الجزء العلوي بالحمَّام الثلجي، وتدفئة المياه الموجودة هناك. وكما توقَّع رومفورد، كانت المياه الدافئة أكثر كثافة من المياه المثلجة وغاصت إلى قاع الكوب؛ ملأت المياه الأكثر كثافة الكوب، حيث أمكن قياس درجة حرارتها. فوجد أن الكوب يمتلئ بماءٍ تصل درجة حرارته إلى ٤١ درجة فهرنهايت، أو ما يعادل ٥ درجات مئوية (حدَّدت القياسات الحديثة أن المياه تصل إلى أقصى كثافة لها عند درجة حرارة ٤ درجات مئوية؛ ومن ثَم يكون قد أبلى بلاءً حسنًا للغاية في ظل الأدوات المتوافرة لديه آنذاك).
يمكن لكل ذرة أكسجين في جزيء الماء أن تكون رابطتين هيدروجينيتين بهذه الطريقة، بينما على الجهة الأخرى من جزيء الماء يمكن لكل ذرة هيدروجين أن تكوِّن رابطة هيدروجينية أحادية مع ذرة أكسجين في جزيء آخر. وينتج عن ذلك في المجمل أربعة احتمالات لتكوين الروابط، وهو ما يحث على تكوين روابط هيدروجينية مرتَّبة في أشكال رباعية حول كل جزيء من جزيئات الماء، مما ينتج عنه البنية البلورية المفتوحة في المواد الصلبة (تخيل ندف الثلج)، كما يحث أيضًا جزيئات الماء على جذب بعضها لبعض أثناء التحرُّك في سائلٍ ما. ولهذا السبب يكون الماء سائلًا في جميع درجات الحرارة التي نجدها مناسبة على كوكب الأرض اليوم.
يتوقَّف وجود المادة في حالة صلبة أم سائلة أم غازية على درجة الحرارة، فيما تتساوى بقية العوامل الأخرى (بالأخص الضغط). فكلما ارتفعت درجة الحرارة، زادت طاقة الجسيمات التي تكوِّن المادة (الذرات أو الجزيئات)، ومن ثَم تزداد السرعة التي تتحرك بها. وعند درجة حرارة عالية بما يكفي، تتحرك الجسيمات دون قيود، متصادمة بعضها ببعض وبجدران أي حاويات تحتويها. أم في نطاق درجات الحرارة المنخفضة، فتكون شبه متلامسة، ولكن يظل لديها الطاقة الكافية للانزلاق بكل سهولة بعضها فوق بعض. وعند درجات الحرارة الأقل، لا تكاد تكون قادرة على التحرك تمامًا، إلا للقيام بنوع من الحركة أشبهَ بالركض في المكان، وتكوِّن مادة صلبة. فالجزيئات الأثقل تحتاج إلى المزيد من الطاقة للتحرك على نحوٍ أسرع؛ لذا يفترض في العموم أن تذوب المواد المكونة من جزيئات أثقل وتتبخر عند درجات حرارة أعلى من المواد المكونة من جزيئات أخف، ويُستثنى من ذلك المواد التي ترتبط فيها الذرات معًا لتكوين بلورات أو غيرها من الأشكال الأخرى، كما هو الحال مع الكربون الصلب مثلًا. ويمكن ملاحظة الطابَع الخاص للماء من خلال مقارنة سلوكها بسلوك المواد المكونة من جزيئات ذات وزن مقارب لوزن جزيئات الماء أو حتى أعلى.
عند درجة حرارة ٤ مئوية، تسير الأمور كما قد تتوقَّع تقريبًا؛ إذ تزداد كثافة الماء عند انخفاض درجة حرارته وتباطؤ حركة جزيئاتها. فعند درجة حرارة ٤ مئوية، يكون الماء أكثر كثافة بنسبة ٤ بالمائة من الماء القريب من درجة الغليان. ولكن عند درجة حرارة أقل من ٤ مئوية، تتحرك الجزيئات على نحوٍ بطيء للغاية لدرجةِ أنها تبدأ في ترتيب نفسها في النمط الرباعي المعهود للثلج. وحتى قبل أن يمكنها تكوين بلورات دائمة، فإن هذا يقلل من كثافة السائل، مثلما لاحظ كونت رومفورد. وعندما يتكوَّن الثلج الصلب بالفعل، يطفو على سطح الماء. ثمة مواد أخرى تُكوِّن وحدات شبكية بلورية فسيحة وتتمدد بالتجمُّد، من بينها حمض الخليك والسيليكون والجاليوم والبلوتونيوم (إذا أردت أن تجازف بتجربته). غير أن الماء يُعد ذا أهمية بالغة بالنسبة إلى الحياة على سطح كوكب الأرض، وقد تكون خفة الثلج المذهلة سببًا أساسيًّا لوجودنا على سطح هذا الكوكب.
هناك عدة فوائد للترابط الهيدروجيني قد لا تكون واضحة مباشرةً. على سبيل المثال، يتيح الترابط الهيدروجيني للكائنات الحية مثلنا أن تخفض حرارتها من خلال التعرُّق؛ نظرًا إلى أن الأمر يستلزم وجود قدرٍ كبير من الحرارة كي تتكسر الروابط الهيدروجينية بين جزيئات الماء وتبخر الماء (فالطاقة المستخدَمة في تبخُّر العَرق هي التي تساعد في خفض حرارة أجسامنا في الأيام الحارة)، ووجود مسطح مائي كبير قريب يمكنه امتصاص الحرارة عند ارتفاع درجات الحرارة وإخراجها عند انخفاض درجة الحرارة يقلِّل من نطاق التغيرات الحرارية بالقرب من البحر، وهو ما يجعل فصول الصيف باردة نسبيًّا وفصول الشتاء دافئة نسبيًّا. وهذا أمر مناسب جدًّا بالنسبة إلى سكان المناطق الساحلية اليوم. إن تأثير الترابط الهيدروجيني هو ما يتيح وجود مسطحات مائية كبيرة حتى عند انخفاض درجة الحرارة دون درجة التجمُّد؛ لأن وجود طبقة من الثلج على سطح الماء يقوم مقام حجاب عازل يحافظ على الماء تحت طبقة الثلج سائلًا. وبدون هذا التأثير، ربما يتجمَّد الكوكب الذي نعيش عليه، ويتحوَّل إلى كرة ثلج هامدة بلا حياة، استنادًا إلى السجل الجيولوجي.
ولولا وجود الرابطة الهيدروجينية، لَمَا كان هناك وجود للماء السائل على سطح الأرض مطلقًا بالطبع. ولكن تخيَّل للحظة كوكبًا باردًا بدرجة تكفي لوجود ماء سائل على سطحه مع غياب ميزة الترابط الهيدروجيني. ماذا سيحدث لو صار الجو باردًا بالدرجة الكافية لتكوين الثلج؟ سيستقر الثلج في قاع المحيط؛ نظرًا إلى كونه أكثرَ كثافة من الماء السائل. وهذا من شأنه أن يجعل سطح المحيط معرضًا للبرودة؛ ومن ثَم سيتجمَّد المزيد من الماء ويغوص إلى القاع. وسرعان ما سيتحول المحيط بأكمله، أو البحيرة، إلى قطعة صلبة متجمدة. وهذا من شأنه أن يحدث لكل المياه الموجودة على سطح الكوكب. وسيكون من الصعوبة بمكان إذابة مثل هذا الكوكب المتجمِّد؛ لأن السطح الأبيض اللامع للثلج سيشتِّت حرارة الشمس القادمة. وفي ظل هذه الظروف، لا يمكن لأشكال الحياة، مثلنا، أن يكون لها وجود. وحتى في ظل وجود ميزة الترابط الهيدروجيني، شهد كوكب الأرض على مدار تاريخه الطويل حدث «كرة الثلج» أكثر من مرة.
يتبيَّن لنا من الأدلة الجيولوجية المتمثلة في ندوب الصخور ونوعيات الرواسب المترسبة في المحيطات في فترات زمنية متباينة أن كوكب الأرض تجمَّد تمامًا قبل نحو مليارين ونصف المليار عام مضى، وتجمَّد مرة أخرى في فترة ما بين ٧٠٠ و٦٠٠ مليون عام مضى. ربما كانت هناك أحداث أخرى مشابهة، ولكن لا توجد أدلة قاطعة بشأنها. ولا أحد يعرف ما الذي يؤدي إلى حدوث مثل هذه الأحداث. وتذهب التخمينات إلى وقوع انفجارات بركانية كبيرة على سطح الأرض قذفت موادَّ إلى الغلاف الجوي كانت بمثابة درع واقية للسطح من حرارة الشمس، أو وقوع تصادمات بين المذنبات في الفضاء نشرت غبارًا عبر الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية لتصنع حاجزًا واقيًا ضد الشمس. ولكن تتمثل النقطة المهمة في أن مثل هذا التجمُّد الكبير بمجرد أن يحدث، بسبب انعكاسية السطح اللامع للكوكب، سيكون من الصعب أن يحدث معه ذوبان كبير. في الواقع أن الثلج اللامع لا يعكس صورةً جيدة لمظهر الأرض ككرة ثلج. فمن شأنها أن تكون باردة جدًّا لدرجة أن بلورات صغيرة من الثلج ستتكوَّن في الأجواء الجافة وتتساقط على الأرض، حيث ستلمع مثل غبار الماس.
تأتي نهاية هذا الموقف، على نحوٍ شبهِ مؤكَّد، بتراكم لثاني أكسيد الكربون في الهواء، مما يؤدي إلى تدفئة الكوكب عبر تأثير الاحتباس الحراري. وفي ظل الظروف القائمة على سطح كوكب الأرض اليوم، تنبعث الغازات الدفيئة عن طريق البراكين، ولكن ثاني أكسيد الكربون يذوب في الماء الذي ينساب فوق الصخور وعبرها، حيث تأخذ التفاعلات الكيميائية ثاني أكسيد الكربون وتستغله في تكوين صخور مثل الحجر الجيري. وتساعد هذه التجوية في الحفاظ على عنصر التوازن بين الأشياء. فإذا سخَنَ الكوكب قليلًا، ازداد التبخُّر من المحيطات، ومن ثَم يزداد المطر وتزداد التجوية، مما يعمل على سحْب نسبة ثاني أكسيد الكربون من الجو، ومن ثَم يقل تأثير الاحتباس الحراري، وتنخفض درجة حرارة الكوكب. وعندما تنخفض درجة حرارة الكوكب قليلًا، يحدث العكس. إن الأنشطة البشرية في سبيلها إلى الإخلال بهذا التوازن، ولكن بدوننا حافظ هذا التوازن على درجة حرارة كوكب الأرض مستقرة في نطاقٍ ضيِّق نسبيًّا لملايين السنوات، والفضل في ذلك يعود بصورةٍ خاصة إلى الترابط الهيدروجيني الذي يمنح الماء خصائصه الاستثنائية.
أثناء عصور كرة الثلج، تكون الأرض باردة جدًّا، ويكون خط الاستواء بنفس برودة قلب القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا) اليوم، لدرجةِ أنه لا يكون هناك أي تجوية من الأساس، بحيث يمكن لثاني أكسيد الكربون أن يتراكم على مدى فترة طويلة جدًّا إلى الحد الذي ترتفع معه درجة الحرارة ويحدث الذوبان. ومع انحسار الثلج، ينكشف السطح الداكن، ويمتص دفء الشمس، ما يعمل على رفع درجة الحرارة أكثر. بيد أن الجيولوجيين يقدِّرون أن الذوبان الكبير استغرق حتمًا عدة ملايين من السنين كي يكتمل، بعد أن استمرت إحدى مراحل كرة الثلج عشرات الملايين من السنين. وربما يكون هذا الذوبان عاملًا رئيسًا في وجودنا.
يتزامن — إذا كانت هذه هي الكلمة المناسبة لاستخدامها هنا — حدث كرة الثلج قبل ملياري ونصف مليار عام مضى مع واحد من أهم التطورات في تاريخ الحياة على كوكب الأرض. فمع زيادة حرارة الأرض مرة أخرى، أُطلقت كميات ضخمة من الأكسجين في الهواء بفعل الكائنات الأولية التي طوَّرت القدرة على استخدام ثاني أكسيد الكربون كغذاء لها وإطلاق الأكسجين الحر عبر عملية التمثيل الضوئي؛ وهي كائنات وحيدة الخلية تُدعى الزراقم أو البكتيريا الزرقاء. وكانت هذه ميزة تطورية مزدوجة. فقد كان الأكسجين بالنسبة إلى الكائنات الحية السابقة، بمثابة سمٍّ استدعت الضرورة تخزينه في مركَّبات غير ضارة، على حساب الطاقة. ولم تستطِع الأنواع الجديدة أن تتعايش مع الأكسجين وتوفِّر الطاقة فحسب، بل استطاعت أيضًا أن تسمِّم جميعَ منافسيها الآخرين من خلال إطلاق الأكسجين. وكان تأثيرها على البيئة المادية كبيرًا بنفس القدْر. فقد تفاعل الأكسجين الحر في الهواء والمحيطات مع مركبات الحديد ليكوِّن رواسب ضخمة من أكاسيد الحديد رُصدت في الصخور المتناثرة في مختلف أنحاء العالم والمعروفة باسم «تكوينات الحديد الحزامي». ومع ارتفاع درجة الحرارة الأرض بعد الخروج من مرحلة كرة الثلج، ظهر الصدأ أيضًا، بفضل انتشار الكائنات القائمة بالتمثيل الضوئي. أكان من قبيل الصدفة حقًّا أن تحدث نقلة تطورية كبيرة في نفس توقيت ظهور أشكال الحياة من أي مواقع بيئية كُتب لها البقاء فيها أثناء مرحلة كرة الثلج مع ارتفاع درجة حرارة الأرض؟ الإجابة على الأرجح لا، رغم أننا ربما لن نعرف الإجابة على وجه اليقين مطلقًا.
إن لدينا فكرةً أفضلَ بكثير حول الكيفية التي انبثقت بها الحياة عبر الكوكب في نهاية أحدث مرحلة من مراحل كرة الثلج، وأدلة أقوى بكثير على أن ذوبان الثلج قد أعطى دفعة للتطور.
يمكن للإجهاد البيئي أن يعزِّز عملية التطور من خلال محو الأنواع الناجحة والسماح للأنواع الناجية (على افتراض وجودها من الأساس) بالتكيُّف والتطور لتحل محلها. والمثال الكلاسيكي على ذلك هو موت الديناصورات قبل نحو ٦٥ مليون عام مضى، الأمر الذي ترك مواقع بيئية للثدييات لتشغلها وتتكيَّف عليها، وهو ما أدَّى إلى وجودنا في النهاية. بيْد أن الديناصورات ذاتها كانت موجودة فقط بسببِ ما حدث قبل نحو ٦٠٠ مليون عام مضى.
كان هذا قبل خروج الحياة من البحار وانتقالها إلى اليابسة، ومن ثَم فإن الأنواع التي نجت من فترة كرة الثلج لا بد أنها توطَّنت في أماكن دافئة نادرة، ربما كانت مرتبطة بالمناطق البركانية، حيث وُجِد الماء السائل في بِرك (تذكَّر بِركة داروين الصغيرة الدافئة). كان من ضمن هذه الأنواع الناجية البكتيريا، والكائنات الوحيدة الخلية الأكبر حجمًا مثل الطحالب. وفي وقت قريب من وقت حدوث كل هذا، تطورت أولى الكائنات المتعددة الخلايا، مثل الإسفنج. وهذا بالضبط هو نوعية التطور الذي قد تتوقَّع حدوثه في بحيرة صغيرة دافئة ومعزولة حيث يمكن لكائناتٍ جديدة أن تظهر وتنطلق دون مواجهة خطر الالتهام من قِبل الأعداء. بيد أن الأمور صارت مثيرة حقًّا بعد حدوث الذوبان مباشرة. فقبل نحو ٥٧٠ مليون عام مضى، كان هناك انتشار كبير جدًّا للكائنات المتعددة الخلايا حتى إنها اعتُبرت علامة لبداية حِقبة جديدة من الزمن الجيولوجي، ألا وهي عصر الكامبري. وعادةً ما يُشار إليه ﺑ «الانفجار الكامبري». في ذلك الوقت، تطوَّرت كائنات حية معقَّدة ذات تنوُّع كبير في المحيطات؛ إذ سمحت الميزات التطورية للكائنات المتعددة الخلايا لها بالانتشار. وقد جمع الجيولوجيون كل شيء قبل العصر الكامبري تحت مسمَّى العصر ما قبل الكامبري؛ وهي فترة تبلغ نحو ٣٫٥ مليارات عام من تاريخ الأرض، وكانت الحياة في أثنائها مُمَثَّلة في الكائنات الوحيدة الخلية فقط. وشهدت الفترة منذ وقوع الانفجار الكامبري، التي قُدِّرت ببضع مئات الملايين من السنين، كلَّ الأشياء المهمة بالنسبة إلى الكائنات المتعددة الخلايا مثلنا، تزامنًا مع خروج الحياة من البحار وانتقالها إلى اليابسة وظهور كائنات متنوعة مثل الديناصورات وأشجار البلوط والنباتات السحلبية ونحن أنفسنا. وكل هذا بدأ حين ارتفعت درجة حرارة الأرض بعد الخروج من حالة كرة الثلج الأخيرة.
هناك رسالتان نخرج بهما من كل هذا. الرسالة الأولى هي أن الترابط الهيدروجيني يُعَد، من منظور بشري، أهمَّ عمود من أعمدة العلم. فهو المسئول عن جزيئات الحياة، وجزيئات ماء الحياة. أما الرسالة الثانية فهي أن الحياة تتأثر تأثرًا كبيرًا بأشياءَ مثل حِقَب كرة الثلج. فبدون حدث كرة الثلج الذي وقع قبل ٧٠٠ إلى ٦٠٠ مليون عام مضى والانفجار الكامبري الذي أعقبه، لمَا كنَّا هنا الآن. وليس هذا هو المأزق الوحيد في قصة ظهور أشكال الحياة، مثلنا، على كوكب مثل كوكب الأرض.