مش قوي كده
إحنا ما لنا مزنَّقينها على نفسنا قوي كده ليه؟
الله؟
ما تبحبحوها شوية.
ده كده يبقى الموت أرحم من الحياة.
فعلًا.
أنا قادم من بيروت، وبيروت في حد ذاتها «دولة» تختلف عن لبنان؛ فالأصح أني قادم من دولتَي بيروت ولبنان. وطبعًا جميعنا نعرف كم البشاعات التي جرَت في حرب لبنان الأهلية وغير الأهلية، ولكنني لم أُصدق نفسي. أنا واقف في «باب إدريس» الحي الذي دُمِّر كله بقذائف ميدانية لا تُستعمل إلا في حرب الصحراء والغابات. هنا منذ أشهُرٍ قليلة فقط كان الناس نازلين ذبح في بعض، واليوم هؤلاء هم الناس، انتهت الحرب وكأنها لم تكن. هذا الشعور دفعني للبقاء أكثر من نصف ساعة في شارع الحمراء أتأمَّل حكايتنا إحنا. لقد بدا لي فعلًا أن الشعب المصري شعبٌ غريب في بابه، فريد في نوعه وخصاله، ومن أهم مُميزاته أنه لا يعيش الحياة ليستمتع بها مثلما وهبها الله له وكافأه، ورفعه من مرحلة العلقة إلى الكتلة الهلامية الفاقدة المعنى إلى الإنسان العظيم الرائع، القادر على التدبير والتفكير والفرح والحزن والعطف والحب، أول المخلوقات الواعية بالحياة وبالكون وبالأفكار؛ إذن الحياة الإنسانية قيمةٌ كبرى وعظيمة، وإذا لم يُدرك «الإنسان» هذا لا يكون قد فاته نصف عمره، ولكن يكون قد فاته عمره كله؛ أي كأنه ما عاش. ونحن في مصر لا نعيش، كأننا ما جئنا إلا لنذهب، ونقضي الحياة مجرد «زمن» يفوت بالطول أو بالعرض إلى أن تأتي النهاية.
لا يا إخواني.
المسألة ليست كذلك أبدًا.
تعالوا بنا نبدأ من أول وجديد.
الذى في يده شغل يتركه، الذي عنده ألمٌ يصبر عليه، المُفلس المُتأزم المريض الماشي بلا هدف، يترك هذا كله ويقف معي لحظاتٍ قليلةً نتأمَّل فيها معًا حكايتنا.
فالمسألة زادت عن حدها تمامًا.
والحياة عندنا أصبح الموت نفسه أهم منها بكثير، نحتفل به ونُقيم له الشوادر، ويُلعلع صوت المُقرئ، وتُوزَّع القهوة والماء المثلَّج.
هيصة.
فقط حين يموت الشخص منا نُدرك مدى خسارتنا فيه.
أما وهو حي فهو مثلنا مثل حياتنا لا معنًى له بالمرة.
أن نحيا ونُحب الحياة وهي الميزة الفريدة للإنسان، مسألةٌ غير واردة عندنا بالمرة؛ ففعلًا نحن لا نحيا. إننا نُنفِّذ الحياة فقط، وكما قلتُها مرة كأننا موظفون لدى الحياة، ولسنا أحياءً فعلًا وشعورًا وإحساسًا عميقًا، واختلاجة قلب ورقة أمل. واقفٌ في وسط بيروت كما قلت منذ أيام، هذه هي المدينة التي اقتتل فيها الناس، ومات على أرضها عشرات الآلاف. غير معقول. لقد كنت وأنا ذاهب إليها وجلًا، أتصوَّر أني لا بد أن أحمل معي «كلاشنكوف»، وأن الموت سيكون مُتربصًا لي في كل خطوة. كنت أعتقد أني ذاهب إلى مهمةٍ فدائية، ذاهب إلى غابة لا يزال الناس فيها يأكل بعضهم بعضًا.
وصحيح لقد صادفت كثيرًا من المرارات الفردية الناتجة عن فقدان أخ أو قريب، ولكن هذه كلها كانت أشباح الحرب التي دارت، وصحيح أني صادفت تحت الأوضاع العادية جمراتٍ كامنةً ربما للصراعات في المستقبل، ولكن الأمر المُذهل لي أني وجدت مدينة «حية»، حية بكل معنى الكلمة، الحياة تمضي وكأن شيئًا ما كان، وكأن شيئًا لم يكن، وكأن شيئًا لن يكون؛ التجارة شغالة، المحلات تفتح، كل شيء عاد ويعود بسرعة البرق، حتى البرق والتليفون كان موجودًا في أثناء الحرب، وكان الاتصال من الممكن إجراؤه حتى بين طرفَي القتال، حتى حركة البناء في المدينة كانت قائمة، والبيوت تندكُّ بفعل القذائف. ولبنان مأساة، وأوضاعه مأساوية أكثر، ولكن الشيء الإيجابي في هذا كله أني لمست في شعبه هذه الحيوية النادرة المُتدفقة، الحيوية التي تنتزع الحياة انتزاعًا ولا تنتظر أن تأتيها الحياة، وأنا واقف في قلب مدينة تقريبًا بلا حكومة وبلا بوليس؛ فالناس هنا لا تعتمد على الحكومة في حياتها وقدرها، وكأنما كلما كبر الشعب صغرت الحكومة، والعكس صحيح.
وهنا تأتي مأساتنا نحن المصريين. إننا نفخر دائمًا بأننا أول شعب أقام حكومةً مركزية على سطح الأرض، حكومة عمرها سبعة آلاف عام، حكومة نعتمد عليها في كل شيء، وهي قلبنا النابض إذا خفَت نبضها خفَت نبضنا، إذا صحا صحَونا، وإذا نام نمنا، إذا ارتبك ارتبكنا، وإذا دخل في أزمة دخلنا معه فيها، وظللنا مُتأزمين بالسنوات إلى أن يخرج منها.
وهذا وضع قد يكون له ميزاته، ولكن عيوبه أخطر وأكثر؛ فالحكومة موظفون منا، وإذا احتاجت إلينا وجدتنا أكثر حاجة إليها. وأنا أعتقد أن الخروج من أزمتنا الوجودية هذه لن يتم إلا بشعبٍ حي؛ فلن تحيا الحكومة إلا بحياة شعب قرَّر أن يحيا. أنا أعرف، كما كلنا نعرف، أن هناك آلاف الحُجَج التي تُلقي اللوم على هذا أو ذاك، ولكن الأمر أولًا وأخيرًا هو أمر حياتنا نحن، والعمر واحد، والعمر يمضي، والحياة كما قلت لا بد أن تُنتزع انتزاعًا، حتى المتعة، والمتعة ليست مسألة سلبية تجلس أمام التليفزيون وتنتظر مسرحية تُقهقه عليها، المتعة أن تُخطط أنت للمتعة، وتُنفذ ما خطَّطت، وتنتزع المتعة من حياة لا متعة فيها.
كانت الحرب على أشدِّها في بيروت والتجارة شغالة، رغم أنف القنابل، والتصدير والاستيراد قائم، والحياة مستمرة، وهذا هو الشيء المهم؛ أن نُقاتل ونحن نحيا ونعيش في سلام ونحن نحيا، ونمرَّ بالأزمة ونحن أحياء، ونخرج منها أحياءً أيضًا مستمرين في الحياة. حالة، ليست حالة اللاسِلم واللاحرب، ولكنها حالة اللاحياة واللاموت، وهو الشيء القاتل حقًّا.
بودي أن نُفيق فعلًا ونغرس أظافرنا في عمق الحياة، وفي عمق معوِّقات الحياة، ونُقيم نحن بأيدينا حياتنا، حينئذٍ يحيا الموظفون، وتحيا الإجراءات، وتحيا الحكومة المركزية أعرق حكومة مركزية في العالم؛ لنحيا الحياة باستمتاع حتى ونحن في قلب الأزمة، ننتزع مُتعتنا انتزاعًا، ولنكفَّ عن هذا التزمُّت المَقيت الذي قيَّد حياتنا إلى درجة لم نعُد نتحرَّك فيها. الحياة قتالٌ مستمر، حتى الذي يريد أن «يُهلس»، فليُهلس بقتال وبإرادة، وليتحمَّل عاقبة تهليسه بشجاعة وبقوة. هكذا الناس يحيَون في الدنيا. ونحن أربعون مليونًا، تضخَّمنا وكأننا الحياة حين صارت إلى ديناصورٍ كبير غير قابل للحركة؛ وبالتالي غير قابل للحياة، فانقرض الديناصور من على سطح الأرض. نحن ديناصورٌ هائل ممدَّد في خيطٍ رفيع من وادٍ ضيِّق لم يعُد يستطيع أن يتحرَّك من كثرته ومن اعتماديته ومن اتكاله، وإذا لم نتحرك مِتنا، فلنتحرَّك.