إذا كنا قادرين على العظمة فلماذا التفاهة؟
أخيرًا شاهدتُ في السينما المصرية عملًا يستحقُّ أن نتوقَّف عنده ونتوقَّف طويلًا؛ ذلك العمل هو فيلم «الكرنك»، متأخرًا كثيرًا أراه، هذا صحيح، ولكني من الناس الذين لا يحبون الازدحام حول الأشياء، ثم إن مشكلة «مشهد اغتصاب سعاد حسني» وكأنها كل ما في الفيلم، أو ما يستحقُّ أن يُشاهد في الفيلم، كسرت مقاديفي إلى حدٍّ بعيد. ذهبت، ودخلت وجلست، ومضيت حوالَي الساعتَين في شبه ذهول؛ ذلك أني وجدت نفسي أمام عمل رائع بكل ما تحمل الكلمة من معنًى، عمل أسخف ما فيه هو هذا المشهد المشهور، مشهد اغتصاب سعاد حسني، بل فنيًّا أضعف ما فيه.
فللكرنك الفيلم أبعادٌ أخرى أعمق وأمتع وأكثر أهمية بكثير. أقول الكرنك الفيلم لأن رأيي في الكرنك القصة مختلف تمامًا. واعذروني فإني سأضطرُّ للحديث عن قصةٍ كتبها زميلنا الكبير نجيب محفوظ سيد الرواية العربية، وهو الزميل في «أهرامنا» العزيز، ولكن ما ذنبي والأهرام قد أصبح يكاد يضم عائلة الكُتاب في مصر كلها، بحيث لا بد ستجد أنك في كل مرة تقرأ عملًا وتُواجه عملًا أن تنقده، إنما تواجه في الحقيقة زميلًا عزيزًا تضمك وإياه قهوة الصباح وحضن التحية؟ ثم إنه جرت في السنين الأخيرة في حقل الأدب تقاليد غريبة، أغربها بالتأكيد حكاية أن الكاتب لا يصح أن يتحدث عن «عمل» زميل له، باعتبار أنها مسألةٌ تخرق البروتوكول الكتابي غير المكتوب أو المعروف في أي مكان من سطح الأرض، وباعتبار أنها حكاية لا تصح ولا تجوز. لماذا؟ لا أعرف. في حين أن الحركة الفنية أو الأدبية كلٌّ مُتكامل، يشدُّ بعضها أزْرَ بعض، ولعل من أحسن من يتعرَّض لنقد القصص هو من يكتبها، والمسرح لا يفهم ماذا ينقد منه ولا ماذا يُقال، إلا فعلًا من جرَّب وعانى وغاص في أعماق الخلق الدرامي. إنه نوع من النفاق الاجتماعي لا علاقة له البتة بالعلاقات الطيبة التي يجب أن تسود بين أفراد العائلة الكتابية، ثم من قال إن نقد أي عمل معناه في النهاية انتقاده؟ ولماذا لا يكون النقد إظهارًا لأبعادٍ جمالية وقيمية فيه ربما تخفى على المُتفرج أو القارئ العادي؟
المهم — نعود إلى قصة الكرنك — حين صدرت وقرأتها في حينها، وجدت نفسي في حيرة. الحقيقة أني وجدتها شبه ريبورتاج صحفي أكثر منها حياة داخلية روائية عميقة عوَّدنا إياها نجيب محفوظ في معظم أعماله. وجدتها أشياء كالتي كان يكتبها شكسبير أحيانًا ليسدَّ خانة أو ليُحيي عيد ميلاد الملكة.
أو قل وجدت نفسي في حيرة لأني وضعت نفسي مكان نجيب محفوظ؛ ذلك الكاتب الذي يحيا قضايانا حتى ليكاد يحياها لحظة بلحظة، حياة المُنتمي المُلتزم الآخذ على عاتقه أن يقول دائمًا كلمته، يقولها فنًّا كبيرًا في أحيان و«كرنكًا» أحيانًا يقولها، ولكنه لا بد أن يقولها؛ من أجل هذا فأنا أعتبره من أعظم أبناء هذا الشعب قاطبة في كل تاريخه، أو أنه سيظل إلى أمدٍ بعيد. كذلك حيرتي حين وضعت نفسي مكانه هي حيرته حين جاءت ثورة ١٥ مايو، وانكشف الغطاء «لأولئك الذين لم يكونوا يرون أو يعرفون» عن مآسي ما كان يحدث في السجون والمعتقلات. كان لا بد لكاتبٍ ملتزم مثل نجيب محفوظ أن يقول كلمته في هذه أيضًا، لم يُجبره أحد، ولا هو قد سُجن أو عانى التجربة حقًّا، ولكنه ذلك الالتزام النابع من النفس، الفارض ذاته حتى ولو جاءت التجربة الفنية كالكلام المنقول عن شخصٍ ثالث، أو كالخبر المنشور في جريدة أو تحقيق. الحيرة هل يكتبها هكذا أم تبحث عن موضوعٍ عانيته فعلًا حتى ولو كان خارج أي معتقل أو مخابرات؟ اختار نجيب أن يكتبها، وأعتقد أنه تألَّم بعض الشيء لِما نالها على يد بعض النقاد، مثله مثل أي والد يستقبح جنينه.
ولكن — حين رأيت الكرنك الفيلم — انتهت حيرتي، وقلت:
حسنًا فعلت يا نجيب محفوظ، فلولا هذا الهيكل العظمي لرواية الكرنك، أو حتى الرواية التي كتبت وكأنها مشروع قصة سينمائية أو سيناريو، لولاه ما كان هذا العمل المُروع حقًّا؛ الكرنك الفيلم.
إن الكاميرا أخطر بكثير من القلم، والسينما هي حقًّا فن العصر. إن أثر الصورة يُحفر في النفس حفرًا، وتكاد الأظافر تمتدُّ من الشاشة إلى قلب المُشاهد تنهشه وتُحركه.
ولكننا كان عندنا ولا يزال سينما، ولكنها أبدًا لا تفعل هذا، إنها حتى لا تلمس فوق جلد المُتفرج، إنما يُحس بها الإنسان كنوع من الهاموش المؤذي الذي يتجمَّع حول أضواء الكاميرا، وبودِّ الإنسان أن يتناول في الحال علبة بيروسول ليُزيله.
الكرنك الفيلم، جاء في رأيي المُتواضع أكمل ملحمة سينمائية سياسية أفرزتها الحركة السينمائية المصرية منذ نشأتها، سيناريو متكامل حقًّا، ما أبرعه ممدوح الليثي هنا، وما أعمق لمسات صلاح جاهين حوارًا، ولو أنه كان من الممكن أن يكون أكثر عمقًا وتدبيرًا، إلا أنه أبدًا ليس رغيًا ولا أي كلام. الهيكل العظمي أمسى لحمًا، وسرت فيه دماءٌ حارَّة دافقة بحيث لم ألتقط أنفاسي للحظة، إنما هو الفيضان التعبيري مُتعاظم ومُكتسح. لا تمثيل، ما أراه هو الحقيقة الواقعة. لأول مرة لا أُحس بسعاد حسني جميلة؛ لأنها انتقلت من مرحلة الوجه الجميل المُعبر إلى المعايشة الكاملة للشخصية، تُنسينا تمامًا أنها سعاد حسني. هذا التعمق الخطير في الأداء لنور الشريف تخطَّى حدود الشخصيات السطحية التي كانوا يُعطونها له، وأوصلت أصابعنا نفسها إلى أعماقِ شابٍّ مصري مثقَّف عانى فعلًا مع غيره من المثقَّفين. والمثقفون ليس هم فقط الأفندية، إنهم طليعة الشعب بكل فئاته وعماله وفلاحيه، وهم الذين هبطت عليهم صاعقة الحفاظ على ثورة ٢٣ يوليو، وكأنهم لم يكونوا هم الحماية الحقيقية لها، وإنما كانوا هم لصوصها وقُطاع طُرقها. إذا كان إقطاعيٌّ واحد أو عشرة قد عُذبوا، ورأسماليون قد وُضعوا تحت الحراسة، فإن الكارثة الرهيبة هي الشلل الكامل للجهاز الفكري السياسي المصري ممثَّلًا في مثقَّفيه، من إخوان وشيوعيين وطليعة وفدية ومجرد حتى أفراده الواعين المعزولين، هنا جاء الضرب مُوجعًا ورهيبًا إلى حد الإفناء والتشويه والتوبة تمامًا من مهمة «التفكير»، ولا أقول العمل السياسي. لماذا؟ لا أعرف. لماذا تُعادي الثقافة والمثقَّفين في مجتمعٍ قامت فيه «ثورة»؟ لا أعرف أيضًا، ولكنه ما حدث، وما جسَّده الكرنك رهيبًا ومُوجعًا ودافعًا النفس إلى الصراخ من أعمق الأعماق. لماذا تُعادي ثورةٌ ما مثقَّفيها، والشعب بلا ثقافة كالجسد بلا عقل، أو بالأصح بلا قشرة عقلية تصنع له الوعي والبصر والبصيرة والضمير والإرادة؟ ومن هذه الضربات القاتلة نحن ما زلنا وسنظل إلى عهدٍ بعيد نُعاني؛ ولهذا فقد جاءتنا ١٥ مايو كاليد الممدودة تنتشل الغرقى والمجروحين والممزَّقين، جاءتنا كالبلسم يضمد جِراحًا عميقةً مُغورة، جِراحًا خطيرة؛ فهي جِراح في المخ ذاته، في العصب الحائر مع الثورة؛ هو يريدها ويحلم بها ويدعو لها، وهي لا تريده وتطحنه وتكويه؛ لكي يتوب أن يفكر أو ينفعل أو يُحس.
أما المُمثل الذي قام بدور المُعتقل الذي قُتل في السجن ضربًا، فللأسف أنا لا أعرف اسمه — واعذروا جهلي — ولكن إذا كنَّا أيها الناس نملك هذه العظمة، فلماذا التفاهة؟ لماذا سوسو وعفت مش عارف إيه، هلمَّ جرًّا؟ لماذا أفلام التفاهة ونحن باستطاعتنا — وبقروش — أن نصنع أفلامًا عظيمة مثل الكرنك؟ لماذا وشويكار نفسها تستطيع أن تؤدي هذا الأداء العظيم الرائع تفعل شيئًا مثل فيفا ظلاطا؟
السؤال أن أعود إلى العقل المُدبر وراء هذا كله «الماسترمايند» وراء الكرنك العظيم؛ هذا النحيف الدقيق الحجم — علي بدرخان — الذي ما زلت لا أعرف كيف استطاع أن يُخرج من جوفه الفني العميق هذه الملحمة — أروع ملحمة — فيسكونتي السينما المصرية هذا أشد على يده العبقرية وأقول: والله خلَّف أحمد بدرخان، وخلَّف فنانًا أرجو أن يكون الكرنك — رغم روعته — مجرد البداية.
وأعود وأقول: إذا كنا قادرين على العظمة، فلماذا التفاهة أيها الناس؟