رواية الصين
«الذُّرَة الرفيعة الحمراء» هي رواية الصين بامتياز … طفلٌ صينيٌّ كبير، يستعيد بوعي وحنين نُتَفًا من «تاريخ عائلته» في قرية دونغ بي بمدينة قاو مي، وهي نفسها قرية المؤلِّف. يستعيد الطفل حكايات عن الأب والأم والجد والجدة وزوجة الجد … وما أحاط بعالَمهم من أساطير، خلال مقاوَمة الغزو الياباني للصين في ثلاثينيات القرن العشرين. ومن هذه النُّتَف والحكايات، تتألَّف لدى القارئ في النهاية لوحةٌ ملحميةٌ واسعةٌ للصين والصينيين، بتقاليدهم وعاداتهم الغرائبية، وفي خلفية كل ذلك تتبدَّى طبيعةٌ خاصةٌ، بنباتها وحيوانها وإنسانها.
تلك هي بإيجاز رواية مو يان، التي يَنبُع عالَمها السِّحري من استخدام عنصرين رهيفين يعكسان وَعْي كاتِبها بفن الرواية: العنصر الأول هو ذلك الراوي/الطفل الذي يَتذكَّر ويحكي ما رآه وما رُوي له، مستندًا إلى وعي بهوية الصين، يكاد يكون وعيًا أيديولوجيًّا؛ والعنصر الثاني هو المشهد الثابت المُتكرِّر عند كل مُنحنًى من الرواية، مشهد حقول الذُّرَة الرفيعة الحمراء التي تُشكِّل الخلفية الطبيعية والسِّحْرية لعالَم هذه الرواية البديعة، ففي هذه الحقول وحولها تقع كل الأحداث والأسرار والأفراح والجنازات، الذُّرَة الرفيعة الحمراء التي يكتب الراوي مرثيتها بعد عودته وحضوره المفاجئ في نهاية الرواية، معلنًا عن رعبه من الذُّرَة المُهجَّنة التي زحفَت واحتلَّت الصين.
ترسم الرواية عالمًا صينيًّا واقعيًّا، لكنه في الوقت نفسه يقترب من أن يكون غرائبيًّا، أهم ما يميزه هو ذلك الطابع البدائي المرعب، القائم على القتل بسهولة والتعذيب وقَطْع الطريق، وذلك التمازج المَهُول الذي يصل إلى حد التطابق بين البشر والحيوانات والطيور والنبات وكل مظاهر الطبيعة، إنها قرية صينية صنَعتْها ذكريات مو يان التي أراد أن يُكْتَب لها الخلود، وصنعها خياله بالطبع، كما صنعها وعيه السياسي والأيديولوجي الحاضر بقوة وراء كثير من مشاهد الرواية.
في هذه الرواية مشاهد لن ينساها القارئ بسهولة. كيف يمكن لقارئ أن ينسى مشهد تعذيب المعتدي الياباني لأبناء القرية؟ تعذيب يبدأ من التَّلذُّذ بقطع الأذن، ويمتد إلى ما هو أشنع، وكيف يمكن أن ننسى مشهد جنازة الجدة الذي يكاد يستغرق مائة صفحة من الرواية، وكذلك مشهد مُفارَقة زوجة الأب للحياة، في طقس غرائبي مرعب لا يكاد ينتهي؟ كيف يمكن لقارئ أن ينسى مشهد الكلاب الذي يحتل قسمًا كاملًا من الرواية يُدعى «موقعة الكلب»؟ الكلاب التي تدخل في معركة مع البشر، بحيث تختلط الجثث وتتناثر العظام، وفي فانتازيا دموية مرعبة تضم الجميع: اليابانيين إلى الصينيين إلى الكلاب.
يمكن للمرء أن يقرأ كُتبًا كثيرة عن الصين وثقافتها وعاداتها، لكنه لن يعرفها في العمق، ومن داخل قلوب أبنائها وعيونهم، كما يمكن له أن يعرفها من قراءة هذه الرواية. تلك هي معجزة فن الرواية، الرواية التي هي تاريخٌ للواقع، تفصيليٌّ وخارجي، بقدر ما هِي — كما قيل — تاريخٌ للقلب، عاطفيٌّ وداخلي.
استمتعتُ بقراءة هذه الرواية وأنا أعمل — لأسبوعين — على تحرير نَصِّها العربي في صورته النهائية، وأدركتُ ما بذله مُترجِمها الشاب من جهد، خلال محاولته نَقْل هذا العالم الغرائبي، المكتوب — كما أخبرني — بلغة صينية محلية خاصة بالمُقاطَعة التي تدور فيها الأحداث.
تحية للمترجم الدكتور حسانين فهمي، الذي لولا مبادرته، ولولا جهود زملائه وأساتذته من المتخصصين المصريين في اللغة الصينية، ما كان للمركز القومي للترجمة أن يسبق إلى ترجمة هذه الرواية البديعة، قبل أن يحصل صاحبها مؤخرًا على جائزة نوبل للآداب لعام ٢٠١٢م، وتكون هذه الرواية على رأس مُبرِّرات منحه الجائزة.
قراءة ممتعة للصين وعالمها كما يصنعه فن الرواية.