ما رأيكم في هذا الاقتراح؟
احتفالًا بإعادة فتح قناة السويس للملاحة البحرية أمام سفن العالم أجمع، فإني لأتساءل إذا كان العالم فعلًا — خارج عالمنا نحن الصغير — يُدرك وبالذات على مستوى رجل الشارع ومُشاهد التليفزيون، كُنْه ووقْعَ وعظمة وروعة هذه الهدية التي قدَّمتها مصر لكلِّهم؛ للروس وللأمريكان وللألمان والإسبان والهنود والباكستانيين وبلاد أفريقيا وبلاد جنوب غربي آسيا، لليابان بتجارتها الضخمة الهائلة التي تمرُّ عبر قناة السويس، ولألمانيا الغربية بالذات وصناعاتها، ومعظمها يذهب إلى مناطق الخليج، والعالم البترولي الذي يُعَد أكبر سوق لتجارة تصدير المنتجات الصناعية، تقريبًا لكل دولة من دول العالم قدَّمنا هدية، بعضهم أحسَّ هذا وأدركه وأشاد به، وبعضهم اكتفى بالطبطبة على كتف مصر مُهنئًا ومُشجعًا، وبعضهم قدَّم قروضًا لاستخراج المُفرقعات والقنابل والمراكب الغارقة في قاع القناة، وبعضهم بتقديم قروض من أجل مشروعات تحسين القناة وتعميق مجراها، واستكمال خطة جعل الملاحة تسير في اتجاهَين توفيرًا للوقت والجهد.
وهذه كلها أشياء حسنة وجميلة، وشاكرين أفضالكم أيها السادة من المُقدمين والواعدين وحتى المُكتفين بالتهنئة، شاكرين فضل الولايات المتحدة بالذات؛ إذ لولا بذلها ذلك الجهد الخارق لانتشال القنابل والألغام والمُتفجرات الراقدة في بطن القناة، هي وغيرها من الدول التي أسهمت في هذا العمل الجليل الجبار، لَكان صعبًا تمامًا على مصر وحدها أن تقوم بهذا العمل؛ فلا الخبراء لديها ولا المُعَدات، ولا النقود التي «تُشغل الخبراء» والمُعَدات.
ونحن، المصريين، مؤدَّبون، هذا صحيح، ودائمًا نأتي على أنفسنا، هذا صحيح، ولكن أدبنا الشديد هذا لا يمنعنا أن نسأل، بل في الواقع ومنذ الآن ونحن في عالمٍ أصبح يتعامل بالمصالح؛ خد وهات. لا أخذ من غير هات، ولا حق لك في طلب الهات من غير أخذ. وصدِّقوني إني أُفضل هذه اللغة الواضحة المباشرة عن التعبيرات المطَّاطة، التي تفضَّل قرننا العشرون وأفرغ محتواها من كل ما من أجله ابتُكرت في القرن التاسع عشر من أجل القيم الإنسانية، من أجل الروابط الأخوية بين شعوب العالم ودوله. ويوم للطفولة في العالم آخر من يسمع به هم الأطفال، ويوم للشباب في العالم آخر من يعرفه ويُدرك لماذا اختير هم شباب هذه الأيام، وأشياء مثل: ولو أني أختلف معك في الرأي إلا أني على استعداد لأن أفقد عنقي في سبيل حقك أن تأخذ أنت الفرصة لتقول رأيك. ألا يبدو هذا شيئًا مُضحِكًا ومُسليًا إلى أقصى حد؟ ومن في العالم مستعدٌّ أن يفقد ليس رأسه، ولكن زرار بنطلونه حتى دفاعًا عن حق العاجز أو المرأة أو الكهل، أن يحظى هو بالمقعد الذي خلا في الأتوبيس أو القطار أو البيجو؟
ولكن هذا موضوعٌ آخر، لنا فيه لا بد حديثٌ آخر؛ حديث عن أن العالم قد «انحط»؛ لأنه لم يعُد يتمسَّك بأية قيمة، أو هو قد «تغيَّر» فعلًا، وأصبحت داخله قيمٌ أخلاقية أخرى، كل ما في الأمر أننا نجهلها ولا نراها.
نحن ما زلنا في أسبوع الاحتفال بإعادة افتتاح القناة، ما زلنا نقول إن مصر قد تصرَّفت تجاه هذا الأمر بمنتهى الإنسانية وعدم الأنانية المُطلَق؛ فورقة قناة السويس كانت من الأوراق الرابحة جدًّا، كانت «الآس» في يد اللاعب المصري، وبالقرص عليها كانت دول العالم، بشرقه وغربه وشماله وجنوبه، ستتألَّم وتتلوَّى ألمًا، إلى الدرجة التي كانت ستبذل فيها أقصى ما تستطيع لتضغط على إسرائيل أو أمريكا أو كليهما معًا لكي نحل القضية؛ وبالتالي يُعاد فتح القناة كجزء من التسوية الشاملة للمشكلة. كانت ورقة ضغط، ولكنها ورقةٌ المُؤلم فيها أنها «تُوجع» العدو والصديق معًا؛ فالهند وإيران وإندونيسيا وباكستان وماليزيا، وأشقاؤنا دول الخليج، وأصدقاؤنا في أوروبا، كل هؤلاء «يُعانون» و«يتألَّمون»، وربما كانت الولايات المتحدة (بعد تصنيع ناقلات البترول العملاقة) وإسرائيل أقل من سيُؤلمهم وضع كهذا.
إني لا أعرف بالضبط كيف تفكر قيادتنا السياسية، ولكن الذي أعرفه أن تاريخ الحركة الوطنية المصرية كلها كان دائمًا تاريخًا لا يفصل بين الغاية والوسيلة مُطلَقًا، ومحالٌ أن كان يرضى أحد أن تتراجع إسرائيل بضع عشرات من الكيلومترات لكي نتمكن من إعادة فتح القناة نتيجةً لمُعاناة العالم الخارج عن القضية، ونتيجةً لأنه لا يمكن أن نحصل على قنالنا باعتبار أن الناس في الهند أو في يوجوسلافيا تألَّموا من أجلنا، فلنأخذها إذن بقوة السلاح. وفعلًا انتزعناها في عمل كالمعجزة في أقل من ست ساعات استعدنا القناة، وانتزعنا أكبر شوكة كانت مغروسة في جانب مصر الأيمن؛ خط بارليف.
وأيضًا مثلما ظلَّت مصر خمسين عامًا وهي ترفض استقلال مصر بغير استقلال السودان والوحدة معه، ومثلما تأخَّر استقلالنا خمسين عامًا نتيجة لعدم الفصل بين المبدأ والهدف، كان من الممكن بعد ٦ أكتوبر، وبعد نجاحنا في كسح إسرائيل ثلاثين كيلومترًا إلى الوراء، كان ممكنًا أن نتخندق هناك، ونُساوم العدو وحلفاءه على إعادة فتح القناة. إذا كنتَ أيها العالم تريد منا أن نفتح القناة، فعليك بإسرائيل وأمريكا، لا لتُصفيا القضية المصرية الإسرائيلية، فكم من عروضٍ انهالت على الرئيس عبد الناصر والرئيس السادات بحل مشكلة مصر تمامًا وجلاء إسرائيل عن سيناء، في مُقابل نفض مصر يدها من القضية الفلسطينية، كان ممكنًا أن نقول للعالم: إذا أردت أن نفتح القناة فعليك أيها العالم بالضغط على أمريكا وإسرائيل من أجل حل القضية الفلسطينية أولًا، والجلاء عن المناطق المحتلَّة والعودة لحدود ٤ يونيو ٦٧ ثانيًا.
ولكننا أيضًا لم نشَأ أن نلعبها «قذرة»، مع أننا نُواجه عدوًّا يستعمل معنا أقذر وأخس وأخبث أسلحته، بالتهديد بالمال وبالنساء بإفساد الذمم، يأخذ صورًا لرجال الكونجرس مع سكرتيراتهم في غُرَف الفنادق وتهديدهم بها، ليصبح السناتورز هم الوسيلة الأفعل لضمان أغلبية على طول الخط مع إسرائيل. كنت أحيانًا أسرح في مشكلتنا مع إسرائيل، وأفكر في هؤلاء الصهاينة الذين جرَّنا سوء الحظ وسوء التقدير إلى الالتحام المُبكر بهم، قبل أن نستعدَّ داخليًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا أولًا، المهم كنت أقول لنفسي ليتنا كنَّا نُحارب دولةً كبرى محدَّدة واضحة، حتى لو كانت أمريكا أو الاتحاد السوفيتي؛ فعلى الأقل كنا عرفنا لها رأسًا من رجلَين، ولكننا اشتبكنا مع عدو كالأخطبوط، له في كل مكان مِخلب، وفي كل دولة أوروبية أو غير أوروبية، بل أحيانًا عربية، تنظيماتٌ دقيقة جدًّا، وكلها كالجهاز السرِّي المدرَّب، يعمل معًا وبتنسيقٍ مُذهِل، لكأننا نُحارب مجتمعًا من المخابرات بنسائه وأطفاله وصبيانه وشيوخه، حتى الذين أصبحت أرجلهم على القبر، مُنبثِّين في كل مكان. لو كان يؤخذ برأي الناس ساعتها أو برأي الكُتاب لكنت فورًا وعقب نجاح ثورة ٥٢ كتبت مقالًا أُحذر فيه من الاشتباك مع إسرائيل، وأقول فيه إننا حتى لو أدركنا هذا فسنُستدرج وسنُستفز حتى يجرُّونا، أردنا أم لم نُرِد، إلى معركة معها، ولا بد أن نتجاهل هذا كله حتى ننجح داخليًّا في إقامة المجتمع المصري القوي الذي كنا نحلم به، وكذلك بفعل كل بلد عربي، فنتجنَّب كعرب تمامًا الاشتباك في أي حرب معهم، حتى نبني القوة الذاتية الداخلية، بما فيها القوة الذاتية الفلسطينية التي كان عليها هي وحدها وحين يأتي الوقت المناسب، أن تُحارب إسرائيل حرب مجتمع مُحارب لمجتمع مُحارب، ومعها وحولها أربع عشرة دولةً عربية بمُتطوعيها وأسلحتها، وبكل نفوذها وسطوتها وقوتها، يُغذون حركتها الوطنية بكل ما تحتاج إليه من رجال ومال وعتاد.
ولكنهم هم — أعوذ بالله — خُبثاء خبثًا! من أول يوم وضعوا نصب أعيُنهم، ليس فقط أن يأخذوا كل فلسطين، ولكن الأهم أن يُوقفوا هذا العملاق العربي عن النمو، أن يجهضوه داخليًّا، وبالذات عملاق العمالقة مصر، وأي مصر؟! مصر التي ثارت وعزلت ملكًا فاسدًا وحكمًا أفسد؛ أي بدأت تضع قدمها على أول الطريق للنمو الذاتي.
ولكننا ببساطةٍ شديدة، ولأن لا أحد كان ولا يزال يحفل بمن يفكرون أو يكتبون أو بما يقولون، ظللنا نُستدرج خطوةً خطوة، وبدلًا من حربٍ واحدة دخلنا أربع حروب. وما زلنا نتحدَّث بحكم الضرورة القصوى عن حربٍ خامسة. وهذا هو بالضبط ما كانت تريده إسرائيل؛ أن «تصنع» شعبًا، وكيف يتم صنع شعب إلا بغسل مخه، وإفهامه أنه مُحاط بأعداءٍ سيأكلون عظمه قبل لحمه، ولا بد من أن تُحاربهم مرة واثنتين وثلاثًا وإلى الأبد إذا أرادوا؟ ذلك أن الصهاينة كانوا دائمًا يخرجون، حتى إذا انهزموا، مُنتصرين؛ فهم إذا هُزموا نمَّوا لدى شعبهم شعور الأخذ بالثأر، وإذا انتصروا اكتسبوا أرضًا جديدة ومواقع أقدر، وفي كلتا الحالتَين بلورت لدى أجيالهم، وبالذات الجديدة، فكرةَ أنه «شعب» واحد، وأن من الممكن أن يقتل أي يهودي نفسه دفاعًا عن هذه الفكرة التي توارثتها أجيال عبر أجيال من عتاة الأحبار من الأقدمين، دفاعًا عن أسطورة لو نظر إليها أي شخص عاقل أو غير «مُروَّع» أو «مَخوف» بالأعداء المُحيطين، لوجد أنها نكتةٌ يضحك لها فقط، ولا يمكن أبدًا أن يقتل أو يقتل من أجلها.
إن الذي قطم ظهر الشعب المصري هو اشتباكه المُبكر، وقبل حتى أن يُرتب بيته وكيف يعيش وأين يجلس أو يأكل، على «وِدنه» على طول هكذا، من الدار إلى النار، مِن بالكاد أزاح حكمًا استعماريًّا واحتلالًا بغيضًا إلى معركةٍ هو — على الإطلاق — غير مُستعد لها.
وكل الارتباكات الحادثة في دول المواجهة، ودول غير المواجهة مع إسرائيل، ولتكن المواجهة مع جهاتٍ أخرى، سببها أنهم يريدون أن نُخفق، أو بالأصح لا يُسمَح لنا إلا بنحوٍ معيَّن وفي اتجاهٍ معيَّن لأوضاع البلاد العربية كلها، والخطة ماضية بنجاحٍ هائل.
المهم نعود إلى قناة السويس. طيب أيتها الدول العظيمة التي نشكر لها قروضها وكرمها وكل شيء قدَّمته لنا، فلنجلس إلى مائدة مفاوضات بسيطة مُتواضعة، أو حتى على شط القناة، ولنرقُب السفن الآتية والذاهبة عبر هذا «العنق» المائي الهائل، ألم نُثبِت للعالم في عام ١٩٥٦م أننا ممكن أن نُمسِك الدنيا كلها من «زمارة» رقبتها لنجلس إلى هذه المائدة البسيطة؟ ولنُنحِّ جانبًا العبارات الإنسانية والأخوية الفخمة الفاخرة، ولنُنحِّ جانبًا حتى حكاية أن جدودنا حفروا القناة بعظامهم، سواء بموتاهم تعبًا، أو بموتاهم جوعًا وسُخرة، لنُنحِّ جانبًا حق التاريخ نفسه، ونتساءل: حقيقةً، من تخدم هذه القناة؟!
ستردُّ عليَّ من فَورك وتقول: إنها تخدم الخزانة المصرية، يدخل لكم عائد منها تعداده اليوم ٢٠٠ مليون جنيه، وغدًا سيكون أكثر وأكثر بمشاريع تعميق وتوسيع القناة. ولكنا — كما قلت لك — في عصر المصالح، ولغة المصالح التي لا ترحم. لا أقول إن قيمة البضائع المارَّة عبر القناة تُساوي مليارات ومليارات الدولارات، ولكن هذا الاختصار العظيم لزمن مرور البضاعة اختصارٌ يكاد يبلغ نصف المسافة فيما لو لفَّت حول طريق الرجاء الصالح، هذا الاختصار الهائل للزمن أليس ربحًا؟ ستقول لي: آه، ولكنك تتقاضى عليه رسوم العبور. وأنت وأنا نعلم تمامًا أن رسوم العبور هذه لا تتجاوز الملاليم إذا قُورِنت بثمن البضاعة، أو المكسب الناتج عن اختصار الزمن. إنها تكاد تكون شيئًا «اسميًّا» إذا قُورِنت حتى بأسعار الشحن وليس بثمن البضاعة. كان ممكنًا ونحن في يدنا السلاح، ومعنا الكارت الرابح، ولا شريك لنا أو مُنافس آخر تذهب لتعبُر من قناله، كان ممكنًا أن أنتهز هذه الفرصة، و«أفرض» عليك أنا ما شئت من رسوم، أرفعها كما رفعت دول البترول مثلًا ثمن بترولها اثنَي عشر ضعفًا مرةً واحدة، أو كل عام أزيدها عشرة أو خمسة عشر في المائة، كما يزيد و«يغلى» ثمن كل شيء في العالم.
ذلك أننا أصلًا لسنا تجارًا، ومعظم تجارتنا الكبرى ظلَّت قبل الثورة في أيدي اليهود والأروام الشوام، ومعظم دكاكين بقالتنا فتحها الفلسطينيون الوافدون إلى مصر بعد ثورة سنة ١٩٣٦م. نحن زُراع آه، بُناة آه، حِرفيون ومثقَّفون لأعمالٍ تعتمد على النبوغ الفردي آه. أما التجارة فنحن لا نُحسِنها قطعًا، ولكن لكل شعب طبيعته، وطبيعتنا ليست تجارية بالمرة. وهكذا نرى في كل مكسب جاء بناء على «شطارة» في «التجارة» مكسبًا أقل مستوًى بكثير من الذي يأتي عن طريق الجهد الحقيقي الدائب والكدح.
ولكننا في أزمان وفي عالمٍ أصبح يُحتم علينا أن ليس فقط نُتاجر، وإنما — وهذا هو الأهم — نستعمل منطق التاجر؛ فالعالم اليوم أحلَّ الانتفاع أو تبادُل المَنفعة محلَّ كل القيم الإنسانية، وغير هذا لا تُصدق أي كلام معسول آخر. كان ممكنًا إذن لمصر وهي تملك قناةً وحيدة فريدة تصل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، أن تُحدد سعر رسوم المرور، وكانت الشركات ستدفع مهما بلغت قيمة الرسوم الزائدة؛ فلن تصل إلى واحد على كذا من التكلفة عن طريق الرجاء الصالح.
صحيحٌ ساعدنا العالمُ في تطهير القناة، ولكنه ساعدنا لمصلحته هو أولًا، وليس من أجل سواد عيوننا، ويُساعدنا في التوسيع والتعمق بالقروض، وهذا أيضًا لمصلحته هو أولًا؛ فما دام الأمر كذلك، وما دامت قناة السويس تُفيد العالم مئات بل وآلاف المرات قدر إفادتها لمصر، فلماذا لا نتصارح أيها الأخ الجالس أمامي حول مائدة المفاوضات التي اتفقنا أن تكون صريحة؟
وهذه المرة لن تكون المسألة مسألة قيم، ولا استرداد سيناء لقاء مُقابل، هذه المرة نتدارس المسألة علميًّا وحسابيًّا. الدول التي تستفيد من القناة هي أولًا الدول التي تُصدر منتجاتها إلى بلاد آسيا وأفريقيا، وهي أيضًا التي تستورد موادَّها الخام — وبالقطع أهمها البترول — عبر هذه القناة، في الرايحة مكسب، ومصر تُدير وتُصرف وتُقدم خدمةً أحسن ألف مرة من خدمة شركة قناة السويس القديمة (مُضحِك للغاية أن نعرف أننا برضه لتمسُّكنا بالقيم عوَّضنا المُساهمين عن تأميمنا للقناة بأعلى سعر وصلت إليه سندات الشركة في بورصة باريس في اليوم السابق على التأميم، وقبل أن يعرف أحد في العالم غيرنا أننا سنُؤممها. وهكذا تكوَّنت من المُساهمين هؤلاء شركةٌ اسمها شركة قنال السويس. أيضًا ظلَّت تتضخَّم وتتضخَّم إلى أن أصبحت واحدة من أكبر الشركات في فرنسا ثروةً ونفوذًا ورأسمالًا، إلى درجة أنها أقرضت مصر وضمنتها، لا أذكر لدى أحد البنوك، في قرضٍ كان من الضروري الحصول عليه لأمرٍ مهمٍّ ما، وثمن السهم في شركة قنال السويس القديمة التي «أُمِّمت» يعني «صفيت»، ثمنه الآن أضعاف أضعاف ثمنه قبل تأميم القناة. قارِنْ هذا بما حدث لنا، معلش، ولَّا عليه، سيان).
إذن أي توسيع أو تعميق لقنال السويس، هو مباشرة لصالح صناعة وتجارة الدول الغنية، والعائد من الرسوم بعد إتمام هذه العمليات كلها لن يُمثل سوى واحد على ألف أو يزيد من قيمة ما ستحصل عليه تلك الدول نتيجةً لهذا التوسيع والتعميق.
إن المنطق الساري في عالم اليوم «يُحتم» أن تقوم دول العالم الغنية بالإنفاق على التوسيع والتعميق، وكل المشروعات الأخرى الخاصة بتحسين الخدمة في القناة؛ إذ هم المُستفيد الأول والأكبر بكثير، ونحن دولةٌ ناميةٌ مُنهَكةٌ خِزانتها.
على روسيا وأمريكا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا الغربية ودول السوق المشتركة واليابان بالذات، يقع عبء هذه المسئولية؛ فهي مسئولية تجاه أنفسهم ومصالحهم أولًا.
وعليهم أن يُكونوا فيما بينهم بنكًا يجمع النقود منهم، ويُنفق منها على توسيع وتعميق القناة. على الأقل، لن يحفروها بعظامهم كما فعل أجدادنا، ببعض البعض من نقودهم، وببعض البعض أيضًا من الدول البترولية المُصدِّرة ذهبها الأسود عبر القناة. وأي كلام غير هذا لا أفهمه مُطلَقًا؟
لا أفهم أن تقرضنا اليابان قرضًا طويل الأجل (يعني على عشرين أو ثلاثين عامًا)، إن شا الله يكون على سبعة آلاف عام، القناة تخدمكم وتخدم مصالحكم، أيُّ تحسين فيها عائد عليكم أولًا. لو تمكَّنتم بواسطة المشاريع أن تجعلوا المركب تعبُر القناة في يومٍ واحد فقط، فالمُعادل النقدي لهذه السرعة سيصل بصادراتكم ووارداتكم إلى أرباحٍ فلكية؛ فاختصار الزمن معناه على الفور تراكُم الأرباح. ماذا يهمُّ الفلاح المصري إذا عبَرت المركب في يوم أو في شهر أو في سنة؟ فالعائد عليه منها قروش، ٣٠٠ أو ٥٠٠ مليون دولار، قروش في عالم اليوم الذي تكاتَفت الرأسمالية الغربية لإنقاذ بريطانيا حين شعرت أنها مهدَّدة، بإعطائها تسهيلات وإعانات وصلت وستصل إلى بليارات؛ أي ملايين الملايين من الدولارات. ماذا تكون ٣٠٠ أو ٥٠٠، ونحن نعيش في دولٍ يبلغ ربح الشركة الكبرى فيها كل الدخول القومية للعالم الثالث بأجمعه؟
في القناة بالذات، توسيعها وتعميقها، لا يمكن إبقاء بُرقع الحياء مُسدَلًا هكذا كما أسدلناه طويلًا. وبالعلني هكذا، إذا كنتم تريدونها واسعةً عميقة تختصر الأسابيع إلى ساعات فاعملوها أنتم، بل وفوق هذا علينا نحن أن نربط رسوم القناة بسعر البترول، بحيث كل ارتفاع في السعر يُقابله ارتفاع في الرسم؛ فنحن لسنا مُتفرجين، ولن نبقى مُتفرجين على العالم تتدفَّق فيه الأموال والأرباح، ونملك نحن شريانها الحيوي، ولا نحظى ببعض البعض مما يتدفَّق كالموج الهادر من أرقامٍ تجاوزت أرقام السنوات الضوئية.
لقد ظللنا نخجل من الخواجات مرة، ومن أولاد العمومة مرة، ومن هذا مرة، ومن ذاك مرة، حتى لم يعُد للخجل معنًى إلا السذاجة. والمصري يتساذج، هذا صحيح، ولكنه أبدًا لن يظل ساكنًا حتى يصبح فعلًا وبحق وحقيق ساذجًا.