فلنُصرحْ بتخوُّفاتنا من المستقبل
نعم، كما أن الإنسان كائن له تاريخ، فالإنسان كائن له مستقبل، وما الحاضر إلا الحلقة التي تربط الماضي بالمستقبل.
مجرد حلقة.
والمُتمعن في حاضرنا يجد أنه يحمل كل أعراض الحالة التي يمرُّ بها البشر حين لا يعودون مطمئنين إلى مستقبلهم.
تلك الدعاوي والنزعات التي تَهِيب بالناس العودة إلى ما كان يفعله الآباء والأجداد، بل وحتى الفراعنة، والحديث عن حضارةٍ ذات سبعة آلاف عام.
هذه الالتفاتة الخلفية السلفية سببها الوحيد أنه لا شيء يبرق أمام أعيُننا المستقبلية ويخطفها، فيدفعنا إلى الركض ناحيتها بكل حماس واندفاع، والعمل من أجل الوصول إليها.
هذه الدعاوي التي تبلغ في تطرُّفها حدَّ ألا ترى لنا مستقبلًا إلا في «الماضي»، أهي نزعاتٌ طبيعية؟ أبدًا، هذه ليست من طبيعة الإنسان؛ فالإنسان كائنٌ مدبِّر لأمور مستقبله مُدرِك له ولها، بل إن إسلامنا الحنيف يقولها بمنتهى الوضوح: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا. الدنيا هنا ليست فقط الحياة الدنيوية، ولكنها في صميمها أيضًا المستقبل.
وأن يصبح منتهى مستقبلنا أن نعود لماضينا، ليس إفلاسًا من الحاضر أو «تكفيرًا» له، وإنما هو في الحقيقة إفلاس من المستقبل، وتكفير لما هو آتٍ، وكأنما الآتي لا بد شرٌّ محتوم.
هذا الحنين الرهيب إلى ثورة عرابي والحزب الوطني، والوفد وسعد زغلول، وجمال عبد الناصر والسادات، وهو شيمة أناس «أفلسوا» من الحاضر والمستقبل معًا، ولم يعُد لهم من هم إلا البحث في «دفاترهم» القديمة. هذا السيل من الذكريات والمُذكرات، والتقليب فيما هو قد كان وكأننا وصلنا إلى يوم الحساب، أمرٌ من الممكن فهمه أو هضمه لو كان يُصاحبه في الوقت نفسه حديث عن المستقبل، ولكن أن يكون كل حاضرنا هو حديث عن «الماضي»، فمعنى هذا أننا لا نرى في الحاضر بذور مستقبل لا بد من تدبُّر أمره، أو بمعنًى أدق لا نرى المستقبل بالمرة.
وأنا لا ألوم هؤلاء الناس أو تلك الدعاوي؛ فهذه كلها من أغراض غيام المستقبل، ونحن لا نستطيع أن نُدرك كُنْه المأزق الوجودي الذي يمرُّ به الإنسان إذا غام المستقبل إلا إذا أخذنا استشهاداتٍ ملموسةً من الواقع. هذا الشاب البورسعيدي الذي قتل النائب الثري صاحب عربات النقل، وناهيك بالدعاوي الحزبية والعقائدية التي حاولت أن تصوِّر الموقف من مُنطلَقٍ سياسي أو أخلاقي أو انفتاحي، المشكلة أن هذا الشاب في رأيي لم يعُد يرى له أو حتى للآخرين أي مستقبل، غام المستقبل أمامه تمامًا ولم يعُد يرى سوى الحاضر الواقع فقط، لم يعُد يرى سوى نفسه فقيرًا مُتعطلًا، وسوى ذلك الثري غنيًّا واسع الأبهة، أُغلقت أمامه الأبواب عن أن يرى له أي مستقبل، عن أن يرى أن بإمكانه أن يصير هو نفسه غنيًّا مثله، أو أن هناك طريقًا لذلك الغِنى، أصبح هو المجنيَّ عليه، وكأنهما مسجونان وحدهما في حاضرٍ رهيبٍ واقع، وليس أمامه أي «فعل» آخر إلا أن يقضي عليه.
مأزقٌ خطير حقًّا ذلك الذي يجد الإنسان فيه نفسه إذا غُمَّ عليه المستقبل. وأشِرْ إلى أي عابر في الشارع، أشِرْ إلى جارك أو نفسك، واسأله أو اسألها: ماذا أنت فاعل غدًا؟ ستجد كلامًا عائمًا تمامًا لا يقين فيه، وغالبًا ما ينتهي إلى التسليم المُطلَق بالعجز عن رواية المستقبل.
مأزقٌ وجوديٌّ خطيرٌ أن نجد أنفسنا سجناء الحاضر.
وأي حاضر؟!
إنه حاضرٌ انتقالي، مفروضٌ أن ينقلنا من الماضي إلى المستقبل، مفروضٌ أن نعرف فيه من أين بدأنا وإلى أين ننتهي غدًا.
ولكن، حتى البدايات قد غُمَّت علينا من فرط ما حبسنا أنفسنا في زنازين الحاضر.
من قائل: إن البداية الحديثة بالحملة الفرنسية وما صاحبها من صحوة.
من قائل: إن البداية بمحمد علي أو بثورة عرابي.
من قائل: إن البداية بثورة ٢٣ يوليو. من يعود يقول: لا، إن البداية قديمة منذ ثورة ١٩، وما ٢٣ يوليو إلا فاصلٌ إرهابي لا بد من وضعه بين قوسَين، والعودة مرةً أخرى إلى ما كنَّا فيه منذ ثلاثين عامًا.
فإذا سألته: وإذا عُدنا، لماذا كانت إذن تلك الأعوام الثلاثون من الثورة والعمل والكفاح والحروب والنكسات؟ أكانت هزلًا؟ أكانت وهمًا؟ أكانت مجرد حلم أو كابوس مُزعج علينا أن نستيقظ منه، ونعود إلى ما كنَّا فيه أيام الملك والإقطاع والرأسمالية الأجنبية المُتحكمة في كل خلية من خلايا المجتمع المصري؟!
يقولون: نعم، ما حدث كان انحرافًا عن مجرى تاريخ الشعب، ولا بد من العودة من حيث بدأنا لتصحيح ذلك الانحراف.
وكأن التاريخ خطٌّ معروفٌ مسجَّلٌ مُسبَق لدى جنابهم، والمقياس لانحرافه هو خروجه عن الخط الذي كان مفروضًا (في أذهانهم طبعًا) أن يسير عليهم.
وكأن التاريخ ليس تراكُم أحداث، تلقائية أحيانًا وإرادية أحيانًا، مُتفجرة أحيانًا ومُتئدة أحيانًا، ومن جماع تلك الأحداث — بعد حدوثها قطعًا — نظرة، يعرف إلى أي مجرى جرى التاريخ. فتاريخ الشعوب ليس له مجرًى محدَّد سلفًا، إنما هو الشعب ينحت مجراه ويصنع تاريخه؛ استجابةً لقُوى الحياة المستمرة الكائنة فيه، وبتكيف مع ظروفه مرة، وبالتمرد على تلك الظروف مرةً أخرى؛ بمعنًى أدق ليس هناك أي وسيلة اختُرعت إلى الآن لمعرفة مجرى التاريخ مُسبقًا وقبل حدوثه.
فإذا كانت البدايات — كما قلنا — نختلف عليها وبشدة، أفلا يكون الاختلاف حول المستقبل من التشتت بحيث لا يمكن أن نستبين له خطأً أو نورًا؟
وقد يبدو في كلماتي تناقضٌ بين قولي إن التنبؤ بالتاريخ مستحيل، أما النظرة إلى المستقبل وتحديده فواجب؛ إذ أليس المستقبل هو التاريخ القادم؟
لا، ليس المستقبل هو التاريخ القادم.
المستقبل هو الجزء النامي من الحاضر الكائن.
أي إنه موجود بشكل جنين في الحاضر كقمة النباتات النامية، وإدراكه لا يستدعي استقراء التاريخ بقدر ما يستدعي البحث عن أجنَّة المستقبل في بطن الحاضر.
وواضحٌ أننا لا نعرف نوع الجنين أو كُنْه القمة النامية في حاضرنا؛ تلك التي سيتشكَّل منها المستقبل.
بل نحن حتى لا نستطيع أن نقطع إن كان الحمل المستقبلي في حاضرنا حملًا حقيقيًّا أم هو مجرد انتفاخ وحمل كذاب.
هكذا بالماضي القريب وقد غُمَّت علينا بداياته واختلفنا تمامًا حولها، وبالمستقبل وقد تشتَّتنا في تخمينه، لا يبقى أمامنا سوى الحاضر الواقع، سوى الوجود وجهًا لوجه أمام ذلك المأزق الرهيب، الذي دفع شابًّا في قمة شبابه وصحته أن يُصاب بالرعب من سجن الحاضر، إلى درجة قتل رفيقه في نفس زنزانة الحاضر.
وقد يردُّ أحدهم بقوله: ولكن ما حدث حالةٌ فردية، حالةُ شابٍّ يائس أو مجنون أو مُختبلة قُواه العقلية. وقد يكون هذا أو بعضه صحيحًا، ولكن فلنأتِ للعقلاء الذين هم أنت وأنا وجميع الذين لم يصلوا بعد إلى حد قرن الغزال للتعبير عن ذلك المأزق الرهيب.
إن كلًّا منَّا سواء كان شابًّا في الجامعة أو في المدرسة المتوسطة، سواء أكان أعزب أم صاحب أسرة، سواء أكان لديه مال أم كان خالي الوفاض، يمرُّ بنفس المأزق الوجودي، كل ما في الأمر أن المأزق لم يدفعه بعد إلى حمل واستعمال قرن الغزال أو تكوين العصابات، وإن كانت جماعاتٌ كثيرة قد تكوَّنت ورفعت السلاح وقتلت، وكان مقتل بعض الناس، وكان إزاحة بعض الأشخاص أو الأجهزة، هو الحل الأمثل لمشكلتنا مع الحاضر الواقع.
الحقيقة أني في محاولتي للكتابة عن هذا الموضوع الخطير، كنت أريد محاولةً متواضعةً لتشخيص ما نحن فيه، ليس لمجرد التشخيص من أجل العلاج، وإذا لم يكن من فائدة لدراسة الطب إلا أنها علَّمتني الأهمية القصوى للتشخيص الصحيح للمرض، تلك التي تُشكِّل ٩٠٪ من قطع مرحلة الشفاء، فإن خبرتي كمريضٍ هذه المرة هي التي دفعتني للقول في لحظة يأس: اللهم احمِني من أخطاء الأطباء في تشخيصي، أما المرض فأنا كفيل به. وإذا كنَّا نمرُّ بفترة ازدهار ديمقراطي وتعبيري تجعل كلًّا منا باستطاعته أن يُسهم باجتهاد، فرأى في حالتنا الراهنة وعدم خلو بالنا و«تولتنا»، أنها حالة خوف من المستقبل، بل الأصح تخوُّف بالغ من المستقبل، أو مستقبل «فوبيا»، مُتبدِّية بكل أعراضها وعلاماتها، واضحة جلية، كل ما في الأمر أنه ليس هناك طبيبٌ خارجي أو داخلي نستطيع أن نذهب إليه ونعرض عليه حالتنا، لن يصلح اقتصادَنا أي «شاخت» خارجي، ولن يُداوينا أي «كونجرس» أمريكي، نحن المرضى. ومن سخريات القدر في أحيانٍ أن يكون على نفس المريض أن يُدرِك — وهو في قمة مرضه — كُنْه مرضه، بل وأن يقوم هو بدور الطبيب لنفسه، يُشخص حالته ويُعالجها.
وهذا قدرنا، ولا مناص عن القيام به.
وما هذه المحاولة للتشخيص إلا جهدُ المُقلِّ المريض مثلنا جميعًا؛ فالخوف من المستقبل لم يعُد مجرد وباء جماعي يجتاح الآخرين، الخوف من المستقبل وصل إلى بيتِ كلٍّ منا شخصيًّا، وإلى عائلته، وإلى ذاته نفسها وعمله ومستقبله الشخصي.
حسنٌ إذن، ليكُن هذا هو مرضنا الجماعي الكبير.
فما الطريق إلى العلاج؟
ماذا نفعل؟
هل نستمر في حالة الارتباك الفكري القصوى تلك؟
أم نُدرِك أننا فعلًا مرضى التخوف من المستقبل، وأن نبدأ كأي مريض عليه أن يُعالَج؟ من رأيي أن نبدأ، وأن نفعل بالضبط مثل المريض الفردي حين تجتاحه حالة وهم أو ذُهان، ويذهب إلى طبيب أمراض نفسية.
إن أول ما يطلبه الطبيب هو أن يسأل المريض عمَّا يشكو منه.
ولكننا إذا فتحنا هذا الباب فقُل على العلاج السلام، فما أكثر الشكاوى التي ستنهمر من الأفواه، ولكننا إذا أدركنا أن شكاوانا أعراض وليست مرضًا، لواصَلنا الاستجواب وسألنا أنفسنا، بعد هذه المتاعب اليومية والأزمات وارتفاع الأسعار وقلة المعروض، بعد هذا كله، ما الذي يُخيفنا من المستقبل؟
وهنا لا بد أن نبدأ في أن نسمع؛ إذ الاستماع، مجرد الاستماع، هو أُولى الخطوات للعلاج.
لندع الناس، كل الناس، يتكلَّمون عن تخوُّفاتهم الشخصية والعامة من المستقبل، ويتكلَّمون بصوت عالٍ لكي يُحسُّوا أننا كلنا نسمعهم، وما دُمنا كلنا لا نستطيع الكلام في آنٍ واحد — كما نفعل الآن — وتكون النتيجة أن يُحاول كلٌّ منا أن يكون الأعلى صوتًا، أو الأعلى «كلاكسًا» بمعنًى أصح، فسندخل في حالة صراع وحشي من أجل فرض أصواتنا الشاكية. بدلًا من هذا، لنتبادل المنابر، ونتبادل أدوار المُتحدثين والسامعين؛ لنستمع إلى أخفت الأصوات همسًا، حتى التوهمات نستمع إليها. نستمع إلى الخائف من عودة التأميمات وفرض الحراسات وانتزاع الملكيات بالقوة، ولنستمع إلى الخائف من سيادة العقلية الانفتاحية الرأسمالية الجشعة، وابتلاعها لكل شيء، وضرورة أن يبدأ منذ الآن لكي يستعدَّ لها وينحرف ليمتلك شقة أو غرفة. لنستمع إلى الموظف اليائس من وضعه في الحكومة والقطاع العام، الذي يحلم صباح مساء بعمل في شركة استثمارية أو الهجرة أو عقد عمل في بلادٍ بترولية. لنستمع إلى مخاوف الحِرَفي وطالب التجارة المتوسطة وجندي الجيش الذي لا يعرف ماذا سيفعل بعد انتهاء فترة تجنيده. لنستمع إلى تخوفات المثقَّف من أن تسُود العقلية الثقافية المُنحطة التي ستطرد كفاءاته وقدراته، ولنستمع حتى إلى تخوفات تلك العقلية الخائفة على أوضاعها وكراسيها من أن تستردَّها الكفاءات، ولا يبقى لها ثَمة عمل أو قيمة.
لنطرح كل المخاوف المخبوءة في العقل المصري أمامنا وعلى الملأ، ولا نجعل منها محرَّمات، ولا نمنع أحدًا حتى من الخطأ في التعبير عن تلك المخاوف والهواجس.
فقط حين تتجمَّع لدينا كل تلك الكميات من المخاوف المسجَّلة في آراء وأقوال وحقائق، حينذاك فقط نستطيع أن نُفنِّدها ونُرتِّبها ونُناقشها، ونعرف زائفها من صحيحها، فإذا صنعنا هذا نكون قد وصلنا إلى ثلاثة أرباع حل مشكلتنا مع المستقبل؛ وبالتالي التفرغ لحل مشاكل الحاضر.
وليس هذا تبسيطًا مُخلًّا للأمور، إنما هو ثقةٌ تامة في قدرة العقل البشري على إيجاد الحلول لمشكلاته الحياتية والوجودية، فقط حين يعرفها ويطرحها أمامه ويتأمَّلها، أوتوماتيكيًّا تتولَّى أجهزة الحلول والابتكار المركَّبة في كل عقل فردي أو وعي، إيجاد العلاج فورًا، مثلها بالضبط مثل مشكلة أي ميكانيكي يُصلح سيارة، ستأخذ وقتًا طويلًا جدًّا ليكتشف الخلل، ولكن بمجرد اكتشافه يصبح إصلاحه أمرًا هينًا تمامًا.
ومعظم تحفُّظاتي على الانتخابات القادمة بالنسبة لفكرة القوائم، وضرورة تحزيب الشخص ليمكن انتخابه، فمن الواضح تمامًا أنها كانت البداية غير السليمة لأي علاج سليم لمشاكلنا؛ إذ خلال الانتخابات أعتقد أن نسبةً كبيرة جدًّا من مخاوف الإنسان المصري من المستقبل، ونسبةً كبيرة جدًّا من هواجسه، ستظهر على ألسنة واحد أو أكثر من الأحزاب الستة القائمة، أو أرجو هذا ومن العدد الكبير من المُستقلين الذين اضطروا للانضمام تحت لوائها.
إذ الانتخابات، في تجريدها النهائي، عملية تعبير هائلة تجتاح المجتمع، عمليةٌ يُعبر فيها الناس عن آرائهم واعتراضاتهم وإداناتهم وأيضًا تخوفاتهم.
ليس هذا فقط.
ولكن الأهم والأخطر أنها عملية لا يُعبر فيها المُواطنون عن تخوفاتهم فقط، ولكنهم وبأنفسهم وبإراداتهم يتولَّون المُساهمة في صنع المستقبل الذي يطمئنُّون إليه.
فما هو المستقبل الأمثل، أو على الأقل الحد الأدنى من المستقبل الواجب الذي نطمئنُّ إليه؟