دعونا نبكِ
•••
الحُفاة والعُراة خرجوا ساعة النبأ يشقُّون ثيابًا لا يمتلكون غيرها، ويلطمون خدودًا ضامرة، أولئك الذين لم تشملهم الثورة بعد وكان لهم الأمل، فكنت الأمل، فزعوا في منتصف الليل وقد غاب الأمل، وقد مات الأمل، وأصبحت مصر، وأصبحت الدنيا لأول مرة، بلا عبد الناصر. ونحن لم نتعوَّد أبدًا أن نتنفَّس هواءً لا يتنفَّسه هو، ولا أن ننام إلا ونحن نُحسُّ أنه هناك في كوبري القبة، ولا أن نستقبل الصباح إلا على صورة له وابتسامة، وجهدٌ مُخلِص آخر في سبيلنا وفي سبيل العرب. المصيبة أننا لا نبكي فيك البطل لا ولا المُقاتل الشجاع ولا مُفجر الثورة، إن كارثتنا أبشع لأننا نبكي فيك قبل هذا كله الحبيب؛ حبيبنا جميعًا الذي كان لكلٍّ منا فيه قطعة، وكان له في كلٍّ منا قطعة، وحين مات مات هذا كله في قلبي قطعة، أعز قطعة، توقَّفت مع قلبك أيها الحبيب.
ونحن أيضًا لا نزال واقفين حولك كالحائط المرصوص نحميك.
ولكن ماذا نفعل إزاء الموت، إزاء عدُو لا نراه، ولا نستطيع قهره بالشجاعة، ولا نملك لمنعه سلاحًا، كيف نمنعه عنك وقد انقضَّ عليك كالغادر يختطفك ويستلب روحك، ونحن حولك عاجزون حيارى مذهولون؟
ماذا أقول؟
أأقول إننا سنمضي على دربك الثائر أقوياء مُعتزين أنك أول من سار فينا، ونحن أول من تبعك؟
أأقول إذا كان عبد الناصر الجسد قد مات، فإن عبد الناصر الروح والشعب، كما قال الفقراء الحفاة، لا يموت؟
وما فائدة أن أقول هذا الكلام كله؟
أأقول العزاء؟
أأقوله لأخفِّف من الكارثة؟
ولكنني لا أريد أن أخفِّف من الكارثة.
إني أريد أن نعيشها بكل ذرة فينا.
أريد أن يُخلى بيننا جميعًا وبين الحزن على عبد الناصر، فنظل نحزن عليه كما نشاء، نبكيه كما نشاء، ونُعذب أنفسنا بالفجيعة فيه كما نشاء؛ فلقد وقع أخيرًا الحادث الجلل.
ونعى الناعي
حبيبَنا عبد الناصر.
حزننا البليغ
حزينة، هكذا ما كانت مصر، وحزينة هكذا، أبدًا لن تكون. والحزن ليس غريبًا على مصر، إنه تاريخها وأصواتها، ومنه صنعت الرجال!
منذ أن وطئ الإسكندر حضارتنا، وتوالت بعده الأقدام، والحزن هو رايتنا السوداء المُنكسة أبدًا.
السواد هو رداء نسائنا من قديم الزمان.
والرجال في جلاليبهم البيض والسود مأتمهم دائم الانعقاد، ولكن حزننا اليوم مُطلَقًا ليس كما فات من أحزان، ولا ككل الأحزان!
هو ليس حزنًا على احتلالٍ طال، أو هزيمةٍ حاقت، أو ندرة الرجال.
•••
•••
•••
•••