تقديم المترجم

الروائي الصيني الكبير «مو يان Mo Yan» كاتب قدَّم للقُرَّاء الصينيين ولقُرَّاء العالَم صورةً دقيقةً عن الريف الصيني، وعن حياة الفلاحين الصينيين وعاداتهم وتقاليدهم وأسباب تَخَلُّفهم وخبراتهم الحياتية الثرية، ومعاناتهم في ظل ظروف الاستعمار الأجنبي (العدوان الياباني على الصين ١٩٣٧–١٩٤٥م)، وفي ظل القهر السياسي، وتَدنِّي القيم الأخلاقية، وانتشار الظواهر السلبية التي عمَّت مجتمع الصين الحديثة بما في ذلك الرشوة، والفساد الإداري، وضياع حقوق الإنسان البسيط. إن أعماله تُعَدُّ لوحة فنية صادقة لحياة فئة أصيلة من فئات الشعب الصيني الكبير. وتُعبِّر عن حياة مجتمع الفلاحين في مسقط رأسه قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي – مُقاطَعة شان دونغ بشمال شرق الصين وعاداتهم ومعاناتهم اليومية، كما تُعبِّر عن القهر السياسي الذي يتعرض له الإنسان البسيط المُهمَّش في مجتمع الصين الحديثة، وفي ظل الحضارة الحديثة التي أجبرت ذلك الإنسان على التَّخلِّي عن الكثير من القيم التي كانت جزءًا أساسيًّا من تكوينه الأصيل.
ويُقدِّم مو يان موضوعات أعماله الثرية في أسلوب يجمع بين المحافَظة على الأساليب الفنية الأصيلة للأدب الصيني والتأثر الواضح بالتيارات الأدبية الغربية، خاصةً تيار الواقعية السحرية ورائده الروائي العالمي ماركيز. ونرى أن مو يان في اهتمامه الكبير بكتابة البيئة الريفية، وعلمه ببواطنها، ورصده للكثير من الأحداث والقضايا التي تخص تلك البيئة، وتأثُّره الواضح بتيار الواقعية السحرية، ووضوح ذلك في أكثر من عمل من أعماله الروائية المهمة، جاء شبيهًا بالروائي الراحل الكبير خيري شلبي، يُعدُّ أكثر كُتَّابنا المعاصرين احتفاءً بالواقعية السحرية أو اهتمامًا بها. إذ برزَت الواقعية السحرية عنده كما يرى الدكتور حامد أبو أحمد في أربع روايات؛ هي: «الشطار»، و«نسف الأدمغة»، و«بغلة العرش»، و«السنيورة».١
ومو يان اسمه الكامل قوان مو يي، وُلِد في عام ١٩٥٥م بمدينة قاو مي مقاطعة شان دونغ بشمال شرق الصين لعائلة صينية تعمل بالزراعة. وفي عام ١٩٧٦م التحق بالعمل في جيش التحرير الصيني الشعبي. بدأ نشر أعماله الأدبية منذ عام ١٩٨١م، وكان أول عمل له قصة قصيرة بعنوان «أمطار ليلة ربيعية» ١٩٨١م (حيث كان قد أَحْرَق بنفسه أكثر من عمل قبل ذلك نذكر منها قصة «حكاية أم»، ومسرحية «الطلاق» وغيرهما) وبعدها توالت أعماله الأدبية بين قصة قصيرة، ونوفيلا، ورواية، ونصوص سينمائية. فقد نُشِر له عددٌ من القصص القصيرة التي حازت إعجاب الأوساط الأدبية الصينية آنذاك، ومنها قصة «الموسيقى الشعبية» (١٩٨٣م)، التي نالت فور نشرها إعجاب الكاتب الصيني الكبير «سون لي Sun Li» (١٩١٣–٢٠٠٢م، وهو واحد من أهم أربعة كُتَّاب صينيين انصبَّت كتابتهم على الريف الصيني). ثم نشر مو يان بعد ذلك القصة الطويلة (النوفيلا) «الفجلة الذهبية» (١٩٨٤م)، التي جعلت اسم مو يان يتردد داخل الأوساط الأدبية الصينية، ثم توالت أعماله بعد ذلك، إلى أن بلغت حتى الآن أكثر من ٥٠ عملًا ما بين مجموعة قصصية ورواية ونثر. أشهرها على الإطلاق روايات: «الذُّرَة الرفيعة الحمراء»، و«الطفل ذو الشعر الأصفر»، و«النهود الكبيرة»، و«أنشودة الثوم»، و«أرجوحة الكلب الأبيض»، وغيرها من الأعمال. وحصلت روايته الشهيرة «الذُّرَة الرفيعة الحمراء» فور صدورها على جائزة الرواية الممتازة على مستوى الصين، ثم حصلت بعد ذلك على الكثير من الجوائز المحلية والعالمية. ورُشِّحت روايته «جريمة خشب الصندل» للحصول على جائزة ماودون، وهي أرفع جائزة أدبية صينية.

ورواية «الذُّرَة الرفيعة الحمراء» الصادرة لأول مرة في مايو عام ١٩٨٧م عن دار نشر الفنون والآداب بجيش التحرير الصيني، هي العمل الذي دخل به مو يان في عالَم الشهرة، فلَمَع اسمه ليس في الأوساط الصينية فحسب، بل العالمية أيضًا. وقد تَحوَّلت الرواية فيما بعدُ إلى فيلم سينمائي للمخرج الصيني الشهير جانغ إي موو (صاحب فيلم «البطل» وغيره من الروائع السينمائية الصينية)، وحصل الفيلم على جائزة الدُّب الذهبية بمهرجان برلين السينمائي الثامن والثلاثين. كما تحوَّلت أعمال أخرى لمو يان إلى أفلام ومسلسلات تليفزيونية، وحصدت جوائز عالمية منها مجموعته القصصية الشهيرة «يا أسطى إنك ستفعل أي شيء في سبيل الضحك»، والتي تَحوَّلتْ إلى فيلم بعنوان «زمن السعادة» للمخرج جانغ إي موو، و«أرجوحة الكلب الأبيض»، التي تَحوَّلت إلى فيلم بعنوان «الدفء» للمخرج الصيني خوا جيان تشي، وحصل على الجائزة الكبرى لمهرجان طوكيو السينمائي الدولي لعام ٢٠٠٣م.

وكان لأعمال مو يان، وروايته الشهيرة «الذُّرَة الرفيعة الحمراء» على وجه الخصوص؛ صدًى واسع في مختلف أنحاء العالم، وتُرْجِمت إلى العديد من لغات العالم؛ منها: الفرنسية، والألمانية، والإنجليزية، والإيطالية، والإسبانية، واليابانية، والسويدية، والنرويجية، والهولندية، والكورية، والعبرية، وغيرها من اللغات، وتُعْتَبر هذه الترجمة لرائعته «الذُّرَة الرفيعة الحمراء» أول ترجمة إلى العربية لأعمال مو يان. وتأتي اللغة الفرنسية على رأس اللغات الأجنبية التي تُرْجِمت إليها أعمال مو يان، فقد تُرْجِم له أحد عشر عملًا إلى اللغة الفرنسية، حيث تتربع أعماله على عرش الأعمال الأدبية الصينية الحديثة التي تُرجِمت إلى الفرنسية.

حصل مو يان في عام ٢٠٠٤م على وسام فارس في الفنون والآداب من فرنسا، وحصل الأستاذ دو ته لي أستاذ اللغة الصينية بجامعة بولون الفرنسية عام ٢٠٠١م على جائزة «لوراي باتيليين» لأفضل عمل أجنبي مُترجَم إلى الفرنسية عن ترجمته لرواية «مملكة النَّبِيذ» للكاتب مو يان. كما حصل مو يان في عام ٢٠٠٥م على جائزة «نونينيو» الأدبية الإيطالية الدولية عن روايته «الذُّرَة الرفيعة الحمراء» وعلى جائزة «فو قانغ يا» اليابانية للثقافة الآسيوية عام ٢٠٠٦م، والتي تُمنح للأعمال التي تدعو إلى المحافظة على التراث والثقافة الآسيوية وقيمتها ٥٠٠ مليون ين ياباني، ومُنِحَت حتى الآن لثماني شخصيات صينية، ومو يان هو الكاتب الصيني الثاني بعد باجين صاحب رواية «العائلة» الذي حصل على هذه الجائزة الكبرى. وأخيرًا تُوِّجت أعمال كاتبنا الكبير مو يان بحصوله في سبتمبر من العام الحالي ٢٠١١م على جائزة «ماو دون الأدبية»، والتي تُعتبر «نوبل الأدب الصيني»، وذلك عن روايته المهمة والمعروفة «الضفدع»، والصادرة في ديسمبر عام ٢٠٠٩م عن دار نشر الفنون والآداب بشنغهاي. وقد استقبلت الأوساط الأدبية الصينية خبر حصول مو يان على هذه الجائزة الرفيعة بحفاوة بالغة.

وذكر الأستاذ ما يوي ران، خبير اللغة الصينية بالأكاديمية السويدية ومساعد مكتب جائزة نوبل للآداب، في أكثر من محفلٍ أدبيٍّ داخل الصين، أن مو يان هو الأديب الصيني الذي تستحق أعماله عن جدارة جائزة نوبل في الآداب.

وقال الكاتب الياباني الكبير «دا جيانغ» الحاصل على نوبل في الآداب لعام ١٩٩٤م: «إن مو يان وأمثاله من الكُتَّاب الصينيين هم خير من يُمثِّل أدب القرن العشرين، وإذا كان لي حرية الاختيار في ترشيح اسم للفوز بنوبل، فسوف أختار الكاتب مو يان.»

وتَمَّت مُقارَنة أعمال مو يان الأدبية مع أعمال كُتَّاب عالميين كبار من أمثال جارثيا ماركيز؛ إذ تَمَّت المُقارَنة بين رواية «مائة عام من العزلة» لماركيز، ورواية «النهود الكبيرة» لمو يان، والتي صوَّر فيها مو يان بدِقَّة المشاهد الوحشية وجرائم العدوان الياباني على الشعب الصيني، وفِرَق الفدائيين الصينيين خلال حرب المُقاوَمة ضد اليابان (١٩٣٧–١٩٤٥م).

ومو يان كاتب تَميَّز بين كُتَّاب جيله الذين يمثلون أدب الفترة الجديدة في الصين (منذ عام ١٩٧٨م حتى الآن)، وقد ولد روائيًّا، في أعماله وصف ساحر لمسقط رأسه مدينة قاو مي بمقاطعة شان دونغ بشمال شرق الصين. ومنذ صغره عاش في معاناة بين الجوع والوحدة والحرب التي عانى منها أهل مقاطعة شان دونغ وغيرها من مدن شمال شرق الصين، وهذا ما شكَّلَ لدى مو يان الشعور بالمسئولية تجاه شعب مدينته والتعبير عنهم في معظم أعماله، والتي دائمًا ما نلمس فيها آلام الجوع والمعاناة لشعب شمال شرق الصين.

أهم ما يميز أسلوب الكاتب والروائي الصيني الكبير مو يان أنه يجمع بين التأثر بالنظريات الأدبية الغربية (وخاصة التأثر بمذهب الواقعية السحرية) والثراء الإبداعي الذي يقوم على التأثر الشديد بالثقافة المحلية، وخاصةً ثقافة فلاحي شمال شرق الصين وعاداتهم وتقاليدهم، واللغة الريفية الواضحة جدًّا التي تشعر عند قراءتها وكأنك تستمع إلى صوت فلاح أصيل، كما أنَّ كثيرًا من أعماله تأخذ أسماء محاصيل زراعية وحيوانات وأشياء أخرى مرتبطة بالبيئة الريفية؛ مثل: «الفجلة الشفافة» (١٩٨٦م)، و«الذُّرَة الحمراء» (١٩٨٧م)، و«القطن الأبيض» (١٩٩١م)، و«العائلة العشبية» (١٩٩٣م)، و«أنشودة الثوم» (١٩٩٣م)، و«الغابة الحمراء» (١٩٩٩م). وغيرها من الأعمال التي جَمعتْ بين كتابة التاريخ، والواقع المعاصر، والأسطورة والعادات الشعبية لأهل شمال شرق الصين. والتي جعلت أعمال مو يان تتميز عن إبداعات غيره من الكُتَّاب الصينيين الذين كتبوا في مجال أدب الريف والأدب المحلي. فالريف الذي يصوره قلم مو يان يُعتبَر ريفًا صينيًّا خاصًّا به دون غيره من الكُتَّاب الصينيين، حتى أولئك الذين ينتمون لنفس المقاطعة التي ينحدر منها مو يان مثل الكاتب الصيني المعاصر جانغ وي (١٩٥٦م–‎…). فالريف الذي يُصوِّره قلم مو يان هو ريف عريق يضرب بجذوره في عمق التاريخ، ريف مليء بِشتَّى أشكال المعاناة. فإذا كان جابريل جارثيا ماركيز قد «اخترع لرواياته مكانًا خاصًّا أطلق عليه أم ماكوندو (Macondo) تعد جزئياته مفردات مأخوذة من كثير من الأماكن في كولومبيا وفي أمريكا اللاتينية. فهو مكان سحري اخْتُرِع خِصِّيصى لهذا الغرض».٢ نقول فإن مو يان قد سار على نفس الطريق باختياره ريف دونغ بيي بمدينة قاو مي مقاطعة شان دونغ الصينية. فما إن يُذْكَر اسم مو يان وعالمه الروائي الخاص، حتى يُذْكَر هذا الريف الصيني الذي شَكَّل مملكة مو يان الخاصة به وحده.

ويمكن تقسيم حياة مو يان الإبداعية إلى ثلاث مراحل: المرحلة المبكرة، وتمتد من عام ١٩٨١م حتى عام ١٩٨٥م، واتَّسمَت أعماله في تلك الفترة بالتركيز على الخبرات الحياتية للكاتب والوصف الدقيق لعالم الريف والفلاحين في شمال شرق الصين، وبالتعبير عن الحياة الواقعة لأهل الريف من خلال أسلوب الرمزية وفوق الواقعية. ومنذ عام ١٩٨٦م بدأت أعماله تدخل في مرحلة إبداعية جديدة اتسمت بالتأثر الواضح بالواقعية السحرية وروَّادها من أمثال الكاتب الجنوب أمريكي جارثيا ماركيز؛ حيث بدأ مو يان ببناء عالم روائي خاص يقوم على الخيال الواسع والمعالجة الأسطورية للواقع. والذي تمثل جليًّا في أعماله «الذُّرَة الرفيعة الحمراء»، و«أنشودة الثوم» وغيرهما من الأعمال الروائية والقصصية. أما المرحلة الثالثة في مشوار مو يان الإبداعي فقد تركَّزت إبداعاته خلالها في مجال الرواية وإبداع أعماله المعروفة «مملكة النبيذ»، و«النهود الكبيرة» وغيرهما من الروايات التي أدَّت إلى جدل كبير وتباينت آراء النقاد حولها.

وبالإضافة إلى الوصف الدقيق للثقافة المحلية وعادات وتقاليد أهل مقاطعة شان دونغ بشمال شرق الصين، فإن أعمال مو يان، وخاصة أعماله المبكرة؛ مثل «الفجلة الشفافة»، و«النهر الجاف»، و«البقرة»، و«النهود الكبيرة»، وغيرها من الأعمال، فإنها تُعبِّر عن القهر السياسي ومعاناة عامة الشعب، وكثيرًا ما تعكس أعماله النقد اللاذع للمجتمع وسياسة القهر، وذلك من خلال صور الطفل البطل والكوميديا الساخرة والمواقف الشعبية التي تَتخلَّل حياة شخوص أعماله، فالقهر السياسي هو الفكرة الرئيسية في أعمال مو يان منذ عام ١٩٨٦م.

وتتميز أعمال مو يان أيضًا بالنزعة الفلسفية التي تتمثَّل في الغوص والتأمُّل في جوهر الحياة الإنسانية، والكشف عن مزايا ومساوئ النفس البشرية، كما في أعماله الروائية الشهيرة «التعذيب بخشب الصندل»، و«مملكة النبيذ»، ونرى ذلك بوضوح في شخصية الضابط «دينغ قو أر» بطل رواية «مملكة النبيذ»؛ حيث كان ضابطًا ناجحًا وذا كفاءة عالية في التحقيقات البوليسية، ويتحلَّى بروح تَحمُّل المسئولية والنزاهة والتطلع إلى كشف الغموض في أحداث قضية (أطفال مملكة النبيذ)، ولكنه يفقد كل هذه الصفات العظيمة تحت إغراء الخمر والنساء إلى أن يَتحوَّل من ضابط ناجح إلى مجرم قاتل حتى يلقى حتفه. فعالم «مملكة النبيذ» هو صورة مُصغَّرة للمجتمع الصيني المعاصر بما فيه من السعي وراء الملذات، فهي رواية ضد الفساد.

فهو في معظم أعماله يبحث في خبايا النفس البشرية، ويكشف عن مزاياها، والرغبة الإنسانية في الحياة الآمنة، والحرية، ومجتمع تسوده العدالة والمساواة، حيث يهتم بتمجيد الحياة والبقاء لمناهضة التقاليد القديمة البالية، والنموذج السياسي الحالي الذي يتسم بالقهر والظلم للنفس البشرية. فالكاتب الكبير مو يان يُعتَبر رائدًا من روَّاد «تيار البحث عن الجذور»٣ الذي ظهر في الصين عقب فترة «الثورة الثقافية الكبرى»، والذي هو امتداد لروح نقد التراث التي بدأها الرائد العظيم لوشيون (١٨٨١–١٩٣٦م) عميد الأدب الصيني الحديث في عشرينيات القرن العشرين في الصين لنقد الثقافة الصينية القديمة. وأعمال مو يان تغوص في البحث عن الثقافة الصينية الأصيلة لأهل قاو مي شمال شرق الصين، وهو يربط في أعماله بين أشخاص الحاضر وأشخاص وأحداث أخرى من التاريخ الصيني القديم، كما في روايته «الذُّرَة الرفيعة الحمراء» التي تتشابه فيها صور الأشخاص ومصائرهم مع أبطال حركة يي خه توان عام ١٩٠٠م المعروفة في التاريخ الصيني. ورواية «التعذيب بخشب الصندل» تعبير عن التعذيب وتقَدُّم وسائله في سياسات المجتمع الإقطاعي الصيني القديم، حيث كشفت الرواية عن الكثير من مساوئ الثقافة الإقطاعية في الصين القديمة، فأعمال مو يان تُعَد امتدادًا، بل تطورًا، لأعمال الرائد لوشيون في نقد مساوئ الثقافة الإقطاعية في الصين القديمة التي تقوم على أساس «أكل الإنسان». فمو يان يُؤكِّد أن جذور هذه الثقافة البالية ليس فقط لم تُمْحَ حتى الآن، بل تُعاوِد الظهور من خلال أشكال أخرى أكثر فسادًا ووحشية.

أما رواية «الذُّرَة الرفيعة الحمراء» فتحكي، باختصار، قصة عائلة صينية ريفية تمتلك فرنًا لصناعة نبيذ الذُّرَة في قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي بمقاطعة شان دونغ شمال شرق الصين، وتتكون هذه العائلة من الجد يو جان آو الذي كان يعمل بالأمس القريب حمَّالًا في شركة لنقل توابيت الموتى وهوادج الأفراح، ثم أصبح بعد ذلك قائدًا كبيرًا في عصابات قُطَّاع الطُّرق، والتي انضمَّت إلى قوات الجيش الثامن التابع للحزب الشيوعي الصيني، وقاتَلوا المعتدي الياباني دفاعًا عن بلدتهم، وقد قام يو جان آو في شبابه بقتل صاحب أكبر وأشهر فرن لصناعة النبيذ وابنه الذي تَزوَّج من أجمل فتاة في القرية، حتى تمكن يو جان آو من الاستيلاء على الفرن وصاحبته التي أعلن زواجه منها، ثم خرج بعدها مصطحبًا معه ابنه في معاركه الطاحنة ضد عصابات قُطَّاع الطُّرق المعادية له، ثم مقاومة العدو الياباني، حتى كانت النهاية الغريبة المفجعة بقيام القوات اليابانية بقتل زوجته الثانية وابنته الطفلة الصغيرة صاحبة الأعوام الخمسة في عام ١٩٤١م، ذلك العام الذي «يعتبر أكثر الأعوام التي شهدت فيها حرب المُقاوَمة ضد اليابان وحشية وقسوة لم يَسبِق لها مثيل خلال سنوات حرب المقاومة ضد اليابان.»

فالرواية تسلط الضوء على بيئة ريف دونغ بيي بمقاطعة شان دونغ، وعادات وتقاليد هذه المنطقة بما فيها عادات الزواج وانتشار الزواج القَسْري الذي يستمد شرعيته من التقاليد القديمة المتوارثة وموافقة الوالدين، والجنازة الصينية التقليدية، والتي لا يزال كثير من عاداتها باقيًا حتى الآن في مجتمع صين القرن الحادي والعشرين، وغيرها من العادات والتقاليد الصينية الأصيلة التي توارثتها الأجيال جيلًا بعد جيل. فهي واحدة من أهم الروايات المهمة لمو يان؛ اتخذت من القرية فضاءً كاملًا لها، ومسرحًا لأحداثها ومَثَّلت شخوصها هذه البيئة الريفية في منطقة شمال شرق الصين، والتي ينتمي إليها الكاتب مو يان، فقد بدأ مو يان بهذه الرواية المهمة في تاريخ الأدب الصيني المعاصر مشروعه الطموح عن الناس والحياة والتاريخ في ريف دونغ بيي بمدينة قاو مي بمقاطعة شان دونغ الصينية. وهو المكان الذي ترعرع فيه الكاتب واختاره نموذجًا للحياة الشعبية في الريف الصيني، وسكب فيه عصارة وعيه بهموم القرية في حياة جيل الكُتَّاب الروَّاد الذي ينتمي إليه، وخلاصة رؤيته لآفاق تطورهم. فتنحاز هذه الرواية للريف وتجيد التعبير عنه وتقديمه بصورة دقيقة بقلمٍ مبدعٍ واعٍ. فصورة القرية عنده هي صورة القرية الواقعية، بكل ما يدور فيها من صراعات وعلاقات اجتماع ومنظومة القيم التي تتحكم في سلوكيات أفرادها الذين هم شخوص الرواية. وهي بكل المقاييس ليست صورة للقرية الرومانسية المرسومة عن بعد. وقد كتبت حول هذه الرواية دراسة نقدية مُوسَّعة في ملحق صحيفة «نيويورك تايمز» للكتب، وقد ذكر كاتب الدراسة أن: «الكاتب الروائي الصيني مو يان استطاع من خلال شخصيات الرواية الحية أن يجعل القارئ الغربي باستطاعته التَّعرُّف على الثقافة الغريبة التي تتمتع بها المناطق الصينية على مستوى مقاطعات الصين، وكانت نتيجة ذلك أن استطاع جمهور القراء الغرب بالتعاون مع مو يان أن يضعوا «ريف دونغ بيي بمدينة قاو مي الصينية» على خريطة الأدب العالمي.»

هذه الرواية واحدة من أهم الروايات الصينية الحديثة التي تُؤرِّخ لحرب المقاوَمة الصينية ضد المعتدي الياباني خلال الفترة من ١٩٣٧م حتى ١٩٤٥م. حتى عدَّها نُقَّاد الأدب الصيني واحدة من الروايات المهمة التي كان لها تأثير كبير على تاريخ تَطوُّر رواية الحرب في الصين. إلا أن هذه الرواية تختلف عن غيرها من الروايات الصينية المعروفة التي اهتمت بكتابة تاريخ الثورات والحروب الصينية، فهي تقدم تاريخ حرب المقاومة ضد اليابان من خلال قصص مثيرة حدثت لزعيم عصابة قُطَّاع الطُّرق البطل المعروف يو جان آو.

وتذخر رواية «الذُّرَة الرفيعة الحمراء» لمو يان بالكثير من العناصر السحرية المهمة التي تُؤكِّد تأثُّرَه الواضح بتيار الواقعية السحرية ورائده الكاتب الكولومبي جابريل جارثيا ماركيز. ونرى أن مو يان، كما ذكر الراحل الكبير خيري شلبي في مَعرِض حديث عن الجوانب المشتركة بينه وبين جابريل جارثيا ماركيز، «بيننا مشتركات. كِلانا يقتطع من لحمه، وكِلانا لا يخشى الكشف عن عوراته في سبيل الحقيقة، وكِلانا صاحب تجربة عميقة في الحياة يستخدمها في طهو أعماله.» وقد عبَّر مو يان عن ذلك في رائعته «الذُّرَة الرفيعة الحمراء» خير تعبير. وقد تَجلَّت العناصر السحرية في الرواية في عالم عصابات قُطَّاع الطُّرق الغريب والقواعد الخاصة التي تحكم هذه الجماعة الخاصة من البشر، وعالم الحمالين البسطاء الذين يعملون في مجال حمل توابيت الموتى وهوادج الأفراح، وعالم مقابر الأطفال الموتى، والذي يُعتَبر أكثر هذه العناصر غرابة للقارئ «وكانت تلك المقابر عبارة عن مكان فسيح يقوم الأهالي بإلقاء موتاهم من الأطفال الصغار في هذا المكان المكشوف. وحيث كانت تنتشر في القرية آنذاك عادة تقول بأن الطفل الذي يموت دون الخامسة من عمره لا يمكن دفنه مثل باقي الأموات، وإنما يجب إلقاؤه في مكان مكشوف لتأكله الكلاب الضالة.» وعالم الجن والعفاريت وغيرها من العوالم الغريبة التي تنفرد بها الرواية بين الأعمال الأدبية الصينية المعاصرة، والتي ترسِّخ مكانة مو يان كرائد في فن السرد المعاصر والتأثر بالنظريات الأدبية الأجنبية.

وتتميز هذه الرواية بلغتها المحلية الشاعرية الجميلة، والتي تفيض بالوصف الدقيق للكثير من مكوِّنات البيئة الريفية؛ من نباتات وحيوانات وطيور وحشرات وأنهار وجداول. كما برَع المؤلِّف في استخدام كَمٍّ كبير من الألفاظ والتعبيرات الشائعة في أوساط العامة في ريف شمال شرق الصين، وكَمٍّ كبير من التشبيهات الغنية بالخيال الخصب، والتي تُنافِي الواقع، وقد نجح مو يان في تطويع اللغة في الرواية بما يتوافق مع الواقع السحري والتعمق في بواطن شخوص العمل، ليعبر عن تأثره الواضح بماركيز وتيار الواقعية السحرية، حيث يعتبر مو يان أكثر الكُتَّاب الصينيين احتفاءً بالواقعية السحرية واهتمامًا بها كما صرح بذلك بنفسه. وهكذا فإن استخدام المؤلِّف للغة العامية والكلمات الخاصة ببيئة ريف مقاطعة شان دونغ شمال شرق الصين، فقد مثلت هذه اللغة المحلية والتشبيهات الخاصة جدًّا صعوبة كبيرة خلال الترجمة. وقد تَمكَّنْت من زيارة المؤلِّف في العاصمة الصينية بكين وتناقشتُ معه حول الكثير من الاستخدامات اللغوية الخاصة في الرواية، كما اجتهدتُ في قراءة ما أمكن من أعمال أدبية صينية تنتمي لنفس البيئة، واستعنتُ برأي عدد من الأصدقاء الصينيين العاملين في حقل اللغة الصينية. وأتمنَّى، بفضل الله وعونه، أن ينال جهدي هذا في ترجمة هذه الرواية الصينية المهمة جدًّا إلى اللغة العربية رضا القارئ العربي الكريم. مع وعد مني أن أجتهد، إن شاء الله، في الأعمال القادمة. والله وحده وَلِيُّ ذلك والقادر عليه.

ويُسعدني أن أتقدم بجزيل الشكر إلى من كان لهم الفضل الكبير في تشجيعي على ترجمة الأعمال الأدبية الصينية وهذه الرواية المهمة على وجه الخصوص. وأخصُّ بالشكر أساتذتي الأفاضل المترجم الكبير د. عبد الغفار مكاوي، والروائي المصري الكبير الأستاذ جمال الغيطاني، وأستاذي الفاضل الذي أُكِنُّ له كل الاحترام والتقدير الدكتور محسن فرجاني بكلية الألسن جامعة عين شمس.

والله الموفق.
حسانين فهمي حسين
القاهرة، في سبتمبر ٢٠١١م
١  د. حامد أبو أحمد، «كتاب الهلال»؛ (خيري شلبي وتد الرواية المصرية، ملف خاص)، عدد ديسمبر ٢٠١٠م، صفحات ١١ و١٣.
٢  د. حامد أبو أحمد «كتاب الهلال»، (خيري شلبي وتد الرواية المصرية، ملف خاص)، عدد ديسمبر ٢٠١٠م، صفحة رقم ١٧.
٣  أدب البحث عن الجذور: هو تيارٌ أدبيٌّ مهمٌّ ظهر على الساحة الأدبية الصينية في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، عقب «أدب الجِراح». حيث بدأ عدد كبير من الكُتَّاب الصينيين آنذاك بالاهتمام بكتابة الموضوعات التي تتعلق بالوعي بالتقاليد الصينية والتراث الصيني والثقافة القومية الصينية، حتى أُطْلِق على الأعمال التي يكتبونها في هذا الصدد مسمى «أدب البحث عن الجذور». وقد بدأ الإعلان عن هذا التيار الأدبي الجديد في عام ١٩٨٥م، حيث أعلن الكاتب الصيني المعاصر «خان شاو قونغ Han Shao Gong» في ورقة بحثية له بعنوان «جذور الأدب» عن أن: الأدب له جذور، وأن جذوره تمتد في التربة الثقافية للثقافة القومية. ومن أهم الأعمال الرائدة في مجال «أدب البحث عن الجذور» رواية «با با با» للكاتب خان شاو قونغ، ورواية «ملك الشطرنج» للكاتب آه تشينغ، والقصة الطويلة «الفجلة الذهبية» للكاتب مو يان، وغيرها من أعمال مهمة في هذا المجال للكاتب لو ياو، وتشين جونغ شه، وجيا بينغ وا، ووانغ آن إي، وغيرهم من الكُتَّاب المعاصرين. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤