«مافيا الأرض» ومجلس الشعب
ولكن، ولكي نصبح شعبًا جديرةً حياتُه بما هو عليه من رُقيٍّ صنعته آلاف السنين وملايين الشدائد والهزائم والانتصارات، فأمامنا مهامُّ كثيرة لكي يحدث هذا.
ويبدو أنه كان خطأً مني.
فبينما المدينة، وداخلها الصحافة بالطبع ووسائل الإعلام الأخرى، مشغولةٌ بحادث سقوط عمارة مصر الجديدة، والاتهامات تنطلق كالشهب لها دويُّ وحدة الرصاص المُتطاير هنا وهناك، بينما هذا حادثٌ كتبتُ عن شيءٍ خطير جدًّا يتهدَّد حياتنا الزراعية؛ ذلك الجندي المجهول الذي يُنتج، القطاع الوحيد المُنتِج في مصر، وإنتاجه ذو نفع؛ فهذا الذي يُغذي المدينة يُغذيها وهو جائع، وعائد الفلاح في تناقُصٍ مستمر إلى درجة أنه بدأ يُهاجر؛ لأن المدينة تشتري منه المحصول بأبخس سعر؛ فكأنه هو الدولة الحقيقية التي تدعم طعام المدينة؛ فالحكومة تأخذ منه طن الأرز بخمسة وثمانين جنيهًا، في حين هي تشتريه من الخارج بحوالَي سبعمائة جنيه، وبما أن كليهما يذهب إلى مساكن المدينة بسعرٍ واحد، فكأن الفلاح يدعم كل طن أرز بما قيمته ستمائة جنيه، بدمه المسفوح، وبرغم هذا لا نتركه على أرضه وحاله. أزمة الإسكان في المدينة رفعت سعر الطوب الأحمر إلى أرقامٍ خرافية. وهكذا تكوَّنت عصابات من مافيا الأرض، تجرفها وتشتري الطمي بثمنٍ أغلى بكثير من سعر الأرض نفسها لو باعها صاحبها، وتحرق طميها وتتركها غير صالحة للزراعة فيما أسميتُه حين كتبت: الذين يأكلون أُمَّهم. وبرغم أن الكلام عن مشاكل المدينة لا يزال هو شغلنا الشاغل، إلا أن ما أشرت إليه مسألة لا تقلُّ كما ذكرت عن الاحتلال الأجنبي والغزو الاستيطاني لأرضنا.
ولقد كتب الصديق الأستاذ صلاح منتصر تعليقًا في بابه اليومي أيامها قائلًا: إن تجريف الأرض مسألة لا يمكن السكوت عليها، ولكنها لا يمكن منعها طالما أن الناس تريد أن تسكن، وطالما الحاجة إلى بيوتٍ هي الشغل الشاغل للجماهير في الريف والمدن. وقال إن الحل ليس بالإجراءات البوليسية التي تُتَّخذ ضد المُجرِّفين، ولكن في التشجيع الفوري وعلى نطاقٍ واسع لمصانع طوب الطفلة والطوب الرملي والأسمنتي. وأنا معه تمامًا في هذا، بل ما كتبت الموضوع إلا من أجل أن نصحو ونتحرك لإيقاف جريمة تجريف الأرض من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى لرصد مبالغ سخية لإقامة المصانع البديلة من ناحيةٍ أخرى.
ولقد سعدتُ تمامًا، وأنا أقرأ بعدها في الأهرام، أن اللجنة الزراعية بمجلس الشعب سوف تُناقش في اجتماعها التالي فورًا رفع العقوبة على جريمة التجريف إلى ٥٠ ألف جنيه للفدان والحبس.
وأيضًا استمعت إلى الحديث الذي أدارته السيدة فريال صالح مع الدكتور يوسف والي حول الموضوع نفسه.
ثم خمد كل شيء مرةً واحدة خمودًا مُريبًا، ولأنه مُريب فها أنا ذا أكتب مرةً أخرى، ولن أتوقَّف أو يتوقَّف غيري عن إثارة الموضوع، لن أتوقَّف لأني لا أريد أن أُصدق أن القانون الجديد الذي يهدف إلى رفع العقوبة على التجريف بطريقةٍ فعالة، من المشكوك أن يمرَّ من مجلس الشعب أو من اللجنة الزراعية. وأنا لا أريد الخوض في أسباب تلكُّؤ القانون أو مشروع القانون؛ إذ هي أسباب لا تمتُّ إلى أزمة المرور في مجلس الشعب، فقد استطاع قانون المحاماة أن يمرق بأسرع من البرق. لا أريد الآن على الأقل أن أتحدَّث عن أسباب تلكُّؤ القانون أو غيره؛ فالأسباب كلها يعرفها الدكتور يوسف والي وزير الزراعة، والمسئول الأول عن المحافظة على طمينا وأرضنا وخصوبتها، يعرفها سيادته ويعرفها الكثيرون.
ولكن هذا الموضوع قوميٌّ خطير، وقد قلتُ في المرة الماضية إنه لا يقلُّ خطورة عن احتلال أرضنا بقواتٍ أجنبية؛ إذ هو عملية استئصال أبدية لقدرة أرضنا الزراعية، موضوعٌ عاجل خطير، التلكؤ في مقاومته جريمة، وبالذات لو كان المُتلكئون ممَّن يقومون فعلًا بتجريف الأرض الزراعية، والإثراء من حرق طمينا المقدَّس.
فهل تكفي هذه الكلمة لكي تتحرَّك اللجنة ويتحرك المجلس، وترتفع الأيدي التي تُحاول خنق القانون الذي سيُنقذ روحنا ومصدر حياتنا الأرض؟
أم أن من في قلوبهم مرض، على رأي رئيس مجلس الشعب الدكتور صوفي أبو طالب، ومَن مِن مصلحتهم قتل القانون في حاجة إلى أبواقٍ أعلى؟!