لماذا البال غير خالٍ؟
وهل معقولٌ أن يكون عدم خلو البال، حتى لو كان جماعيًّا، هو المسئول عمَّا نحن فيه الآن؟
وماذا يكون عدم خلو البال بجوار ما نُواجهه من مشاكلَ حادَّةٍ وصعوباتٍ حقيقية، وواقع لا بد أن نأخذ به قراراتٍ فوريةً وحاسمة؟
وعشرات الأسئلة ممكنٌ أن تُطرَح لتهوِّن من شأن هذه الكلمة البسيطة «عدم خلو البال»، باعتبار أن الإنسان في كل وقت وكل آن، وحين يريد، يستطيع أن يُخلي باله من كل شيء، ويُعيد عقله صافيًا مُستعدًّا للتفكير واتخاذ القرار.
ونحن في هذا مُخطئون أيما خطأ؛ فالترمومتر المخدوش أو المكسور لا يمكن أن يقيس الحرارة، والكمبيوتر إذا اختلَّ منه «نصف موصل» واحد يفقد قدرته على العمل، بل إن الكمبيوتر نفسه، وهو آلة، لا يمكن أن يعمل إلا في ظل درجة حرارة معيَّنة مكيَّفة، وهو خالٍ تمامًا من التلوث والغبار، فما بالك بالإنسان؟!
ذلك الإنسان الذي نسينا من كثرته وازدحامه في مصر، أنه كائنٌ حساس تمامًا مُرهَف جدًّا، يمُوج عقله في اللحظة الواحدة بعشرات وآلاف الخواطر الواعية وغير الواعية، ملايين الكهارب تتصل وتنفصل، والجزئيات تتكون وتؤدي دورها وتتغيَّر إلى جزئياتٍ أبسط.
إن «الأميبا» أو الكائن ذا الخليَّة الواحدة، يُحِس الضوء وينجذب للطعام وينقسم ويتوالد، وفيه كمٌّ من الذرَّات والجزئيات بعدد وأبعاد النجوم والكواكب، والإنسان بلحمه وعضله وعظامه وجلده شبه الحي وأظافره يُحِس ويُدرِك، ويشحن كل ما يُدرِكه ببدائيته إلى العقل البشري؛ تلك الكلمة الجبَّارة من أرقى ما وصلت إليه الحياة في تطوُّرها، من قدرة على الوعي بذاتها وبالمادة من حولها؛ المادة التي تعي بالمادة، وتؤثِّر على المادة، وتُشكِّل المادة، وتُحطم المادة إذا أرادت، وتُحطم حتى ذرَّاتها.
هذا الإنسان.
وكلنا ذلك الإنسان.
كيف يعمل؟
كيف يحسبها ويختار؟
كيف يتخذ القرار؟
لا أريد أن أدخل في تفاصيل علمية كثيرة تهمُّ المُتخصصين ويطول شرحها، ولكن لا بد أننا كلنا نتفق على أن هذا الصقل البشري لا يمكن أن يعمل بكفاءة وهو محموم مثلًا، أو مسمَّم، أو لا يصل إليه غذاء أو أكسجين كافٍ.
وكذلك أيضًا لا يمكن أن يعمل ويفكر في حل معادلة رياضية وهو في حالة رعب، بل حتى القلق يُخمد كل قُوى العقل، ويُربِك الكهارب والشحنات، ويُبلبِل الإنسان تمامًا.
وما عدم خلو البال سوى حالة من القلق.
والقلق ليس أبدًا شيئًا مرضيًّا، على الأقل في جرعاته القليلة؛ إذ هو الذي يُحفز الكائن البشري، ويستفزُّ قُواه العقلية ويُنبهها، ويدفعها لإعمال الفكر وإيجاد الحلول.
ذلك هو القلق الخلَّاق.
أما إذا زادت جرعة القلق، فالنقيض تمامًا يحدُث؛ تبدأ قدرات العقل تقلُّ، وسُلَّم النضوج البشري يتناقص، حتى يستحيل الإنسان في النهاية إلى طفل أو ما يُشبِه الطفل، يطلب العون ممَّن يتصوَّر أنه أبوه أو أخوه أو أمه.
فإذا استغاث هذا الطفل الفعلي بالعقول من حوله، متصوِّرًا أنها عقولٌ كبار باستطاعتها نَجْدته، ووجد أن من يستغيث بهم أطفالٌ مثله، أو بالأصح عقول كعقله، وأنها هي الأخرى قلِقةٌ ذلك القلق غير الخلَّاق، القلق المُحبِط المُظلِم، فإن خوفه يتحوَّل حينذاك إلى رعب، و«جبتك يا عبد المُعين تِعنِّي لقيتك يا عبد المُعين تِنعان»، تتحوَّل من موقفٍ سافر إلى وقفة «تولُّه» أو شلل لإرادة، وتنتفي تمامًا القدرة على إعمال الفكر أو أخذ القرار.
أو هذا هو بالضبط ما يمكن أن نسمِّيه القلق الجماعي، أو عدم خلو البال الجماعي الذي قيل إننا نُعانيه، وهو مختلف عن القلق الفردي في غيرنا من المجتمعات الغنيَّة؛ ذلك أن الفرد هناك يقلق، ولكنه يُحِس بأن المجتمع مستقرٌّ من حوله، مطمئنٌّ تمامًا إلى أنه إذا فقد الوظيفة فسيجد غيرها، وإذا فُصل عن عمله فمن الممكن أن يبدأ من جديد. المجتمع الغني الثابت الأول، حيث التيار البشري المنظَّم، الماضي قُدمًا إلى الأمام، يحملك ويدفع لك مرتَّبًا شبه كامل إذا تبطلَّت، ويوفِّر أمامك آلاف الفرص لتختار؛ ولهذا فأي مشكلة فردية تظلُّ فردية، ولا تصبح وباءً ينتشر كالحريق.
أما القلق الجماعي فيحدُث حين يفقد الفرد ثقته، ليس فقط في المجتمع، وإنما حتى في وجود الآخرين، مجرد وجودهم. في هذه الهرولة البشرية التي نحيا فيها، البطل هو من يظلُّ يُهرول، وسيِّئ الحظ هو من يسقط؛ فإذا سقط يسقط وحده، وربما داسته الأقدام.
بعد ركونٍ كامل إلى الدولة والمجتمع، عليك أنت اليوم وحدك أن تعيش وتظل حيًّا مهما علِق في رقابك من مسئوليات، إن لم تقُم بها فلا تنتظر عونًا من أحد.
في جوٍّ كهذا يشيع عدم الاطمئنان الخطير، لم تعُد مُطمئنًّا أن ما تسمعه هو الحقيقة، ولا أن الوعد وعد وأنه سيُنفَّذ، ولا أن الكلام كلام «رجَّالة»، ولا أن الزميل زميل والصديق صديق، وكأن الكل أطفال مذعورون فقدوا الأمان.
ولنتوقَّفْ طويلًا عند كلمة الأمان.
إذ وكأنما بالعقل الباطن كان المسئولون في السنين الماضية وإلى الآن، يلجئون دائمًا لاستعمال كلمة «الأمن» بمعنى «الأمان» في الحقيقة، الأمن الغذائي، الأمن الصحي، الأمن الإسكاني … وهكذا، وكأنما يريدون من المجتمع أن يهجع ويكفَّ بخياله أو تصرفاته عن الهرولة والذعر.
ولكن المشكلة أن العقول لا تهجع، والمجتمعات لا تسكن بمجرد استعمال الشعارات وترديدها.
الإنسان يهجع فقط ويطمئن حين «يُدرِك» بكل حواسه، وبكل ما يستطيع شحْذَه من قدرة على التفكير والخيال، أنه أمن فعلًا، حينذاك فقط تبدأ الحركة تعود إلى عاديتها في المجتمع، ويبدأ الإنسان يأكل بدل أن يأكل قلقًا، ويعيش الحياة بدل أن يقلق على الحياة، ويعمل عملًا مُنتِجًا بدل أن يقلق عملًا، وتكون النتيجة عملًا مُقلِقًا هو الآخر.
•••
والسؤال الكبير هنا هو: لماذا اجتاحتنا هذه الموجة غير الطبيعية من القلق العام؟
هل لأن الحاضر مُقلِق؟
هذا ليس صحيحًا؛ فحاضرنا اليوم أحسن بكثير ممَّا كنَّاه بالأمس، برغم كل ما فيه من أزمات.
أبدًا نحن قلقون لأن الحاضر يدعو إلى القلق وإلى عدم خلو البال؛ فالقلق من الحاضر في حد ذاته ليس قلقًا خطيرًا، إنه قلقٌ وارد وجائز، القلق الخطير حقيقة هو القلق على المستقبل ومن المستقبل. المستقبل هو مشكلتنا المُقلِقة الدفينة التي نادرًا ما نتحدَّث عنها، أو بالأصح نتحدَّث عنها بأعراضٍ مغلوطة؛ فنحن نشكو من أزمة المواصلات مثلًا، ولكن لو كان لدينا اطمئنانٌ تام على أن الأزمة ستُحلُّ بعد عام أو حتى خمسة أعوام، لَمَا شكَونا، ولتحمَّلْنا، ولكن كيف نطمئن ونحن نرى الأزمة تزداد يوميًّا أمام أعيُننا؟ ونقرأ عن حل للمشكلة بإنشاء مصنع للسيارات يُنتِج ستين ألف سيارة كل عام، نتصوَّر شوارعنا وقد أُضيف إليها كل عام ستون ألف سيارة، فنكاد نفقد الأمل تمامًا في حل أزمة المرور أو المواصلات، وقِسْ على هذا بقية المشاكل التي نشكو منها؛ إذ الواقع أننا لا نشكو منها اليوم، ولكن شكوانا سببها أننا لا نرى لها حلًّا في المستقبل.
إذ المستقبل هو مشكلتنا التي لا نعي بها.
نحن في الحقيقة حين نشكو ممَّا يحدث الآن نعبِّر عن تخوُّفنا من المستقبل؛ فالحاضر لم يتجاوز بعدُ حدَّ الخطر، وبإمكاننا أن نحلَّ مشاكله، ولكن لكي نتفرَّغ لحل مشاكل الحاضر لا بد أن «يخلو بالنا»، وبالنا يخلو فقط حين نطمئنُّ إلى المستقبل؛ ذلك أن الذي لا نعرفه عن الإنسان هو أنه كائنٌ مستقبلي؛ إذ هو الكائن الوحيد على ظهر الأرض الذي يعرف أن هناك مستقبلًا، وأنه قادم لا محالة، وأنه لا بد أن يستعدَّ لهذا المستقبل بالعمل في الحاضر، وبمعنًى آخر لا بد أن يُحيل الحاضر لخدمة المستقبل. وفي هذا المجال أتذكَّر الآن كتاب أحمد بهاء الدين الخطير «أيام لها تاريخ»؛ ذلك أن الكتاب الذي تأثَّر به جيلنا كله، والذي يقول في مقدمته: إن الفرق بين الإنسان والفأر، هو أن الإنسان كائنٌ ذو ذاكرة مُختزنة، تختزن الخبرات التي تحصل عليها في احتكاكها بالحياة، وتُعيد استعمالها عند تكرار الخبرة أو خبرة مُشابهة، على حين أن الفأر لا يختزن أبدًا، والدليل أنه في كل مرة أُغلقت عليه المصيدة، والدليل أنه في كل مرة يرى باب مصيدة يدخلها. وكان أحمد بهاء الدين يريد أن ينبِّه في ذلك الحين (في الخمسينيات) إلى ضرورة أن نعرف تاريخنا، ونجترَّ خبراته لنستفيد بها في حل مشاكل الحاضر.
وباستطاعتي أن أقول هنا، دون خطأ كبير، إن الإنسان أيضًا كما له ذاكرة تترسَّب فيها وتتراكم خبرات الماضي، فإن له رُؤًى للمستقبل لا بد من وجودها أمام عينَيه، وتُشكِّل بالنسبة له محطة الوصول الذي عليه أن يقطع الفيافي والمسافات للوصول إليها.
لا بد من هذا؛ فالحياة سفر رحلة عبر الزمان، وربما أيضًا عبر المكان؛ رحلة لستُ أنا الذي سوف أسافر إليها وحدي دائمًا أبنائي وأحفادي من بعدي، ومن الضروري للمسافر، لكي يسافر، أن يكون عارفًا أو على شبه يقين بالهدف الذي يريد الوصول إليه، فهل نحن مُدرِكون لمحطة الوصول؟
ألدينا فكرة عن محطة المستقبل، أم نحن كالراكبين في قطار المُفاجآت؟
وقطار المفاجآت بالمناسبة كان دعابةً ظريفةً درجت عليها سكك حديد الحكومة المصرية (أيام لم تكُن هيئة طبعًا)، وفي شم النسيم بالذات (كل سنة وأنتم طيبون) يركب الركاب القطار، ولا يعرفون أي بلد يقصد، دمياط أو الإسكندرية أو بورسعيد أو مطروح، لا أحد يعرف مهما حاول، وكانت محطة الوصول تبقى سرًّا لدى السائق وحده حتى يُفاجئ بها الركاب، ويصنع ذلك السر والمفاجأة جزءًا من المتعة بهذا اليوم الجميل يوم شم النسيم. ولا أعرف لماذا كفَّت هيئة السكك الحديدية عن تلك المفاجآت الحلوة، إلا أن يكون بالها هو الآخر «غير خالٍ».
ولكن حتى قطار المفاجآت قطار مفاجآت سارَّة تنتظرنا، ونعرف ونُدرِك أننا سنسعد بها مهما كانت محطة الوصول.
ولكن، نركب قطار الحاضر، وبدلًا من أن يصل بنا إلى الإسكندرية حيث النسيم العليل، نجده قد أوصلنا إلى أسوان حيث درجة الحرارة فوق الأربعين؛ فتلك هي المفاجأة غير السارَّة حقًّا. وأن نركب قطارًا لا خوف إذا كان في نهايته متعة أم تعاسة، مسألة لا بد أن تُقلِق بال الركاب تمامًا، بحيث لا تجعل لهم لحظة «خلو بال» أو استمتاع بالرحلة أو بالمنظر أو بأي شيء.
المستقبل هو مشكلتنا ومبعث قلقنا والغيوم المُسدَلة فوق أعيُننا، وليس الحاضر أبدًا.
أو بالأدق ليس الحاضر إلا بمقدار ما يُغيِّم المستقبل ويُحيله إلى شيء غير ممكن التنبؤ به، وغير ممكن الاطمئنان إليه؛ ومن ثَم التفرغ لحل مشاكل الحاضر.
وإلى حديثٍ أعمق عن ذلك المستقبل.