أيتها المرأة المصرية، أنت …
عزيزتي حواء مصر
المُتأنقة المُغندرة في شارع قصر النيل، راكبة العربة الملوَّنة الفارهة، والخارجة من مصنع نسيج (أيضًا بالباروكة أو البوستيج) المُطلة من عربة الشركة، أو المُندسَّة في التكدس الأتوبيسي اللحمي، المُنتظرة على محطة ترام، المزروعة أمام البوتاجاز تُعِد الطعام، الصارخة في طابور الجمعية، القائلة مع القائلات:
يا مآمنة للرجال يا مآمنة للمية في الغربال.
عزيزتي
هذا خطابٌ كل ما أرجوه إذا قرأته أولًا، أن يجعل كلامي خفيفًا عليك، وثانيًا أن تقرئيه؛ فالمشكلة — المشكلة الحقيقية — أني أعرف أنك — فيما عدا القلة النادرة — لن تقرئيه، بل أنت لا تقرئين شيئًا خلاف الموعد والشبكة في أحيان، أو حواء في أحيانٍ أخرى، أو في أندر النادر أركان المرأة والأزياء في الجرائد اليومية وآخر ساعة والمصور وصباح الخير. أنت قارئة إذن صعبة المِراس؛ لا لأنك عنيدة، ولكن لأن القراءة فيما يبدو واضحٌ أنها صنف من الطعام الثقيل على مَعدتك الرقيقة التي تطحن الزلط في أحيان.
المشكلة يا سيدتي ويا آنستي، يا خريجة الجامعة، ويا من يدوبك تفكِّين الخط، إن هذا الخطاب خاصٌّ بقراءات المرأة المصرية؛ تلك التي في حكم غير الموجودة، أو التي إن وجدت فهي كزهرة الصبار نادرة، ولا توجد إلا بشق الأنفس. المرأة المصرية — واسمحي لي — أقل امرأة تقرأ في العالم العربي. لقد كنت أظن أني كاتبٌ رجالي لا يقرؤه إلا الرجال، ولم أُحس أني أكتب للنساء وللرجال وللجنس البشري قاطبة إلا حين غادرت محروستنا القاهرة، وسوَّحت في عواصمنا العربية هناك، ووجدت لأول مرة أن القراءة أغلبها للسيدات، وهنَّ العماد الرئيسي لتجار الكتب والناشرين، وهنَّ بالذات زبونات الشعر والقصة الأساسيات. ومناقشتهن لما يقرأن، خاصة إذا وقع الكاتب أو الشاعر في أيديهن وفي مرمى ألسنتهن «القصيرة!» مناقشاتٌ عميقة رهيبة بالغة الفصاحة والملاحة والنقد اللاذع. فقط حين أعود إلى القاهرة يئوب كل شيء إلى هدوء، وينتفي العنصر النسائي تمامًا من بين القارئات، ويعود هؤلاء القُراء الطيبون الرجال — الذين هم على قد الحال — يحتلُّون منصة القراءة. وقد كنت أظن أن جريدتنا التليدة الأهرام جريدةٌ رجالية محضة، تصدُر ﻟ «الرجال فقط» دون أن يُذكَر هذا على وجه الجريدة، ولكني في تجوالي بالبلاد العربية أدركت أنها للرجال فقط في مصر، على حين هي في خارج القاهرة للقارئات أولًا، ثم للقارئين، بل إن نظرة المرأة العربية لما يُكتب فيها أشد نفاذًا وأكثر غورًا ونقدًا.
ولست أعرف سببًا لهذا.
إني أعرف أن معظم جرائدنا ومجلاتنا يكتبها رجال للرجال، ولكني أعرف أيضًا أنه في السنوات الأخيرة اقتحمت ذلك العالمَ الرجالي فتياتٌ وسيدات كالصواريخ المُتحمسة، يتناولن الأقلام ويتناولن المشاكل، وبالذات النسائية والبناتية بكل ما يحتويه الجيل الجديد من صراحة وجرأة، ولكن أغلبية قُراء الكتب، وحتى الصحف والمجلات، لا يزالون من الرجال، ولا تزال القراءة عملية تكاد تكون رجاليةً محضة، وكأن المرأة إما أن تقتحم المجال كاتبة فقط، وإما ألا تقتحمه بالمرة، وهذا بالطبع مُلائم جدًّا لتركيب المرأة وطبعها؛ فهي إما أن تتكلم فقط، وإما لا تفعل شيئًا، أو تتحدث حديثًا جانبيًّا لامرأةٍ أخرى؛ هي إذن أسوأ مُستمعة؛ ولهذا فمن الطبيعي أن تكون أسوأ قارئة. وربما العيب ليس عيبها، ولكن عيب المادة المكتوبة؛ فالمادة المكتوبة غالبًا ما تكون سياسية أو اجتماعية أو عالمية، وهذه أصناف من القراءة ثقيلة جدًّا على مزاج القارئات الحساسات، في حين أن السياسة والاجتماع والعلم داخلة إلى الآذان في عالم المرأة، والمرأة التي لا تقرأ أحداث السياسة واتجاهات العالم لا تُفيق مثلًا إلا على ابن لها — لا قدر الله — يُفقد في الحرب الناتجة من هذه «السياسة»، أو اكتشاف من الاكتشافات العلمية أو الاجتماعية يقلب الحياة الزوجية (التي هي من صميم اختصاصات المرأة) رأسًا على عقب.
صحيح إذن أن المادة المكتوبة قد لا تُوافق مزاج المرأة المصرية، إنما السؤال هو: لماذا إذن تُوافق هذه المادة نفسها مزاج المرأة في أقطارٍ عربية أخرى، ويُقبِلن عليها، ويعتبرن أن حتى السياسة أو العلم ليست شيئًا قاصرًا على الرجل، وإنما هو شيء لا بد أن تُتقنه المرأة الحديثة، وتُقبِل عليه إقبالها على مستحضرات التجميل والباروكات والماكسي والميني والبيكيني؟ أم أن الأمر عندنا أعجوبة الأعاجيب، تأخذ المرأة من العالم المُتحضر أزياءها فقط و«إكسسواراتها»، وترفض أهم إكسسوار؛ ذلك القابع تحت الباروكة؛ العقل، والثقافة، والمعرفة؟
عزيزتي حواء
قبل أن نُطالب بمنح المرأة حقوقها السياسية، بل وقبل أن نُنشئ تنظيمًا للمرأة، وقبل أن نتحمَّس لها ذلك الحماس الحقيقي أو حتى نتحمس ضدها، فلا بد أن تتحمس هي نفسها لنفسها، أو على الأقل لعقلها وثقافتها، وبمثل ما تُتقن التجمل إلى حدودٍ تعجز عنها أية امرأة في العالم، أفليس أولى بها أن تُتقن تجميل أعظم ما منحه الله لها؛ عقلها؟
وبمناسبة التنظيم النسائي، إن قلبي معه، وقلبي له، ولكن ضميري السياسي يمنعني أن أتحمَّس من أجله. لقد كنت أُوثِر أن تكون تنظيمات الاتحاد الاشتراكي للرجال والنساء وللفتيات وللشبان معًا، باعتبار أن المشاكل السياسية مشاكل تهمُّ الناس جميعًا، والأعمار جميعًا، والأجناس جميعًا. أما هذا التقسيم الطولي للأعضاء؛ شباب في ناحية، ومِهنيون في ناحية، وفلاحون في ناحية، وعمال في ناحية أخرى، فهو تقسيمٌ نقابي أكثر منه تقسيمٌ سياسي، ولكن هذا موضوعٌ آخر لنا له عودة. العودة الآن للمرأة المصرية وثقافتها، تعليمها مسألةٌ تخصُّنا جميعًا، وقد أرسيناها في مجتمعنا منذ مائة عام أو تزيد، أما ثقافتها فهي شيءٌ خاص بها. ووالله إني لأُحس بالحسرة حين أجلس في المترو في لندن أو باريس أو مدريد، وأُشاهد كل فتاة وكل سيدة مُنهمكة في قراءة كتاب أعمق الانهماك، فإذا شاهدت واحدة بغير كتاب أو مجلة أو ما يشغلها بالمرة غير التطلع فيمن حولها، خمَّنت على الفور أنها مصرية.
ودائمًا ما يكون تخميني صحيحًا.
إن الرجل المصري أيضًا أقل رجال العالم قراءة، والمرأة المصرية أقل مكونات مجتمعنا قراءة، ونحن للأسف نحيا في عالمٍ قارئ، عالم يلتهم الحروف والكلمات والآراء، عالم يلهث وراء المعرفة.
ونحن نلهث أيضًا، كل الفرق أننا نلهث وراء فراخ الجمعية.
لو وضعت الأسرة المصرية — وحين أقول الأسرة أعني المرأة — واحدًا على مائة من الزمن الذي تُنفقه لإعداد الطعام وتحبيشه، لتحبيش عقلها وعقول أولادها وبناتها، لَمَا أصبحنا على ما نحن عليه الآن؛ مجتمع بلا ثقافة وبلا نظام. فالمرأة أو الأم مدرسة، إذا أعددتها أعددت شعبًا مثقَّفًا نظيفًا منظَّمًا.