من فوق أعلى ناطحة سحاب
من الصعب على الإنسان أن يبقى رأسه باردًا إذا حاول متابعة ما يدور في العالم اليوم بالراديو أو بالقراءة، إن الحُمى التي تجتاح العالم لا بد أن تنتقل إلى عقله، حتى ليصبح من الصعب تمامًا أن يُدرك الإنسان أين وجه الحق وأين خيط الحقيقة، وليُراقب المنظر العالمي من شرفةٍ عالية كائنة في مكانٍ ما من الكرة الأرضية. إن الاشتباك الحادث اليوم في كل مكان لا يكاد العقل يُصدقه؛ أنجولا فيها الحرب طاحنة بين الجبهة الماركسية والجبهة الوطنية المُرتبطة بالغرب، البرتغال نفسها فيها نفس الاشتباك حادًّا ومُلحًّا، إيطاليا الصراع بين الشيوعيين والمسيحيين الديمقراطيين، في السودان، في بنجلاديش، في آسيا، وفي الهند، وفي أمريكا اللاتينية نفسها. والمُضحِك أن يحدث انقلابٌ يميني في ليما العاصمة التي كانت تجتمع فيها دول عدم الانحياز وفي نفس وقت اجتماعها، وكأنما اليمين الأمريكي يريد أن يُعطي درسًا لأية دولة أمريكية جنوبية تُفكر في اللجوء إلى المعسكر الثالث.
وإذا كان هذا هو الحادث في العالم، فإننا لا بد أن نُلاحظ أن هذا الاشتباك الحاد بين «اليمين» و«اليسار»، أو بالأصح بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي، يتم في أثناء ومباشرة في أعقاب اجتماع هلسنكي الذي وضع الاتحاد السوفيتي فيه يده في يد أمريكا وأوروبا، وكأنهم اتفقوا على أن يتفقوا في أوروبا، ولكن لا يتفقون أبدًا في بلاد العالم الثالث؛ ذلك الحيز الواسع من الأرض والناس والثروات الذي يتنازع كل طرف للاستيلاء عليه؛ ولهذا فقد نُلاحظ مثلًا أن الموقف في إيطاليا قد انتهى بنوع من مشروع التعاون بين الحزب الشيوعي والحزب المسيحي، الشيء نفسه قارب الحدوث في البرتغال؛ أي إن الموقف في أوروبا «خارج اللعبة»، ويُستحسن ألا ينتصر فيه طرف على طرف، بينما الموقف في العالم الثالث مباح فيه تمامًا كل شيء؛ الطعن في الظهر والاغتيال، وذبح مُجيب الرحمن، وسحب الكراسي من تحت يعقوب جون وغيره من الحكام الأفريقيين والأمريكيين الجنوبيين. ميدان صراع رهيب مُخيف، وحرب عصابات قائمة على قدم وساق بين جحافل الوطنية أو اليسار وجيوش اليمين، والعملاقَين الرهيبين، وأيديهما اليمنى تُصافح بعضها البعض في أوروبا، وأيديهما اليسرى في حالة توحُّش رهيب، تدفع وتطعن وتُغذي وتمدُّ وتُشنكل.
وإذا كان هذا الموقف في العالم فالموقف في بلادنا العربية، أو كما يقولون شرقنا الأوسط، قد وصل فيه الصراع إلى حدٍّ مُخيف. وهو ليس فقط صراعًا بين العسكريين، ولكنه أولًا وأساسًا صراعُ قُوًى وطنية تريد أن تتحرَّر، وإسرائيل التي تريد أن تسود. ويتصوَّر بعض الناس أن توقيع اتفاقية الفصل الثانية هي السبب في هذا الذي يحدث، ولكن الأسباب موجودة وكامنة منذ أمدٍ بعيد، وما الاتفاقية أو أي شيء غيرها إلا الوقود الجديد الذي أُضيفَ ليُؤجج نارًا كامنة ويجعلها تستمر. إن القتال الرهيب الدائر في لبنان مثلًا ليس سببه اتفاقية الفصل، إن له حقيقة الأسباب الموضوعية التي كانت قائمة في المجتمع اللبناني، وعلى رأسها ذلك النوع الغريب من الديمقراطية، ليست الموجَّهة، ولكن الموجَّهة طائفيًّا ولخدمة الوضع الطائفي، ولا شيء غيره. مفروضٌ أن الدول تقوم لتذوب روح القبلية والعشائرية والطائفية، وتجعل المُواطنين ينتمون إلى شكلٍ أرقى من أشكال الوجود، الوجود الوطني؛ تمهيدًا لوجودٍ آخر أكثر رقيًّا، وهو الوجود العالمي. أما أن تقوم الدولة لتثبيت دعائم القبلية والعشائرية والطائفية، فلا يمكن إلا أن يظل الوضع مُنذرًا بالانفجار في أية لحظة، وتظل الدولة مجردَ إطارٍ هشٍّ تمامًا ينهار لدى أي بادرة.
إن مشكلتنا نحن العرب أن أعداءنا يعرفون عن تكويننا وخلافاتنا ربما أضعاف ما نعرف نحن، ويؤجِّجون هذه الخلافات والاختلافات كما يحلو لهم، بل وليس أحب إلى قلب إسرائيل من أن تتأجَّج في مصر ذاتها روح النعرة المصرية لتُواجه النعرة الفلسطينية والسورية أو العراقية، وما تفعله بعض الجرائد «المصرية» وبعض الكتابات بدعوى المصرية، إنما يُوافق تمامًا الهوى الإسرائيلي والأهواء المُعادية الأخرى. والعرب كما قرأت في كتابٍ ثمين للمستشرق الأمريكي الدكتور وليم بولك، يُحبون فن «القول»، في جلساتهم في أحاديثهم في حكاياتهم، يبدءونها دائمًا ويُنهونها بفلانٍ «قال»، فأجابه الآخر «بقوله»، قال وقلنا وقالوا، كلام، الكلام الجميل، الكلام «الفاضل»، الكلام «الشعر». أما العمل فذلك ليس من شأن العرب. لا يهمُّ أن فلانًا «عمل» ما دام أنه «قال»، ولا يهمُّ أن يكون قد انتصر أو انهزم، فإذا كان قد قال قولًا عظيمًا لحظة هزيمته، فذلك أروع من أن يكون قد انتصر وأتبع انتصاره بلا كلام أو بكلامٍ هزيل.
وهكذا في لبنان معركة العمل الجسدي بالتحريض الواضح، وعلى مستوى العالم العربي هناك معركة «القول»، وكلٌّ يُحاول أن يكون قوله الأكثر ثورية، حتى لو كان موقفه أو عمله الحقيقي لا شيء بالمرة. كلُّنا نخسر بهذا «القول»، سواءٌ كان صادرًا عن هذا أم ذاك. بهذه المعركة الكلامية الرائعة ربما يتم للعقل المُدبر الرهيب ما أراد، وتُعزَل مصر أو تنعزل عن الشرق والغرب، وتُعزَل سوريا أو تنعزل عن العراق، وتُعزَل العراق أو تنعزل عن الكويت، وتُعزَل السعودية أو تنعزل عن هذا كله.
ويجيء أوان الالتهام.
وما أحلى التهامَكم أيها العرب القوَّالون واحدًا إثر واحد!