الخروج عن الموضوع

أحيانًا لكي «تدخل» في الموضوع، لا بد أن «تخرج» ولو قليلًا عن الموضوع، وما دام الموضوع دائمًا هو مشكلة وجودنا الخالد، كيف، وبأية طريقة، وماذا نفعل، فقد أخذت على عاتقي أن أُزاول هذه اللعبة المشكلة منذ زمنٍ طويل. كلما غرقت حتى لا أكاد أرى، أحسست أني أختنق، أن لا فائدة أن المطلوب أكبر بكثير مما أستطيع أو نستطيع. كلما لا أعود أرى القمر، أو ألاحظ وهَنَ عجوز يعبُر الطريق، أو تمرُّ ابتسامة الطفل الحافي أمام عيني دون أن ألحظها، دقَّ في رأسي جهاز الإنذار الخفي؛ لا بد من الخروج لعودة الدخول، أو ربما الدخول عن طريقٍ أصح.

والسياسة في شرقنا العربي، وحتى في غربه، عملٌ شاقٌّ و«رِزل»، ولا أعتقد أن أحدًا يُزاولها إلا مُرغَمًا؛ فنحن، حكامًا ومحكومين، مُراهقون تمامًا وجُدُد، واللعبة ليست نظيفة أبدًا، والضربات دائمًا تُوجَّه تحت الحزام. لم نتعلَّم إلى الآن كيف حتى نتناقش، أو ضرورة أن نختلف، أو حتمية أن يقول كلٌّ منا رأيه. صاحب الرأي دائمًا ما «يُؤخَذ» من رأيه، وكأن الرأي عورة أو قلة أدب، والأحكام دائمًا جاهزة، وبلا أي حيثيات، وأسهل شيء أن تشتم أو تُشتم، حتى إن صورة المُواطن الصالح هو المُواطن العُقم تمامًا من أي اتجاه أو وجهة نظر؛ الماشي «في حاله»، القائل دائمًا نعم، وحتى ليس «نعم» الخاصة، وإنما اﻟ «نعم» العامة السائدة.

ولكن لأن القتال كُتِب علينا كما كُتِب على الذين من قبلنا والذين سيأتون بعدنا، وكما أن الدفاع عن قيمة الإنسان غريزةٌ تُساوي تمامًا غريزة الدفاع عن وجوده المادي الحيوي، فلا بد أن تخوض المعركة حتى لو عرفت تمامًا أنك خاسرها، فما بالك وهناك أمل أن تكسبها؟ والأمل يأتي دائمًا من وضوح الرؤية وحِدَّتها؛ فإذا أحسست أن الزجاج قد عام من الأمطار الساقطة من الأرض، وأن «مساحات» الزجاج لم تعُد تكفي، فلا بد أن تخرج بنفسك لكي ترى أحسن وأكثر، لكي تُجدد شباب وجهة نظرك، ربما لكي حتى تعُود تؤمن بما تفعله.

ولقد قامت الصحافة، أو بالأصح بعض الأقلام الصحفية، بدَورٍ كبير في إعداد الرأي العام لتسلُّم راية الدفاع عن الرأي. وإذا كانت المعركة الانتخابية قد جاءت — في رأيي — صحية تمامًا، ودليل قوة حقيقية، وكأنها امتحان الثانوية العامة لهذه الأقلام، فقد جاءت النتيجة لا بأس بها بالمرة، والمجموع يستحقُّ أن نبدأ به مرحلةً جامعية جديدة يقوم فيها مجلس الشعب الجديد، أو بالأصح كثير من أعضائه، بدور النواة لحركةٍ شعبية قوية تنقلنا خطواتٍ كثيرةً إلى الأمام. انتهزت هذه الفرصة لأرى الموضوع أكثر، و«أخرج» ﻟ «أدخل»، وقد انتهزت فرصة دعوة وزارة الثقافة الجزائرية لي لزيارة الجزائر الجديدة، وإلقاء محاضرة عن «مشاكل الثقافة العربية»، وقبِلتُ الدعوة، وكنت أعرف أني كالمُستجير من الرمضاء بالنار، وأنها زيارةٌ ستكون حافلة بالمناقشات الثقافية والسياسية، وأنها عمليةٌ مُرهِقة شاقَّة، ولكن «كُتِب عليكم القتال كما كُتِب على الذين من قبلكم»، وسافرت وحدث ما توقعته وأكثر منه (يا ربي لماذا علينا دائمًا أن نُقاتل ونتقاتل؟) وطلبت من مُرافقي الشاعر الجزائري الكبير الأخضر السائحي، أن يأخذني إلى أعمق أعماق الصحراء الكبرى في الجزائر، هناك عند «حاسي مسعود» و«توجرت» و«غرداية»، هناك حيث «الطوارق» الملثَّمون، و«جانيت» الأفردويتية. الصحراء الصحراء الصحراء، حيث لا أُنْس ولا بشر ولا مناقشات، روحي ظمأى إلى الخلاء الخلاء الخلاء، يا قاهرتي القاتلة بازدحامك، الخلاء المُطلَق المُطلَق.

ولكن …

ماذا نفعل؟!

لم أجد الصحراء خالية، أي من صحارينا خالية — إلا ربما صحراءنا المصرية الطيبة — قد أصبحت خالية، وجدت أخانا اللورد البترول قد سبقني إلى هناك، واللهيب الأحمر الوهَّاج من قلب الأرض يتصاعد مُضيئًا صحراءها الكبرى، وكأنه يُحيلها إلى نهارٍ جهنمي وهَّاج.

أوغلنا جنوبًا وجنوبًا وجنوبًا.

الله.

أخيرًا، الفضاء.

ولكن الأروع من الفراغ والفضاء والصحراء،

هو: حين تبدأ تحنُّ إلى البشر، وتبحث عنهم أنت.

وأخيرًا تجد رجلًا.

رجلًا على بُعدِ أكثر من ستة آلاف كيلومتر من مكة.

وتقول له: السلام عليكم.

فيقول لك: سلام ورحمة الله.

لم ترَه، ولم يرَك، ولا أي من أجداد أجدادكما رأى الآخر أو عرفه.

ولكن …

سلام عليكم.

سلام ورحمة الله.

أنت منه وهو منك.

ولا حائل.

ولكن ليس هذا أوان الحديث.

فأنا بالكاد هابط من الطائرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤