التوكسافين سيَقتلنا نحن أيضًا
ليس من عادتي أن أهنِّئ الأصدقاء الكثيرين الذين يتولَّون منصب وزارات، بل أكاد أقول إي أرثي لبعضهم؛ فالوزير اليوم هو الجزء الظاهر المرموق في جسدٍ وزاري تآكَل ككابلات التليفون، وانقطعت عنه الحرارة والحماس من زمن، وكأنما عليه أن يبدأ العالم من جديد، والحساب عسير، ليس عسيرًا تمامًا؛ فالحمد لله حزب الوسط أصبح يتكتَّل بأكمله وراء كل محاسبة لوزير، واستغل مسألة الأغلبية وقرار الأغلبية والنزول على رأي الأغلبية أبرع استغلال، في حين لم يعُد باستطاعة المُعارضة إلا الانسحاب، وهو عمل في رأيي سلبيٌّ تمامًا؛ فقد كان من واجبهم هم الآخرون أن يستغلوا المِظلَّة الديمقراطية البرلمانية، ويقف الواحد منهم ﮐ «ميرابو» أو «مكرم عبيد»، يُجلجل صوته في قاعة المجلس حتى لَتتراجع أمامه جحافل الأغلبية.
المهم، كنت أقول إني أُشفق في العادة على بعض زملائي من كبار المُتخصصين في مجالاتهم، الذين يُعهَد إليهم بأمر الوزارة، ومن هؤلاء صديقٌ عزيز عُهِد إليه أخيرًا بأمر وزارة الصحة، في رأيي، التمثال المُجسِّد المُتكامل لكل الأمراض التي تُعاني منها مصر، من بيروقراطية ومركزية وتراخٍ وموات. وليس هذا هو حالها اليوم، هذا هو حالها من أزمانٍ بعيدة من أيام المرحوم النبوي المهندس، والدكتور عبده سلام، والدكتور محمود محفوظ، ومنذ أن أُنشئت؛ ذلك أن كلًّا منهم كان قمة في فرعه الطبي، وكنت أتصوَّره أكثر كمُدير لمعهدٍ جديد يُقام، أو كمركز دراسات عالية مُتخصص في هذا المجال، أكثر من تصوري له وزيرًا، وبالذات في وزارة الصحة الباقية على حالها وقواعدها منذ أن كانت بيتًا لإسماعيل باشا المُفتش، وزير مالية الخديوي إسماعيل الذي ودَّانا في داهية. واحد فقط لم أُشفق عليه من التعيين وزيرًا للصحة، هو الدكتور فؤاد محيي الدين، بل الحقيقة كنت أُشفق عليه من تخصصه في الطب، ومن أخذه دكتوراه في الأشعة، وتعيينه أستاذًا للأشعة بكلية الطب. كنت أقول لنفسي: ما لك أنت يا فؤاد بالأشعة أو بغيرها، وأنت منذ رأيتك لأول مرة زعيمًا لكلية الطب، وكأنما خُلقتَ لمُزاولة السياسة خلقًا. وهناك أناس هكذا، السياسة عندهم مثل موهبة التأليف الموسيقي أو قول الشعر، شيءٌ ينمو مع كروموسماتهم منذ أن يُولدوا. لم أعرف سياسيًّا ظهرت عليه علامات السياسة فجأة، كلهم منذ الطفولة تراهم يبدءون، وفي ثانوي يأخذون يخطبون ومظاهراتهم الثانوية السياسية، وفي الجامعة يبدأ الواحد منهم يلمع، وترى من طريقته وتفنُّنه وهو يخطب، ومن الرأي وهو يُبديه ويُفنده، من شخصيته المغناطيسية الجذابة. إن هذا الشاب لم يُخلَق إلا ليُزاول العمل السياسي، مهما كان نوع النظام الذي يكون فيه. وقد كنت أرقُب فؤاد محيي الدين حين جاءت الثورة برجالها الذين استأصلوا شأفة الجيل السابق والحالي من العاملين بالسياسة، وأخذوا زمام الأمور بأيديهم هم، كنت أتصوَّر أنه «جاء الأقوى منه»؛ ولهذا لم أستغرب أنه اتَّجه لدراسة الأشعة وأخذ الدكتوراه، ولكن دكتوراه مِين؟ ظل فؤاد وراءها خطوةً خطوة، وحفرًا بالأظافر وصبرًا وتحملًا، حتى أصبح من أقطاب الاتحاد الاشتراكي، ثم انتقل إلى العمل التنفيذي.
ولكني في الحقيقة كنت أريد أن أتكلم عن هؤلاء العلماء الكبار: إبراهيم بدران وحمدي السيد؛ أحسن جرَّاح عام عندنا، وأحسن جرَّاح قلب، ذلك الذي أصبح أولهما وزيرًا للصحة والثاني نقيبًا للأطباء. وإذا كنت قد شرحت من وجهة نظر الدكتور حمدي السيد في مناسبةٍ مضت، فإني وأنا أصعد سلالم قصر إسماعيل باشا المُفتش التقليدية، كنت أفكر في ذلك الرجل الفلتة — إبراهيم بدران — أكثر الناس براعةً في عمله، وأكثرهم لباقةً في حديثه، وأكثرهم حبًّا في الناس لله في لله، وعمل الخير أيضًا في السر ولله في لله. هذا الرجل كيف سأراه وقد أصبح يحتلُّ مكتب وزير الصحة، الذي أعتقد أنه لم يتغيَّر منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية.
فتحوا لي حجرته حيث وجدت مفاجأتَين في انتظاري؛ أولاهما أن مصطفى محمود كان هناك، وكنت لم أرَه من مدة؛ والثانية أن الدكتور سعد فؤاد، وكيل أول وزارة الصحة، كان أيضًا يجلس مع مصطفى، وأحسست بالعمر وكأنما تُقلبه ملعقة قِدر كبيرة، وتجعل من حاضره ماضيًّا، ومن ماضيه حاضرًا. كنَّا نحن الثلاثة معًا في الكلية؛ كان مصطفى وسعد يسبقانِني قليلًا في الدراسة، ولكن الطلبة زمان مهما اختلفت الدُّفَع كانوا — لقلة العدد نسبيًّا — يعرفون بعضهم البعض.
كان مصطفى أيامها يكتب في مجلة آخر ساعة؛ ولهذا كنَّا نعتبره قد احترف وفسد، في حين نحن لا نزال في عُذرية الهواية ومزاجية الكتابة من أجل الكتابة. وكان سعد فؤاد من أنشط وأحب عناصر الطلبة في الكلية، حتى إني كنت صديقه ونحن لسنا في دفعةٍ واحدة، ولم أكُن وحدي، كان يكاد يكون صديق كل طالب وفي أي دفعة، واحد من البحابيح الذي لا بد كلما قابلته أن تأخذه أو يأخذك بالأحضان.
المهم، جاء الدكتور إبراهيم بدران وبدأنا الحديث، وقلتُ له خواطري عن أني كنت أُفضل أن أراه على رأس معهد عربي كبير، أكبر معهد في آسيا وأفريقيا للجِراحة والأبحاث الجراحية، عن عمل الوزير في وزارةٍ أنا أعرف أن تحريك جبل المقطم أسهل من تحريكها. ولكنه كعادته كان رقيقًا حليمًا وبمنطقٍ بسيط أقنعني، قال: أنت أيضًا كان يمكن أن تكون جرَّاحًا ماهرًا ومعروفًا، ولكنك بعد حين تكشف أن علاج المجتمع كحالةٍ حالةٍ مسألةٌ لا يمكن أن تُجدي؛ إذ الأكثر خطورة هو أن تتدرَّج من علاج الأفراد إلى علاج المجتمعات الصغيرة إلى علاج المجتمع الكبير. والغريب أني تذكَّرت أني سمعت كلامًا مُماثلًا رحتُ أبحث في ذاكرتي عن قائله، وفجأةً تذكَّرت القائل؛ كان المرحوم الدكتور أنور المُفتي، الذي لم يكتفِ بقوله، وإنما مارسه فعلًا، وترك علاج الأفراد الأثرياء في القاهرة، وذهب إلى محافظة البحيرة ليبحث على الطبيعة أمراض مصر الدفينة.
وليس هذا فقط، بل وجدت أن الدكتور بدران أخذ الأمر بطريقته العلمية أو الجراحية المُنضبطة؛ فقد درس كل تاريخ وزارة الصحة، وما تعاقَب عليها من مشاريع، وحظوظ هذه المشاريع من النجاح أو الفشل، ثم اجتمع بكل من ولِيَ وزارة الصحة الأحياء منهم كلٌّ على حِدَة؛ ليتدارس مع كلٍّ منهم ما رآه وما حاول القيام به، وما يراه من أوجُه النقص ومن نُقَط الإيجاب، بل إنه لينتهز فرصة وجودي أنا ومصطفى محمود ليعرف آراءنا، باعتبارنا إحدى حلقات الاتصال بين القضية المصرية العامة وصحة المواطنين كأطباء سابقين، وإن كنَّا لم نتخلص بعدُ من الرؤية التشخيصية الطبية.
سألنا عمَّا نراه من نقص في الهيكل العلاجي وفيما تقوم به وزارة الصحة. والحق أني شخصيًّا كانت لي آراءٌ كثيرة فيما فعلته وزارة الصحة خلال ربع القرن الأخير بنفسها وبالناس؛ فكنت فعلًا ضد ما سُمِّي بالوحدات العلاجية، التي حلَّت محلَّ مستشفيات البلهارسيا والإنكلستوما المُتنقلة، والتي نُرسل لها طبيبًا لم يُدرَّب بعد، كلشنكان، ساخطًا بالطبع على حظه الذي رماه في أقصى الصعيد بدل أن يُعيَّن في مستشفيات القاهرة، وحتى بعد تعميم الخدمة الإجبارية في الريف، لا يزال الطبيب العادي أقلَّ كفاءة من أن نعهد إليه بالإشراف على مستشفًى. بمعنًى أدق، نحن «فتَّتنا» الطب، وبدلًا من أن تُقيم الثورة عشرة أو عشرين مستشفًى في ضخامة قصر العيني وإمكانياته العلمية وأساتذته، بعثرت النقود في وحداتٍ علاجية لا يمكن إلا أن تُقدِّم «الراوند والصودا»، أو تُعالج الحالات البسيطة التي كان من الممكن علاجها بواسطة عربة كالمستشفى الصغير، تمرُّ على القُرى والعِزب، وتقوم بكل ما تقوم به الوحدات الصحية الآن.
وكانت النتيجة طبعًا هذه الهجرة المُخيفة للأطباء خارج مصر، ويفزع الإنسان فعلًا حين يعرف أن ثلث الأطباء العاملين في بريطانيا كلها من الأطباء المصريين المُتخصصين، وفي أمريكا لدينا أكثر من ثلاثة آلاف طبيب، على حين أن بلادنا ينخر المرض في عظم جسدها الكبير الذي يتضعضع عامًا بعد عام.
•••
هنا بدأ الدكتور إبراهيم بدران حديثه الجادَّ العميق لنا. كنت قد لاحظت في أثناء تردُّدي على بلدنا أن وجوه الناس غريبة، لونها لا هو أسمر ولا هو أصفر، وإنما كالمطلية بالرماد، وفيها ورم وانتفاخ، والناس تعجز بسرعة، نجد الواحد سنه ٣٠ سنة وأقل ما تُعطيه له من سن تقديريًّا لا يقل عن الخامسة والأربعين. كنت أقول لنفسي هناك شيءٌ ما خاطئ أصاب أهل الريف، ولا يعرف أحدٌ كُنهه.
الدكتور إبراهيم بدران حل لي اللغز، قال إنه التوكسافين ومُبيدات لطع ديدان القطن أحدثت ما يمكن أن نُسميه وباءً أصاب أكباد كل الفلاحين، حتى الأجيال الصغيرة الطازجة. لم تعُد البلهارسيا هي المشكلة في الريف، أصبح مرض الكبد أو التسمم الكبدي نتيجة للتوكسافين وغيره من المُبيدات؛ بمعنى أننا نُبيد الدودة هذا صحيح، ولكننا نُبيد معها أكباد الفلاحين، وباعتبار الكبد هو المايسترو الكامن وراء كل العمليات البيولوجية الهامة داخل الجسم، فإن هذه المواد تُصيبه بالشلل؛ أي بالتليف، وإنها كارثةٌ قومية لم يلتفت إليها أحد، ولا بد من مؤتمرٍ علمي عاجل، إما يُقرر وقف استعمال هذه المواد السامَّة، التي تتسلل أيضًا إلى أبناء المدن عن طريق تواجدها ضمن التركيب الجزيئي للنباتات ولحوم الأبقار والخراف، وأن نجعل حملة مقاومة الدودة حملةً قومية تتمُّ بجمع «اللطع» قبل أن تفقس وتحتاج إلى الرش بالتوكسافين. إنها ليست مسألة تلوث بيئة تقوم لها بلادٌ غيرنا وتقعد، ولكنها مسألة تسمُّم بيئة وخضار ولحوم تضرب أول ما تضرب أكبادنا، وأولها أكباد المُحاربين في الصف الأول، الفلاحين، في مَقتل.
لا بد من إيقاف استعمال المُبيدات الحشرية؛ فقد بيَّنت ضررها الشديد وخطرها على كافة أنواع الحياة وبالذات أهم حياة؛ حياة الإنسان.
أما كيف يتم هذا فهو موضوع لا بد أن تتبَّناه وزارات الصحة والزراعة والشئون الاجتماعية، ومعاهد البحوث، وحتى وزارة الداخلية.
إن الريف هو المكان الوحيد الذي يتزايد فيه إنتاج الناس في مصر، ولولا الفلاح، كما ذكر لي مرة الدكتور عبد العزيز حجازي، لَمَا استطاعت مصر الصمود سنوات الاستنزاف، خلال أن كان علينا أن نصرف اثنين مليون جنيه يوميًّا على جيشنا.
وإذا كنَّا قد أهملنا ركيزة أهلنا الأولى إلى الآن، حتى بدأ النخر يصل إلى كبد الفلاح؛ المَورد الأول لغذاء وكساء وطعام مصر.
إني مع الدكتور إبراهيم بدران إلى آخر المدى في وقفته المَجيدة لمنع الجريمة التي أصبحنا ضحاياها؛ جريمة التوكسافين والمواد السامَّة الأخرى، ووزارة الصحة وحدها، حتى بكلِّ ما لديها من ميزانية وأجهزة لا تكفي، إننا في حاجة إلى جبهةٍ قومية بقيادة وزير الصحة تُضمُّ إليها، وكأننا فعلًا في حالة حرب، كل ما يمكن أن نُحارب به ذلك العدو.
إننا لا يمكن أن نُضحي أبدًا بإنساننا من أجل محصول قطن أوفر، وطريقة تنقية اللطع هي الأضمن والأسلم، ولكن للأسف، جرَّنا التواكل إلى الاعتماد الكامل على المُبيدات الكيميائية، التي يمكن أن تُبيد الدود هذا صحيح، ولكنها من المحتَّم آجلًا أو عاجلًا أن تُبيد معها الإنسان كما أبادت الغربان وأبا قردان.
لنعقد فورًا ذلك المؤتمر، ولننظر إليه وكأنه مؤتمر للأمن القومي؛ فحياة فلَّاحنا، وحياتنا أيضًا، في خطر التسمم الكبدي الذي تؤدي إليه المُبيدات الكيميائية.