الناموس العام
السيدة التي أطلقت النار على شريكها في تجارة الخشب ربما أو في الزواج، أعجبتني.
وقبل أن يثور عليَّ القُراء لإعجابي بقاتلة، فإني أوضِّح حالًا أني أستقبح فعلتها تمامًا، وأعترف أن القتل هو أبشع الخطايا والذنوب، ولكن إعجابي هنا مسألة لا علاقة لها البتة بعملية القتل، إعجابي راجع إلى أني أخيرًا عثرت على مصري، أو بالأصح مصرية، تخرق الناموس العام، وتتصرَّف بوحي من صِدقها مع انفعالاتها ونفسها وما تُضمره داخلها من نوايا، شريرةً كانت أم طيبة؛ ذلك أننا لم نتعوَّد أبدًا أن نقول أو نتصرف بوحي من فرديتنا أو تفرُّدنا، وإنما عادتنا جرَت على أن نفعل ما «يجب» علينا أن نفعله، وأن نقول ما «يجب» علينا قوله، خاضعين في هذا خضوعًا شبه كامل لناموس المجتمع العام.
ونحن نكره أن يشذَّ علينا أحدٌ منا برأي أو بتصرف أو بعمل، مهما سلَّمنا بيننا وبين أنفُسنا أننا مختلفون تمامًا، وأن لكلٍّ منا كيانًا وشخصية ومثلًا، وأننا لا يمكن أبدًا أن نكون مثلنا مثل قطيع أغنام أو قافلة نمل، ومع هذا، ومع إدراكنا لهذا كله، فإننا نستنكر على أيٍّ منا أن يُزاول اختلافه هذا مزاولةً فعلية عملية، فليكُن اختلافه معنا في السر وبينه وبين نفسه فقط — وحتى هذا نستنكره أيضًا — أما حين تأتي المسألة لساحة القول العام أو الفعل العام، فلا بد للناموس الجماعي الهائل أن يُسيطر، وألا يرتفع صوتٌ واحد بكلمةٍ تخدش الإجماع وكأنه إجماعٌ مقدَّس، وكأنه إجماعٌ من صنعِ ملائكة، وكأنه منزَّل، في حين أن ذلك الإجماع ليس مقدَّسًا ولا منزَّلًا ولا شيئًا من هذا القبيل، إنه إجماع يصنعه في العادة الأعلى صوتًا والأكثر جلبة، والأشد قدرة على فرض الرأي والذات والتصرف.
ومن هذه الزاوية فقط، ها أنا ذا لا أستطيع أن أمنع نفسي من الإقدام على الإعجاب بهذه السيدة التي جرُؤتْ على خرق الناموس العام.
الناموس العام الذي يجعلنا نحن المصريين من أعقل شعوب الأرض قاطبة؛ ذلك العقل الذي حيَّرني أمره طويلًا وكثيرًا، خاصة حين كنت أسافر، وأحتكُّ بكثير من شعوب الدنيا، وأبدأ حتى دون أن أدري، أقارن بيننا وبينهم، أجد أن لكل شخصية من شخصيات الشعوب نوعًا من جنونها الخاص، أو تصرُّفاتها المجنونة الخاصة، أو غرابتها أو شذوذها، ثم أعود لمصر، وبعيونٍ جديدةٍ أحاول أن أعثر لشعبنا أو لشخصيته على قدرة غرابة، أو بادرة تفرُّد، أو جنون من أي نوع، دون جدوى.
وحين أقول إننا أعقل شعوب الأرض، لا أعني بالطبع أننا كذلك لأننا أكثرها حكمة أو علمًا أو تأدبًا؛ فالحقيقة بالضبط أعني أننا أكثرها تعقلًا.
والفرق بين العقل والتعقل، هو أن الفعل العاقل يأتي نتيجة لإعمال عقلك الخاص في المشكلة، ثم الخروج لك برأي أو استنتاج معيَّن خاص، ثم التصرف على أساسه، في حين أن التعقل ليس نتيجة إعمال لعقلك وفكرك الخاصَّين، وإنما نتيجة لمُراعاتك للعقل الاجتماعي العام للتفكير السائد، سواء كان خطأً أو صوابًا، وخوفك منه إلى درجة إيثارك التصرف بناءً على أساسه، وليس بناءً على رأيك أنت، وحكمك أنت، وتقديرك أنت.
وهذا الناموس السائد، أو العُرف السائد، أو الضمير العام، نحن لا نفترضه في مجتمعنا فقط، ولكننا حتى نفترض وجوده في العالم كله، وخناقاتنا الوطنية كلها منذ أيام مصطفى كامل وسعد زغلول، تفترض وجود هذا «القاضي» العالمي العادل، وتُحاول مخاطبته لإقناعه ﺑ «عدالة» قضيتنا. وكانت النتيجة أن أصواتنا كانت دائمًا تُبحُّ مُخاطِبة العالم مُستنهِضةً عزيمته وضميره، في حين أن خصمنا رابضٌ ساكن، يعتمد على تصرُّفه الشخصي وقوَّته الذاتية القابعة على أرض الوطن بمنطق قانون القوة والتفرد، وبمنطق أن لا شيء هناك في هذا المجتمع العالمي الذي بُنِي، ومنذ أساسه، على أن الحق مع القوة، وعلى أن العدالة المُطلَقة هي من صفات الله سبحانه، وأننا ما دُمنا بشرًا فهناك التخاصم وهناك التناحر، وأن لكلٍّ منا دعواه وحُجَجه ومنطقه، وأن الحق هو مع فارض حقه، وليس أبدًا نتيجة لعدل يُصدِره مجلس الأمن أو يصنعه كيسنجر.
وأعتقد أن حربنا المقدَّسة في ٦ أكتوبر، لا بد أن تُعلمنا هذا الدرس — ومعذرة للصديق الكبير نجيب محفوظ — فنحن بتلك الحرب فرضنا رأينا بالقوة القاهرة، وقوَّتنا وحدها هي التي انتصرت، على حين ظللنا مع حقنا سنواتٍ طويلةً نُناشد العالم أن يُناصره دون جدوى، وضمير أوروبا الغربية وأمريكا العظمى ظل نائمًا عنا وعن وُجودنا نفسه، إلى أن صوَّب له العرب سلاح البترول، ورأى من فوَّهته الموت البارد، فاستيقظ؛ لا ليُطبق العدالة أو يُساعد على تطبيقها، وإنما ليخضع للقوة، مُتظاهرًا بأنها قد أصبحت الحق والحق وحده.
ومهما يكُن مصير هذه السيدة التي أطلقت النار على رجلٍ ظل يفرض وجوده بالقوة عليها حتى قتلته، فإنني أفهم تمامًا معنى ما قالته وهي تُسلم نفسها للبوليس: «الآن قد استرحت إلى الأبد.» وقالتها وهي تعرف أنها خرقت الناموس العام، واختلفت مع المجتمع اختلافًا جذريًّا، ولجأت إلى وسيلةٍ بربرية لخلاص نفسها.
ألا نعتقد بعد هذا أننا، حتى كأفراد، في حاجة إلى مراجعة مواقفنا المُتعقلة جدًّا التي تخشى الاختلاف والخروج على المألوف، وفي حاجةٍ أصبحت أمسَّ لإعمال العقل الخاص والدفاع عن الرأي الخاص، والكف عن الاختفاء وراء النفاق العام والناموس العام؟
إن قليلًا من الخروج عن المألوف هو الذي يدفع المجتمعات دائمًا لاستكشاف آراء أجد، وتصرُّفات ربما أكثر حكمة بكثير من التصرفات العامة والسائدة.
ولا أقول هذا دفاعًا عن الخروج بالقتل، وإنما أدعو للخروج عنه — كما فعلنا بالنسبة للناموس العالمي العام في ٦ أكتوبر — بالخروج بالقتال؛ فإذا كان القتل هو أحط الوسائل للدفاع عن الحق والرأي، فالقتال، سواء بالكلمة أو بالتصرف أو بالبندقية، هو أسماها وأرقاها وأكثرها إنسانية.