رب الأسرة الحقيقي
القرار الذي اتخذه الصديق الكبير يوسف السباعي لدى تولِّيه وزارة الإعلام، وهو جعل التليفزيون يُخصِّص ساعةً كاملة من وقت إرساله للأطفال، يبدو مجرد إجراء وزاري جديد، ولكنه في الحقيقة بحاجة لوقفة. إن المسألة في رأيي قد خرجت عن حدود التليفزيون كوسيلة تسلية أو ترفيه، وعن حدود الضرر الناشئ عن البرامج الغثَّة، وحتى في حدود ندرة البرامج الصالحة للأطفال. إني أعتقد عن إيمانٍ أن التليفزيون هو أخطر وسيلة اتصال ابتكرها الإنسان للآن؛ فهو لم يقف عند حد وظيفته كوسيلة اتصال أو ترفيه، وإنما أصبح هو المُربي الأول لكل أجيال جديدة قادمة. ذهب عصر تربية الأسرة إلى الأبد، ذهب عصر الأب المثل الأعلى القادر على التربية والتوجيه، ذهب عصر الأم حاملة التراث والحواديت ومُشعلة العاطفة والخيال. أولادنا الآن يُربيهم جيلهم وأصدقاؤهم، يُربيهم النادي والشارع والحارة، تُربيهم مدرَّجات كرة القدم، تُربيهم المسرحيات والأفلام، والذي يُربي هؤلاء جميعًا هو التليفزيون، هو المايسترو، هو الذي يُحدد ما يجب وما يصح وما يُقال ولا يُقال، هو الذي يُعلمهم هز الوسط أو هز العقول، هو الذي يُعلمهم العبط أو يُعلمهم الذكاء والفطنة، هو الذي يُعلمهم الشر والمطاوي، هو الذي يُعلمهم الخير والحكمة، هو الآن المدرسة الأم الأولى والمعهد الأب العالي.
ولا بد أن العاملين في التليفزيون والإذاعة يُوجعهم ذلك النقد الكثير الذي يُوجَّه دائمًا إلى البرامج، والتحفظات الكثيرة التي تُوضَع على المواد. وقد كان مفروضًا أن يتقبَّل هؤلاء العاملون هذا النقد بصدرٍ رحب؛ ذلك أنه الأصل في المسائل، وما دام التليفزيون قد حلَّ محلَّ الأم والأب والمُدرس، وما دام قد أصبح من المستحيل علينا أن ننتزع أبناءنا من أمام شاشته أو نُلغي وجوده، فهو موجود كحقيقة، وسيبقى موجودًا إلى ما شاء الله، ما دام الأمر هكذا فقد كان لا بد أن يكون لأولياء الأمور، لعقول الأمة وحكمائها، لمُدرسيها ومُربيها، إشرافٌ ما على ما يُقدَّم وما لا يُقدَّم في التليفزيون؛ فليس التليفزيون مؤسسةً حكومية أو مستقلة، إنه أولًا وأساسًا مؤسسةٌ شعبيةٌ عملها يؤثِّر تأثيرًا خطيرًا ومباشرًا — أول ما يؤثِّر — على عقول النشء وتفكيرهم واتجاهاتهم؛ ولهذا فمن المحتَّم أن يكون للأسرة الصغرى والكبرى رأيٌ فيما يُقدَّم إلى أبنائها، ومن هنا تجيء كثرة النقد، ومن هنا تجيء الاستنكارات والصرخات.
تخصيص ساعة في اليوم للأطفال شيءٌ هائل إذن؛ فجمهور التليفزيون الأساسي هو من الأطفال إلى ما دون الخامسة عشرة، وكل رجائي ألا يقتصر الأمر على هذه الساعة وعلى الأطفال وحدهم، فمُشاهدو التليفزيون الأساسيون، أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين السابعة والسابعة عشرة، لا توجد لهم برامج مُطلقًا في التليفزيون، وعليهم إما أن يخفضوا من إدراكهم ويُشاهدوا برامج الأطفال، وإما أن يشرئبُّوا بأفهامهم ليصلوا إلى عُقَد الكبار ومشاكلهم. وأنا هنا لا أطالب ببرامج خاصة لهؤلاء أو حتى للأطفال، أنا هنا أطالب أن يُراعي هؤلاء الذين يضعون ويُخططون ويبتكرون البرامج أن جمهورهم الأساسي من هؤلاء، ولا بد من عينٍ تربوية واعية لما يُقدَّم؛ فالمادة ستُعرَض أمام عقول بالغة الحساسية سريعة الالتقاط والتأثر والمحاكاة، فهي مادةٌ قادمة من رب الأسرة الحقيقي؛ التليفزيون، فإذا كان رب البيت بالدف ضاربًا فمن المحتَّم أن يرقص أهل البيت، وهذا هو بالضبط ما ظل يحدث، وببشاعةٍ شديدة، في تليفزيوننا في خلال السنوات العشر الماضية.
والحمد لله أُحس أن هذا الضرب بالدف، وتلك الزغزغة، وذلك الإهدار المستمر لكل قيمة ولكل معنًى ولكل بطولة، قد توقَّف. وحين أجلس إلى التليفزيون الآن لا أُحس بالخجل من نفسي ومن أن هذا تليفزيون بلدي، وهذا كله حسن. لقد أوقفنا الوباء، وهذا جميل، ولكن ليس بالإيقاف وحده يتغذَّى الناس، المهم أن نُقدِّم الشيء الجديد الجميل المُفيد الآخر. وبصراحةٍ أقولها، إن هؤلاء الذين «يؤلفون» أو يبتكرون البرامج ويُقدمونها، في حاجةٍ ماسَّة إلى انتفاضةٍ تفكيرية وابتكاريةٍ طموحة، بل لا بد أن تصبَّ كل عناصر الخلق في بلدنا في قناة التليفزيون؛ فهو بحق وصدقٍ ممكنٌ أن يُميت روحنا ويُحييها، وبالذات أعز أجزاء روحنا؛ تلك البراعم الخضراء الجديدة، مصر الجديدة.
عالمٌ اختفى
شكرًا لنادي السينما في التليفزيون، لقد رأيت فيلمًا تدور أحداثه في الخمسينيات، وعجبتُ؛ عشرون عامًا فقط مضت، ولكنها تبدو كعشرين قرنًا من الزمان. أين ذهبت نظافة الأنفُس؟ أين ذهب ذلك العالم المُسالم الجميل المُتمدين؟ من أين جاءنا كل ذلك العنف والدم والحقد؟ وأين كان يختبئ؟ لَكأني بذلك الفيلم كنت أُودع قرنًا كان فيه الإنسان إنسانًا أو قريبًا جدًّا من الإنسان، وأستقبل قرنًا أصبح فيه الإنسان حيوانًا أو قريبًا جدًّا من الحيوان، حتى الحب، الحب الحب، لم يعُد فيه حبًّا، وإنما صار عنفًا، وصار جنيًّا لا جنس فيه ولا إثارة، إنما إلى الاشمئزاز أقرب، حبًّا مليئًا بالحقد هو الآخر، وكأنما الحقد أصبح الشيطان المُسيطر الأعظم.
حسنًا! أيها العالم، أيها الفن، أيها الإنسان، إلى أين؟