خلو البال
من المستحيل أن يحدُث هذا إلا في أبيات الشعر وخيالات الكُتاب.
وما كنت فيه كان الخلد نفسه. قطار سريع، أسرع قطار في العالم، ثلاثمائة وخمسون كيلومترًا في الساعة. العربة مكيَّفةٌ منمَّقةٌ فاخرة المقاعد والمناضد. أنظر من النافذة فأكاد أدوخ من الإحساس بالسرعة. الطائرة أسرع، ولكنك تقيس سرعتها بحركتها فوق السحاب؛ تلك الحركة غير المحسوسة، ببطء تُقبل السحابة، ببطءٍ تعبُرها الطائرة، ببطءٍ أشد تنتقل من قمة جبل إلى قمة جبل آخر.
هنا أنت والأرض مباشرة، والسرعة من شدتها لا تجعلك تتبيَّن معالم ما تمرُّ به، وأنا أحب السرعة وأعشقها. أكثر ما يغيظني أن أنتظر أو أصبر أو يطول بي البال. السرعة هي البدء الآن والانتهاء الآن والظفر بالهدف أو العمل فورًا ودونَ زمنٍ سخيفٍ ممتدٍّ يحُول بينك وبين ما تريد. وأفرح أنا بهذا القطار الفرنسي السريع، اﻟ «تي في تي»، وهي الأحرف الأولى من كلمات القطار السريع جدًّا، أحد مفاخر فرنسا المعاصرة، الذي سوف يقطع المسافة بين باريس ومرسيليا (حوالَي ٨٠٠ كيلومتر) في أقل من ثلاث ساعات؛ المسافة نفسها التي يقطعها إكسبريس أسوان-القاهرة في ليلة بأكملها. عظيم!
قطارٌ سريع جدًّا، ركاب درجة أولى فاخرون، مناظر الريف الفرنسي تخلب الألباب، لا قُرًى هناك؛ فالأرض كثيرة وكبيرة، فلا حاجة للتكدس، وكل قطعة أرض يتوسَّطها منزل أمامه عربة (كارافان) للرحلات، وقاربٌ يُستعمل في العطلات، ولاندروفر وبيجو أو ستروان حسب الأحوال، الفلاحون في فرنسا أغنى بكثير جدًّا من سكان المدن. عظيم جدًّا!
أنا مدعوٌّ من وزارة العلاقات الثقافية الفرنسية لزيارة فرنسا والالتقاء بمن أشاء فيها. قابلتُ عشرات الكُتاب والمثقَّفين والناشرين والفنَّانين، ومعي مُرافقٌ من أظرف من عرفت، هوجو ديفيراند، أُمه إيطالية وأبوه فرنسي، ويُجيد سبع لغات، وهوايته التمثيل البانتوميمي الصامت، وفوق وجهه الذي ترتسم على صفحته باستمرار تعبيراتٌ إثر تعبيرات، تراجيديةٌ وكوميدية، مهرِّجةٌ مرةً ودراميةٌ مرةً أخرى، فهو يقوم بكل إجراءات السفر والإقامة والحجز؛ تلك التي تستهلك نصف متعة السفر. ليس عليَّ إلا أن أستلقي في «الفوتيل» المُريح، وأسرح أو أفكر، أو أسترجع أحداث ليلة افتتاح «الفرافير» في سكوبيا بيوجوسلافيا؛ تلك التي كنت فيها قبل مجيئي فرنسا، وأهضم على مهلٍ متعتي ككاتبٍ مسرحيٍّ مصري، ينفعل بروايته جمهورٌ غريب تمامًا على لغته وعلى حياته. عظيم جدًّا جدًّا!
ولكن الغريب أنه برغم أن كل شيء كان يدعوني للإحساس بالنشوة إلى الثمالة، فإني لم أُحِس بها أبدًا طوال ساعات السفر الثلاث؛ فقد كنت أفكر في مصر، أو بالأصح في المشكلة المصرية.
وكنت أفكر فيها بطريقةٍ جديدة تمامًا؛ إذ نحن قد تعوَّدنا أن نُناقش مشكلة مصر أو المصريين وكأنها شيءٌ غريبٌ مجرد، نتحدَّث عن مصر وكأنها شيءٌ آخر غير البلد الذي نعيش فيه ونملكه ومسئولون عنه، ونتحدَّث عن المصريين وكأنهم شعبٌ آخر، وعن مشاكل المصريين من تليفونات ومواصلات ومرور وعصبية وازدحام وانفجار سكاني، وكأن غيرنا هو الذي يُحدِث كل هذا ومسئول عنه. والمُضحِك تمامًا أن تجد مسئولًا كبيرًا في التليفونات يتكلَّم هو الآخر عن مشكلة التليفونات ويشكو منها وكأنها شيءٌ لا يمتُّ إليه، أو رئيسًا سابقًا لمرفق نقل أو مرور يتحدَّث عنهما وكأنها شيءٌ لا علاقة له بهما.
مصر هي أنا وأنت، والمشكلة المصرية هي مشكلتي ومشكلتك، فلنكفَّ الآن عن التعميم وعن التجريد، وعن الكلام عن بلادٍ أخرى وشعبٍ آخر، وكأن لا علاقة بينك وبينهما.
فما هي المشكلة المصرية بهذا المقياس؟
ما هي مشكلتك، وما هي مشكلتي؛ فمشكلتنا هي بالضبط المشكلة المصرية.
يبدو أن سرعة القطار الصاعقة، ودقة كل شيء، وانضباط كمسارية القطار ومُوظفيه ومُضيفاته، هي التي صنعت لي خلفيةً جديدة أُسقِط على صفحتها مصر التي «في خاطري وفي دمي»، وأرى ماذا حدث لنا بالضبط، ولماذا يحدث ما يحدث لنا، وهل لنا مكان في الحاضر والمستقبل، أم أن المسألة المصرية حالةٌ ميئوس منها؛ فقد درَجْنا أن نقرأ لإخواننا الكُتاب والصحفيين والرحَّالة وصفًا للبلاد التي يزورونها، ولدقة المواعيد وانضباط كل شيء، ومقارنةً لا مَهرب منها بين ما يحدث هناك وما يحدث لنا وبنا وفينا هنا؛ مقارنةٌ ليست فقط مُجحفة، ولكنها قطعًا تدفع إلى اليأس الكامل المُطبِق.
ذلك أنهم يرون نصف الصورة فقط، ولا يرونها في كلها المُتكامل. والصورة في كلها المُتكامل ليست طائرات وكمبيوترات ومُنجَزات، الصورة الحقيقية هي إنسان؛ هذا القطار المَهول السريع فكَّر فيه إنسان، وابتكر أجزاءه إنسان، وركبه وصنعه إنسان، وثَم إنسان يُشغِّله؛ إنسان مثل عاملة البوفيه تلك، حيث ذهبنا أنا وهوجو نُمشِّي أرجُلنا، ونتناول قدَحَين من القهوة الفرنسية المشهورة، كان عدد المُلتفِّين حول البوفيه لا يقلُّ عن الثلاثين شخصًا، تُلبِّي طلباتِهم جميعًا فتاةٌ لم تكفَّ عن الابتسام طوال الرحلة، ولم تكُن ابتسامةً واحدةً ممطوطة ومُلصَقة فوق ملامحها كالقناع الزائف، كانت ابتسامةً مُتغيرةً حقيقية؛ فهي تختلف إذا وجَّهتها إلى شابٍّ في مثل سنها، عنها إذا أجابت بها طفلة أو عجوزًا، أو ضيفًا مثلي مُتعثِّر الفرنسية يطلب منها أن تتحدث في بطء ليستطيع مُتابعتها. ظللتُ واقفًا فترةً طويلة جدًّا أُراقبها كيف تُلبِّي طلبات الزبائن في لمح البصر، بحيث يفرغ البوفيه ويمتلئ والطلبات لا تتوقَّف، وكذلك سرعتها في الاستجابة، ثلاث ساعات خدمت فيها ما يقرب من الثلاثمائة مسافر، وابتسمت ثلاثمائة مرة، وضحكت عشرات المرات، وكان واضحًا تمامًا أنها سعيدة جدًّا بما تعمل. وهناك، حين أوشك البوفيه أن يفرغ، ولم يبقَ على مرسيليا إلا بضع عشرات من الكيلومترات، وقفت في جانب من البوفيه، وتناولت حقيبة يدها، وأخرجت علبة سجائر، تناولت واحدة منها وأشعلتها لأول مرة منذ أن بدأنا الرحلة. راقبتُها وهي تُدخن أيضًا. كان واضحًا أنها مُدخنةٌ عويصة، وأنا مُدخن أيضًا، ولكن لا تستطيع قوة في الوجود أن تُبقيني لمدة ثلاث ساعات بلا تدخين، أكانت متعتها في العمل إذن أكبر بكثير من متعة المُدخن بسيجارته؟!
لا بد أن لذلك قصة.
والقصة من صميم تراثنا الشعبي القصصي.
•••
تبدأ بأن مرَّ رجل على نجَّار يعمل في الدور العاشر لإحدى العمارات الجديدة، وهو يُركِّب الشبابيك والواجهات، ويُغنِّي بصوتٍ مُنطلِقٍ جهور هو الذي استوقف الرجل، وجعله يتأمَّل ذلك الصنايعي المُندمج في عمله إلى حدِّ النشوة والغناء.
والقصة تقول إن الرجل المارَّ انتهز فرصة توقُّف النجَّار عن الغناء، وسأله: هي شغلة ولَّا خلو بال؟!
فألقى النجار عليه نظرة من عليائه، وقال له بثقة لا حد لها: شغلة طبعًا، أنا راجل صنايعي قد الدنيا. فتركه الرجل، وذهب إلى السوق، واشترى «سبَتًا» ملأه باللحم والخضار والفاكهة، وأعطى صبيًّا بضعة قروش، ووصف له بيت النجار ليُوصل السبَت إلى الزوجة قائلًا لها: إن الأسطى النجار هو الذي أرسله. وتمضي القصة تقول إن النجار عاد في المساء ليجد رائحة الطعام الشهي تملأ الشقة، وكمًّا ضخمًا من مختلف الفواكه يملأ سلةً فوق طرابيزة السفرة، فاندهش تمامًا، وسأل زوجته من أين لها بهذا كله. قالت: ألستَ أنت الذي أرسلته؟
– أنا لم أُرسِل شيئًا. من أين لك هذا؟
– منك. الولد جاءني ومعه السبت، وقال إنك أرسلته.
وهاج النجار وماج، وكانت ليلة ليلاء مليئة بالاستجواب والاستنكار والشجار.
وفي اليوم التالي تقول القصة: إن الرجل عاد إلى موقع العمارة، فوجد النجار في مكانه من الدور العاشر، هذا صحيح، ولكن كلما أمسك بإطار نافذة ليُركبها سقط منه الإطار وتدشدش، كلما حاول أن يدقَّ مسمارًا دق الشاكوش إصبعه، وبالطبع لا غناء ولا صوت يُلعلع.
– السلام عليكم.
قالها المارُّ، فنظر إليه النجار من عليائه، وقال له: هو أنت؟ ابعد عني.
فقال الرجل: لا أبعد عنك حتى تُخبرني: أهي صنعة أم خلو بال؟
فسبَّه النجار وأمره بالذهاب، فما كان من الرجل إلا أن قال له: أنا الذي أرسلت الولد بالسبَت إلى بيتك؛ لأُثبِت لك أن المسألة ليست صنعة، ولكنها خلو بال.
وهنا، وهنا فقط، وبعد أن تأكَّد النجار من أن الرجل هو الفاعل، وأن زوجته بريئة، عاد إليه انتظام عمله، وشيئًا فشيئًا بدأ يُتقنه، ثم في النهاية بدأ يُدندن بمَطلع موَّال.
•••
إذن هو خلو البال، خلو بالي وبالك؛ تلك هي المشكلة المصرية. أبدًا ليست اقتصادية وإن كان الأزمة بعضها اقتصادي، وليست سياسية وإن كان بُعدٌ من أبعاد الأزمة سياسيًّا، وليست غلو أسعار وثراءً حرامًا، أو حلالًا يُقابله فقرٌ حرام، وأبدًا غير حلال.
المشكلة أن كل مصري باله غير خالٍ، والمشكلة أن المصريين ومنذ أن بدأ يحتلُّهم الهكسوس ثم الفُرس ثم الإغريق والرومان والعرب والمماليك والأتراك والفرنسيون والإنجليز والإسرائيليون، بالُهم غير رائق بالمرة.
ليس فقط بسبب ما يُحتِّمه الاحتلال وتعسفه، من ضرورة حشد الجهد للمقاومة والتخلص من المُحتل أو الغاشم، وإنما، وهذا هو الأهم، بسبب أن الوضع باستمرار، سواء أكان وضع مقاومة أو وضع استسلام، هو وضعٌ مُقلِق، لا يطمئنُّ فيه أحد على ما يمكن أن يحدُث غدًا، هو وضع عدم «خلو البال».
حتى إذا أخذنا تاريخنا القريب؛ فما يُسمَّى بحركة الازدهار السياسي والثقافي والوجودي في الستينيات، لم يكُن إلا مرحلةً قصيرة جدًّا من تاريخنا المعاصر بدأ فيها بال المصري يخلو من القلق على الغد؛ فبدأ يُنتِج ويطمح ويحلم ويُتقِن، ويُجهِّز نفسه لحكم على شاكلة النظام الناصري القائم آنذاك لفترةٍ طويلةٍ مُقبِلة، حيث أصبح جميع المصريين بشكل أو بآخر يعملون لدى الدولة، وحيث تكفَّلت الدولة بإعاشتهم وإسكانهم وتعليم أولادهم وعلاجهم من ناحيةٍ أخرى.
ولكن العالم لم يترك المصريين في حالة خلو البال تلك؛ ما لبث عدوان ٦٧ وهزيمته المُنكَرة أن أفاقت المصريين من خلو بالهم، وأصبح عليهم أن يُقلَق بالهم مرةً أخرى قلقًا بشعًا؛ فقد ثبت لهم أن النظام الذي ارتكنوا إليه وارتضوه ليس هو النظام الأمثل، وأن عليهم أن يُغيِّروا كل شيء مرةً أخرى.
ثم جاءت السبعينيات.
تحمل معها مفاجأةً مُذهِلةً ثانية؛ فقد فضَّت الدولة المصرية يدها من المسئوليات الاشتراكية المعيشية، وأشرفت سفينة القطاع العام على الغرق، وكان على كلٍّ أن ينجو بنفسه، وبعد اطمئنانٍ كامل للعمل العام وللتعليم العام وللصحة العامة وللضمان الاجتماعي العام، أصبح على كل واحد منا أن يُصارع أمواج البحر المفتوح الفم ليُنقذ نفسه وأولاده من الغرق اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو اقتصاديًّا.
وحدث في مصر أغرب حدث؛ تجربةٌ رأسماليةٌ جديدةٌ مُنفتحة أكثر ممَّا يجب بكثير، عقِبَ تجربةٍ شبهِ اشتراكية مُنغلقة أكثر ممَّا يجب بكثير، مع أن المفروض أن يحدث العكس، وأن تأتي الاشتراكية بعد الرأسمالية؛ ولهذا كان طبيعيًّا أن تنشأ طبقةٌ رأسماليةٌ طفيلية تعتمد على اللارأسمال؛ النهب مرة، التهرب، التهريب، المُخدرات، القومسيونات، استغلال النفوذ والوظيفة؛ رأسمالية في معظمها غير مُنتِجة، قسَّمت المجتمع بساطورٍ مُفاجئٍ هائل إلى مليونيرات وأناس بالكاد يحيَون.
كيف يتأتَّى للمصري أن ينعَم بخلو البال إذن؟
هو إذا كان غنيًّا إما أنه غنيٌّ بجهده وذكائه، وغيرُ مطمئنٍّ على ما يجيء به الغد، وخائفٌ أن تعود قصة التأميمات مرةً أخرى؛ وإما غنيٌّ بالفهلوة والسرقة، خائفٌ أن يأتي يوم الحساب ويوم السؤال العظيم: من أين لك هذا؟
وإذا لم يكن المصري غنيًّا وكان فقيرًا، فإن مسئوليته أن يعيش فقيرًا في مجتمعٍ يبيع له البيضة الواحدة باثنَي عشر قرشًا، وكيلو اللبن بسبعين قرشًا، مسئوليةٌ لا تشغل بال أي فقير، ولكن تُحِيل باله إلى جهنم. يوميةٌ مستمرة لا تُراوده فيها إلا فكرة البقاء يومًا بيوم. وحتى الحِرَفي الذي يكسب المئات، اليوم غير خالي البال أيضًا؛ إذ يشغله ألا تستمرَّ المئات في التدفق، وأن ينقطع السيل ويجد نفسه مرةً أخرى «على الحديدة». حتى من هو خارج مصر، يعمل ويكسب، يشغل بالَه فكرةُ ماذا سيحدث له غدًا؛ هل يعود بقروشه إلى مصر أم يتغرَّب وتتشتَّت أسرته، وتنحلُّ في النهاية وقد اقتُلعت جذورها من مجتمعها الطبيعي.
المثقَّف، أستاذ الجامعة، الطبيب، المحامي، باختصارٍ كلُّ من هو أنا، وكل من هو أنت، بالنا غير خالٍ.
وكل شعوب الدنيا وأناسها بالهم غير خالٍ؛ فلا يوجد مجتمع ولا إنسان خالٍ من الهموم والقلق والمشاكل.
ولكن الفرق أن بالنا غير خالٍ بمشكلةٍ هائلة، هي مشكلة وجودنا نفسه؛ على أي صورة سيكون؟ وليس وجودنا البعيد، إنما الوجود القريب جدًّا، غدًا أو العام المُقبِل أو الذي بعده. ليس هناك اطمئنان على المستقبل لدى أيٍّ منا.
تلك هي المشكلة المصرية في تبسيطها، وأيضًا في حقيقتها الشديدة الوضوح.
ويُخيَّل إليَّ أن جزءًا كبيرًا من تصريحات المسئولين التي تُحاول أن تنفي إشاعات التغيير المُتوقع في الاقتصاد أو الإدارة أو القطاع العام أو الدعم، سببها الأكبر محاولةٌ حقيقية لتطمين بال المصريين إلى المستقبل؛ حتى يعيشوا يومهم هذا، ويعملوا عمل اليوم الذي لا بد منه لكي يكون لنا مستقبل، بل حتى ليكون لنا حاضر، ولكن التصريحات — في أحيان — تُثير في النفوس القلق، مع أن القصد منها يكون هو التطمين.
•••
وأمامي مثلٌ واضحٌ حي: هوجو ديفيران؛ ذلك الشاب الذي يعمل في وزارة العلاقات الثقافية الخارجية ﺑ «القطعة»؛ فهو ليس موظفًا ثابتًا بها، وإنما لأنه يُجيد اللغات الإنجليزية والإيطالية والإسبانية وغيرها يضعونه فقط على قائمة من يستعينون بهم من المُرافقين والمُترجمين. شابٌّ يرتدي بدلةً واحدة لم يُغيِّرها، وفي الشتاء ليس لديه مِعطف أيضًا، وإنما يكتفي بوضع كوفية حول رقبته. حدَّثني طويلًا عن الشقة الحجرة الجديدة التي استأجرها، وكيف أنه يطليها بنفسه. يقرأ جريدة الليبراسيون بنهَمٍ شديد، ولا يُطيق الموند أو الفيجارو أو الأومانيتيه. درس التمثيل البانتوميمي، ويعمل بالقطعة أيضًا في بعض المسارح؛ بمعنى لا عمل ثابت له. لا يُقِيم مع والدَيه (وهما من عائلةٍ أرستقراطيةٍ معروفة)، وإنما تركهما ليعيش بمفرده، ويصرف على نفسه. تزوَّج في سن العشرين، وطلَّق بعد عامَين، وهو يتحدَّث عن مُطلَّقته وكأنما يتحدَّث عن صديقٍ ودودٍ قديم.
لا دخل ثابت، ولا عمل ثابت، لا حياة ثابتة، ومع ذلك فهو مغرِّد دائمًا، مثقَّف جدًّا، حتى إنه ذكر لي أن تمثال الحرية المشهور في أمريكا أصله تمثالٌ فرنسيٌّ أصغر من فرنسا. وليؤكِّد لي هذا، أرسل لي منذ أسبو ع صورةَ تمثال الحرية الفرنسي.
برغم أن كل شيء يُشير ويؤكِّد أن هذا الشاب باله غير خالٍ أبدًا، وأنه حتى لا يضمن له عملًا أو حياة ربما خلال الأسبوع المُقبِل، فإنه كان يعمل معي بهمةٍ لا تعرف الكلل، وكأنه هو وزير العلاقات الثقافية المسئول، وكنت إذا سألته عن شيء ولم أجد لديه إجابة، في اليوم التالي أجد أنه قد عثر على الإجابة في كتابٍ مضى يقرؤه إلى ساعات الصباح الأولى. وأقصى نزوة تعنُّ له أن يدخل السينما، ما إن يجدني مشغولًا لبعض الوقت حتى ينسلَّ إلى أقرب سينما. وعمره ثلاثون عامًا، وباله رائق تمامًا.
وفتاة البوفيه التي هبطت معنا في محطة مرسيليا، وكانت قد انخرطت في الحديث مع هوجو، وكان علينا أن نبقى في المحطة لمدة ساعة ننتظر القطار الذاهب إلى أكس أن بروفانس مقر الجامعة الفرنسية العتيدة؛ هذه الفتاة أجريتُ معها حديثًا «صحفيًّا» واسطته هوجو، وإذا بها برغم الهمة الرهيبة والنشاط الباسم والسعادة الحقيقية التي ترتسم على مُحيَّاها وهي تعمل، ستعمل في ذلك القطار لمدة شهر واحد قادم فقط؛ إذ إن عقدها ينتهي حينذاك.
– وبعد هذا؟
– لا شيء، إني منذ الآن أبحث عن عملٍ آخر.
– كيف؟
– أقرأ إعلانات الوظائف، أسأل الأصدقاء، أكتب لبعض الجهات.
– وهل من إجابة؟
– لا جواب إلى الآن.
– متزوجة؟
– لا.
– مخطوبة؟
– لا.
– لك صديق؟
– نعم.
– ثابت؟
– لا.
وفجأةً وجدتني أسألها بفرنسيةٍ سريعةٍ صحيحة، وكأنما ادَّخر عقلي الباطن الجملة من حصيلة الفرنسية القديمة التي تعلَّمتُها في ثانوي وأهملتها: إذن لماذا كنت تعملين بكل تلك الهمة والسعادة، وأنت ستُغادرين شركة القطارات السريعة جدًّا بعد شهر؟
•••
وإذا كان ثَمة نموذجان يُجسِّدان عدم خلو الباب الشخصي، فهما هوجو وتلك الفتاة، وغيرهما ملايين، لا أحد في هذا العالم خالي البال تمامًا، ولا يمكن أن يوجد طالما هو إنسان.
إذن ما الفرق بين عدم خلو بالنا وعدم خلو بالهم؟
ولماذا يذهب كلٌّ منا للعمل وبوزه شبرين، ويعود وبوزه أربعة أشبار؟
لماذا يعمل كلٌّ منا وكأنه محكوم عليه بالعمل، حبذا لو فرَّ منه، أو أجَّله أو نام في أثنائه؟
الفرق الرئيسي الذي أدركتُه في تلك اللحظة وأنا جالسٌ أتثاءب في محطة مرسيليا مع هذا الشاب وتلك الفتاة، التي أسعدها تمامًا أن ندعوها لشراب وتُحادثنا بعد كل هذا الذي قاسته في رحلة القطار، الفرق أن عدم خلو بالهم هو عدم خلو بال فردي.
أما عدم خلو بالنا فهو عدم خلو بال جماعي.
وهذا شيءٌ مختلف تمامًا، وله حديثٌ آخر.