دلَّعني يا زغلول!

ببساطةٍ هذا هو عنوان أحدث مسرحية تعرضها مسارح القطاع الخاص في القاهرة، أنا لم أرَ المسرحية طبعًا، ولن أراها، ولا أريد الحكم لها أو عليها، ولكن العناوين في المسرحيات لا تُوضَع عبثًا، إنها قبل أن تشي بمضمون المسرحية، تشي أولًا بتفكير صاحبها أو كاتبها؛ فبربِّك ماذا تنتظر أن تحتوي مسرحية اسمها «احترسي من الرجال يا ماما»؟ بل ماذا تنتظر من عديد من المسرحيات الأخرى والأفلام وتمثيليات السهرة والمسلسلات والسباعيات والشهريات وما أكثرَها وما أروجَها هذه الأيام؟ تُذكِّرني بالبطيخة القرعة؛ تلك التي تتميَّز أول ما تتميَّز بكثرة ما فيها من لب وقلة ما فيها من حَمار أو حلاوة. «واغش» من الأعمال المنسوبة ظلمًا للمسرح وللسينما وللإذاعة وللتليفزيون، وباءٌ كأنه الجرب أو طفح المجاري، رائحةٌ نتنة قبيحة تملأ الأجواء والأمخاخ، وتزكم الأنوف والأذواق.

إنما المشكلة دائمًا أن هذه «الأشياء» تتسرَّب إلى حياتنا تسربًا غير محسوس، ربما لم نُلاحظه، وربما لاحظناه و«طنشنا»، ولكن الأمور فيما أعتقد قد وصلت إلى حدٍّ لا بد له من وقفة؛ وقفة مع هذا التخريب الغريب المُجرم للنفس الإنسانية المصرية.

لقد ظل الإنسان الأول يتحلَّى بأخلاق الغابة، وتحفل نفسه بالنوازع والغرائز والشعور البدائية، إلى أن بدأ يكتشف الرقص، ثم الغناء والموسيقى، ثم المسرح، ثم السينما والتليفزيون؛ ذلك أن الإنسان لو تُرِك لغرائزه فقط، ولنوازعه فقط، وبدافع فقط من القُوى الحيوية الموجودة فيه، لولا تكوينه للجماعة البشرية، ولولا التقاليد التي وضعتها هذه الجماعات لتحيا في سلامٍ داخلي مع النفس، وتُمارس حياتها تلك من خلال مُمارستها للفنون المختلفة، لَظلَّ الإنسان وحشًا بدائيًّا، يقتل الضعيف ويُنافق القوي، ويبيع ولاءه للصداقة وللزمالة وللوطن من أجل قروش أنانية حقيرة. الفن هو السموُّ البشري، ليس السمو بتجاهل الغرائز والهواجس الشريرة في النفس، ولكنه ذلك الذي يأخذ بيدِ الإنسان ليصبح أقوى من غرائزه وهواجسه الشريرة. الفن هو تربية، أعظم أنواع التربية للنفس البشرية، في حضرته ومسرحه وحضوره، يتطهَّر الناس ويصِلون للقيم العليا، ويتعلَّمون التمدين، ويستمدُّون الطاقة والقدرة على مُواصلة الرحلة.

والفن ليس قيمًا فقط، ولا حديثًا عن الجمال فقط، الفن هو — في نواحيه التربوية — وسيلة يتعلم بها الإنسان سلوكه الأمثل، ومراجعةٌ دائمة للنواقص، ومحاولاتٌ مستمرة للتخلص منها. من هنا جاءت كلمة «البطل»، البطل الدرامي والبطل الروائي؛ فهو ليس ذلك البطل بمفهوم القوة أو العضلات أو العنف الشكلي، إنه بطل لأنه يسلك «سلوك» الأبطال؛ فقد يكون مُحاصَرًا، وقد يكون ضعيفًا، وقد يكون العيب في داخله هو، ولكن الفن يأتي ليُصور هذا البطل في محاولاته — ربما القاصرة وربما العقيمة — للتغلب على نقطة الضعف فيه وقهرها.

والحركة الفنية إذن هي الوسيلة المُثلى لتربية الشعب تلك التربية العظيمة غير المباشرة، بل هي أحيانًا وسيلة الشعب للتثقُّف واكتساب الخبرة والتجربة، هي الضوء القوي يُبدد أمامه الظلمات، ويفتح الباب للأحلام والطموح. لقد دخلتُ كلية الطب لمجرد أن رأيت فيلمًا عن مدام كوري واكتشافها للراديوم، وآلاف وملايين غيري حدثت الانقلابات والتحررات والتصحيحات الكبرى في حياتهم، نتيجةً لأفلام أو لمسرحيات أو روايات شاهدوها أو قرءوها؛ ذلك أننا في حياتنا — بل وحتى في مدارسنا — نتعلم من المثل أكثر بكثير جدًّا ممَّا نتعلم عن طريق المواعظ والخُطب، بل الدين نفسه ليس فقط دينًا وإيمانًا، ولكنه ذلك الإيمان الذي لا يمكن أن يتم إلا بالسلوك القويم؛ الدين المعاملة. واسمحوا لي أن أتوجَّه بهذه الكلمة خصيصًا لذلك الزميل الكاتب الذي يكتب لنا صباح مساء ليُبشر بالقيم التصوفية العليا، وفي الوقت نفسه ليس لديه مانع أبدًا أن يذهب لينتهز فرصة مرض زميل له من كُتاب المسرح، ويستعين بالوزارة وبالمسئولين ليُؤجل عرض مسرحية ذلك المريض لتُوضَع مسرحيته هو. كان بودِّي قبل أن يعتلي المنبر ويلبس مُسوح الصوفي الراهب، أن يُنظف ذاته من تلك الأنانية الطفولية قبل أن يُعلم الآخرين كيف يؤمنون، وكيف يعبدون الله، ولكنه ذلك النوع الآخر من الهلوسة الذي وجدنا أنفُسنا مطحونين بين شقَّيه. فرقٌ كبير بين الدين العظيم الحنيف، وبين الإيمان والمُثل والسلوك، وبين الهلوسة الدينية، خاصة حين تصدُر عن قوم هم في سلوكهم اليومي العادي أبعد ما يكونون عن الدين ومُثُل الدين وسلوك الدين.

ولكن ما العمل وهذا ما انتهت إليه حالنا؛ فُنوننا تقول: دلَّعني يا زغلول، واحترسي من الرجال يا ماما. ومهوُوسونا يُتاجرون بالدين، ويتعالى رصيدهم بالعملة النفطية يُحلِّقون بنا وكأنما عن عمدٍ يُحاولون أن يصرفونا عن أمور حياتنا الكبرى. حاقت بنا الهزيمة، وذُقنا مرارة النكسة، وناضلنا وكابدنا حتى خرجنا من القُمقم وهم لم يُقدِّموا لنا شيئًا صغيرًا يُساعدنا، أو كلمةً طيبة تأخذ بأيدينا أو تهدينا السبيل، طوال هذا العناء البشع ظلوا يُحلِّقون بنا، ويتلاعبون بالكلمات — وكأنهم حواة — ونحن مغروزون إلى أعناقنا في البلاء.

حسن جدًّا. إنه مأزقٌ آخر من المآزق قُدِّر على شعبنا أن يجتازها، مأزق أن يجد نفسه من هول النكسة في نكبةٍ أبشع؛ نكسة الفن، ولكن هذه المرة نكسة السلوك المَعيب يتجسَّد على خشبة المسرح وشاشة السينما وصفحات المحلات، نكسة الحياة العامة كلها، وقد حفلت بنماذج من أسوأ ما رأت بلادنا في تاريخها الطويل، نماذج لحسن الحظ تمجُّها أجيالنا الجديدة وتنفر منها؛ ذلك أن سلوكها علني وواضح. أما النماذج الفنية فهي التي أخشى منها على أجيالنا وعلى أنفسنا؛ ذلك أنها كثيرة وبالغة الانتشار، وتنخر في صميم الإنسان وقيمه وقدرته على الصمود. إنها كالمرض، كالحامض، كماء النار، تهري وتفتك بتراث شعب عظيم؛ وكان عظيمًا لأنه من بين أشياء كثيرة كان يعتمد في استمراره وقدرته على الوقوف على فنونه الشعبية المختلفة، يبثُّها لواعجه وأمانيه، ويؤكد ذاته، ولكن شكرًا للإذاعات والفنون الصناعية المرئية والمسموعة، آب فنُّنا الشعبي هو الآخر إلى ممات، ولم يعُد هناك من متنفَّس لإنساننا المصري إلا من خلال أقلام زفت، أو مسرحيات زفت، أو رقص أزفت وأزفت. إلى أين تمضون بنا أيها الناس؟ ولنتصوَّر أننا نُدخل أبناءنا مدرسة الفن الكبرى؛ ليرَوا مسرحياتنا وأفلامنا وبعض أقلامنا. لنتصوَّر شعبًا هذا هو حال جامعته وأساتذته ففيفي عبده، ودلَّعني يا زغلول، وخلي بالك من الرجال يا ماما.

كثيرون يقولون إن هذه أعراض الأزمة الاقتصادية، وحين تنزاح الأزمة سنجد هذه «الأعراض» كلها قد زالت، والرُّقي قد عاد مرةً أخرى إلى سلوكنا وإلى نفوسنا. وأضحك كثيرًا — ليس من قلبي — وأنا أسمع هذه الكلمات، وكأن قوةً أخرى غيرنا هي التي ستُخرجنا من الأزمة. للأسف الشديد — ولحسن الحظ أيضًا — نحن القوة الوحيدة القادرة أن تُخرجنا من أزمتنا، والمُعادلة الصعبة هي كيف يستطيع أناسٌ مأزومون مثلنا أن يخرجوا من الأزمة؟ صعبة لأنها حقيقة، وصعبة لأن ليس هناك خيار، فإما نفعلها أو تُفنينا الأزمة؛ ولهذا لا بد أن نفعلها. ويُخيَّل إليَّ أن أولى مهامِّنا للخروج من الأزمة أن نهزَّ رءوسنا هزًّا شديدًا، بل ربما احتاج كلٌّ منا إلى ضربة على رأسه ليُفيق، بالذات ضربة تُوجَّه إلى رأس ذلك الأفندي المحترم الجالس هو والسيدة زوجته وأولادهما يتفرَّجون على مسرحيةٍ مليئة بالإيحاءات الجنسية الجبانة (وليته الجنس الشجاع)، والذي يُقهقه من حنجرته وكأنما ليؤكد لنفسه أنه يضحك، والمضحوك عليه والمخدوع هو سيادته؛ فما يدور أمامه شيء قبيح إلى درجة تُثير الاشمئزاز والغثيان.

لا بد أن نقف — نحن الجمهور — موقفًا حازمًا ومبدئيًّا ممَّا يُعرَض على أسماعنا وأبصارنا. إن دور الفن قيادي بالحتمية والضرورة، ويكفي أن تنتبه جيدًا إلى أين تقودنا فنوننا الحاضرة؛ إلى هاويةٍ سحيقة، ما في ذلك شك. هي قيادة إذن إلى ضلال، ولا بد أن تُوقَف؛ فهي مهما احتقرناها تقودنا دون أن ندري، وستظلُّ تقودنا فنيًّا وسلوكيًّا ما لم نخترع تلك المقشَّة الكبرى العريضة التي نُنظف بها حياتنا من هذه الآفات الوبيلة.

وإذا كان هذا هو الفن فبلاش فن؛ فالارتداد إلى قيم الغابة أنظف ألف مرة من فنون القوَّادين.

الخنافس أصحاب مصر الجُدد

في زيارتي لقريتنا وجدتُ صديق طفولتي الشيخ محمد إسماعيل ثائرًا. لماذا يا شيخ محمد؟ قال: هؤلاء الخنافس الملاعين وشعورهم الطويلة وترشيحاتهم في الانتخابات. والحق أن المسألة كانت بالنسبة إليَّ خبرًا مُفرحًا جديدًا؛ ذلك أن الشيخ محمد ومعظم أعيان بلدتنا وأجيالها المُتوسطة والكبيرة، كانوا ثائرين على هذا الغزو الشبابي لانتخابات الاتحاد الاشتراكي، وكانوا ثائرين أكثر لأن هؤلاء الشباب يقولون لهم: نحن نعرف أننا لن ننجح هذه المرة، ولكنا لا بد أن نخوض التجربة.

ومن زمنٍ طويل لم أتلقَّ من شعبنا علامة تفاؤل، وتلك كانت في رأيي أول علامة تفاؤل أتلقَّاها؛ ذلك أن الأجيال السابقة قد شربت الكأس حتى الثمالة، وتمزَّقت حربًا وكفاحًا وتطبيقاتٍ اشتراكيةً وسجونًا وانتصارات وهزائم.

وفرحتُ لأنه خلافًا لكل آراء ونظريات واعتقادات الآباء والأجداد؛ فهذا الجيل لم ينشأ سلبيًّا أو ناكرًا للجميل أو مُنصرفًا إلى حياته الخاصة، ولكن ها هو ذا جيل أكثر إخلاصًا للرسالة في رأيي؛ فهو يبدأ حملها وهو لا يزال في سن البراعم، على حين أن الرجل في الماضي لم يكن ليفكر أن يخوض انتخابات أو يُرشح نفسه إلا إذا كان قد وصل؛ وصل في عمره أو في دخله أو في طموحه.

هؤلاء مُبكرون وفي أعمار الزهور يحلمون أنهم ربما لن يفوزوا بثقة الناخبين؛ فالناخبون في معظمهم لا يزالون كالشيخ محمد يعيبون عليهم هذه الشعور المنكوشة الطويلة، وهذه البنطلونات المحزَّقة، وهذه الأحذية ذات الكعوب العالية، يُفضلون عليهم لا بد هؤلاء «المحترمين» الموقَّرين ذوي المسابح والحوقلات، أو ذوي الفدادين والعقارات، على حين أن هؤلاء لا يملكون سوى شبابهم وقدرتهم على التضحية والحماس.

ظللتُ أناقش صديقي الشيخ محمد في هذه الظاهرة الصحية، التي يعتبرها هو علامة اقتراب يوم القيامة، وعلى حين أنا أرى فيها علامة يأس الشباب أن يقوم بالإصلاح أحدٌ آخر سوى أنفسهم، وبسواعدهم هم يتم التصحيح. لقد اندثرت معظم القيادات القديمة، وانصرفت إلى حياتها الخاصة ومطامحها الخاصة تُحسنها بالحرام أو بالحلال، في حين أن هؤلاء الذين صمدوا ولا يزالون يصمدون، قلةٌ قليلة غير كافية أن تُحرِّك المارد الهائل، وكان لا يمكن أن تظلَّ مصر بلا أصحاب، وكان من المحتَّم أن تندفع الأجيال الجديدة ترث الرسالة ولو في حياة مالكها؛ فهذا هو منطق الأشياء.

لكن الشيخ محمد لا يزال لا يهضم حكاية الشعر الطويل هذا ومعناه، حتى وأنا أُذكره ما كان يحدث له شخصيًّا حين كان أبواه يأمرانه بقص شعره «زيرو»، وكان هو يتحايل ويرشو الحلَّاق حتى يقصه «نمرة ثلاثة»، ألم يكُن في هذا يثور مُغايرًا ويُبشر بثورة إطلاق الشعر؟ وإطلاق الشعر علامة الثورة، وأولها الثورة على أناسٍ يعتبرون أن الاحترام والتأدب علامته الوحيدة هي تقصير الشعر أو إطالته، وكأنما ليس علامته الأولى أن يكون الإنسان صادقًا، وأن يتفق باطنه مع ظاهره، وما يريده مع ما يفعله.

وددتُ لو كان نقاشي مع الشيخ محمد قد أُذيعَ على الملأ؛ ليعرف المُعترضون أنهم إنما يعترضون على سنة الحياة، وليعرف الشباب أيضًا أن هؤلاء المُعترضين إنما يعترضون بقليل جدًّا من الإشفاق، وكثير جدًّا من الخوف على أنفُسهم من جيلٍ مارد جديد، يندفع ومنذ الآن لتحمُّل المسئولية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤