لينطلق الإنسان

أكتب هذه الكلمات والساعة الآن ثلاث دقائق بعد الخامسة من مساء الأحد، ولا بد أن صناديق الانتخابات قد أُغلقت الآن على صوت الشعب وقد قاله.

والحقيقة أنني بدلًا من أن أكتب في الأسبوع الماضي، كنت لأول مرة منذ زمن طال أسمع رأي الناس الذي يقولونه في السر والعلن. كنت أقرأ جرائدنا ومجلاتنا قومية ومؤيدة ومعارضة وأنتهي منها بسرعةٍ شديدة؛ فقد كان شغفي الأكبر أن أكفَّ عن القراءة والكتابة جميعًا، وأن أستمع لرأي الناس، هؤلاء الذين ظلوا طويلًا يقرءون ويسمعون ولا يستمع لهم أحد، اليوم هو اليوم الذي كان مفروضًا فيه أن نكفَّ عن القول وأن نتحوَّل، ولو مرة، إلى مُستمعين. فالانتخابات في النهاية هي المنبر الذي تصعده الجماهير مرةً كل خمس سنوات لتقول رأيها، وكم كان بودِّي أن أزور كل لجنة من الاثنين والعشرين ألف لجنة لأرى بنفسي وأسمع! كم كان بودِّي أن أضع أذني على قلب الشعب لأعرف في أي اتجاه يخفق!

ولكن قلب الشعب كان هادئًا تمامًا وواثقًا، لا غوغائية إلا بين المُتنافسين، ولا منشورات إلا الصحف الحافلة بتوجيهٍ أعلى ممَّا يجب، وكأننا، وسائل الإعلام أقصد، نُعامل الشعب معاملة الطفل الخائفين عليه أن ينزل إلى الشارع لأول مرة، نُمطِره بوابل من الإرشادات والنصائح؛ حذارِ من يمينك، حذارِ من يسارك، حذارِ أن يخطفك شيوعيٌّ أحمر، أو صاحب ماض أسود، حذارِ أن يُضللوك، حذارِ أن تسمع، حذارِ أن ترى، حذارِ أن تقول إلا ما نريدك قوله.

والشعب، ذلك العجوز تمامًا، المُحنَّك تمامًا، العارف دائمًا بالأمور، بكل الأمور، وحتى ببواطن الأمور، يضحك في كمه، ويُخرِج لسانه دون أن يُخرِجه، ويسخر من ناصحيه؛ فهو يعلم تمامًا أن نصائحهم ليست لوجه الله، وإنما هي لوجوههم فقط، واليوم الجميع يترفَّقون به، ويُدللونه، و«يثقون» في قدرته «الخارقة» على حسن الاختيار، اختيارهم، والشعب سعيد تمامًا. فقد ذهبوا به كل مذهب، وقادوه إلى كوارث شتَّى، دون أن يأخذ أيهم رأيه، والآن وقد كلَّت حيلتهم لم يعُد أمامهم إلا أن يأتوه طالبين رأيه، ورأيه الآن مُودَع في أكثر من ٢٢ ألف صندوق. تُرى، ماذا تُخفي تلك الصناديق من مفاجآت؟ وماذا اختار الشعب؟ وإلى أي اتجاه ذهب؟

•••

كنت في الأسابيع الماضية قد كتبتُ حول «خلو البال» المصري أو عدم خلوه، وانتهيت إلى أن العجز عن حل مشاكل الحاضر سببه التخوف من المستقبل واحتمالاته غير الواضحة، وكنت قد سافرت ومنذ أيام عُدت وما أغرب ما وجدت! لقد وجدت أن العملية الانتخابية أدَّت دورها تمامًا؛ إذ إن اشتراك الناس في اختيار مستقبلهم ونوع الحكم الذي يريدونه لخمس سنوات قادمة على الأقل، هذا الحق نفسه، حق الاختيار، كان بقدرة قادر قد كشف الغمة عن المستقبل. لم أكُن بعد قد فطنت إلى الحقيقة البسيطة التي تقول: إن المستقبل لا يمكن أن يصنع الناس، وإن المستقبل الحقيقي، المستقبل الوحيد الذي يطمئنُّ إليه الناس، هو المستقبل الذي يصنعونه بأيديهم، وإن الطريق الوحيد لهذا هو أن يقول الناس رأيهم في المستقبل عن طريق الانتخاب الحر المباشر.

وهكذا حين عُدت بعد غيبة أكثر من أسبوعين، كانت ثَمة معجزة قد حدثت، وبدلًا من الكورة، أصبح حديث الناس كل الناس حتى الأطفال عن السياسة. والحديث عن السياسة هو الحديث عن المستقبل؛ فهو ليس حديثًا مجردًا، ولكنه حديثٌ مقرون بالفعل والعمل، حديث الهدف منه اختيار المستقبل، واختيار لا يأتينا من الخارج ولا بالقوة أو بالإعدام، وإنما اختيار نصنعه نحن بأيدينا؛ أنا وأنت وهو بأيدينا.

فجأةً بعد عودتي، وجدت الوجوه قد بدأ يتسلَّل إليها بِشرٌ لا يراه إلا القادم فجأة، وكأنما استعاد المُواطن ثقته بنفسه بعدما أشبعناه كلامًا عن ضرورة إعادة بناء الإنسان المصري، وكأنما الإنسان المصري كان قد تهدَّم، ولقد تهدَّم بالانتخابات شيء، ولكنه ليس الإنسان المصري، إنما كل تلك الأوهام عن إعادة بنائه وإعادة صياغته، فمن يصوغ الإنسان في مصر؟ أهي النظريات والقوانين واللوائح واللجان والمؤتمرات، أم أن الإنسان المصري هو الذي يصوغ كل هذا، ويصوغه لأنه قادر وواثق وملء وجوده، لم تنتقص الأحداث الجسام من قدرته ذرة، ولم تنهدم منه خلية. كل ما في الأمر أن الإنسان المصري كان «ممنوعًا»، وأصبح اليوم ليس مباحًا فقط، ولكنه مطلوب، ورأيه يعتمد عليه حاضر مصر ومستقبلها.

كلمةٌ لا بد أن يذكُرها الإنسان هنا، نعم إنها إنجازٌ رائعٌ مجيد، تلك الانتخابات، وبالصورة مُطلَقة الحرية التي جرَت بها، سوف يُؤرَّخ بها عهد الرئيس مبارك، وسوف يذكُرها التاريخ لوزارة فؤاد محيي الدين وللوزير حسن أبو باشا. لقد وعدوا وأنجزوا الوعد، ولا شكر على واجب، إنما حقيقةٌ ناصعة تقول إن كانت مصر تمتُّ إلى العالم الثالث بإمكاناتها واقتصادها، فإنها فعلًا دولة من دول العالم الأول بإنسانها وديمقراطيتها.

•••

ولا أستطيع أن أمنع نفسي هنا من أن نتذكَّر، ونحن في حضرة يوم عظيم من أيام مصر، أولئك الملايين من المصريين العاملين في الخارج؛ أربعة ملايين أو يزيدون من شباب مصر وخلاصتها وكهولها.

أربعة ملايين صوت انتخابي لم يُدلوا بآرائهم في مستقبل مصر. إنها الغمامة الوحيدة التي شابت هذا اليوم؛ فكل دول العالم الديمقراطية تُتيح لأفرادها المُقيمين في الخارج أن يُدلوا بأصواتهم في سفارتها، ولا أدري كيف غاب عنا هذا، برغم ضخامة حجم هذه الكتلة من الأصوات التي كان من الممكن أن تُغير حتى في نتيجة الانتخابات.

وليس هذا هو التقصير الوحيد منَّا تجاه أولادنا المُغتربين؛ ففي الدول الثلاث التي زُرتها (العراق والسويد وإنجلترا) قابلت المصرين هناك، مصريين تفخر أنت بالانتماء إليهم؛ فكلٌّ منهم قصة كفاح هائلة في سبيل أن يقف ويسافر وينحت الصخر ويعمل.

في الجبهة العراقية-الإيرانية، وأنا أُحدق بالمِنظار من موقعٍ عراقيٍّ متقدم في بلدة «قصر مشيرين» الإيرانية التي احتلها العراقيون في أول الحرب، ثم جلوا عنها ليُقدِّموا صكَّ حسن النية من أجل السلام، سألت قائد فِرقة أو «فيلق» اليرموك المسئول عن الجبهة الوسطى: هل هناك مصريون مُتطوعون في الجيش العراقي؟ فقال: نعم، هناك عدة قواطع (أي كتائب) مصرية في الجيش الشعبي، هناك قاطع بِاسم بورسعيد، وقاطع باسم ٢٣ يوليو، وهناك مصريون أيضًا في قاطع الشعوب العربية.

وطلبت منه أن ألتقي ببعض المُتطوعين المصريين، فوعدني بأن ألقاهم حين نعود إلى القيادة، وأنا جالس بعد يوم حافل من الزيارة الميدانية دخل حجرة الانتظار بالقيادة أربعة نمور بملابس الميدان الكاملة، أدَّوا التحية بقوة. كان منظرهم مَهولًا فعلًا. أولادٌ شاربون من لبن أمهاتهم فعلًا. كان أحدهم يعمل مديرًا وتطوَّع، والآخر مُقاول بناء وصاحب شركة بناء، أسَّسها في العراق وأغلقها وتطوَّع، والآخران دبلوم صنايع وبكالوريوس تجارة.

وحديثٌ طويلٌ حافلٌ دار بيني وبينهم، كان أشد ما يُضايقهم فيه أن الناس تقول عنهم إنهم قد تطوَّعوا بسبب الرغبة في زيادة الدخل، في حين أن المُتطوع منهم لا يأخذ فوق مرتبه إلا دينارًا واحدًا يوميًّا كبدل. وسألني ذلك النمر القناوي المصري: وهل معقولٌ أن يُعرِّض الإنسان نفسه للموت من أجل ثلاثين دينارًا في الشهر؟

قلت: إذن لماذا تطوَّعت؟

قال لرد الجميل للعراقيين؛ فقد عاملونا في أثناء المقاطعة معاملةً لا نظير لها، بحيث حين كان يختلف المصري مع العراقي أو يتخانق معه، كان العراقي يُسجَن دون تحقيق، حتى إن بعض العراقيين كانوا يُسلطون بعض المصريين على أعدائهم ليشكُوهم فيُحبَسوا فورًا. حين دخل العراق الحرب ورأيناها حربًا عربية هدفها حماية العرب، تطوَّعنا لرد الجميل.

وقد يحسب البعض أنها كلماتٌ مُبالغة، ولكن فارقٌ كبير بين أن تقرأ هذه الكلمات مُدونةً بالمطبعة على ورق الجرائد، وبين أن تسمعها حية من فم قائلها صارخة بالصدق والحقيقة.

هؤلاء المصريون في العراق وفي دول الخليج وفي الأردن وفي ليبيا وكل دول أوروبا وأمريكا، بغض النظر عن وجود قنصلية مصرية أو عدم وجودها، نحن لا نُقدِّم لهم شيئًا، ولا نُنظم اتصالهم بمصر أو حتى نتبنَّى فكرة إنشاء نوادٍ أو جمعيات لهم، ونتركهم لجهودهم الذاتية. ولقد فُوجئت حقًّا بوجود جمعية للمصريين المُقيمين في السويد، وجمعية أخرى للمصريين المُقيمين والعاملين في جنوب فرنسا، والباقي متروكٌ أمره لتحكم الدول التي يوجد بها مصريون عاملون. وللأقدار إنني أرجو وأُلحُّ أن ننشئ وزارةً كاملة للمُغتربين تنظم إرسال العمالة للخارج، وتتولَّى تدبير ورعاية شئونهم هناك، وتُنظم عملية اتصالهم بمصر الأم، والاستعانة بكفاءاتهم في مشاريعها وتحضر لعودتهم إليها.

وما كان أروع أن تُنظم — تلك الوزارة — عمليةَ أن يُدلي أربعة ملايين مصري بأصواتهم في انتخابٍ تاريخي كالذي حدث.

•••

لقد طالبت بأن نتبنَّى نحن الذين سيُقدَّر لنا أن نحيا السنوات الرائعة المُقبِلة شعارًا ضخمًا كبيرًا يُضيء لنا الطريق. وما أحق أن يكون شعارنا: الإنسان المصري!

ليس إعادة بنائه؛ فهو مبني تمامًا وقوي وعظيم.

ولكن إزالة المعوِّقات التي تحُول دون انطلاقه وتُكبله، وتخنق فيه روح الإيجابية والانطلاق.

الإنسان قائم ويدعو للفخر.

ولكن المعوِّقات هي التي تدعو للسخط، فلنهدم المعوقات لينطلق الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤