غنِّ يا عبد الحليم
قد مات شهيدًا يا ولدي من مات فداءً للمحبوب. اصدح يا عبد الحليم وغنِّ؛ فالمتعة قد بدأت تتسرَّب إلى نفوسنا الجافَّة؛ نفوس تيبَّست فلا أحد يرويها والحر اللافح يشويها، والدنيا ركام من الأهوال والمشاكل. غنِّ يا عبد الحليم؛ فلعل وعسى؛ لعلها ساعة تستريح فيها، يبدأ الأخضر يطغى على الأصفر، ربما نبَت برعم. غنِّ يا عبد الحليم؛ فموسيقاك جميلة، والموجي رقيق وشاعر الموسيقى الشعبية، وأورج مجدي الحسيني وكأنه النشوة. غنِّ أيها الناحل الأسمر في بدلتك البيضاء الجميلة، زنبقة من قلب طيننا البُني، أعرف كم تُعاني وتُقاسي، وكم قاسيت لتشرخ التربة، وفي عنادٍ تشقُّ الطريق وتصعد وتتبوَّأ مكان النغمة جميلة العذاب في قلوب الملاين والملايين. غنِّ يا بلدياتي يا ابن القنايات الذي استولى على القاهرة بلا جيش أو انقلاب، وحكم العواصم العربية بلا حسب أو نسب أو مخابرات، بأغنية الحب، يقولها لقلوب وألسنة برغم كثرة «كلامها» عن الحب، و«استعمالها» للحب، لا تحب، ويتسرَّب صوتك إليها هامسًا، ودودًا لا تجفل منه ولا تنكمش؛ إذ هو صوت يُحرض على الحب، وحتى لو حرَّض على اللوعة والأسى، فهو ذلك الأسى الجميل الذي يُمهد لتقبل الحب وزرع الحب، وحب الحب.
غنِّ يا عبد الحليم. برغم كل شيء غنِّ. واقرأ لنا يا نزار العظيم فنجاننا المقلوب، ليس بيد قارئة، وإنما بيد زمن غادر ومؤامرات وانقلابات، ودماء من كثرة سيلها وشدتها قلبته، وقلبتنا معه؛ فهو مقلوب، ونحن مقلوبون معه نقرؤه، فنقرؤه أيضًا بالمقلوب.
غنِّ يا عبد الحليم؛ فهي دقائق متعة، فعلًا أُحس ويُحس معي الآخرون بالمتعة، ليتها كانت متعة التحذير، ولكنها للأسف، أو لحسن الحظ، متعةٌ مفتوحة الأعين، مفتوحة الذاكرة، مفتوحة الوعي. أعرف أن دماءً غزيرة تسيل في بيروت. أعرف أن الإسرائيليين نجحوا في اختطاف الطائرة المخطوفة، وقتلوا الأوغنديين والمُختطَفين. أعرف أن ستمائة قُتلوا في يومٍ واحد في السودان. أعرف أن الدماء تسيل من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب في وطننا العربي، ولكن، غنِّ يا عبد الحليم، غنِّ؛ فلرُبعِ قرن من الزمان أيها الناس ونحن بلا يوم راحة، نحيا في جهنم الحرب وجهنم الثورة وجهنم الانقلاب، وجهنم الحكم العرفي، وجهنم البيان رقم واحد ورقم مليون، نجوع ونموت، نمرض ونموت، نثور ونموت، ننتكس ونموت، ننتصر ونموت، نموت ونموت. غنِّ يا عبد الحليم، واقرأ لنا الفنجان يا نزار، قد مات شهيدًا يا ولدي من مات فداءً للمحبوب. ليتنا هذه الأنواع من الشهداء. إنما نحن في معظم الأحيان شهداء الرعونة، وشهداء أيدينا نحن وسيوفنا، شهداء حكمنا الوطني وحكوماتنا المختلفة أو المتفقة، شهداء آلاف وملايين النوازع الصغيرة التي يحفل بها إنساننا وعالمنا العربي، شهداء الأعداء الأذكياء الذين يلعبون بنا على الدوام ولم نلعب بهم إلا مرة، شهداء عقول من فرط رجعيتها تحجَّرت، وأقوال من فرط تجفيفها من معانيها أضحت أقفاصًا من حديد وقيودًا، شهداء عصر «الاستقلال»، نحن في كل كفاحنا ضد الاستعمار الأجنبي بقديمه وحديثه لم نخسر جزءًا من خسارات كفاحنا ضد أنفسنا، وكله — ويا للغرابة — بِاسم الشعب، وكله بِاسم الثورة، وكله تحت أروع وأضخم وأمجد الشعارات.
غنِّ يا عبد الحليم؛ فلم يبقَ لنا إلا أن نسمعك، مقدورك يا ولدي أن تبقى مسجونًا بين الماء وبين النار، مقدورنا أن نبقى مسجونين مخنوقين بين الدم القريب الذي تحوَّل إلى ماء، وبين نار العدو التي تحوَّلت إلى جحيم. وبرغم جميع حرائقه وبرغم جميع سوابقه وبرغم الريح، وبرغم الجو الماطر والإعصار، تقول يا نزار الحب سيبقى يا ولدي؟! أين سيبقى يا عزيزي نزار؟! في أي مكان من أرضنا يبقى، في أي كوخ، وكل كوخ ساكن فيه الحزن والحقد والدم ليل نهار؟ صدقت فقط حين قلت: مقدورك أن تمضي أبدًا في بحر «الحب» بغير قلوع، وتكون حياتك طول العمر كتاب دموع. أو تكون الراء قد سقطت سهوًا منك، وتكون تقصد بحر «الحرب»، وأي حرب؟ حرب لا معنًى لها بالمرة.
أنا أفهم أن نُحارب إسرائيل، أفهم أن نُحارب الاستعمار. أما ما يحدث الآن فأنا لا أفهمه، إلا إذا كان الشعار الأمريكي المعروف «دع الآسيويين يُحاربون الآسيويين» قد طُبِّق، وبنجاحٍ هذه المرة، في عالمنا العربي. بنجاحٍ ساحق ماحق. اذبح واقتل، بالهوية وعلى الهوية. لنعُد القهقرى إلى الحروب الصليبية، كل ما في الأمر أن الغزاة هذه المرة قادمون من الداخل، وليس فيهم «قلب أسد» واحد، إنما هي قلوب نعام وذئاب وكلاب. غنِّ يا عبد الحليم الحب سيبقى يا ولدي أحلى الأقدار. كده يا نزار؟ ما لقدرنا إذن انعوج وانحرف، وأصبح القتل عندنا أحلى الأقدار، وحبيبة قلبنا يا ولدي ليس لها عنوان، فهي في كل مكان، وشاعرنا الكبير هو الآخر بلا عنوان، فأنا أريد الكتابة لنزار، فأين نزار؟ وتحت سارية أي شعار يقف؟ ربما ليموت شهيد شعار. من مات فداءً للمحبوب استراح، وربما أيضًا أراح، أراح المحبوب بالذات؛ فالناس لا تحب لتستشهد أو لتموت، الناس تحب لتفرح وتستمتع وتسعد، الناس تحب لتنطلق وتمرح، الناس تحب فعلًا لا قولًا، الناس لا تحب لتبقى مسجونة بين الماء وبين النار، الناس كل الناس، ما عدانا؛ فالحب حدانا حزنٌ ساكن فينا ليل نهار، ودموع غزار ومرار، ونعيق يسفح مدرار.
غنِّ يا عبد الحليم، أمتِعنا قليلًا وسط دوي الرصاص الأعمى، وسط حمام الدم يتجلَّط على أعيُننا وأيدينا ويحنينا ويخضبنا بالسواد، ولا نملك سوى المداد، وأضغاث مداد. ويأخذ وزراء الخارجية العرب قرارًا بإيقاف القتال «فورًا» يا سلام، وتشتبك قوة «السلام» الليبية مع قوة «السلام» السودانية انتقامًا لمذبحة السودان، فعلًا يا جامعتنا العربية «فورًا» هي الكلمة. «فورًا» يتم الانعقاد، ولا انعقاد، فورًا يتم القرار بلا نفاذ لأي قرار، فورًا إذا أرادت مصر توقُّف الهجوم على السودان الحبيب، ولكن «فورك» أيتها الجامعة الكبيرة ليس له من قرار حتى لو كان بقرار.
غنِّ يا عبد الحليم، وقُل يا نزار. ماذا تقول الآن يا نزار؟ وإذا كان صديقك المشعور فيه قد استشهد حبًّا وأثار قريحتك، فماذا تفعل القريحة حين يُستأصل شعب ويستشهد الناس حربًا، حربًا مغلوطة، حربًا مُنتحرة، حربًا مُجرمة؛ لأنها حرب في الاتجاه الخاطئ، حرب الصديق للصديق، حرب الإخوة المُصابين بلوثة وكأنهم يُعانون من مرضٍ خبيث وراثي.
غنِّ يا عبد الحليم؛ فعندنا نحن الآخرين حرب، قنابلها مقالات واتهامات، وضحاياها شعبٌ مضيَّع قتلوه بالشعارات والتلويح بأقدس المقدَّسات، ولم يبقَ إلا أن يُقيموا له المأتم، ويُهيلوا فوقه التراب.
غنِّ يا أخي، أمتِعنا لحظة، لحظة زمن واحدة، لشعبٍ ما أقلَّ ما عاش، وما أقلَّ ما يستمتع بالعيش إذا عاش، حتى لقد أصبح الموت هو فرحة المتعة الوحيدة الباقية. غنِّ يا عبد الحليم؛ فربما النسمات المُتصاعدة من قلبك الفوَّاح تُغطي على الطفح، طفح النفوس، وطفح الجلود. غنِّ، وكمان غنِّ؛ فقد أفلت الزمام، ولم يعُد أحد يستطيع وحده أن يصنع شيئًا، مهما قال أو كتب أو فعل، الحريق الأعظم بدأ، وجهنم قبل ميعادها انتصبت، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس: ٣٤–٣٦]، ودولته التي تُؤويه.
غنِّ يا عبد الحليم؛ فقد استمتعت بك ساعة، وربما ملايين معي اختلسوا هذه الساعة المُمتعة.
غنِّ؛ فقارئتك لم ولن تقرأ أبدًا فنجانًا يُشبِه فنجانك، رأت ونجَّمت كثيرًا، ولكنها لم ولن تعرف أحزانًا تُشبِه أحزانك. والحزن أبدًا ليس علينا بغريب، إنه دمنا ولحمنا وطعامنا وشرابنا، نحفظه ونرعاه ونُعتقه ونحتفظ به كما نحفظ ونُقدس التراث. كل ما في الأمر يا عبد الحليم ويا نزار ويا قارئة الفنجان أني أنا هذه المرة ألمح الحزن، وقد أخذ سواده الفحمي يتحوَّل إلى حُمرة نار، والفنجان من كثرة ما حمل فيه من بنٍّ أسود قد أخذ قاعه يثقل ليستعد للاعتدال.