حين يتعانق المجد والموت
جفَّت الأقلام، وطُويت الصفحة، وانتهت القصة.
واحدة من غريبات قصص الحياة.
طفلٌ فلَّاح مصري يتيم، كان مفروضًا أن يموت بالبلهارسيا في سن العشرين، ولكن بإرادة الفلاح المصري، الذي وكأنما اعتزم منذ أن وُجد على سطح الأرض أن يحيا إلى نهايتها، كافح اليتيم الفقير، ودأب، وجد، وجاع، وتشرَّد، وتعلَّم الموسيقى، لماذا الموسيقى؟ لأنهم كانوا في ملجأ الأيتام الذي تربَّى فيه يكونون فرقة موسيقى سماعية اشتهرت بها دائمًا تلك الملاجئ. وجاء إلى القاهرة وإلى الإسكندرية، وجاب الشوارع والأزقة والمدارس والقعدات، وبضربة حظ من هنا، وإرادة وصول من هناك، غنَّى لأول مرة للآلاف، ومنذ أن سمعه الناس أول مرة ارتفع فجأة من حيث كان إلى أعلى مراتب الغناء في مصر.
جاء صوته ليُعبر عن عصر ثورة قامت، وجيلٍ شابٍّ طامح مُتحمس، والتهاب أمة، فيه الحلاوة من عبد الوهاب القديم، والرقة من دقة الإحساس وطفولة المُعاناة ومُعاناة الطفولة، فيه رنة الفقر الأبي الشامخ، وتواضُع المصري المُتحضر عن إدراك أنه الأحسن، وفيه، وهذا هو الأهم، وقعٌ جديد؛ وقعُ العصر والمعاصرة، وقعُ الحياة حين تدور وتطرح إلى الوجود عالمًا لم يكن موجودًا في حاجة إلى نغمةٍ تُنظم إيقاعه، في حاجة إلى زفرته الخاصة، ولهفته الشخصية، وتعبيره عن حبه بطريقته الجديدة، لا حبًّا للمرأة فقط، إنه الحب للحياة كلها في شمولها ورحابها وامتدادها، حب جيل طامح عنيد، حب يُغنِّي الحب كما يُغنِّي الثورة، يُغنِّي لتماثيل الرخام على الزراعية مثلما يُغنِّي للمصير المجهول في قاع فنجال بُن محروق، يُغنِّي للحظ والدنيا والنجاح، يُغنِّينا، نصرًا يُغنِّينا إذا انتصرنا، نكسة يُغنِّينا إذا انتكسنا، قرارًا اتخذنا، يُغنِّينا مأساة عِشنا، يُغنِّينا مرحًا مرحنا، فرحًا فرحنا يُغنِّينا.
ومنذ الطفولة كان الموت قد بدأ يدبُّ فيه على هيئة تليُّف الكبد الناتج من بلهارسيا أمرضتنا لسبعة آلاف عام، وأخشى أن تظل تُمرضنا للسبعة آلاف عام القادمة.
وفي صدر الشباب كان وسيمًا، ولكن أحدًا لم يكن يرى الشيء الأخطبوطي القبيح داخله؛ المرض.
وبدأت الأعراض.
وشيئًا فشيئًا بدأت أيدي الأخطبوط وأظفاره تزحف من الداخل إلى الوجه الصَّبوح المليح في الخارج.
وبدأت قصة الأطباء وتانر ولندن واللهفة على صحة عبد الحليم.
•••
ولكن وراء هذا كله كانت قصتنا بطولةً نادرة.
بطولته كفنَّان، إنه كان موهبة من المستحيل أن تحدُث أكثر من مرة في جيلٍ واحد، أو عدة أجيال، وكان يعرف هو — بذكائه الغريزي الهائل هذا — ويُدركه ويستثمره ويُطوره، ويريد أن يصل بصوته وغناه إلى الموسيقى العذبة الكاملة في إطلاقها وتجريدها حتى لتتكرَّر مرةً ومرة، ولها في كل مرة مذاقٌ مُفاجئ جديد، وقشعريرة استجابة طازجة.
أما بطولة عبد الحليم الإنسان، فهو أنه برغم كل ما به، برغم إدراكه المُبكر أنه كسيزيف حامل صخرة الفن والحياة، وفي داخله يحمل الصخرة الأثقل، صخرة المرض، كان قد وطَّن نفسه على أن يظل يصعد بالصخرتَين الهائلتين سطح الجبل بأسرع وقت وأشق جهد، وبخطواتٍ يُحمسها اليأس، ليس فيها سوى شعيراتٍ قليلة من الأمل كي يصل إلى القمة؛ قمة المجد وقمة الوصول، وكان يعرف ويُدرك تمامًا أن الموت رابضٌ له عند هذه القمة، ومع ذلك ظل بالصخرتَين يئنُّ ويصعد إلى المجد والموت معًا.
بطولته أنه — وهذا هو الغريب — لم يكُن به شذوذ الفنانين ولا تقاليعهم، كان وكأنما هو إنسانٌ مثلي ومثلك، إنسانٌ منا تمامًا، فيه كل خبثنا ودهائنا وشهامتنا وخورنا وشجاعتنا، ولكنه ينفرد عنا بقدرته أن يُغنِّينا.
بطولته أنه وهو يتلوَّى من العذاب ألمًا كان في نفس اللحظة يتلوَّى اندماجًا سعيدًا ليُسعدنا.
بطولته أنه كان في الداخل يبكي نفسه وحظه وقدره الإغريقي التعِس، وبكل ذرة في كيانه يُحيل بكاءه إلى ابتسامات سعادة على وجوهنا، ويُشعرنا بالحياة أقوى ما تكون الحياة.
بطولته أنه كان، وفي أعمق أعماقه، كان يائسًا تمامًا، كم من مرة صرَّح لي بهذا، ولكنه كان أملًا لنا، أملًا صادقًا كان يُغنِّي، صادقًا إلى درجةٍ يبعث فينا، هو الميت يأسًا، الحياةَ أملًا.
بطولته أنه جمَّل حياتنا خلال خمسة وعشرين عامًا بمشاعر جاءتنا كالغيث الجديد يروي فينا جدبًا كنا نُحسه، ويهمس لنا بأوهى وأرق وأعمق الانفعالات، وكأنه يغور فينا بصوته الحنون إلى أن يجعل كلًّا منا يُغنِّي رقته الخاصة وآهاته الخاصة وانفعاله الخاص.
هز أعماق الحياة في وجودنا هزًّا، و«مسق» حياتنا؛ صِبانا ونحن طَلقى كالعصافير، شبابنا ونحن نرود وِديان الحب والهجر، ونمسح دمعة الفرحة لنُتبعها بدمعة اللوعة، رجولتنا ونحن نبني، ونحن نغار، ونحن نُقاتل، ونحن نعشق عشق الكبار، تفاؤلنا إذا بسمت لنا الحياة، تشاؤمنا إذا أخافنا الواقع الحاضر، أملنا حين يُداعبنا وكأنه أحلام ما قبل اليقظة، أحلام النشوة تفتح عينَيك بعدها لتبدأ يومًا حافلًا باسمًا جديدًا، كأنه أبدًا ما مرَّ بك ولن يمرَّ بك.
بطولته أنه فعل هذا كله برغم أنف الأخطبوط المُتوحش الزاحف من داخله، ينهشه، يسحب رحيق الوجود من وجوده، ييبس جلده وملامحه حتى ليصبح كالبلحة «البريمو الجافَّة»، ولكنها جافَّة ليس جفاف النضج، وإنما جفاف العدم، وبرغم هذا فالأخطبوط يُحاصره من الداخل، ومن الخارج تبقى حنجرته، حِصنه القوي المانع المُتفرد، قويةً وكأنها تستمدُّ قُواها من قوة الخالق، ناضجةً كأجمل وأروع ما يكون النضج، منتصرةً حتى والجسد مُنهَك ومسحوق ومهزوم، حنجرة على وقعها نحيا، ونُغنِّي ونحن نحيا، ونحيا ونحن نُغنِّي، تُسعدنا وصاحبها أحوج ما يكون إلى ومضة سعادة، تُبكينا ثم تُفيقنا من بكائنا على صوتها الرنَّان المليء بالرجولة والأنوثة والطفولة والصِّبا والشباب والشيخوخة: أي دمعة حزن لا، لا، لا.
وهذه هي بطولة الفنان الحق؛ إذ هي دور الفنان الحق، دور الفن، الفنان، الفاني ليُبقينا، الذاهب لنعيش نوجد، المنتهي لنظل نحن نستمر.
•••
اليوم نستقبل العندليب الأسمر، العندليب الذي مات وضمَّه صندوقٌ صغير بعد أن تذاوى جسده، وسقط معظم ريشه، ولم يبقَ منه سوى هيكل شادي الطبيعة الخفَّاق.
احتبس الصوت في حلقه الجاف، وزحف إلى الزائد إلى صدر يُغرقه، واختنق النغم في حلق العندليب ومات.
ولكنه اختنق في الجسد المسجَّى الصغير الضيق لينطلق إلى فسيح الزمان والمكان، إلى كل مكان وزمان، إلى الأبد.
فقد كان قطعة من الصدق في فنه.
وحين يموت الرسَّام تتضاعف مئات المرات أثمان لوحاته.
وحين يموت الكاتب تصبح لكلمته وقعُ القدسية.
وحين يموت المُغنِّي يصبح صوته أثمن أمانة في عنق الأبد؛ إذ هو صوت لن يعود ولن يتكرَّر، ولن يزيد ولن ينقص.
جفَّت الأقلام إذن، وطُويت الصفحة، وانتهت القصة.
القصة التي ظل الناس حيالها لأكثر من عشر سنوات يُدركون أن نهايتها حانت، ولكن بطلها الحليمي ظل يُقاوم النهاية إلى نهاية النهاية، إلى أن بدأنا نشكُّ في قصة المرض نفسه، ونفترض فيه الوهم أو الخلود أنه مرض سيدوم إلى الأبد.
ولكن الكارثة أن المرض أبدًا لا يدوم إلى الأبد.
في لحظة لا بد أن تحلَّ النهاية فاجعة رهيبة وكأنها المفاجأة، مع أننا ظللنا نحياها العديد من السنين.
ذلك أن نهاية الحياة، حتى وإن تأكَّدنا منها، إنما تأتي، كالموت، صاعقةً ومفاجئة وغادرة.
مات العندليب الصغير الأسمر، ليحيا العندليب الكبير الأبيض، عندليب الخلود عندليبنا، عذوبته من عذوبتنا، وأنغامنا الكامنة خلقت أنغامه.
وما دُمنا نحيا فسيظل يحيا.
فالذي مات هو الحنجرة.
والذي سيحيا هو النغم الخالق المُبدع الخارق الممتد دائمًا عبر الزمان والمكان والأجيال.