الباب الأول

الذُّرَة الرفيعة الحمراء

١

في اليوم التاسع من الشهر الثامن حسب التقويم القديم عام ١٩٣٩م، كان أبي — أحد أفراد عصابة قُطَّاع الطُّرق — قد تجاوز الرابعة عشرة من عمره. وكان قد رافَق القائد يو جان آو — ذلك البطل الأسطوري الذي ذاع صِيتُه فيما بعد — رافقه إلى الفريق الذي كان يَنْصِب كمينًا للعدو على الطريق العام عند جياو بينغ. خَرجَت جدتي تُودِّعهم وهي ملتحفة بعباءتها. فقال القائد يو: «فلترجعي! فوقَّفَت في مكانها، ولم تُواصل التقدم لوداعهم. وقالت لأبي ناصحة إيَّاه: «دوو قوان، استمع جيدًا إلى كلام والدك!» فأنْصتَ أبي إليها، ولم يَنبِس ببنت شفة، وراح يُمعِن النظر في قامتها العالية ويشم الرائحة المنبعثة من خلال عباءتها، ثم شعر ببرودة شديدة، وراح يَرتَجِف حتى بدأ القائد يو يمسح على رأسه قائلًا: «فلنمضِ يا صغيري!»

وهكذا بدأ وَقْع أقدام أفراد العصابة يبتعد عن المكان شيئًا فشيئًا. وبدأ الضَّباب الكثيف يحجب الرؤية أمام أبي، كان لا يرى أمامه بوضوح، كان فقط يسمع وَقْع أقدام أفراد العصابة ولا يراهم. ومضى أبي يمسك بطرف ثياب والده القائد يو وهو يهرول وراءه. وأدرك أن جدتي مَضتْ تبتعد عنه كثيرًا، والضَّباب يبدو كثيفًا كأمواج البحر الهائج، وهو يمسك بطرف ثياب القائد يو وكأنه طَوْق النجاة الوحيد من هذا الموج الهائج.

بدأ أبي يقفز نحو قبره الحجري الذي سيكون فيما بعد هنا وسط حقول الذُّرَة. كان ذلك القبر محاطًا بالأعشاب الكثيفة، وقد جاء إلى ذلك القبر صبي يجر ماعزة، وكانت الماعزة تأكل من تلك الأعشاب والصبي يَتبوَّل على حافة القبر وهو يَتغنَّى قائلًا: «لقد احمرَّت الذُّرَة، وجاء اليابانيون، فيا أيها الأشقاء! استعِدُّوا لإطلاق الأعيرة النارية والمدافع.»

قال البعض إن ذلك الصبي هو أنا. ولكنني لا أعرف إن كنتُ هو أم لا. كنتُ أعشق كثيرًا ريف دونغ بيي بمدينة قاو مي، وكنتُ أحقد على ذلك المكان. وبعد أن كبرتُ واجتهدتُ في دراسة الماركسية، أدركتُ أن ريف دونغ بيي بمدينة قاو مي هو أجمل وأقبح مكان على سطح الأرض، وأهله هم أشجع الشُّجْعان وأحقر الناس، وأنهم أكثر الناس قدرة على شرب النبيذ وعلى الحُب. عاش آبائي وأجدادي هنا، وتَغذَّوا على الذُّرَة، وكانوا يزرعونها سنويًّا بكميات كبيرة. وفي أغسطس من كل عام، كانت الحقول تبدو كبحور من الدماء وسط زراعات الذُّرَة الرفيعة. وكان أهل قاو مي ينشغلون بهذا العُرس في كل عام. كما أنهم كثيرًا ما قاموا بالقتل والنَّهب، وأخلصوا دفاعًا عن وطنهم، وقد قَدَّموا صورة مسرحية بطولية حزينة، جعلَتْنا نحن الأحفاد غير البارِّين نشعر أمام كل تلك الإنجازات بتراجع النوع الإنساني في مدينة قاو مي. وبعد أن خرج فريق العصابة من القرية، ساروا في طريق ترابي ضيق. واختلط الضَّباب الكثيف بكميات التراب المنبعثة من تحت أقدامهم، وهم يسيرون في ذلك الطريق الترابي، كانت قطرات المياه تبدو على وجه أبي وكأنها قِطَع بلورية. وكان أبي قد تَعوَّد على رائحة النعناع الذكية والروائح الأخرى المنبعثة من وسط زراعات الذُّرَة. وفي تلك المرة حيث اختلطَت الرائحة بالضَّباب الكثيف، أحس أبي بأنه يشم رائحة جديدة أَيقظتْ في نفسه ذكريات بعيدة. وبعد مُضِي خمسة عشر يومًا، وفي الخامس عشر من شهر أغسطس الذي يوافق عيد منتصف الخريف، كان البدر يملأ السماء وينير حقول الذُّرَة، وكانت حبات الذُّرَة تبدو كأنها حبات فضية. وراح أبي يشم رائحة ذكية تفوق أضعافًا رائحة الذُّرَة في العصر الحالي. في ذلك الحين كان القائد يو يجره وراءه، وخلفهم تظهر بِركة من دماء ما يزيد على ثلاثمائة من أهل القرية، جعلت الأرض السوداء تبدو مخضبة بالدماء. وقد جعلت الرائحة بعضهم يشعر بالاختناق. كانت مجموعة من الكلاب التي جاءت لتأكل من لحم القتلى تقبع هنالك وتنظر إلى أبي والقائد يو. فأطلق القائد يو رصاصة من مسدسه فاختفى كلبان، ثم أطلق رصاصة ثانية اختفى على دُوِيِّها كلبان آخران. فتفرَّقَت جماعة الكلاب ووقفَتْ بعيدًا تنظر إلى الجثث المُلقاة على الأرض. وبدأَت تلك الرائحة تزداد شيئًا فشيئًا. وراح القائد يو يصيح في الكلاب: «أيتها الكلاب اليابانية، اللعنة على اليابانيين!»، ثم صوَّب مسدسه تجاهها حتى اختفَتْ تمامًا. وقال لأبي: «هيا بنا يا بني!» ودخل الأب وابنه وسط زراعات الذُّرَة. وتَسرَّبتْ تلك الرائحة إلى أعماق أبي حتى أنها باتت ترافقه طيلة حياته.

كانت سيقان الذُّرَة تُصْدِر عند اصطدامها ببعضها البعض أصواتًا مسموعة، أحيانًا قوية وأحيانًا أخرى ضعيفة. ولكي يلاحق أبي الرَّكْب، كان يهرول وسط الذُّرَة وهو يصطدم بسيقانها. وفي ذلك الحين كانت تصدر أصوات أخرى نتيجة اصطدام مسدس أحد أفراد العصابة بمسدس رفيقه، أو نتيجة اصطدام أحدهم برأس جثة من تلك الجثث الملقاة وسط الذُّرَة. وسمع أبي صوت سُعال ذلك الرجل الذي كان يسير أمامه، وقد عرف من صوت السعال صاحب الصوت وانغ وين إي المعروف بأذنيه الكبيرتين اللتين ما إن تهتزان حتى تَنزِفَا. كانت أُذنَا وانغ وين إي أكثر أعضاء جسمه دلالة عليه. وكان الرجل يتميز بأنه قصير القامة ذو رأس كبير. جاهَد أبي في السير حتى تَحقَّق من وانغ ونظر إليه نظرة فاحصة. وتذكَّر حكاية وانغ عندما كان في ساحة التدريب، وصاح فيهم نائب القائد أن استديروا صوب اليمين، ولكنه لم يسمع جيدًا، ولم يعرف الوجهة التي نادى بها القائد، فما كان من نائب القائد إلا أن ضربه بالسوط فراح وانغ يصيح: يا أمي! وتَغيَّر لون وجهه من شدة الضربة، حتى سمع الجميع صوت ضحك الأطفال الذين كانوا يُتابِعون التدريب من خارج السور.

وضرب القائد يو وانغ وين إي على مُؤخِّرته، ثم سأله: «لماذا تسعل؟»

«أيها القائد!» تحمَّل وانغ وين إي سعاله. وقال: «أشعر بألم في حنجرتي.»

– «لا تسعل مَهْمَا كان السبب! واعلم أنني سأقطع رأسك إذا اكْتُشِف أَمْرُنا!»

«سمعًا وطاعة أيها القائد». أجاب وانغ، ثم صدر عنه صوت سعال لم يستطع أن يكتمه.

وهنا أحس أبي بأن يد القائد يو تنزل من خلف رأس وانغ وين إي، وأحسَّ أيضًا أن هناك قطرات كحبات العنب تسيل من رقبة وانغ، ورأى عيني وانغ تبدوان في غاية الامتنان والشفقة.

بعد وقتٍ قصيرٍ، غابت العصابة وسط زراعات الذُّرَة. وأحس أبي أن العصابة تسير صوب الجنوب الشرقي. وأن الطريق الترابي الذي سلكته العصابة هو الطريق الوحيد المؤدي إلى حافة نهر موا شوى.١ الطريق الضيق أبيض يبدو مائلًا إلى الزُّرْقة في وَضَح النهار. كان الطريق مُكوَّنًا من الطَّمْي الأسود، غير أنه الآن غني بالكثير من روث الأبقار والبغال والحمير. سار أبي في ذلك الطريق أكثر من مرة، حتى إنه كان يذكره أثناء فترة العذاب التي قضاها في اليابان. لا يعرف أبي كَمْ من الأحزان والأفراح التي عاشتها جدتي على ذلك الطريق، لكنني أعرف. وكذلك لا يعرف أبي أن جُثَّة جدتي كانت قد أُلْقِيَت على ذلك الطريق الترابي الأسود الذي تظلله زراعات الذُّرَة، لكِنَّنِي أعرف.

كان أبي قد لعب في صغره في مياه نهر موا شوى، وكأن حُبَّ اللعب في المياه كان موهبة طبيعية اتصف بها في طفولته وصباه. حيث تذكر جدتي أن لهفته إلى المياه كانت أشد من لهفته إلى أمه. كان وهو في الخامسة من عمره يسبح في المياه مثل البط الصغير. كان يعرف تمامًا طين قاع نهر موا شوى، وكانت تنمو على ضفاف النهر أعشاب وأزهار كثيرة ويسبح على الشاطئ بعض من كائنات النهر. وفي الخريف عندما كانت تهب الرياح الخريفية وتزداد برودة الجو، كانت تفر إلى الجنوب جماعات من الإوز الصيني. وعندما استمع أبي إلى صوت صرير مياه النهر، تَذكَّر الجدَّ ليو لوو خان الذي كان قد خدم في منزل العائلة عشرات السنين، وكان مسئولًا عن صناعة النبيذ التي كانت تديرها عائلتي، كان أبي يحبه كثيرًا مثل جده الحقيقي تمامًا.

كثيرًا ما كان أبي يرافق الجد ليو في الخروج إلى النهر للعب مع سرطان البحر على ضفتي نهر موا شوى. ويُمْضِي هنالك وقتًا جميلًا، حيث صيد الأسماك الصغيرة ونصائح الجد ليو بعدم الاستعجال على الفريسة. وكان أبي يتابع فريسته وهي تدنو من الشاطئ، وتظهر جلية تحت ضوء الشمس حتى يُصْدِر له الجد ليو أوامره بأن: «اقبض عليها!»

وبعد أن توغَّل أبي بصحبة أفراد العصابة في زراعات الذُّرَة، كانت قدماه لا تَكُفَّان عن الاصطدام بأعواد الذُّرَة، بينما هو غارق في التفكير في ماضي النهر وألعاب الطفولة. كان لا يزال ممسكًا بطرف ثياب القائد ليو وهو يهرول وراءه، وقد أحس بالنوم يغلبه، فثقل رأسه، وبدت على عينيه علامات النوم. مضى أبي يفكر في أن رحلته لن تضيع سُدًى ما دام في رفقة الجد ليو إلى نهر موا شوى. وكان أبي قد شبع كثيرًا من أكل سرطان البحر وكذلك جدتي. وكان الجد ليو يقوم بتقطيع سرطان البحر إلى قطع صغيرة ويضيف إليها فول الصويا والملح، ويضعها في إناء لإعداد حساء سرطان البحر، ذلك الحساء الذي كانوا يَتلذَّذون جميعًا بشرابه. وكنت قد سمعت بأن جدتي كانت تتعاطى مخدر الحشيش، ولكنها لم تَصِل إلى حد الإدمان؛ لذا فقد كانت تبدو دائمًا في حالة من الانتعاش. وكان الاهتمام بالصحة والمُحافَظة عليها شعارًا معروفًا في قريتنا التي كانت معروفة بإنتاج أنواع من الأسماك الغنية بقطع اللحم. فجأة تَذكَّر أبي حادثة وفاة الجد ليو في العام الماضي عند طريق جياو بينغ العام. وكانت جثته قد قُطِّعَت إربًا إربًا، وتم توزيع تلك القطع في جميع الاتجاهات. كانت الجثة قد سُلِخَت مثل الضفدعة. وما إنْ تَذكَّر أبي حادثة مقتل الجد ليو شعر برعشةٍ شديدةٍ أصابَت جسمه كاملًا. ثم تَذكَّر حادثة كانت قد وقعت منذ سبعة أو ثمانية أعوام مَضَت، في ذلك المساء كانت جدتي قد شربت حتى سكرت، ووصلت إلى ساحة فناء صناعة النبيذ في منزل العائلة الكبير، وهناك تعلَّقت بكتف الجد ليو وهي تتوسل إليه: «أيها العم ليو، أتوسَّل إليك ألا تُغادِرنا! وإن لم يكن لأجلي فلأجل الصغير دوو قوان، أتوسَّل إليك أيها العم ليو ألا تغادرنا! وإن أردتَ أن أهبَ لك نفسي فسأفعل على الفور، فأنت مثل أبي تمامًا.» أذكر أن الجد ليو كان قد أزاح جدتي عنه وغادَر المكان إلى زريبة البغال ليُطعم بغاله. فقد كانت أسرتي تُربِّي بغلين أسودين يتم استخدامها في فرن صناعة النبيذ، وكان البغلان من أجود أنواع البغال المعروفة في القرية. ولم يغادر الجد ليو الأسرة إلَّا بعد قيام اليابانيين بالاستيلاء على البغلين واستخدامهما في صيانة وتعبيد طريق جياو بينغ العام.

في ذلك الحين، سمع أبي صوت الحمير القادم من القرية، ففتح عينيه ورأى أن الجو لا يزال مُلبَّدًا بالضَّباب، وأن أعواد الذُّرَة تحجب عنه رؤية أقرب الأشياء إليه. ومضى يُفكِّر في زراعات الذُّرَة التي لا تنتهي، لا يدرك كم من الوقت قضاه بين جنباتها. وفَقَد أبي وهو بين تلك الحقول التي لا تنتهي التركيزَ في الاتجاهات. وتذكَّر أنه كان في العام قبل الماضي قد ضل طريقه وسط حقول الذُّرَة، ولكن صوت مياه النهر آنذاك دلَّه على طريق النجاة من غيابات الذُّرَة. فعندما سمع أبي صوت صرير مياه النهر، عرف على الفور أن العصابة تمضي في اتجاه الشرق صوب النهر. وبمجرَّد أن تأكد من وجهة السير، تأكد أن الرَّكْب يمضي إلى ذلك الخندق لمواجهة وقتال الجيش الياباني، نعم إنهم يَمْضون إلى القَتْل، قَتْل البشر وكأنهم يقتلون الحيوانات. وعرف أن الرَّكْب سيسير صوب طريق جياو بينغ الذي قام الجيش الياباني وعملاؤه بتعبيده مُسخِّرِين شعب القرية.

اشتد صوت اصطدام أفراد العصابة بِعِيدان الذُّرَة، فقد أتْعبَتْهم الرحلة الطويلة وسط زراعات الذُّرَة التي لا تنتهي. حتى وانغ وين إي لم يتوقف عن السُّعال رغم سيل التوبيخ والسَّب المُوجَّه له من القائد يو. ولما أحسَّ أبي أن الرَّكْب يقترب من الطريق العام، راح يتأمل عيدان الذُّرَة المنغرسة في الأرض الطينية والمشبعة بمياه الأمطار.

وفجأة سمع أبي صوتًا حادًّا، ثم اجتهد ليعرف مصدر الصوت.

وهنا سمع القائد يو يصيح بصوت مرتفع: «مَن الذي أطلق النار؟ يا شياو جيو تسه مَن الذي أطلق النار؟»

وسمع أبي دَوِيَّ طلقة نارية أحدثت جلبة كبيرة وسط زراعات الذُّرَة، وقد أصابت الطلقة في طريقها الكثير من عيدان الذُّرَة وسنابلها، ولا أحد يعرف أين استقرت. ثم سمع صوت وانغ وين إي وهو يصيح بصوت به الكثير من الأسى والخوف: «أيها القائد يو، إنني عديم الرأس، أيها القائد يو إنني عديم الرأس!»

ركله القائد يو برجله. ثم قال: «عليك اللعنة! عديم الرأس ولكنك جريء في الحديث!»

وقال أبي: «أيها العم وانغ إنك جُرحت.»

– «دوو قوان، أأنت دوو قوان، انظر جيدًا هل لا يزال رأس العم وانغ في مكانه؟»

– «نعم، إنه لا يزال مستقرًّا في مكانه، فقط تبدو أذنك مجروحة.»

مد وانغ وين إي يده يتحسس أذنه المجروحة، ولامست يده الدماء التي تسيل من أذنه، وهنا بدأ يشكو حاله إلى القائد يو: «أيها القائد يو، لقد جُرحت، لقد جُرحتُ، لقد جُرحتُ.»

رجع القائد يو إلى الخلف، وجلس القرفصاء، وأمسك برقبة وانغ وين إي، وقال بصوت منخفض: «كُفَّ عن الصراخ، وإلا فصلتُ رقبتك عن جسدك!»

وهنا كفَّ وانغ وين إي عن الصراخ.

وعاود القائد يو يسأله: «أين مكان الجرح؟»

فرد وانغ باكيًا: «إنها أذني!»

أخرج القائد يو من جيبه قطعة قماش بيضاء وشقها نصفين ومدها إلى وانغ قائلًا: «غط بها الجرح، وكف عن الصراخ، وسنعاود لف الجرح ثانيةً في الطريق.»

ونادى القائد يو على أبي: «دوو قوان.» فأجابه أبي، ثم اقترب منه وواصلَا السير معًا. بينما كان وانغ يسير خلفهما وهو يتألم من جرحه.

كانت تلك الطلقة الطائشة التي دوَّى صوتها وسط زراعات الذُّرَة، قد خرجت عن غير قصدٍ من بندقية الأخرس. وكان الأخرس صديقًا قديمًا وحميمًا للقائد يو، وكان بطلًا رافقه طويلًا، وأكلَا معًا الخبز وسط زراعات الذُّرَة، وكانت إحدى قدمي الأخرس قد جُرحت وهو لا يزال في بطن أمه، كان يعرج عليها أثناء السير، ولكنه كان يسير عليها بسرعة، وكان أبي يخشاه كثيرًا.

وعندما تَبدَّد ضَباب الفجر، وصلت العصابة أخيرًا إلى طريق جياو بينغ العام. وعندما سلك الرَّكْب الطريق العام، بدَا أبي أكثر مرونةً وحيويةً وقدرة على السير بمفرده، حتى إنه لم يَعُد يمسك بطرف ثياب القائد يو. وكان وانغ وين إي لا يزال يغطي أذنه المجروحة بتلك القماشة البيضاء وهو غارق في بكائه. وهنا مد القائد يو يده وساعده في ربط الجرح بإحكام حتى شمل الغطاء نصف رأسه. وراح وانغ يَتأوَّه من شدة الألم.

قال القائد يو: «آه من عمرك الطويل!»

فرد وانغ وين إي: «لقد نزفتُ دمائي كلها، ولا أستطيع الذهاب!»

قال القائد يو: «عليك اللعنة! إن جُرحك هذا لا يعادل لدغة بعوضة، هل نسيتَ ثأر أبنائك الثلاثة؟!»

فطأطأ وانغ رأسه، وقال وهو يغمغم: «لا لم أنسَ، لم أنسَ أبدًا.»

ومضى وانغ يسير وهو يحمل بندقيته التي تلوَّثت بدمائه التي لم تتوقف بعد.

كان الضَّباب قد تَبدَّد تمامًا، وبدَا الطريق العام صحوًا، ولم يكن على الطريق أي أثر لأقدام الأبقار والخيل أو حتى البشر. وكان الطريق المحاط من جانبيه بزراعات الذُّرَة كفيلًا بأن يجعل المارة يشعرون بعدم الاطمئنان. كان أبي يعلم أن عصابة القائد يو المكونة من أربعين شخصًا، من بينهم الأبكم والأخرس والأعرج، كانوا جميعهم جنودًا شجعانًا عاشوا في القرية، واختلطوا بجميع ما فيها من حيوانات وطيور. والْتفَّ ثلاثون رجلًا منهم مُكوِّنِين دائرة تشبه الحية أثناء نومها، وكان من بينهم من يحمل البنادق والمسدسات والمَطارق والتروس الحديدية. ولم يكن أبي يعرف آنذاك شيئًا عن نَصْب الأكمنة وعن فائدة التروس الحديدية في نصب الأكمنة لمواجهة العدو.

٢

كنتُ قد عدتُ إلى قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي لأقوم بزيارات ميدانية وتحقيقات، رغبةً مني في أن أُخَلِّد مآثر عائلتي. وكانت النقطة الرئيسية التي ركزَّتُ عليها في زياراتي هي تلك المعركة التي كان أبي قد شارَك فيها لمُقاوَمة العدوان الياباني على القرية. قالت لي عجوز من القرية تبلغ من العمر اثنين وتسعين عامًا: «لقد عاش أهل دونغ بيي الكثيرون هنا على ضفاف نهر موا شوى خه. وكان القائد يو الشجاع يَتقدَّمهم في المعارك الكثيرة التي استطاعوا خلالها أن يُبدِّدوا جيش العدو الياباني. وكانت البطلة داي فينغ ليان قد وَقفَتْ بالمطرقة الحديدية أمام العدو واعترضَت طريقه إلى القرية.»، كان رأس العجوز يبدو أصلع مثل قِدْر من الفخار، وتبدو على وجهها آثار الزمن. وكانت تلك العجوز قد نَجَت من مذبحة خريف أغسطس عام ١٩٣٩م، بعد أن أُصِيبَت آنذاك بدُمَّل في قدمها جعلها غير قادرة على ملاحقة الرَّكْب والهروب من العدو، فأدخلها زوجها في سرداب، واختفَت داخله حتى زال الخطر. كان داي فينغ ليان — تلك المرأة التي تتغنى بشجاعتها العجوز — هو لقب لجدتي. وقد تأثَّرتُ كثيرًا عند سماعي لقب جدتي على لسان العجوز. وعرفتُ أن كلام العجوز يدل على أن جدتي هي التي كانت قد اعترضتْ طريق العربات اليابانية بالمطرقة الحديدية. فهي تُعْتَبر أيضًا رائدة من روَّاد المُقاوَمة ضد العدوان الياباني وبطلة شعبية دافعَتْ عن بلادها.

عندما ذكرتُ للعجوز اسم جدتي، أَسهبَتْ في الحديث عنها. وكان حديثها عن جدتي متفرقًا، فتحدَّثتْ عن قدميها اللتين كانتَا أصغر أقدام بالقرية. وتحدَّثتْ عن صناعة النبيذ التي كانت تزاولها عائلتي. وتَحدَّثَت بكلامٍ مترابطٍ عن طريق جياو بينغ العام، حيث قالت: «عندما وصل تشييد الطريق إلى هنا، قام اليابانيون بجمع أكثر أهل القرية شدةً وأجبروهم على العمل في تشييد الطريق، كما استولوا على البغلين اللذين تمتلكهما عائلتك، وأقام اليابانيون جسرًا حجريًّا أعلى نهر موا شوى، أما لوو خان، أقصد ذلك الأجير الذي كان يخدم في منزل عائلتك، فقد كانت بينه وبين جدتك علاقة غير واضحة، والجميع كان يَتحدَّث عن هذه العلاقة، كان هناك الكثير من الحكايات حول جَدَّتك في شبابها، وكان أبوك شجاعًا استطاع القتل وهو في الخامسة عشرة من عمره، فقد تربَّى على يدي قُطَّاع الطُّرق. كان الأجير لوو خان قد تَعرَّض للقتل والتمثيل بجثته عندما راح يبحث عن البغلين ويحاول استعادتهما من أيدي اليابانيين.»

ويُعْتَبر الجد ليو لوو خان شخصية مهمة في تاريخ عائلتي الطويل. وحتى الآن لا توجد أي أدلة تؤكد تلك العلاقة المزعومة بينه وبين جدتي. وإن كنت شخصيًّا لا أرغب في الاعتراف بهذه العلاقة.

جعلني حديثُ العجوز الصلعاء أشعر بالحيرة، على الرغم من وجود مبررات لتلك العلاقة بين جدتي والجد ليو لوو خان. مَضَيتُ أفكر في أنه ما دام الجد ليو يعاملني كحفيده، فإنه يعتبر مثل جَدِّي لأبي، وإذا كان له نزوات طائشة مع جدتي، فإن هذا سيكون مجرد افتراضات فحسب. لم تكن جدتي زوجة له بل كانت سيدته، وكان الجد ليو يرتبط بعائلتي بصفة اقتصادية فحسب لكونه أجيرًا عند العائلة، ولم تكن تربطه بنا صلة قرابة. كان فقط أجيرًا عمل لمدة طويلة على خدمة العائلة، وكان له دور في ازدهار تجارتها، وإذا كانت جدتي وقعت في حبه أم لم تقع، وإذا كان هو وقع في حبائل جدتي أم لم يقع، فإن ذلك كله مُجرَّد افتراضات. وماذا لو كان حدث ذلك الحب؟ أثق تمامًا أن جدتي كانت قادرة على فعل أي شيء ما دامت ترغب فيه. وأنها لم تكن بطلة شعبية فحسب، بل كانت أيضًا رائدة في مجال تَحرُّر الذات ونموذجًا في اعتماد المرأة على نفسها.

قمتُ بمراجعة سجلات المدينة، وتوصَّلْتُ إلى أن تلك السجلات تذكر: أنه في العام السابع والعشرين من تأسيس جمهورية الصين الوطنية٢ قام الجيش الياباني بالقبض على أربعمائة ألف من أهل مدن قاو مي، وبينغ دو، وجيان شيان، لتشييد طريق جياو بينغ العام. وقد أدَّى ذلك إلى تبوير مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية. والاستيلاء على عددٍ كبيرٍ من البغال والخيل للاعتماد عليها في تشييد الطريق. اعترض الفلاح ليو لوو خان على ذلك، وحاول استعادة بغليه من العدو الياباني، الأمر الذي أدَّى إلى ردٍّ عنيفٍ من الجيش الياباني. قامُوا بقتله والتمثيل بجثته أمام الجماهير العريضة من أبناء القرية. غير أن الفلاح ليو لم يستسلم للعدو بسهولة وناضَل حتى لَفَظ أنفاسه الأخيرة.

٣

وهكذا كانت تلك الواقعة، حيث جاءت القوات اليابانية وواصلت تشييد الطريق على حدود قريتنا. وقد أدَّى ذلك إلى الإضرار الكبير بحقول الذُّرَة، وغيَّر الطريق الكثير من مَعالم القرية. وعندما سمع الأهالي بأمر الطريق، وأن الجيش الياباني قادم إلى القرية لتشييد الطريق، كانوا في غاية القلق وبدَءُوا يَترقَّبون وقوع الكارثة.

ووقعت الكارثة بالفعل، وجاءت القوات اليابانية.

وعندما وصل العدو الياباني إلى القرية وقاموا بالقبض على الفلاحين، واستولوا على البغال والخيل، كان أبي يغطُّ في نومٍ عميقٍ. وقد أيقظه آنذاك صوت طاحونة صناعة النبيذ. وسحَبَتْه جدتي من قدميه الصغيرتين إلى فناء الطاحونة. كان يوجد بالفناء آنذاك ما يزيد على عشرة قدور كبيرة ممتلئة بالنبيذ الأبيض عالي الجودة، تفوح رائحته في جميع أرجاء القرية. ودخل إلى الفناء جنديان يابانيان يرتديان زيًّا أصفر اللون ويمسك كل منهما برشاش مُزوَّد بخنجر، بصحبتهما شابان صينيان في زي أسود يحمل كل منهما بندقية وقد انشغلَا بفَكِّ البغلين المربوطين إلى الشجرة. وحاوَل الجد ليو جاهدًا مَنْع العَميلين الصينيين من فك البغلين، لكنه لم يستطع الصمود أمام ضرباتهم المتتالية، وبعد وقت قصير، بقي الجد ليو بمفرده وسط شمس الصيف المُحرِقة، وقد تمزَّقَت ثيابه جميعها إلا سترة بسيطة بدتْ مبللة بقطع أرجوانية داكنة.

قال الجد ليو للمُغتَصِبين: «أيها الإخوة الصغار، علينا أن نتفاهم في الأمر، علينا أن نتفاهم.»

فرَدَّ العميل صاحب القامة السامقة: «أيها الحيوان العجوز، اغْرُب عن وجهنا.»

قال الجد ليو: «هذه حيوانات أصحاب الدار التي أعمل بها، وليس أمامي إلا الدفاع عنها.»

فقال أحدهم: «اغرب عن وجهي وكُفَّ عن الجدال وإلا قتلتك!»

وفي تلك الأثناء كان الجنديان اليابانيان يحملان سلاحهما واقفين وكأنهما صنمان مثبتان في مكانهما.

وما إنْ دخلَتْ جدتي وأبي إلى الفناء، حتى راح الجد ليو يصيح: «إنهم يريدون أن يستولوا على بغالنا.»

فتدَخَّلَت جدتي وقالت: «أيها السيد، إننا مواطنون صالحون.»

فنظر الجنديان اليابانيان إلى جدتي وهما يضحكان.

قام العميل صاحب القامة القصيرة بفك البغلين، وحاول جَرَّهما بقوة، غير أنهما كانَا يرفعان رأسيهما إلى أعلى متشبثين في مكانهما لا يرغبان في مغادرة المكان. فتدخل العميل صاحب القامة السامقة وضرب البغلين ببندقيته على أردافهما، ولكنهما اشتاطَا غضبًا وراحَا يدكان الأرض بقدميهما حتى أصاب الطين وجه العميل.

وهنا أشار العميل صاحب القامة القصيرة بالبندقية إلى الجد ليو وصاح فيه: «أيها العجوز الأحمق، فَلْتسحبْ أنت البغال إلى موقع تشييد الطريق.»

تقَرْفصَ العجوز في مكانه.

وأخذ الجندي الياباني برشاشه وراح يلوح به أمام عيني الجد ليو وهو يُغَمغِم بكلمات غير مفهومة. ولم يستطع الجد ليو أن ينهض من على الأرض، وظل قابعًا في مكانه. ثم استلَّ الجندي الياباني خنجره ولوَّح به أمام عيني الجد ليو، ثم مال على رأسه وخدَشها مُحدِثًا بها فتحة ظاهرة.

تدخَّلَت جدتي قائلة: «أيها العم ليو، فَلْتترُك لهم البغال.»

اقترب الجندي الياباني من جدتي، ونظر أبي إلى ذلك الجندي فرآه شابًّا وسيمًا ذا عينين كبيرتين وشعر أسود لامع وأسنان صفراء. وتراجعَتْ جدتي إلى الجد ليو، وراحتْ تتحسس الدم الذي يسيل من رأسه، وتُحاوِل أن تُوقِفه وهي تنظر نظرات غريبة إلى الجنود والعملاء وكأنها شيطانة. فتراجع عنها الجندي الياباني، وتَدخَّل العميل الصيني قائلًا: «أيها القائد أرى أن هذه المرأة قد أُصيبت بالجنون.»

واقترب الجندي الياباني من جدتي ثانيةً، وأطلق أعلى رأسها طلقة جعلتها تفترش الأرض.

أجبر العميل الصيني القصير الجد ليو على أن ينهض من جلسته تحت تأثير سلاحه، وجعله يأخذ بحبل البغال ويجرها إلى خارج الفناء. وعندما خرج الجد ليو بالبغال إلى الخارج، كان الشارع يمتلئ بالبغال والأبقار والأغنام.

ولم تكن جدتي قد أصيبت بالجنون أو ما شابه ذلك. فما إن خرج المغتصبون، سارعت بفتح أحد القدور في الفناء وغسلت وجهها بالماء.

تم احتجاز الجد ليو مع البغلين في موقع العمل.

وهكذا تم الاستيلاء على الجد ليو والبغلين لِيُصبحَا رهائن في موقع تشييد طريق جياو بينغ العام. وعندما اقترب الانتهاء من دَكِّ الطريق، ظهر الكثير من سيارات النقل الكبيرة والصغيرة التي كانت تسير على الطريق الجديد مُحمَّلة بالأحجار الصغيرة والرمال، كانت تُفرِغ حمولتها على جانب النهر. في ذلك الحين كان يوجد على النهر جسر خشبي صغير، لذا فكر اليابانيون في استبدال جسر حجري كبير به، وفي أثناء ذلك تم دَكُّ مساحات واسعة من الذُّرَة، حتى الطريق بدَا وكأنه مُغطًّى بطبقة خضراء. وكانت البغال والخيل تدوس في حقول الذُّرَة لتحمل الأحجار والرمال من جانب النهر إلى موقع العمل. وكان العمال المكلفون بسحب البغال والخيل ينظرون في أسًى إلى حقول الذُّرَة التي تَخرَّبتْ تمامًا، واختلطَت محاصيلها بالأحجار والرمال وروث الحيوانات.

كان الجد ليو قد كُلِّفَ بنقل الأحجار من جنوب النهر إلى شماله، ولم يكن يرغب في أن يترك البغلين لشيخ آخر ليشرف على عملهما. وكان يَعبُر الجسر الخشبي الذي يتمايل بشدة وكأنه على وشك السقوط. وبينما هو يَعبُر الجسر إلى جنوب النهر وقد وقف برهة يأخذ قسطًا من الراحة، دنا منه رجل صيني يبدو أنه رئيس عمال وضربه بالعصا على رأسه قائلًا: «انهضْ وواصِل حَمْل الأحجار إلى شمال النهر.» ففرك الجد ليو عينيه ومسح الدم الذي بدأ يسيل من رأسه ثم مضى إلى عمله. ورأى ذلك الشيخ يسحب البغلين فدنَا منه وقال: «رفقًا بهما، فإنهما حيوانات العائلة التي كنتُ أقوم بخدمتها.» ولم يُعِره الشيخ أي اهتمام، وواصل عمله. كان رأس الجد ليو لا يزال ينزف، فجلس على الأرض وأمسك بحفنة تراب، وراح يسد بها فوهة الجرح والألم يزيد، وكأن رأسه انقسم إلى شطرين.

في موقع العمل كانت تقف مجموعة من الجنود اليابانيين والعملاء الصينيين الممسكين ببنادق، وكان ذلك المشرف الصيني صاحب العصا التي جرحت الجد ليو يَذْرَع المكان ذهابًا وإيابًا. والجد ليو يروح ويجيء في موقع العمل ورأسه لا يتوقف عن النزيف، والعمال الصينيون ينظرون إليه في شفقة. وبينما هو يمضي في حمل قطعة حجرية، إذا بذلك المشرف الصيني ينزل عليه بضربة عصا أحس الجد ليو بعدها أن جسده انشطر نصفين، ففاضت عيناه بالدموع وسالت دماؤه بغزارة.

فقال الجد ليو: «أيها القائد!»

فضربه القائد ضربة ثانية.

قال الجد ليو: «ما السبب الذي يحملك على أن تضربني أيها القائد؟»

فرد القائد مبتسمًا: «لكي أزيد من همتك أيها الحيوان.»

واشتد غضب الجد ليو، ومضى إلى عمله يحمل الأحجار الكبيرة وكأنه لا يشعر بأدنى ألم.

كان المشرف الصيني يقف آنذاك في مكانه، وما إن رأى الجد ليو يمر من أمامه حتى أشاح بيده، ونزل على رقبة الجد ليو بضربة عصا. ومشى الجد ليو يتألم حتى سقط الحجر من بين يديه على الأرض، وأصاب يديه بجروح متفرقة راح بعدها يبكي مثل الطفل الصغير. وبينما هو يبكي، إذا بقطعة لهب تشتعل فوق رأسه.

راح الجد ليو يقفز من فوق الأحجار ويجري هنا وهناك.

ونظر إلى رجل في منتصف العمر، كان غارقًا في الضحك، ثم اقترب من مشرف العمال وأشار إليه بقطعة خشب ملتهبة في يده.

وقال الرجل الذي في منتصف العمر للجد ليو: «أيها الجد، لا داعي لأن تغضب من هذه القطعة الخشبية.»

وفي تلك الأثناء كان مشرف العمال ممسكًا بسيجاره ينفثه في الهواء الطلق.

واقترب منه ذلك الرجل الذي في منتصف العمر، ودسَّ في جيبه علبة سجائر، بعدها تحرك المشرف وغادر المكان.

وسأل الرجل الذي في منتصف العمر الجد ليو: «أيها الأخ الأكبر، هل أنت جديد في هذا المكان؟»

أجاب الجد ليو: «نعم.»

وسأل: «ألم تُقدِّم له أية هدية؟»

فرد الجد ليو غاضبًا: «إنه مجرد كلب لا يستحق الهدايا! كلاب قبضوا عليَّ بدون سبب.»

قال الرجل: «أهدِ له بعض النقود أو علبة سجائر أو أي شيء تتَّقِ به شره.» ثم مضى الرجل إلى عمله.

وهكذا أمضى الجد ليو صبيحة يوم كامل في نقل الأحجار ورأسه ويداه وجميع أطرافه تبدو مخضبة بالدماء.

في وقت الظهيرة، جاءت سيارة صفراء اللون تسير على الجزء الذي تم تعبيده من الطريق، وراح العمال يهرولون إلى السيارة القادمة، ولكن الجد ليو بقي قابعًا في مكانه لم يتحرَّك في اتجاه السيارة.

اقترب منه الرجل في منتصف العمر، وسحبه من يده قائلًا: «حان وقت الطعام، هيا لتتذوق الأرز الياباني!»

فوقف الجد ليو وسار برفقة الرجل إلى سيارة الطعام.

ووقفت السيارة، وقام العمال بإنزال برميلين كبيرين من على سطحها. برميل ممتلئ بالأرز الأبيض، والآخر ممتلئ بسلطانيات خزفية مرسومة، إلى جانب البرميلين وقف رجل صيني نحيف يمسك بمغرفة نحاسية كبيرة، ورجل صيني سمين يُمسك بمجموعة من السُّلطانيات. وكان العمال يقتربون أولًا من الرجل السمين ليحصلوا على السلطانية، ثم إلى النحيف ليغرفَ لهم غَرفة من الأرز المطبوخ. ولم يكن هناك عصا طعام، فكان العمال يأكلون الأرز بأيديهم.

وعاد مشرف العمال ثانيةً وبيده العصا، ولا يزال تعلو وجهه ابتسامة فاترة. وقد جعل اللهب الذي أصاب رأس الجد ليو يستعيد جميع ما حدث له على مدى ذلك اليوم الحزين الذي هو أشبه بكابوس مُروِّع. وجاء أيضًا الجنود اليابانيون والعملاء الصينيون، والْتفُّوا جميعًا حول قِدْر كبير من الأرز، وانهمكوا في تَناوُل وجبة الغداء. بينما كان يرقد خلف القدر كلب ذو أذن طويلة يلعق بلسانه في تجاه العمال الفلاحين.

وبعد أن أحصى الجد ليو عدد الجنود اليابانيين والعملاء المرافقين لهم، وكان عددُهم مجتمعين لا يزيد على بضعة وعشرين فردًا، فكر في الهروب. نعم الهروب، ولا طريق أمامه سوى حقول الذُّرَة، ولن يتمكن هؤلاء الكلاب من اللحاق به وسط الذُّرَة. وبدأ القلق يساوره منذ أن فكر في الهروب. فراح ينظر إلى مشرف العمال وابتسامته الفاترة التي تخفي وراءها الكثير من الشر.

وقبل أن يشبع العمال، قام الرجل الصيني السمين بجمع سلطانيات الطعام. وراح العمال يلحسون أطراف شفاههم بألسنتهم وهم ينظرون إلى بقايا الأرز المترسبة بقاع القدر الكبير، ولكن لم يجرؤ أحدهم على مد يده لطلب المزيد من الأرز. وفي تلك الأثناء صاح بغل على الضفة الشمالية للنهر، وعلى الفور مَيَّز الجد ليو صوت البغل، وعرف أنه صوت بغل سيده الأسود. وكان البغل مربوطًا هنالك إلى حجر كبير يأكل في كومة من سيقان الذُّرَة.

وبعد ظهر ذلك اليوم، استغل شاب فوق العشرين عدم انتباه مشرف العمال، وفَرَّ هاربًا إلى حقول الذُّرَة المجاورة لموقع العمل، فلاحقَتْه على الفور رصاصة أَردَتْه قتيلًا.

وعندما آذنت الشمس بالمغيب، عادت تلك السيارات الصفراء ثانيةً إلى موقع العمل. كانت مَعِدَة الجد ليو قد تَعوَّدَت على ذلك النوع من الأرز الياباني، ومع مرور الوقت كانت رغبته في الهروب تزداد؛ حيث كان شوقه يزداد إلى قريته البعيدة وإلى فِناء منزل العائلة تفوح منه دائمًا رائحة النبيذ، جميع العاملين في صناعة النبيذ فَرُّوا بمجرد دخول اليابانيين إلى القرية. كان شَوقُه يزداد إلى جدتي وأبي، فقد كان الدفء الذي كانت تمنحه إياه جدتي شيئًا لا يُنسَى.

بعد الانتهاء من تناوُل وجبة العشاء، تم تسكين العمال في سقيفة خشبية ذات باب حديدي مغطاة بقطع من القماش، بينما كان اليابانيون والعملاء الصينيون يبيتون في خيمتين على بعد حوالي عشر خطوات من سقيفة العمال. كان ذلك الكلب مربوطًا أمام خيمة اليابانيين، وأمام سقيفة العمال كان هناك عمود خشبي يَتدلَّى منه مصباح كهربي. وكان الشياطين اليابانيون والعملاء الصينيون يتناوبون على مراقبة العمال في سقيفتهم. والبغال مربوطة هنالك على مقربة من سقيفة العمال ترعى في بقايا الذُّرَة التي دهستها سيارات الرَّصْف.

وكان المرء باستطاعته أن يسمع داخل السقيفة أصوات شخير بعض العمال، أو يرى أحدهم يخرج إلى جوار السقيفة لقضاء حاجته.

واشتدَّت البرودة بعد منتصف الليل، وقد راح النوم من عَيْنَي الجد ليو. كان لا يزال يفكر في أمر الهروب من الموقع. ولما كان صوت وقع أقدام الحراس لا يتوقف، فقد أسلم الجد ليو نفسه إلى النوم حتى راح في نومٍ عميق، ورأى في حلمه أن هناك خنجرًا حارًّا ينفذ إلى داخل رأسه، وأنه كان ممسكًا بسيخٍ حديديٍّ. وبعد أن استيقظ وجد بنطاله مبللًا بآثار بول. وسمع في ذلك الحين أصوات الدِّيَكة تصيح من القرى البعيدة، كما سمع أصوات شخير البغال، ورأى من خلال غطاء السقيفة نجوم السماء البعيدة.

وفجأة نهض ذلك الرجل الذي كان قد ساعد الجد ليو في الظهيرة. وعلى الرغم من ظُلْمة الليل، فإن الجد ليو استطاع أن يميز عينيه اللتين كانتَا تبرقان مثل كرة نارية. ولما كان الجد ليو قد عرف قليلًا عن تاريخ ذلك الرجل غير السوي، فقد راح يراقب حركاته وسط ظلمة الليل البهيم.

ركع الرجل عند حافة السقيفة وراح يتحرك ببطء. ومضى الجد ليو يراقب الرجل وينظر إلى ظهره ورأسه من الخلف. كان يقفز ويتلوى في حركات دائرية، وتطلق عيناه نظرات ثاقبة إلى جميع الأشياء من حوله. كان يقبض بيديه على عَصَوَين حديديتين، وفجأة قفز قفزة سريعة، ونظر الجد ليو إلى الرجل، فإذا به يَنقضُّ على أحد الجنود اليابانيين ويقبض على سلاحه ثم يختفي فجأة.

ومرَّ وقتٌ طويل حتى استطاع الجد ليو أن يفهم تلك الحادثة التي وقعت أمام عينيه. فقد كان ذلك الرجل بطلًا في رياضة الوو شو، وقد فتح ذلك البطل الطريق أمامه إلى الهروب من أيدي الشياطين اليابانيين! ونجح الجد ليو في أن يتسلل إلى خارج السقيفة من خلال تلك الفتحة التي قفز من خلالها ذلك البطل، ورأى الجد ليو الجندي الياباني الذي قَتلَه بطل الوو شو مُلقًى ووجهه على الأرض.

قفز الجد ليو إلى داخل حقول الذُّرَة، ومضى يَتعمَّق داخلها وهو في غاية الحذر، حتى وصل إلى ضفة نهر موا شوى. وفي ذلك الحين كانت السماء لا تزال مظلمة بظلام قُبَيل الفجر، والنجوم تبدو مضيئة على صفحة مياه نهر موا شوى. وجلس الجد ليو على ضفة النهر وهو يَتلوَّى من شدة البرد الذي ظهر جليًّا من خلال صوت أسنانه. لم يكن الجد ليو يُصدِّق حقيقة أنه استطاع النجاة من أيدي الشياطين اليابانيين. ثم قادته قدماه إلى الجسر الخشبي الصغير، ليرى أسفله تلك الأسماك الصغيرة تلهو وسط مياه النهر، وتلك النجوم المضيئة أعلى صفحة النهر. وأحس كأن شيئًا لم يحدث. كان يفكر في أنه سيعود إلى القرية، ويختفي من هؤلاء الشياطين وعملائهم وسيُشفَى من جراحه، ويواصل حياته في منزل سيده. ولكنه عندما كان يسير أعلى الجسر الخشبي، سمع صوت بغل يصهل على الضفة الجنوبية للنهر. وعندما رجع ليرى ذلك البغل، واجه نهايته المأساوية.

كانت البغال والخيل مربوطة هنالك إلى دعائم خشبية على مقربة من سقيفة العمال، عاد الجد ليو إلى هنالك ودخل وسط البغال، شم على الفور رائحة بغلَي سيده. وقد رآهما بأم عينيه. فانقض عليهما رغبةً منه في إنقاذ رفيقيه في تلك الرحلة المؤلمة. غير أن البغال — تلك الحيوانات التي لا تفهم — راحت تدكُّ الأرض بأقدامها وتقفز هنا وهناك. وراح الجد ليو يتحدث إلى أحدهما: «أيها البغل الأسود، أيها البغل الأسود، لا تقلق سنهرب معًا!» ولكن البغلين لم يفهما كلامه وراحَا يدوران في مكانهما، وكأنهما لم يَتعرَّفَا عليه، كانت رائحة الجد ليو قد تَغيَّرت، وغَيَّرَت الجروح من ملامح وجهه. وبدأ الجد ليو يشعر بالقلق، وعندما بدأ يقترب من البغال، رفسه أحدهما رفسة في ظهره. فسقط العجوز على الأرض، ولم يقوَ على الحركة لفترة طويلة. واستمرَّت البغال في هيجانها حتى استجمع الجد ليو قُوَّته، ونهض محاولًا الخلاص من تلك الورطة. وعندئذٍ سمع صياح الديكة القادم من القرى المُجاوِرة. كان الصبح قد بدأ يرسل نوره على الفضاءات المحيطة.

٤

سارت العصابة على حافة نهر موا شوى والشمس تعلو وجوههم. كان أبي مثله مثل أعضاء العصابة يراقب عن كثبٍ ذلك الضباب المُتبقِّي أعلى مياه النهر. وهناك كان يظهر جسر شه سه كونغ الحجري الذي أقامه اليابانيون ليربط بين ضفتي النهر الجنوبية والشمالية. وقد شُيِّدَ الجسر الجديد في الناحية الغربية من موقع الجسر الخشبي القديم. كنتَ ترى من أعلى الجسر الجديد سنابل الذُّرَة التي كانت ثابتة في مكانها وكأنها وجوه حمراء مألوفة لمن يسير أعلى الجسر الجديد، وكانت بعض أعواد وسنابل الذُّرَة تتجمع مع بعضها مكوِّنة وحدة متكاملة تحمل مغزًى عميقًا. وكان أبي في ذلك الحين لا يزال صغيرًا، ولا يفهم معنى اتحاد أعواد الذُّرَة، هذا ما ذَكَّرْتُه به فيما بعد.

كانت الذُّرَة مثل فَلاحِي القرية تنتظر موعد جني الثمار.

وكان الطريق العام يمتد مباشرةً تجاه الجنوب، ويضيق شيئًا فشيئًا حتى يتوارى تمامًا وسط زراعات الذُّرَة الكثيرة. ليبدو موحشًا عند نهايته.

راح أبي ينظر بفضول إلى أعضاء عصابة القائد يو، ويتساءل في نفسه: من أين جاءوا؟ وإلى أين يمضون؟ ولماذا ينشغلون بنَصْب هذا الكمين؟ وماذا بعد نَصْب هذا الكمين وسط ذلك السكون الذي خيم على المكان؟ سمع أبي صوت خرير المياه أسفل الجسر الحجري. ثم بدأ يرى تَغيُّر لون مياه النهر تحت ضوء الشمس التي بدأت أشعتها تنتشر في أرجاء المكان. ومضى يتذكر، عندما كانت تهب رياح الخريف ويشعر ببرودة الجو وتطير جماعات الإوز صوب الجنوب ويجري هو وراءها والجد ليو يشجعه قائلًا: اقبض عليها، اقبض عليها! وبدأ أبي يشم رائحة سلطعون النهر المميزة، وتذكر أن عائلتنا كانت قبل فترة حرب المُقاوَمة ضد اليابان تروي بعض محاصيلها بصلصة هذا السلطعون، كانت الثمار دائمًا وفيرة وذا رائحة قوية.

وقال القائد يو: «عليكم جميعًا بالاختفاء أسفل السد. وأنت أيها الأخرس عليك بإلقاء الأمشاط الحديدية.»

وهنا أخرج الأخرس من جعبته بعض الرقائق الحديدية وربط بها أربعة أمشاط، ونادى على بعض رجال العصابة، فقاموا بنقل الأمشاط الحديدية إلى مكان التقاء الطريق العام بالجسر الحديدي.

قال الجد ليو: «أيها الرفاق، علينا أن نختبئ جيدًا، وأن ننتظر حتى تصعد سيارات الشياطين اليابانيين أعلى الجسر، ثم نُطْلِق جميعًا النار بمجرد أن أعلن لكم إشارة البدء، وأن نقدم هؤلاء الحيوانات وجبة سمينة لأسماك النهر.»

وأشار القائد يو إلى الأخرس بيديه، فهز الأخرس رأسه، وحمل على الفور مدفعًا في نصف طول قامة الإنسان، ونَصَبه وسط حقل الذُّرَة على الناحية الغربية للجسر. وسار العم وانغ وين إي غربًا برفقة الأخرس، ثم أشار الأخرس عليه بالعودة. فاستقبله القائد يو قائلًا: «لا تذهب معه واتبعني، هل أنت خائف؟»

هزَّ العم وانغ رأسَه قائلًا: «لا أخاف … لا أخاف.»

وأمر القائد يو الرفيق فانغ جيا بأن يحمل العمود الكبير إلى ضفة النهر، ثم وجه كلامه إلى الطَّبَّال والزَّمَّار ليو الذي كان ممسكًا بمذياع كبير قائلًا: «أيها الرفيق ليو، بمجرد أن تشتعل النيران عليك فقط أن تجتهد في نفخ مزمارك، فإن الشياطين اليابانيين يخشون آلات الصوت، أسمعتَ؟»

ويُعتَبر الرفيق ليو أحد أصدقاء القائد يو منذ الصِّغَر، وتَعُود صداقتهما إلى وقت كان القائد يو يَجُرُّ هودجًا، وكان ليو ينفخ المزمار ويقرع الطبول، وكانت يداه تمسك بالمزمار كأنها تقبض على بندقية.

هنا وَجَّه القائد يو كلامه لجميع أعضاء العصابة قائلًا: «سأبدأ بالكلام القبيح أولًا، سأقتل كل من تسوِّل له نفسه التَّسبُّب في فشل خُطَّتنا. فعلينا أن نقاتل بحماس حتى يرى ذلك أعضاء عصابة لينغ هؤلاء الأوغاد، وأن نرفع راية النصر حتى يدبَّ الفزع في قلوبهم. وإذا لم نبادر نحن بذلك، فإنهم سوف يحاولون القضاء علينا!»

احتشد الجمع وسط الذُّرَة، وأخرج الرفيق فانغ ليو مَبسم السجائر وراح يلف سيجارته، ثم بدأ يدخن والدخان يتطاير أمامه حتى تدخَّل القائد يو قائلًا: «انفض رماد سيجارتك، فكيف سيصعد اليابانيون الجسر إذا شموا رائحة الدخان؟»

أخذ ليو نفسين في عجالة، ثم نفض سيجارته، وأحكم غلق علبة السجائر. قال القائد يو: «علينا جميعًا أن نرابط على ضفة النهر لكيلا نُفاجَأ باليابانيين أعلى الجسر.»

وساوَر الجميع شعور بالقلق، ثم أسرعوا، وانبطحوا على ضفة النهر ممسكين بأسلحتهم في وضع الاستعداد لملاقاة العدو. وانبطح أبي آنذاك إلى جوار القائد يو الذي سأله: «هل أنت خائف؟» فأجاب أبي: «لا أخاف!»

قال القائد يو: «يا لك من بطل شجاع، من شابَه أباه فما ظلم! إنك ستخلفني في قيادة هذه العصابة، وعليك ألا تفارقني أثناء القتال، وسأبلغك بأية توجيهات مني للفريق، ثم تنشرها أنت إلى ناحية الغرب.»

هزَّ أبي رأسه بالموافقة. ثم راح ينظر إلى المسدسين اللذين كانَا مُعلَّقَين في وسط القائد يو، كان أحدهما كبيرًا والآخر صغيرًا.

والمسدس الكبير صناعة ألمانية، والمسدس الصغير صناعة فرنسية. وكان لكل منهما تاريخه وقصته الخاصة.

قال أبي: «المسدس!»

فقال القائد يو: «هل تريد مسدسًا؟» فهز أبي رأسه قائلًا: «نعم، المسدس.»

سأله القائد يو: «هل تُجيد استخدامه؟»

فأجاب أبي: «نعم.»

استلَّ القائد يو المسدس الصغير من حزامه، ونظر إليه مليًّا. وقد بدت عليه آثار الزمن وتَغيَّر لونه. وضغط القائد يو على خزينة المسدس، وأطلق رصاصة عالية، ثم أحكم إغلاق الخزينة.

قال القائد يو مُحدِّثًا أبي: «أعطيك هذا! وعليك أن تحسن استخدامه مثلي تمامًا.»

فاستلم أبي المسدس من القائد يو، وقبض عليه ومضى يَتذكَّر القائد يو عندما استخدمه في تحطيم كأس النبيذ.

وراح أبي يستعيد تلك الواقعة القديمة التي حدثت أمام عينيه في ساحة فرن صناعة النبيذ بين القائد يو وجَدَّته وقائد عصابة لينغ السيد لينغ ماتزه. كانوا يشربون النبيذ وكان القائد يو أكثرهم قدرة على الشراب، ذَكَّرتْهم جَدَّتي بدماء الجد ليو وأمي اللذين لقيا حتفهما على أيدي القوات اليابانية.

وبينما كانت جدتي تقف وسط القائد يو وقائد عصابة لينغ، ضَغطتْ بيدها اليسرى على مسدس القائد لينغ وبيدها اليمنى على مسدس القائد يو الفرنسي الصغير.

وسمع أبي صوت جدتي وهي تقول: «إذا لم تتم الصفقة فلن تفسد العلاقة التي بيننا، وهذا المكان ليس ساحة لاستخدام السلاح، ومن عنده الرغبة في ذلك فليخرج لملاقاة اليابانيين.»

وهنا بدأ القائد يو يسب: «يا ابن العم حتى لو استطعت تحطيم سارية القائد وانغ فلن ترعبني. أنا ملك لهذه المنطقة، وقد تغذيت طيلة عشرة أعوام على خبز تشيا، ولن أبالي بملاقاة هؤلاء اليابانيين الأوغاد!»

ضحك القائد لينغ قائلًا: «الأخ جان آو، إنني أفكر في مصلحتك، وكذا القائد وانغ ليو جانغ. فقط نريد منك أن ترجع إلينا بسارية العلم، وسنعلن تنصيبك قائدًا، وسيمنحك القائد وانغ وسامًا أفضل من كونك مُجرَّد قاطع طريق.»

– «من قاطع طريق؟ ومن منا ليس قاطع طريق؟ البطل الصيني الحقيقي هو من يجرؤ على قتال اليابان. لقد تَمكَّنتُ في العام الماضي من القبض على ثلاثة حراس يابانيين، واستوليتُ على ثلاثة مسدسات كانت بحوزتهم. وأنت يا قائد لينغ لا تُعْتَبر قاطِع طريق فكم قتلتَ من الشياطين؟ وهل حصلتَ على شعرة جندي ياباني واحد؟»

فجلس لينغ وأشعل سيجارة.

وفي تلك اللحظة دخل عليهم أبي بقِدْر النبيذ. فأخذتْ جدتي منه القِدْر وقد تَغيَّر لون وجهها، ونظرت إلى أبي نظرة غير مريحة، ثم راحت تصب النبيذ في ثلاثة كئوس.

قالت الجدة: «النبيذ تفوح منه رائحة دماء العم ليو، ومَن يرى منكما نفسه رجلًا فَلْيُقدِم على شرابه. ومن الآن فصاعدًا عليكما مُواجَهة القوات اليابانية معًا، وبعد ذلك سنرى شجاعة كل منكما، حتى لا يختلط الحابل بالنابل.»

حملت جدتي كأسها، وراحت تتلذذ بالشراب.

ورفع جَدِّي كأسه وأفرغ محتوياته في جوفه في شربة واحدة.

ولكن القائد لينغ لم يستطع شرب الكأس كاملًا، فبعد أن شرب نصف كأسه راح يخاطب القائد يو قائلًا: «أيها القائد يو، إنني لستُ مُنافسك في الشراب، فلأستأذن للانصراف.»

وهنا ضغطت جدتي على مسدسها، وسألت لينغ: «وهل ستقاتل؟»

فأجابها القائد يو: «لا داعي لأن تتوسلي إليه، إن لم يقاتل هو، فأنا لها!»

فأجاب لينغ: «سأقاتل.»

تركَتْ جدتي المسدس، واستَلَمه منها لينغ وعلقه في وسطه.

وقالت جدتي: «جان آو، سأسلمك ابني دوو قوان، على أن تصطحبه معك من الآن فصاعدًا.»

نظر القائد يو إلى أبي، وسأله وهو يبتسم: «ابني العزيز، هل ستقوى على ذلك؟»

نظر أبي إلى أسنان القائد يو الصفراء بازدراء واضح، ولم ينبس ببنت شفة.

فأخذ القائد يو بكأس نبيذ، ووضعه أعلى رأس أبي، وطلب منه أن يرجع حتى يقف عند مدخل الباب. ثم أخذ القائد يو مسدسه الفرنسي برونينج، وسار إلى جانب الحائط.

ورأى أبي أن القائد يو يقترب من الحائط في خطوات بطيئة، ونظر إلى جدتي فإذا بوجهها يبدو شاحبًا، أما القائد لينغ فكانت تعلو وجهه ابتسامة فاترة.

وبعد أن وصل القائد يو إلى جانب الحائط استدار بجسمه في حركة مباغتة، ورأى أبي أن ذراع القائد يو تبدو في وضع مستقيم، بينما تطلق عيناه شررًا أحمر. وفجأة خرج دخان أبيض من فوهة مسدس برونينج. وسمع أبي دَوِيَّ صوتٍ عالٍ رأى على إثره قطعًا كبيرة تتطاير من قدح النبيذ، وقد استقرَّت إحدى تلك القطع الصغيرة على رقبة أبي، ثم انزلَقَتْ إلى جسده. وعندها ذُهِل أبي ولم يَنْبِس ببنت شفة. وبدَا عندها وجه جدتي أكثر شحوبًا. بينما كان القائد يو يجلس مسترخيًا على مقعد وهو يُردِّد: «يا لها من تصويبة رائعة!»

قال القائد يو: «ما أَمهَرَك أيها الغلام!»

وحمل أبي مسدس برونينج وقد أحس فجأة أنه ثقيل.

قال القائد يو: «لا داعي لأن أعلمك فنون التصويب، فأنت تعلمها جيدًا. عليك أن تخبر الأخرس ورفاقه أن يكونوا على أُهْبَة الاستعداد فور سماع إشارتي!»

حمل أبي مسدسه الفرنسي، وتسلل وسط زراعات الذُّرَة حتى وصل إلى المكان الذي يختبئ عنده الأخرس. كان الأخرس يُقَرْفِص وسط زراعات الذُّرَة ممسكًا بحجر أخضر اللون يشحذ به خنجره. بينما كان رفاقه في اجتماع حوله بين جالِس ومُضطجِع.

قال أبي للأخرس: «القائد يو يأمركم بالاستعداد.»

وحدج الأخرس أبي بنظرة، ثم استمر في شحذ خنجره، وبعد أن انتهى من تجهيز الخنجر راح يضرب به سيقان الذُّرَة وأوراقها.

فعاود أبي تذكيره قائلًا: «القائد يو يأمركم بالاستعداد.»

أعاد الأخرس خنجره إلى جيبه، وارتَسمَتْ على وجهه ابتسامة عريضة، ثم رفع يده الكبيرة، وراح يلوح بها مناديًا على أبي.

وتقدَّم أبي إلى الأمام حتى توقَّف على بُعد خطوات قليلة من الأخرس. وتقدَّم الأخرس ومد جسده تجاه أبي وجذبه حتى ارتمى أبي في حضن الأخرس. وأحكم الأخرس قبضته على أبي الذي فقد القدرة على الحركة وهو في حضن الأخرس الذي انفجر ضاحكًا.

ضحك رفاق الأخرس الذين كانوا يحيطون به.

– «انظروا أليس يشبه القائد يو؟»

– «إنه بذرة ألقاها القائد يو.»

– «دوو قوان، إنني أشتاق إلى أمك.»

– «دوو قوان، إنني أريد أن آكُل قطعتي المعجنات المحشية بالتمر التي صنعتها أمك.»

واشتد الغضب بأبي فرفع مسدسه وصوبه تجاه ذلك الرجل الذي يريد أن يأكل تلك المعجنات التي صنعتها جدتي. وضغط أبي على زناد مسدسه محدثًا صوتًا مسموعًا ولكن لم تخرج منه طلقة واحدة.

وبدا وجه ذلك الرجل شاحبًا، وراح يقفز بسرعة ملحوظة، محاولًا أن يستولي على المسدس الذي كان بحوزة أبي. وراح أبي يطلق طلقات متتابعة نحو السماء، ثم راح يقفز هنا وهناك حتى ارتمى في حضن ذلك الرجل وهو يركله ويعضه في جميع مواقع جسده.

وعندئذٍ وقف الأخرس وأحكم قبضته على رقبة أبي، وهزَّه هزات متتالية، ثم ألقى به وسط زراعات الذُّرَة، وسقط أبي على الأرض، وقد تسبب سقوطه في تحطيم بعض سيقان الذُّرَة. وراح أبي يحاول جاهدًا أن يقف مرة أخرى وهو يلعن جميع من حوله حتى ارتمى أمام الأخرس. ورأى أبي وجه الأخرس الصامد. مدَّ الأخرس يده وأخذ المسدس الذي كان بحوزة أبي وسَحَب بيت الطلقات النارية حتى أخرج الطلقة التي كانت داخله. وراح يلوح بتلك الطلقة أمام عيني أبي، ثم صوب المسدس تجاه ظهر أبي وهو يمسح رأس أبي ويهزها بيده الأخرى.

«ما الضوضاء التي أحدثتها هنالك؟» سأل القائد يو.

فرد أبي وهو يشعر ببعض الظلم: «إنهم … إنهم يريدون أن يُضاجِعوا أمي.»

سأله القائد يو وقد تَغيَّر لون وجهه: «وماذا كان رَدُّ فعلك؟»

رفع أبي ذراعه وراح يمسح به عينيه، ثم قال: «أطلقتُ عليهم طلقة من مسدسي!»

– «أأطلقت رصاصًا؟»

– «لم يكن بالمسدس أية طلقات.» ثم قدم أبي بيت نار المسدس إلى القائد يو.

تسلم القائد يو الطلقة الفارغة من يد أبي، وراح يتفحصها، ثم ألقى بها في عرض النهر.

وقال القائد يو: «ما أشجعك من غلام! عليك أن تُقاتِل أولًا العدو الياباني، وبعد الانتهاء من قتال العدو الياباني، يمكنك أن تُصوِّب مسدسك تجاه مَعِدة كل من يجرؤ على التَّفوُّه بأنه يرغب في مشاركة أمك النوم. ولا تُصوِّب مسدسك تجاه رأسه أو صدره، تذكر جيدًا! عليك أن تصوب فقط صوب مَعِدَته.»

تمدَّد أبي إلى جانب القائد يو. وكان على يمينه الأخوة من عائلة فانغ. وقف فانغ تشي على حافة النهر، وفوهة البندقية مصوبة نحو الجسر الحجري. وكانت الفوهة مسدودة بقطعة من القطن البالي. وتظهر خلف الحامل المنتصب على حافة النهر صمامة ما. وإلى جانب الأخ فانغ تشي كان يظهر فتيل من اللهب مصنوع من بعض عيدان الذُّرَة، وقد ظهر الفتيل مشتعلًا. أما الأخ فانغ ليو فكان يظهر إلى جواره بعض الأعشاب وصندوق حديدي ممتلئ بالحبوب.

وإلى يسار القائد يو كان يرقد العم وانغ ون إي، ممسكًا ببندقية صيد وهو يرقد متكوِّمًا وسط الذُّرَة. وقد ظهرت القماشة البيضاء التي تغطي أذنه المجروحة مُخضَّبة بالدماء.

ارتفعت الشمس وتلوَّنت باللون الأحمر. وبدت مياه النهر متلألئة، وراحت جماعات البط البَرِّي تُحلِّق فوق حقول الذُّرَة، وتَفرَّقتْ إلى ثلاث مجموعات، راح معظمها يرمي بنفسه إلى داخل الأعشاب على ضفة النهر، بينما سقط الجزء الآخَر إلى أسفل النهر، وراح يجري ويندفع مع مياهه. ولم تكن جماعات البط التي تسبح في عرض النهر قادرة على السكون، كانت تجري هنا وهناك وهي تترنح برقبتها. وبدأ أبي يشعر بالدفء بعد أن جفَّت تمامًا ملابسه التي بللتها مياه النهر، وانبطح أبي بعض الوقت، وعندما تألَّم من قطعة حصى أسفل جسده، رفع جسده على الفور. فخاطبه القائد يو موبخًا إيَّاه: «انبطح ثانيةً.» فرضخ لأمر القائد على غير رغبة منه. وفي تلك الأثناء كان الجمع يسمع صوت شخير الأخ فانغ ليو. فمدَّ القائد يو يده، وأمسك بقطعة طمي وألقاها على وجه الأخ فانغ ليو. انتفض فانغ ليو وجلس على الأرض، وراح يتثاءب.

وصاح مذعورًا: «هل جاء العدو الياباني؟»

لعنه القائد يو قائلًا: «اللعنة على أمك» «اعلم أنه غير مسموح بالنعاس.»

وعمَّ السكون جنوب النهر وشماله، لفَّ الصمت الطريق العام الواسع، وبدَا الجسر الحجري أعلى النهر في غاية الجمال. واستقبَلَت حقول الذُّرَة الممتدة على جانبي النهر الشمس العالية المتلألئة. وبَدَت جماعات البط البري تبحث بمنقارها عن شيء ما، وهي تصدر صوتًا مسموعًا. وتوقَّفَت نظرات أبي عند جماعات البط البري، ومضى يُحدِّق فيها، في ريشها الجميل وأعينها الثاقبة. ثم حمل مسدسه الثقيل، وحدد هدفه في اتجاه جماعات البط البري. وما كاد يضغط على زناد مسدسه صوب جماعات البط، حتى ضغط القائد يو على يده قائلًا: «أيها الحَمَل الصغير، ماذا عساك أن تفعل؟»

أحس أبي باضطرابٍ شديدٍ، ونظر إلى الطريق العام فوجده لا يزال يلفه صمتٌ مخيفٌ. وقد بدت سنابل الذُّرَة أكثر حمرة مما كانت عليه منذ قليل.

قال القائد يو بلهجة صارمة: «هل يجرؤ لينغ ماتزه هذا الحيوان على خداعي.»

خَيَّم السكون على جنوب النهر وشماله، ولم يَعُد يُرَى أي أثر لفريق لينغ ماتزه. وعلم أبي أن القائد لينغ ماتزه قد حصل على معلومات حول مرور عربات العدو الياباني من هذا الطريق، وأنه يخشى ملاقاة العدو الياباني بمفرده، ومن ثم فقد قصد هذا المكان ليلتحم مع قوات القائد يو.

شعر أبي ببعض التَّوتُّر، ثم هدأ شيئًا فشيئًا. وكانت نظراته لا تكاد تفارق جماعات البط البري. وتَذكَّر عندما كان يخرج مع الجد لوو خان لصيد البط، كان الجد يمتلك بندقية صيد ذات ماسورة حمراء داكنة وجرابًا من الجلد. استولى عليها الآن العم وانغ ون إي.

وترقرق الدمع في عيني أبي، دون أن تنحدر منهما دمعة واحدة. تمامًا مثلما حدث في ذلك اليوم. فتحت أشعة الشمس الدافئة. أحس أبي بلفحة برد شديدة ارتجف على إثرها جسده كله.

في ذلك اليوم كان العدو الياباني وجيش العملاء الخونة قد قاموا باختطاف الجد ليو لوو خان والبغلين اللذين كان يرعاهما، بينما كانت جدتي تغسل الدماء التي ملأت وجهها في قدر النبيذ. كانت تفوح منها رائحة النبيذ النَّفَّاذة، وقد احمرَّ جلدها وتورم جفناها، وتبللت ملابسها بالنبيذ وبالدماء. وتسَمَّرَت جدتي إلى جوار قِدْر النبيذ تتأمله. وقد انعكس وجهها داخل القدر. ولا يزال أبي يذكر أنها قد ركعَت أمام قدر النبيذ ثلاث مرات. ثم قامت بعدها وهي تحمل بين يديها بعض النبيذ تشربه. وخداها متوردتان، بينما جبهتها وذقنها في غاية الشحوب.

وأمرت جدتي أبي قائلة: «اركع»، «اسجد.»

فركع أبي وسجد أمامها.

«احمل كوبًا من النبيذ واشربه!»

فحمل أبي النبيذ وراح يتجرعه.

راحت خيوط الدم تغرق داخل قدر النبيذ، وكأنها مثل الأشعة تنفذ إلى داخل القدر. وتطايرت داخل قدر النبيذ بعض السحب البيضاء الصغيرة، غطَّتْ وجه جدتي وأبي. ووقفَتْ جدتي وقد خرج من عينها شعاع لامع، لم يجرؤ أبي على النظر إليه. وارْتجَف قلبه بشدة، ثم مد يده، وأخذ بعض النبيذ من داخل القدر، وبدأ النبيذ يتساقط من بين أصابعه. وشرب أبي جرعة جديدة من النبيذ، حتى فاحت رائحة الدم على طرف لسانه. وتَركَّزَت خيوط الدم في أسفل قِدْر النبيذ مُكوِّنة كتلة بارزة عند قاع القِدْر. راحَتْ تَتأمَّلها جدتي وأبي لفترة طويلة. وسَحبَت جدتي غطاء القِدْر، ثم جاءت بجزء من المطحنة الحجرية من جانب الحائط ووضعتها أعلى فُوَّهة قِدْر النبيذ.

قالت جدتي: «حَذارِ أن تُحرِّك هذه الكتلة الحجرية!»

فهز أبي رأسه بالموافقة وقد شعر بالخوف بعد أن رأى الطين الذي يغطي المطحنة والحشرات التي تتطاير من حوله.

في تلك الليلة، وبينما كان أبي يرقد في سريره، سمع صوت وقع أقدام جدتي تقطع الفناء جيئةً وذهابًا. وقد صادف وقع خطوات جدتي مع صوت احتكاك عيدان الذُّرَة بعضها ببعض، محدثةً صوتًا نسج أحلام أبي المضطربة. هناك سمع أبي في عالَم الأحلام صياح البغلين الأسودين.

وعند شروق الشمس، نهض أبي من نومه وجرى عاريًا إلى الفناء ليقضي حاجته. فرأى جدتي لا تزال واقفة في عرض الفناء تنظر إلى السماء في ذهول. فناداها يا أماه، لكنها لم تسمع نداءه. وبعد أن قضى أبي حاجته، سحب يَدَي أمه إلى داخل الحجرة. فاستجابت له ودخلت معه بكل لِين. وما إن دَخلَا الغرفة سمِعَا صوتًا قويًّا أشبه بصوت الموج قادمًا من جهة الجنوب الشرقي، ثم تبعه صوت طلق ناري. كان صوت الطلق الناري قويًّا وحادًّا جدًّا، أشبه ما يكون بحدة مِقَصٍّ حادٍّ أثناء قطع قطعة من الحرير.

أما هذه البقعة التي ينبطح عليها أبي الآن، فكانت آنذاك ممتلئة بالأحجار الناصعة البياض، تَتكوَّم على ضفة النهر مكونةً تلالًا صغيرة أشبه بصفوف قبور كبيرة. وفي مطلع صيف العام الماضي، كانت حقول الذُّرَة خارج حاجز النهر تبدو موحشة، وكان هذا الطريق الحجري العام يمتد نحو الشمال. لم يكن الجسر الحجري قد تم تشييده بعد، كان هناك فقط جسر خشبي صغير، أنهكه سير مئات الآلاف من البشر والبغال والخيل، حتى ترك هذا كله بصمة واضحة على سطح الجسر. أما تلك الرائحة التي كانت تنبعث من شتلات الذُّرَة الرفيعة، فكانت رائحة نفاذة. وكانت حقول الذُّرَة الواسعة تبكي بحزنٍ شديدٍ. لم يكد يمر وقت طويل على سماع جدتي وأبي لصوت الطلق الناري، حتى قامت القوات اليابانية بملاحقتهم وبعض من شيوخ ومرضى وأطفال ونساء القرية إلى هذا المكان. في ذلك الحين، كانت الشمس قد أشرقت منذ وقت قصير على حقول الذُّرَة، فوقفت جدتي وأبي وجماعة من أهل القرية على الضفة الجنوبية للنهر، وأقدامهم تدوس بقايا من عيدان الذُّرَة الرفيعة. وراح أبي ينظر إلى سياج الذُّرَة وإلى جماعة الفلاحين المحيطين به. قام بعد ذلك اثنان من جنود العملاء بمطاردة الفلاحين إلى غرب الطريق، والتحموا بجدتي وأبي مُكوِّنِين جماعة واحدة. وأمام المكان الذي عسكر عنده أبي وجماعة الفلاحين، كان يقع مكان ربط البغال والخيل، والذي كان يجعل الإنسان يقف أمامه شاحبًا فيما بعد. ووقف الجميع هنالك لفترة ليست قصيرة، وأخيرًا تمكَّنُوا من رؤية مسئول ياباني قادم من ناحية الخيمة، وظهر للجميع وهو يعلق على كتفيه زوجًا من الشارات الحمراء ويحمل سيفًا ويجر كلبًا، مرتديًا زوجًا من القفاز الأبيض. كان الكلب يجري وراءه وهو يلهث، وخلف هذا الكلب يظهر اثنان من أفراد جيش العملاء يحملان جثة جندي ياباني، وفي الخلف يظهر جنديان يابانيان يحرسان جثة الجد لوو خان، يحملها اثنان من أفراد جيش العملاء. والتصق جسد أبي بجسد جدتي، فاحتضَنتْه جدتي بذراعيها.

سحب المسئول الياباني كلبه وتوقف عند منطقة قريبة من إسطبل الخيل والبغال. وراحت تطير حوله جماعة من الطيور البيضاء بلغت ما يزيد على خمسين طائرًا، راحت تطير في جميع الاتجاهات، وهي تُركِّز على الطيران صوب قرص الشمس الذهبي. ونظر أبي إلى بعض الحيوانات الموجودة داخل الإسطبل، فرأى بغلَي العائلة الأسودين ملقيين على الأرض. ورأى أحد البغلين جثة هامدة، وإلى جوارها تلك المطرقة الحديدية، وقد لطخ الدم الأسود بعضًا من عيدان الذُّرَة، لطخ وجه البغل الذي كان في غاية اللمعان. أما البغل الثاني فكان جالسًا على الأرض، وهو يضرب بذيله الأرض محدثًا صوتًا مسموعًا. كان منخاراه يصدران صوتًا أشبه بصوت الصفير. كم كان أبي يعشق هذين البغلين. كانت جدتي تركب على ظهر البغل، ويجلس أبي في حضنها، ويسير البغل وهو يحمل على ظهره الأم وطفلها، وينطلق يعدو على الطريق المحاط بحقول الذُّرَة. كان أبي آنذاك في غاية المتعة بهذه الرحلة. وتنظر جماعات الفلاحين الممسكين بالمَعاوِل أو بغيرها من أدوات الزراعة إلى تلك المرأة، ويحسدونها على ما هي فيه من سعادة. الآن أمامه البغلان أحدهما مُلقًى على الأرض جثة هامدة، وقد شُقَّت شفتاه، والآخر جالس وحالته أصعب من حال أخيه الميت. هنا همس أبي إلى جدتي: «أماه، إنهما بغلانا.» فمدت جدتي يدها ووضعتها على فمه لعله يصمت.

توقَّفَت جثة الجندي الياباني أمام المسئول الياباني الذي كان لا يزال ممسكًا بحبل كلبه. ثم ظهر جنديان من جيش العملاء، يسحبان الجد لوو خان إلى الوتد المخصص لربط الدواب. ولم يتعرف أبي في الحال على الجد لوو خان. رأى أبي شبح إنسان شبه قتيل. كان الجد مصلوبًا ورأسه يترنح صوب اليمين واليسار، وقد بدَا الدم يتساقط من رقبته وظهر مثل قطع الطمي التي تترسب على ضفة النهر، وتعرض جسده لضوء الشمس التي كشفَتْ عن جروح تملأ جسده. تَجمَّع حوله حشد من المارَّة. وأحسَّ أبي أن يد جدتي تقبض بشدة على كتفه. وبدَا الجميع أمامه وقد قصرت قاماتهم، فرأى وجوه بعضهم مثل الطمي الأصفر، ووجوه البعض الآخر مثل الطمي الأسود. وفجأة عم الصمت المكان، وسمع الكلب يلهث، بينما صاحبه يرقد إلى جواره، ثم رأى جنود جيش العملاء يسحبون ذلك الشبح المُنهَك بقوة نحو الوتد، وما إن أرخى الجندي يده، حتى سقط الشبح على الأرض مُحدِثًا صوتًا.

هنا انتبه أبي مفزوعًا: «إنه الجد لوو خان!»

فعاودت جدتي إجباره على السكوت.

كان الجد لوو خان يجاهد ليتحرك أسفل الوتد، وقد بدَا وجهه متورمًا وعيناه ترسلان شعاعًا ينمُّ عمَّا به من تعبٍ شديدٍ. وعندما أصبح أبي في مواجهة الجد لوو، كان واثقًا أن الجد لوو قد رآه جيدًا. وظهر التوتر على وجهه، ولم يعرف إذا ما كان هذا التوتر بسبب فزعه من منظر الجد لوو أم من السخط على ما حلَّ به. فكر في أن يصيح بأعلى صوته، ولكن جدتي كانت لا تزال تكتم صوته.

صاح المسئول الياباني صاحب الكلب في الجمع المحتشد، وقام رجل صيني أصلع بترجمة ما صاح به المسئول الياباني وأذاعه على مسامع الجمع.

ولم يسمع أبي ما أذاعه ذلك المترجم. فكان لا يزال تحت قبضة جدتي.

قام شخصان صينيان في زي أسود بتجريد الجد لوو خان من ملابسه تمامًا، ثم قامَا بربطه إلى الوتد. ولوَّح المسئول الياباني بيده، فظهر شخصان صينيان آخران في زيٍّ أسود، ظهرَا وهما يسحبان السيد سون وو الجزار المعروف في قرية دونغ بيي.

وكان الجزار سون وو رجلًا قصير القامة، ممتلئ البطن، ذا كرش كبير، ورأس أصلع، ووجه أقرب إلى الحمرة، وعينين صغيرتين تظهران أعلى أنفه الأفطس. ظهر الجزار وهو يحمل في يده اليسرى سكينًا حادًّا وفي يده اليمنى دلوًا ممتلئًا بالماء، وتقدم إلى أمام الجد لوو خان وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة.

وقال المترجم: «يأمرك السيد المسئول بأن تسلخه سلخًا جيدًا، وإذا لم تفعل ما أمرت به، فسيتركك لهذا الكلب يشق صدرك.»

رد الجزار في الحال بالسمع والطاعة، وجفناه يرتعشان في تَوتُّر واضح. ثم أخذ بالسكين في فمه، وحمل دلو الماء، وسكبه على رأس الجد لوو خان. فارتجف الجد لوو من الماء الذي سال على جسده مرورًا بوجهه ورقبته حتى أخمص قدميه. وقام أحد العمال بملء الدلو ثانيةً من مياه النهر، وأخذ الجزار بقطعة قماش بالية، وبللها بالماء، وراح يغسل ويجفف جسد الجد لوو خان. وبينما هو يفعل ذلك تَحدَّث إلى الجد لوو قائلًا: «أخي الأكبر.»

فرد الجد لوو: «أخي الحبيب، أرجو أن تقضي عليَّ بضربة واحدة، ولن ينسى لك الجميع صنعك الكريم.»

فصاح المسئول الياباني.

وقال المترجِم: «ابدأ بسرعة!»

تَغيَّرتْ ملامح وجه الجزار سون، ومد أصابعه الصغيرة، وأمسك بأذني الجد لوو، ثم قال: «أخي الأكبر، اعذرني فإنه ليس لي حول ولا قوة.»

رأى أبي سكين الجزار سون تنزل على أذن الجد لوو خان وكأنها منشار حاد. ولم يتوقف الجد لوو حينها عن الصياح بجنون، حتى بال على نفسه. وبدَا أبي يرتعش بشدة. ثم تَقدَّم جندي ياباني يحمل بين يديه طبقًا من الخزف الأبيض، ووقف إلى جوار الجزار سون، وقام بوضع أذن الجد لوو السميكة، ثم قام الجزار بقطع أذن الجد لوو الأخرى، ووضعها داخل الطبق الأبيض. ورأى أبي أُذُنَي الجد لوو تقفزان داخل الطبق الأبيض وتحدثان صوتًا مسموعًا.

وحمل الجندي الياباني الطبق الخزفي الأبيض، ومرَّ ببطءٍ أمام جَمْع الفلاحين، فنظر إليه الجمع من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال. ونظر أبي إلى أُذُنَي الجد لوو خان الجميلتين، فرآهما تتراقصان داخل الطبق الأبيض.

تَقدَّم الجندي الياباني بالطبق إلى المسئول الياباني، فهز القائد رأسه. ثم قام الجندي بوضع الطبق الذي توضع فيه أُذُنَا الجد لوو خان إلى جانب جثة ذلك الجندي الياباني، وتركه قليلًا من الوقت، ثم عاد فحمله وقدَّمه إلى فم الكلب.

راح الكلب يلهث ويشم الصيد المُلقى أمامه. ثم هزَّ رأسه، وأخرج لسانه، وقعد القرفصاء.

وخاطب المترجِم الجزار سون وو قائلًا: «يا هذا، استمر في عملك!»

كان الجزار لا يزال واقفًا في مكانه، وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة، فنظر أبي إلى وجهه، كان متصببًا بالعرق، وعيناه ترتعشان بسرعة فائقة، تمامًا مثل الطير في بحثه عن الحَب.

وبعد أن انتهى الجزار من قطع أُذنَي الجد لوو خان، نزف الجد لوو قليلًا من الدم، وتغير شكل رأسه كثيرًا بدون الأذنين.

عاود المسئول الياباني صياحه.

فقال المترجم: «أسرع يا هذا!»

فانحنى الجزار سون وو، وقام بقطع عضو الجد لوو خان الذكري، ووضعه داخل الطبق الخزفي الأبيض. فحمل الجندي الياباني الطبق مرة ثانية، وهو يُدقِّق النظر في الشيء الذي بداخله، وراح يعرضه على الجمع. وهنا أحس أبي بأن أصابع جدتي الباردة كادت تنغرس في فروة رأسه.

قام الجندي الياباني بوضع الطبق أمام الكلب، فعض الكلب ما بداخله عضتين، ثم ألقى به جانبًا.

وكان الجد لوو لا يتوقف عن الصياح بأعلى صوته، وهو يخبط جسده بشدة في الوتد.

وهنا ألقى الجزار سون وو بالسكين على الأرض، ثم سارع بالسجود وهو لا يتوقف عن البكاء الشديد.

وأرخى المسئول الياباني الحبل قليلًا، فانقض الكلب يعدو نحو الجزار سون، وراح يُمسك برأسه، فسارع الجزار سون، ورفع يديه محاولًا إخفاء وجهه.

وما إن سمع الكلب صوت صفارة المسئول الياباني، حتى عاد مسرعًا إلى جواره.

قال المترجِم: «واصِلْ عمَلَك أيها الجزار بسرعة!»

فنهض الجزار سون، وأخذ بالسكين، وتوجه إلى أمام الجد لوو خان.

وهنا كان الجد لوو خان لا يتوقف عن السَّب بأعلى صوته، والجمع يرفعون رءوسهم ناظرين إليه.

فقال الجزار سون وو: «أخي الأكبر … أخي الأكبر … فلتتحمل قليلًا.»

فبصق الجد لوو خان بعض الدم على وجه الجزار سون وو.

– «استمر في السلخ، اللعنة على أسلافك، استمر!»

فأخذ الجزار سون وو سكينه، واستمر في تنفيذ أوامر المسئول الياباني.

كان أبي قد حدثني عن منظر الجد لوو خان، وعمَّا أصابه من سكين الجزار سون وو، ذلك الجزار الشرس الذي سلخه سلخًا لا هوادة فيه. وقد ركع الأهالي المحتشدون آنذاك أمام ما تَبقَّى من جسد الجد لوو خان. في تلك الليلة هطلت أمطار غزيرة، غسلت ساحة الدواب ونظفتها جيدًا، حتى لم يَعُد هناك أي أثر لما أصاب الجد لوو خان. وتناقل أهل القرية سر اختفاء جثة الجد لوو خان، ثم تناقلتها الأجيال المتعاقبة من أبناء القرية حتى أصبحت قصة الجد لوو خان حكاية أسطورية.

«إذا جرؤ على خداعي فسأقطع رأسه وأجعله قِدرًا أتبول فيه!» وبينما كانت الشمس تقترب من الغروب، وقد طارت جماعة كبيرة من البط البري، وظهرت جماعة أخرى، ولم تكن قوات القائد لينغ ماتزه قد وصلَتْ بعدُ، وقد بدَا الطريق العام خاليًا تمامًا إلا من بعض الأرانب البرية. ثم ظهر بعد ذلك ثعلب أحمر اللون يتسلل عَبْر الطريق. وبعد أن انتهى القائد يو من سب القائد لينغ ماتزه، صاح قائلًا: «انهضوا جميعًا، فيبدو أننا قد وقعنا في الفخ الذي نصبه لنا الملعون لينغ ماتزه.»

كان أفراد عصابة القائد يو قد أصابهم التعب منذ وقتٍ طويلٍ، ومِن ثَمَّ فلم يَرُقْهم سماع هذا الخبر، وأمرهم القائد يو أن ينهضوا على الفور، وفي تلك الأثناء كان بعض منهم يجلس يدخن السجائر على الحاجز الترابي إلى جانب النهر، والبعض الآخر يقضي حاجته خلف هذا الحاجز.

قفز أبي بسرعة إلى خلف الحاجز الترابي، وكان لا يزال يُفكِّر في بعض المشاهد التي وقعت في العام الماضي، وتكاد لا تفارقه صورة الجد لوو خان وما تَعرَّض له في ذلك اليوم العصيب. وانزعجت جماعات البط البري من هؤلاء الأفراد الذين نهضوا مرة واحدة، وطارت حتى استقرت ثانيةً عند الحاجز الترابي.

تقدَّم الأخرس إلى أمام القائد يو وهو يحمل خنجره وبندقيته. وقد بدَا عليه الحزن الشديد وهو يرفع ذراعيه ويشير إلى الشمس، وما إن مالت الشمس نحو الجنوب الشرقي، حتى خفض ذراعيه وأشار نحو الطريق العام. وصمَتَ القائد يو قليلًا، ثم صاح في الأفراد الذين كانوا في الجهة الغربية أن: «اتَّجِهوا غربًا!»

فعبر جميع الأفراد الطريق العام، وتجَمَّعوا أعلى الحاجز الترابي.

صاح القائد يو: «أيها الرفاق، إنه إذا جرؤ لينغ ماتزه، ورفاقه على خداعنا، فسآتي إليكم برأسه! ولا يزال الوقت مبكرًا، فلننتظر قليلًا حتى الظهيرة، وإذا لم تظهر العربات، فسنعدو نحو منخفض تانجيا لنُصَفِّي حساباتنا مع لينغ ماتزه ورفاقه. ولتستريحوا داخل حقول الذُّرَة لبعض الوقت، وسأرسل ابني دوو قوان ليستعجل لنا الطعام.» «دوو قوان!»

رفع أبي وجهه ونظر إلى القائد يو.

قال القائد يو: «عُد إلى المنزل، وأخبر والدتك لتأمر بإعداد الطعام. وأن تأتي به إلينا بنفسها في الظهيرة.»

هز أبي رأسه، ورفع بنطاله قليلًا، وأحكم وضع مسدسه. ونزل مسرعًا من أعلى الحاجز الترابي، وسار بمحاذاة الطريق العام. واختبأ فجأة وسط حقول الذُّرَة. وبينما كان يسير وسط الذُّرَة، اصطدمت قدماه ببعض جماجم الخيل والبغال. كان يركلها بقدمه ويفسح الطريق أمام نفسه، وكان من بين الجماجم التي ركلها بقدميه جماجم زوج من الفئران البرية، نظر إليها أبي نظرة سريعة ثم استمر في سيره. ثم عاد يفكر في زوج البغال التي كانت تملكها العائلة، وتَذكَّر بعد أن تم إصلاح هذا الطريق العام بفترة طويلة، فكان أهل القرية لا يزالون يشمون رائحة الجثث مع هبوب الرياح الجنوبية الشرقية. وفي العام الماضي، كانت قد طفت على سطح مياه النهر عشرات من جثث الخيل والبغال. كانت قد توقفت في المنطقة الممتلئة بالعشب على جانب النهر. كانت تلك الجثث تطفو على السطح شيئًا فشيئًا، ثم تمضي تسير في عرض النهر.

٥

عندما بلغَتْ جدتي الثامنة عشرة، زوَّجَها أبوها إلى دان بيان لانغ الابن الوحيد للسيد دان يان شيو أحد أشهر الأثرياء في قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي. كانت عائلة دان تمتلك فرنًا لصناعة نبيذ الذُّرَة، حيث كانت تستخدم الذُّرَة الرفيعة التي تشتهر بها هذه البلدة كمادَّة خام رخيصة في صناعة نوع من النبيذ الأبيض، له شهرة واسعة في محيط القرية. كانت قرية دونغ بيي تشتهر بإنتاجها الوفير جدًّا من الذُّرَة الرفيعة. وكانت عائلة دان تستخدم هذه المادة الخام في صناعتها التي كانت تُدِرُّ عليها ربحًا وفيرًا، فكانت أيسر عائلة على مستوى القرية. ولهذا السبب كان من عظيم الفخر لأسلافي من ناحية جدتي أن تتزوج جدتي من الثري دان بيان لانغ. كان هناك الكثير من العائلات آنذاك تَتمنَّى أن تَشْرُف بعلاقة مع عائلة دان الثرية، على الرغم من إصابة دان بيان لانغ بالبَرَص. أما والده السيد دان يان شيو فقد كان شيخًا نحيفًا، تَتدلَّى خلف رأسه ضفيرة صغيرة. وعلى الرغم من الكنوز التي كان يمتلكها، فإنه كان دائمًا ما يظهر في ثياب بالية، ويربط حول خصره حبلًا من القش. كان زواج جدتي من الابن الوحيد لعائلة دان الثرية ترتيبًا من السماء.

في ذلك اليوم الذي صادف عيد تشينغ مينغ،٣ كانت جدتي تلعب مع بعض الفتيات من سنِّها، وقد بدت أشجار الخوخ في حمرة تجذب الأنظار، وكان المطر خفيفًا، وتنعكس أزهار الخوخ على وجوه الجميع، والفتيات تلهو بكل حرية. وفي ذلك العام كان طول جدتي ١٦٠ سم ووزنها ٦٠ كيلوجرامًا، وكانت ترتدي جلبابًا مزركشًا، يظهر تحته سروال من الحرير الأخضر، ويحيط بكاحل قَدَمها شريط من الحرير الأحمر. وبسبب ذلك الجو الممطر، فقد كانت جدتي تنتعل حذاءً مزركشًا من المشمع، يحدث صوتًا مسموعًا أثناء السير به. وتَتدلَّى خلف رأسها ضفيرة طويلة لامعة، وحول رقبتها قلادة فضية ثقيلة الوزن، فقد كان والدها أحد الحرفيين العاملين في صناعة الأدوات الفضية. أما عن والدتها، فكانت سليلة أسرة إقطاعية انهارت وفَقدتْ ممتلكاتها، كانت على دراية كبيرة بأهمية أن تمتلك المرأة قدمًا صغيرة. كان جدتي قد بدأت عملية الضغط على قدميها حتى لا تُصبح كبيرة الحجم، حيث كانت والدتها تستخدم قطعة قماش لتلف بها قَدمَي صغيرتها، يبلغ طولها ما يزيد على واحد تشانغ (حوالي ثلاثة أمتار ونصف المتر)، وكانت تُحكِم ربطها حول قدمَي جدتي بطريقة كانت تؤلمها كثيرًا! كانت والدتي أيضًا تمتلك قدمين صغيرتين، حتى إنني عندما كنتُ أرى قدميها أشعر بالأسف الشديد، وأودُّ أن أصيح بأعلى صوتي: لتسقط الأعراف الإقطاعية! وتحيا حرية أقدام البشر! فَلَكَم تألَّمَت جدتي من ذلك الصنيع بقدميها، حتى أصبحت تملك قدمين مقاس ثلاث تسون.٤ وعندما بلغت جدتي السادسة عشرة، كان عودها قد اشتد وأصبحت تتمتع بجسدٍ جميلٍ، وقوام ممشوق مُلفت للانتباه. وكان السيد دان يان شيون قد اختار جدتي من بين الكثير من الفتيات الحسناوات أثناء جولته في القرية التي كان يعيش فيها والد جدتي. وبعد ثلاثة أشهر من تلك الجولة، حضر الهودج الذي حمل جدتي إلى دار عائلة دان الثرية.

جلسَتْ جدتي داخل الهودج المُغلَق وهي تشعر بدُوارٍ شديدٍ. وقد حجب الشال الأحمر الضوء عن عينيها، وفاحت منه رائحة طعام فاسد. فرفعَت يدها وأزاحت الشال الأحمر قليلًا — علمًا بأن والدها كان قد أوصاها مرارًا وتكرارًا بألَّا تُحَرِّك من تلقاء نفسها ذلك الشال الأحمر الذي سينزل من على رأسها — وبقيت الأسورة الفضية الثقيلة في يديها، وعندما رأتْ جدتي النقوش في شكل الحية التي تزين تلك الأسورة، شعرت باضطراب شديد. وهنا هَبَّت رياح دافئة حَرَّكتْ سيقان الذُّرَة الممتدة على جانِبَي الطريق الترابي. وجاء من وسط حقول الذُّرَة صوت هديل الحمام. أما سنابل الذُّرَة التي كانت قد ازدهرت منذ وقتٍ قريبٍ، فقد تطاير غُبار طَلْعها في جميع الأرجاء. وظهرت رسوم العنقاء التي كانت تزين ستارة الهودج، أما قماش الهودج ذو اللون الأحمر، فقد بدَا باهتًا بسبب طول كثرة تأجيره لمدة طويلة. كان حامِلُو الهودج يسيرون تحت شمس الخريف بخطوات سريعة، والرياح تُحرِّك الجلد المربوط به ذراع الهودج الرئيسي، حتى سَرى بعض الضوء إلى داخل الهودج. وفي تلك الأثناء كانت جدتي تَتصبَّب عرقًا، وقلبها يدق بسرعة، وازداد خوفها وقلقها عندما سمعَت صوت وقع خطوات حاملي الهودج وأنفاسهم السريعة.

ومنذ اليوم الذي وقع فيه اختيار السيد دان يان شيو على جدتي لتكون زوجة لابنه الوحيد، بدأ يتوافد الكثير من الأهالي على منزل والدها ليُقدِّموا التهاني لوالد ووالدة العروس. وعلى الرغم من أن جدتي كانت قد تَمنَّت قبل تلك الأيام السعيدة بعد الزواج أن تَتنعَّم في الذهب والفضة، فإنها كانت تَتمنَّى من أعماق قلبها أن تفوز بزوجٍ متعلمٍ وسيم يحسن الاهتمام بزوجته وأهل بيته. وقد رَسمَت جدتي بثياب عرسها المُطرَّز لوحة جميلة لمستقبل ذلك العريس الذي أصبح جَدِّي فيما بعد. ولكم تَمنَّت الزواج المبكر، ولكنها شعرت بخوف شديد من ذلك اليوم بعد أن سمعت من رفيقاتها عن بَرَص الابن الوحيد لعائلة دان. وقد شَكَت جدتي إلى والديها ما يُساوِر قلبها من مَخاوف. وكان والدها يتهرب من الإجابة على تساؤلاتها، أما والدتها فقد اكتفت بسَبِّ رفيقاتها، ظنًّا منها أنهن يَحسدْن ابنتها على هذا الزوج الثري. تَحدَّث والدها إليها فيما بعدُ عن أن الابن الوحيد لعائلة دان مُثقَّف واسع الاطلاع، لا يُفضِّل البقاء خارج منزله، رجل وسيم وذو أخلاق حميدة. وهكذا أصبحت جدتي في حيرة من أمرها، وهي تعتقد أنه لا يوجد في هذا العالَم والدان يُضمِران الشر لأبنائهما. وربما يكون ما سَمعتُه مُجرَّد مزاح من رفيقاتها. ومن ثَم فقد عاوَدَت التَّطلُّع إلى يوم العرس. كانت تعيش آنذاك وحدة قاسية، وكم تَمنَّت أن تقضي على هذه الوحدة بين أحضان زوج عظيم. وأخيرًا جاء يوم الزواج، وجلسَتْ جدتي داخل الهودج الذي يحمله أربعة أشخاص، ويسير أمامه الطبالون والزمارون، ويترك خلفه الكثير من الأحزان، حتى إنها لم تتمالك نفسها وأجهشت بالبكاء. ومع تحرك الهودج، عَمَّت الفرحة الجميع، وحيَّا أهل القرية هودج العروس بالتصفيق والتهليل، وانتهى ذلك مع ابتعاد الهودج خارج حدود القرية، وتسارَعَت خطوات حاملِي الهودج. وتسللت رائحة الذُّرَة إلى الأنوف. وتعالت أصوات الطيور وسط حقول الذُّرَة. ومع كثرة الضوء المنبعث إلى داخل الهودج، بدأت صورة الزوج تتضح أكثر فأكثر عند جدتي. وبدأ القلق يُساورها من جديد.

بدأت شفتَا جدتي تتمتم بالدعاء أن «احفظني يا إلهي!» وكانت شفتاها طَريَّتَين نَضرَتَين. وبدَت أدعيتها مسموعة داخل الهودج الذي يُميِّزه السكون التَّام. وسحَبت الغطاء وغطَّت ركبتيها، وحسب تقاليد الزواج التي كانت مُتَّبَعة آنذاك، كان عليها أن ترتدي سُترة وسروالًا قطنيًّا جديدًا في ذلك اليوم السعيد. وقد بدَا الهودج باليًا غير نظيف من الداخل. بدَا وكأنه تابوت حَمَل الكثير من العرائس اللائي سيصبحن حتمًا فيما بعد جثثًا تُزَفُّ إلى القبور. نفذَت خمس ذبابات إلى داخل الهودج، ركَّزَت ثلاث منها على وجه جَدَّتي، بينما وقفت الرابعة والخامسة على ستارة الهودج. ولم تَعُد جدتي تَتحمَّل ذلك الجو الخانق داخل الهودج، فدفعت ستارة الهودج بقدمها، وتمَكَّنَت من الكشف عن فتحة صغيرة تنظر من خلالها إلى الخارج. حيث رأت. أول ما رأت، أقدام حاملي الهودج الكبيرة السوداء الجميلة، ينتعلون أحذية من القش، تطأ الطريق الترابي مُحدِثة صوتًا مسموعًا. ومَضَت جدتي تتخيل النصف الأعلى من جسد هؤلاء الحمَّالِين، وودَّتْ أن تكشف عن ذلك الجزء الخفي. ورأت ذراع الهودج وأكتاف الحمالين تتدلَّى تحته. ورأت حقول الذُّرَة الممتدة على جانبي الطريق، ورأت سنابل الذُّرَة تغطي سطح المكان وسط الحقول الممتدة إلى ما لا نهاية، وكأنها نهر يخر ماؤه خريرًا. كان الطريق يضيق أحيانًا، حتى إن عيدان الذُّرَة تقترب أكثر فأكثر وتخبط حواف الهودج.

شمَّت جدتي رائحة عَرَق الرجال التي تفضلها، وقد جاءَتْها الآن من تجاه حامِلِي الهودج، الذين كانوا يسيرون في خطوات سريعة واسعة مُتَّزِنة، كأنهم «يَدكُّون الطريق». كانت هذه الحركات تهدف من جانب إلى جذب انتباه الطرف الذي استأجرهم، لعله يُجزل لهم العطاء، ومن جانب آخَر كانت دليلًا على عملهم الجادِّ المتقَن. وكانت خطواتهم السريعة ووقْعُ صوتها على الأرض دليلًا على قُوَّتِهم، كما كانت هذه الأصوات تَلتَحِم مع أصوات البوق التي تسير مع الرَّكْب، لتنسج معًا لحنًا أشبه ما يكون بلحن حزين يُشير إلى المعاناة التي تعقب كل لحظة سعادة يعيشها الإنسان. وعندما وصل الرَّكْب إلى منطقة عَراء فسيحة، بدأ حامِلُو الهودج يَتصرَّفون تَصرُّفات مريبة وبها بعض القسوة، وكان هدفهم من ذلك تسلية أنفسهم خلال هذه الرحلة الطويلة، وأيضًا بهدف إرهاب العروس لبعض الوقت. في مثل هذا الموقف، كانت بعض العرائس يَصِحْن بأعلى صوت، ويُصَبْن بالإغماء الشديد حتى التَّقيُّؤ الذي يملأ ثيابهن المزركشة، وأحذيتهن المُطرَّزة بالقاذورات، في حين أن حامِلِي الهودج يكونون في غاية السرور بوصول العروس إلى هذه المرحلة من الخوف. وبالتأكيد فإن هؤلاء الرجال الأشداء لم يكن يَروقُهم حَمْل مثل هذه الضحية إلى غرفة العريس.

من بين هؤلاء الرجال الأربعة الذين كانوا يحملون جدتي في تلك الليلة، كان ذلك الرجل الذي أصبح جَدِّي فيما بعد، إنه القائد يو جان آو. كان وقتها قد بلغ العشرين من عمره، وكان يعتبر أفضل الشباب العاملين في مجال حمل توابيت الموتى وهوادج الزفاف، وكان جيل جدي من شباب قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي آنذاك، خير من يُمثِّل صفات أهل هذه البلدة من الشجاعة والقوة والجسارة والإقدام، تلك الصفات التي لا مجال لأن يُقارَن بها ذلك الجيل مع جيلنا الضعيف الجبان، وكان من بين الأعراف المتبعة آنذاك، أن يقوم حاملو هودج العروس بالمزاح معًا أثناء الرحلة، مثل ما قام به حاملو هودج جدتي، حيث ذكروا لها أنه كما يحق للعاملين في صناعة النبيذ تذَوُّقه كما يحلو لهم، فإن حامِلي هودج العروس يحق لهم أيضًا إرهابها والمزاح معها كما يحلو لهم.

كانت أوراق الذُّرَة تخبط بين الحين والآخر حواف الهودج، وفجأة جاء صوت بكاء مسموع من مكان بعيد وسط حقول الذُّرَة، وكسر الصوت حاجز الصمت الذي كان يخيم على الطريق الترابي. كان صوت البكاء يشبه كثيرًا الألحان التي كان تشدو بها جماعة الطبالين والزمارين في بداية سير الهودج. هنا أدركتْ جدتي أن هذا الصوت الكئيب بالتأكيد هو صوت الآلات التي يمسك بها هؤلاء. ودفعَت جدتي ستارة الهودج قليلًا لترى من خلالها خَصْر أحد الحمالين وقد تَصبَّب عرقًا. كما رأت جيدًا قدميها في الحذاء الأحمر المطرز، رأت قدميها الصغيرتين النحيفتين وقد غشاهما الضوء القادم من خارج الهودج. رأتهما وكأنهما برعمان من أزهار اللوتس، أو كأنهما زوج من صغار السمك ينام في القاع. وهنا تَدلَّت على جفني جدتي دمعتان رقيقتان كحبَّات الذُّرَة البراقة، وسارت حتى استقرت عند حافة فمها. بدت جدتي وقد شعرت بكثير من الحزن، حيث تَجلَّت أمامها صورة الزوج التي كثيرًا ما رسمتها في خيالها مثل صورة أبطال الأعمال المسرحية، وبدَت صورة هذا الزوج غامضة ومريبة. وعندما رأت جدتي وجه بيان لانغ الابن الوحيد لعائلة دان، رأته وجه رجل مُصاب بالبَرَص، شعرت ببرودة شديدة تَتسلَّل إلى جميع أجزاء جسمها. وراحت تُفكِّر في قدميها الجميلتين، ووجهها الوردي الوديع، وشخصيتها الرومانسية، أليس هذا كله سيضيع مع هذا الزوج المصاب بالبرص؟ إنها لَتُفضِّل الموت عن أن تواجه هذا المصير. وسمعت بعض الكلمات القادمة من ناحية صوت البكاء وسط حقول الذُّرَة، سمعت صوتًا يردد: يا لزرقة السماء! يا لجمال الأزهار! آه من حزني على رحيلك أخي الأكبر! لقد ضاعت أختك الصغيرة بموتك يا عزيزي! إنني مضطرة لأن أبوح لك بأن صوت نَحِيبنا نحن نساء قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي لهو في جمال صوت الغناء الرقيق العذب. في العام الأول بعد تأسيس جمهورية الصين الوطنية،٥ جاءت إلى هنا جماعة من «النائحات» من عائلة الفيلسوف الحكيم كونفوشيوس من مدينة تشيو فو لدراسة نغمة النواح التي تتميز بها نساء بلدتنا. وشعرت جدتي بأن مُصادَفة هذه المرأة النائحة في يوم عُرسِها فأل غير طيب، وهكذا زاد شعورها بالحزن والكآبة التي بدأت تسيطر عليها. وفي تلك اللحظة خاطبها أحد حاملي الهودج قائلًا: «أيتها العروس، فلتشاركي إخوتك الكبار الحديث، حتى لا يقتلك الشعور بالوحدة خلال هذه الرحلة الطويلة.»

سارعت جدتي بسحب الشال الأحمر وغطت وجهها جيدًا، وسحبت أيضًا قدميها إلى داخل الهودج، ليغشاه الظلام من جديد.

«فلتَتغَنِّي بأنشودة بسيطة لإخوتك الذين يحملونك طوال الطريق!»

عندئذٍ نهض أحد الزَّمَّارين وكأنهم أفاقوا من حلمٍ طويلٍ، وأخذ بالبوق: دنغ … دنغ.

«مينغ دونغ … مينغ دونغ»، بدأ أحد الرجال أمام الهودج يُقلِّد صوت البوق، وعَمَّ الضحك.

تصبَّب جسد جدتي عرقًا. وتَذكَّرَت توصيات والدتها لها قبل أن تصعد إلى هذا الهودج، بأنه مَهمَا حدث فإنها لا يجب أن تنخرط في الثَّرثَرة مع حامِلي الهودج. هؤلاء الحمَّالون والزَّمَّارون مُجرَّد صعاليك، يجرءون على فِعْل أقبح ما يتخيله المرء.

وهز الحَمَّالون الهودج بقوة، لدرجة أن جدتي لم تكن قادرة على الجلوس بثبات داخله، وراحت تمسك بالمقعد الذي تجلس أعلاه.

– «لا يوجد أي صوت؟ استَمِّروا، فإن لم نسمع صوتها، فإننا حتمًا سنسمع صوت جريان بولها!»

بدأ الهودج يَتحرَّك بقوة وكأنه قارب صغير تقذفه الأمواج العاتية، وجدتي تَتشبَّث بكل ما في وسعها بحواف المقعد، وبدأتْ تسمع أصوات طعام الإفطار في بطنها، وأحسَّت بإغماء شديد. لا يمكن أن أتقيأ! لا يمكن أن أتقيأ! وراحت تأمر نفسها بضرورة أن تتماسك حتى النهاية وهي تُحدِّث نفسها، عزيزتي جين ليان يذكر الجميع أن التقيؤ داخل هودج الزفاف فأْلٌ غير طيب على الإطلاق، وأنكِ إذا وقعتِ في هذا الخطأ، فلن تنعمي طيلة حياتك بالحظ السعيد.

بدأ كلام الحمَّالين يصبح أكثر همجية، فمنهم من كان يلعن والدها بأنه إنسان وضيع يضحي بأغلى ما يملك أمام المال، ومنهم من كان يردد: الغراب زوجوه من أحلى يمامة، ومن كان يردد أن العريس دان بيان لانغ مُجرَّد أبرص لا حيلة له ولا قوة. وراحوا يُردِّدون معًا أنه يمكن للواقف في فناء دار عائلة دان أن يشم رائحة اللحوم المُتعفِّنة، وأن هذا الفناء يعج بالذباب في جميع أرجائه.

– «أيتها العروس الصغيرة، حذارِ أن تسمحي لذلك الأبرص أن يقترب منك، فأنت الخاسرة إذا وقع ذلك!»

اشتد صوت البوق، وكانت جدَّتي لا تزال تُجاهِد الصراع داخل بطنها خوفًا من التجشؤ أو التقيؤ، وفجأة انهارت عزيمتها، وأخرجَت جميع ما في جوفها، امتلأ داخل الهودج بالقاذورات.

– «استمِرُّوا، استمِرُّوا! فإنها ستنطق إن عاجلًا أم آجلًا.»

وأخيرًا سمعوا صوت جدتي تستغيث: «أيتها الأخوة الأعزاء … ارحموني»، ثم أجهشتْ بالبكاء بصوتٍ مرتفعٍ. وأحسَّت بأنها ليست سوى امرأة مظلومة، وأنه ينتظرها مستقبل مُظلِم، ولن يكون بإمكانها أن تنجو منه إلى الأبد. وراحت تُولْوِل يا أبتاه، يا أماه، أيها الأب الطماع، أيتها الأم القاسية، لقد دَمَّرتُم مستقبلي.

ومع ارتفاع صوت بكاء جدتي، واهتزاز عيدان الذُّرَة بقوة، توقَّف هؤلاء الحمالون والزمارون عن المزاح والسخرية من العروس والعريس. وبقي فقط صوت بكائها الذي كان أجمل من صوت بكاء أي امرأة أخرى. وفجأة توقَّفَت عن البكاء وراحت تستمتع بصوت الموسيقى القادم من مكانٍ بعيدٍ. في تلك الأثناء، تناثرت المساحيق على وجهها وترقرق الدمع في عينيها، وأَحسَّت في هذا الجو الكئيب بأنها سمعت صوت الموت، وشَمَّت رائحته، ورأتْ وجه ملك الموت الباسم.

هنا سكت الحمَّالون، وتثاقلت خُطاهم. وتلاقت أصوات تلك الضحية المسكينة داخل الهودج مع الألحان الحزينة خلف الهودج، مما جعل هؤلاء في حيرة واضطراب شديد. وبدا هذا الرَّكْب وكأنه ليس لزفاف عروس إلى بيت عريسها، وإنما هو أشبه بتشييع جنازة. أما ذلك الرجل الذي كان على مقربة من أقدام جدتي، والذي أصبح جَدِّي فيما بعد، فقد أحس بإحساس لم يعهده من قبل، إحساس حار سَرَى في داخله وأنار مستقبله. وأخيرًا أثار صوت بكاء جدتي مشاعر الشفقة في أعماق قلبه.

وفي منتصف الطريق وقف الرَّكْب للراحة، وأنزل الحمَّالون الهودج على الأرض. وأحسَّت جدتي بالدوار من كثرة البكاء وشِدَّته، حتى سقطت إحدى قدميها إلى خارج الهودج. فنظر الحَمَّالون على الفور إلى هذه القدم الصغيرة الجميلة، وتاهوا في سحر هذا الجمال الرائع. وتقدم يو جان آو وأمسك بقدم جدتي بكل رفقٍ وحُنُو، وكأنه يمسك بعصفور صغير لم يجتمع ريشه بعد، ثم أعادها برفق إلى داخل الهودج. وتأثَّرَت جدتي كثيرًا بهذا اللطف، وودَّت أن تزيح ستارة الهودج لتنظر إلى هذا الحمَّال صاحب اليد الكبيرة الحانية.

أعتقد أن القَدَر كان قد شاء ورتَّب لهذا اللقاء، فلقد تَسبَّبتْ لمسات ذلك الحمَّال يو جان آو في تفجير طاقات الإحساس الكامنة داخل جدتي، ومنذ تلك اللحظات تَغيَّرَت حياتهما معًا.

وواصل الرَّكب السير، وبدأ الزمار عمله، ثم عم الصمت من جديد. وهبَّت رياح شمالية شرقية، وتَجمَّعَت الغيوم وامتلأت السماء بالسحب الداكنة، وحَجبَت الضوء عن الهودج الذي بدا مظلمًا. وسمعَتْ جدتي حركة عيدان الذُّرَة تتحرك بشدة بفعل الرياح العاتية، ثم سمعَتْ صوت رعد. وأسرع الحمالون الخُطَى. لم يكونوا قد اقتربوا بعدُ من منزل عائلة دان، ولم تكن جدتي تعلم عن ذلك شيئًا، فقد كانت مثل دابة مربوطة، يزداد سكونها وصمتها كلما اقترب موعد ذبحها. كانت جدتي تَدسُّ داخل صدرها مقصًّا حادًّا، ربما كانت قد أعَدَّتْه للعريس دان بيان لانغ، وربما أعدَّتْه لنفسها.

أما حكاية اختطاف هودج جدتي عند نفق الضفادع، فكان حدثًا مهمًّا في تاريخ حكايات العائلة. كانت منطقة نفق الضفادع عبارة عن منخفضٍ كبيرٍ يتميز بخصوبة أرضه ووفرة مياهه، وكانت الذُّرَة في تلك المنطقة كثيفة أكثر منها في غيرها من المناطق المجاورة. وعندما وصل هودج جدتي إلى هذا المكان، كانت الغيوم قد غطَّت السماء، واشتد دَوِي البَرْق. وكان الحمَّالون يلهثون وقد تصببت أجسادهم بالعرق. وعندما دخلوا في نفق الضفادع، انعكس الظلام داخل المكان وعمَّ الظلام حقول الذُّرَة المجاورة، وكأن الأعشاب البرية قد سدت الطريق. كانت هناك مساحة كبيرة من نبات الأقحوان، ظهرت سيقانه بالألوان البنفسجي والأزرق والوردي والأبيض. وكان صوت نقيق الضفادع داخل حقول الذُّرَة مرعبًا، ثم صاحَبَه صياح الثعالب. شَعرتْ جدتي داخل الهودج برجفة شديدة، أحسَّتْ وكأن جسَدَها قد تَغيَّر وظهر على جلدها ورَم لم تَرَه من قبل. لم تكن تعلم أي شيء عمَّا يحدث حولها، وهنا سمعَت صوت رجل يصيح أمام الهودج بصوتٍ مرتفعٍ قائلًا: «ادفعوا رسوم عبور الطريق!»

دقَّ قلبها، ولم تَدْر أتفرح أم تحزن، يا إلهي، أخيرًا صادفنا بشرًا!

كانت جماعات قُطَّاع الطُّرق تنتشر بكثرة في قرية دونغ بيي، حتى إن ظهورهم وسط حقول الذُّرَة كان أمرًا عاديًّا، وكان لديهم العدة والعتاد، وكانوا لا يَتورَّعون عن فعل أي شيء، بل كانوا أيضًا يفعلون شتى الأفعال الخيرة. في يوم من الأيام، شعر أفراد إحدى عصابات قُطَّاع الطرق بالجوع، فهَمُّوا بالقبض على شخصين، واعتقلوا أحدهما، وأطلقوا سراح الآخر، وجعلوا الشخص الذي أطلقوا سراحه يرجع إلى القرية لينشر خبر القبض على زميله، ويحضر لهم فطيرتين كبيرتين محشوتين بالبيض والبصل. وكانوا أثناء تناوُل هذا النوع من الفطائر يمسكون قطع الفطير بكلتا يديهم، ومِن ثَمَّ فقد أطلق على هذا النوع من الفطائر: «الفطائر التي تؤكل باليدين.»

صاح أحدهم: «عليكم بتقديم رسوم عبور الطريق!»، فتوقَّف حاملو الهودج، وراحوا ينظرون إلى قاطع الطريق بكل ذهول. وكان ذلك الرجل قصير القامة، أسمر الوجه، يرتدي أعلى رأسه قبعة مصنوعة من شرائح عيدان الذُّرَة، ويلبس معطفًا كبيرًا من القش، وترك معطفه مفتوحًا، وكشف عن لباس أسود وحزام عريض ملفوف حول خصره، مشبوك به شيء ما ملفوف بقطعة قماش من الحرير الأحمر. وقد استخدم ذلك الرجل إحدى يديه وضغط على تلك اللفافة.

هنا، وفي لمح البصر، أحسَّت جدتي بأن الأمر لا يدعو للخوف، فماذا تخشى بعد أن أصبحت لا تخشى الموت ذاته؟ أزاحت الستارة قليلًا ونظرت إلى قاطع الطريق.

وعاد الرجل يصيح ثانيةً: «عليكم بتقديم رسوم عبور الطريق! وإلا فإنني سأقضي عليكم!»، وراح يضرب على ذلك الشيء الملفوف حول خصره.

أخرج الزَّمَّارون على الفور رُزَم النقود النحاسية التي كانوا قد حصلوا عليها من والد جدتي، وألقوا بها أمام ذلك الرجل. وأنزل الحمالون الهودج وأخرجوا جميع ما في جيوبهم من نقود، وألقوا بها أمام الرجل.

ومدَّ الرجل قدمه، وسحب بها النقود الملقاة أمامه، وعيناه لا تكاد تتوقف عن النظر إلى جدتي التي كانت لا تزال داخل الهودج.

وعاد يضرب على ذلك الشيء المختبئ بيده وهو يصيح: «أسرعوا جميعًا خلف هذا الهودج، وإلا بادرت بإطلاق النار!»

سار الحمالون ببطء وتَردَّد إلى حيث أمرهم. وكان يو جان آو يسير في مُؤخِّرتهم، وقد استدار بجسده بشجاعة، ونظر إلى ذلك الرجل آكل الفطائر باليد، فتغيرت ملامح الرجل للتوِّ، وراح يقبض على ذلك الشيء المختبئ، ثم صاح: «لا تنظر إلى الخلف، وإذا فعلتها ثانيةً سأقتلك في الحال!»

وضغط الرجل على الشيء المختبئ عند خصره، وتقدم خطوة إلى الأمام نحو الهودج، ومد يده وأمسك بقدم جدتي. فأشرقت الابتسامة على شفتيها، ثم خطف الرجل يده بسرعة وكأنها قد لامست نارًا حامية.

وقال الرجل: «انزلي عن الهودج، واتبعيني!»

بَقِيَت جدتي جالسة في مكانها، وتجمدت الابتسامة على وجهها.

– «انزلي عن الهودج!»

نهضت جدتي قليلًا، وتحَرَّكت عن مقعدها، وتجاوزت عمود الهودج، ثم وقفت عند أزهار الأقحوان المشرقة. وكانت تنظر بعينها اليمنى إلى ذلك الرجل آكل الفطائر، وباليسرى إلى الحمالين والزمارين.

وضغط الرجل على ذلك الشيء، ثم قال: «اتجهي إلى داخل حقول الذُّرَة!»

فوقفت جدتي في مكانها، وقد اختفت ابتسامتها المشرقة.

راح الرجل يحثها على التوجه إلى داخل حقول الذُّرَة، ويده لا تكاد تفارق ذلك الشيء المختبئ عند خصره. فراحت جدتي تنظر إلى يو جان آو نظرات تُعبِّر عن قلقها وخوفها من قاطع الطُّرق.

فتوجه يو جان آو نحو الرجل وهو منتصب القامة، وشفتاه النحيفتان مشدودتان، واحدة إلى أعلى والأخرى إلى أسفل.

«قف مكانك!» صاح الرجل بقوة، ثم استمر في تهديده: «إذا تَقدَّمتَ خطوة ثانية فسأطلق عليك النار!» وكانت يده تضغط بشدة على ذلك الشيء.

فسار يو جان آو في هدوءٍ نحو الرجل، وكلما تَقدَّم يو خطوة إلى الأمام، تراجع الرجل خطوة إلى الخلف. وتطاير الشرر من عينيه، وبدأ العرق ينزل على وجهه. وعندما كان يو جان آو على بُعد ثلاث خطوات منه، صرخ صرخةً مؤلمةً ثم فر هاربًا. فلاحقه يو جان آو وركله بقدمه في مُؤخِّرَته ركلة قوية. فتخبط الرجل قاطع الطريق في الأعشاب البرية، وقفز على نبات الأقحوان، وطار مثل الطفل البريء إلى داخل حقول الذُّرَة.

«العفو يا سيدي!» إن من بين أفراد أسرتي عجوزًا بلغت الثمانين تنتظرني أعود لها بهذه الوجبة. وهكذا كان قاطع الطريق يطلب العفو من يو جان آو بعد أن وقع في قبضته. فأمسك به يو جان آو، ودفعه إلى أمام الهودج، ثم ألقى به على الأرض، وأتبعه بركلةٍ قويةٍ في فمه. فتألم الرجل ألمًا شديدًا، وراح ينزف دمًا من أنفه.

فانحنى يو جان آو قليلًا واستل الشيء الذي خبَّأه قاطع الطريق في خصره، ونفض تلك القماشة الحمراء عن خصر الرجل، ليخرج منها كتلة من الأعشاب الصغيرة. وهنا لم يتوقف الجمع عن التأوه.

وسقط الرجل على الأرض، وراح يسجد أمام يو جان آو يطلب منه الصَّفْح. فقال يو جان آو: «جميع قُطَّاع الطُّرق يذكرون أن هناك عجوزًا في الثمانين تنتظرهم في منازلهم.» ثم تراجَع إلى الخلف، ونظر إلى الحمَّالين والزَّمَّارين، وكأنه قائد مجموعة من الكلاب يتشاور مع رفاقه حول أمر ما.

تجمَّع الحمَّالون والزَّمَّارون وكوَّنوا دائرةً صغيرةً، ثم التفوا حول قاطع الطريق، وأوجعوه ضربًا وركلًا. حتى لم يَعُد أحد يسمع صوت بكائه وطلبه الصفح كما كان عليه منذ قليل. ووقفت جدتي على جانب الطريق تستمع إلى صوت الهجوم على الرجل. ونظرَتْ إلى يو جان آو نظرة خاطفة، ثم راحت تنظر إلى البرق في السماء والابتسامة تكاد لا تفارق وجهها.

ورفع أحد الزمارين البوق وضرب به قاطع الطريق على رأسه، فانغرست حافة البوق داخل رأس الرجل، حتى استلبها الزمار بعد معاناة. فراح الرجل يصرخ ويَتلوَّى، ثم ارتمى على الأرض. وبدأ الدم يتدفق ببطء من جرحه الغائر.

قال الزمار وهو ممسك بالبوق: «هل مات الرجل؟»

– «نعم مات، فلم يستطع هذا الوضيع أن يتحمَّل كل هذا الضرب!»

وبدت على وجوه الحمالين والزمارين علامات الحزن والقلق.

نظر يو جان آو إلى الميت، ثم إلى الأحياء من حوله، ولم ينبس ببنت شفة. ومد يده إلى حقول الذُّرَة وقطع ورقة من عيدان الذُّرَة الطويلة وراح ينظف بها تلك القاذورات التي كانت تَقيَّأتْها جدتي داخل الهودج، ثم عاد يتفحص تلك الكتلة التي كانت تختبئ عند خصر قاطع الطريق، ثم دفعها بقوة حتى سقطت قطعة القماش التي كانت تلف بها على الأرض، وظهرت وكأنها طبق كبير أحمر اللون سقط أعلى سيقان الذُّرَة الخضراء.

وساعد يو جان آو جدتي حتى صَعدَت إلى الهودج، ثم قال: «لقد بدأت السماء تمطر، هيا نسرع!»

مَدَّت جدتي يدها وقطعت جزءًا صغيرًا من ستارة الهودج، وألقت بها إلى زاوية داخل الهودج، وراحت تتنفس هواء الحرية، وتنظر عَبْر هذا الثقب إلى كتفي يو جان آو العريضة وخصره النحيل. فلقد كان يو على قُرْب منها، فما إن تمد قدمها، حتى يكون في استطاعتها ملامسة رأسه القوي الأسمر.

وزادت شدة الرياح، وبدأت سيقان الذُّرَة تتلاطم بقوة، ودفعت الرياح سيقان الذُّرَة إلى وسط الطريق، وكأنها جاءت لتقدم التحية إلى جدتي داخل هودجها. كان الحمالون يطيرون بأقصى سرعة، ولكن الهودج على غير العادة كان يبدو متزنًا وكأنه قارب صغير ينزلق بفعل الموج. وبدأت تسمع صوت نقيق الضفادع، التي راحت تُعبِّر عن ترحيبها بالمطر الغزير. ونظرت إلى أعلى حقول الذُّرَة لترى البرق يضيء ويلمع سماءها، وزلزل صوت الرعد أرجاء المكان. أثر هذا كله في جدتي، وراحت تنظر بشجاعة إلى حقول الذُّرَة الممتدة أمامها. كانت أول موجة من مياه المطر قد هَزَّت سيقانها هزًّا عنيفًا، واقتلعت الحشائش الصغيرة من مكانها، وحمَلَت معها التراب الذي تَجمَّع في كتل صغيرة راحت تضرب سقف الهودج. وراحت مياه الأمطار تضرب حذاء جدتي ورأس يو جان آو، ثم وصلت إلى وجه جدتي.

وفر يو جان آو ورفاقه مُسرِعين مثل الأرانب الجبانة، ولكنهم لم يستطيعوا التَّخفِّي من نوبة المطر الشديدة وقت الظهيرة. والتي أسقطت عددًا كبيرًا جدًّا من سيقان الذُّرَة. كانت قطرات المطر تنزل بجنون، وكانت جماعات الضفادع تختبئ تحت سيقان الذُّرَة، والثعالب تجلس متربصة في كهوفها، وهي تنظر إلى قطرات المطر التي تنزل بشدة على حقول الذُّرَة. وتحَوَّل الطريق بسرعة إلى بركة من الوحل، وانْحنَت الأعشاب على جانبي الطريق، وغرقت نباتات الأقحوان. واشتد تلاصُق سراويل الحمالين الكبيرة الفضفاضة بأجسادهم، حتى بَدَوا جميعًا ممشوقي القوام. أما رأس يو جان آو فقد غسلته مياه الأمطار جيدًا، حتى أصبحت تبرق مثل بريق عيني جدتي. وبللت الأمطار ملابس جدتي. وعلى الرغم من أنه كان بإمكانها أن تنزل ستارة الهودج لتحمي نفسها من المياه، فإنها لم تفعل ذلك، استطاعت من خلال هذه الفتحة أن ترى عالمًا كبيرًا يعج بالفوضى.

٦

مضى أبي يقتلع بعض أعواد الذُّرَة مفسحًا الطريق أمام نفسه، وهو يسير بسرعة نحو قريتنا صوب الشمال الغربي. ولم يكن أبي يبالي بأعواد الذُّرَة الكثيرة التي كانت تعترض طريقه. وعندما بلغ الطريق الترابي، تَحرَّر من مضايقة أعواد الذُّرَة، وانطلق مسرعًا إلى وجهته، ومسدسه الثقيل لا يزال مربوطًا عند خصره. وقد كان المسدس يتسبب له في بعض المعاناة أثناء سيره وسط حقول الذُّرَة، التي اجتازها أبي بنجاح، مما جعله يشعر بأنه قد أصبح رجلًا قويًّا يشق طريقه وسط الصعاب رافعًا سلاحه. لاحت أمامه قريته من بعيد، وأحس كأن أشجار الفواكه العتيقة تقترب منه لتستقبل هذا البطل العائد من الرحلة الطويلة. أخرج أبي مسدسه ورفعه بيده وراح يجري وينظر إلى الطيور التي كانت تحلق في السماء.

بدت شوارع القرية خالية تمامًا من البشر، غير أنه رأى حمارًا أعرج أعمى مربوطًا هنالك إلى أحدى الحيطان المصنوعة من الطين، وكان الحمار متسمرًا في مكانه يبدو كئيبًا مهمومًا. سقط من السماء زوج من الغربان، وكان أهل القرية يتجمعون هنالك في ساحة واسعة أمام فرن النبيذ الخاص بعائلتي، وكانت هذه الساحة دائمًا ممتلئة بأكوام الذُّرَة التي تقوم عائلتي بجمعها من الفلاحين، كانت جدتي تظهر ممسكة بالمنشة وتنشغل بتنظيف الذُّرَة المكومة داخل هذه الساحة، وتشاهد العمال الذين كانوا يقومون بحمل الذُّرَة على ألواح خشبية، بينما تنعكس السحب الوردية على وجهها. ولم يكن أي من الأطفال الذين هم في عمر أبي آنذاك يجرؤ على إثارة الفوضى في هذا المكان.

كان أبي قد تسلل إلى هذه الساحة، وفي مواجهته الجزار سون وو الذي كان قد تولَّى في العام الماضي سلخ الجد لوو خان. وكان الجزار سون قد أصيب عَقِب فعلته هذه باضطراب نفسي شديد، دائمًا يرقص ويصفق، وعيناه ذاهلتان، ولُعابه يسيل، ولا يتوقف عن الهذيان وهو منبطح على الأرض يصيح بأعلى صوته: «أخي الأكبر، أخي الأكبر، أخي الأكبر، أجبرني القائد المُعتدِي على ما فعلتُ، ولم أكن أجرؤ على عدم الطاعة … صعدتَ بموتك إلى السماء، لتكون مع القديسين.» وعندما رآه أهل القرية بهذه الحالة، تَناسَوا ما كانوا يضمرونه له من كراهية شديدة. كان الجزار سون قد أصيب بأعراض جديدة بعد جنونه ببضعة أشهر، عيناه دائمًا تبدو شاردة ومُخاطه يسيل بلا توقف، ويهذي بكلام غير مفهوم. وكان أهل القرية يقولون إن هذا الذي حلَّ به إنما هو عقاب السماء.

تسلل أبي إلى داخل الساحة ممسكًا بمسدسه، وقد غُطِّي رأسه بدقيق سنابل الذُّرَة. أما الجزار سون فقد ألقى بنفسه إلى داخل الساحة في ثياب بالية قذرة، وجسده ممتلئ بالتجاعيد، وهو في غاية التعب، ولم يهتم أحد بظهوره. اهتموا فقط بأبي هذا البطل الشجاع.

وتَقدَّمَت جدتي إلى أمام هذا البطل الصغير. وكانت قد بلغت منذ وقت قريب الثلاثين من عمرها، على رأسها بعض دبابيس الشعر، وخصلات شعرها تنزل على جبهتها الجميلة. أما عيناها فقد كانتَا على الدوام تبدوان صافيتين مثل مياه الخريف، ويذكر البعض أن السبب في ذلك هو أنها كانت لا تفيق من السُّكر بنبيذ الذُّرَة. تَحوَّلَت جدتي خلال هذه الأعوام الخمسة عشرة من صَبِيَّة فاتنة إلى سيدة ماجنة.

وسألتْ جدتي ابنها: «ما الذي جاء بك؟»

فراح أبي يُحْكِم وضْع المسدس داخل حزامه وهو يلهث بشدة.

عاودت جدتي تسأله: «ألم يأتِ اليابانيون؟»

فردَّ أبي: «إنها قوات القائد الملعون لينغ ماتزه، وإننا لن نرحمه!»

سألتْ جدتي: «ما الذي حدث؟»

فأجاب أبي: «يأمر القائد يو بإعداد الفطائر.»

قالت جدتي: «لن نسمع صوت أي مصادمات!»

وقال أبي: «نطلب إعداد الفطائر، وأكثروا من الحشو بالبيض والبصل.»

فسألَتْه جدتي: «لم يأتِ الشياطين اليابانيون بعد؟»

– «يأمر القائد يو بإعداد الفطائر، وأن تحضريها بنفسك إلى هناك!»

قالت جدتي: «فَلتَعُدْن الآن أيتها الأخوات وتَبدأْنَ في جمع الدقيق لإعداد الفطائر التي يحتاجون إليها.»

استدار أبي بجسده قليلًا، وهم أن يفرَّ مسرعًا، فأعاقته جدتي بيدها وقالت: «يا صغيري دوو قوان، فلتخبر والدتك، ماذا حدث من القائد لينغ ماتزه؟»

تخلص أبي من يد جدتي، ثم قال بلهجةٍ عنيفةٍ: «لم نعثر على أي أثر لقوات لينغ ماتزه، وتوعدهم القائد يو جان آو بأنه لن يرحمهم.»

وفرَّ أبي مسرعًا. ومضت جدتي تلاحقه، وهي تلهث بشدة. وفرغت الساحة ممن فيها، وبقي الجزار سون مُتسمِّرًا في مكان يركز النظر إلى جدتي، ويداه لا تتوقفان عن الحركة، ولعابه يسيل بغزارة.

ولم تُعِرْه جدتي أدنى اهتمام، وتوجَّهَت نحو فتاة ذات وجهٍ طويلٍ كانت تقف هنالك إلى جانب الحائط. فابتسمت الفتاة صاحبة الوجه الطويل لجدتي. وعندما اقتربت منها جدتي، جلست الفتاة فجأة على الأرض، وراحت تضغط بكلتا يديها على حزام بنطالها، ثم أجهشت بالبكاء. بينما كان الشرر واللهب ينبعث من عينيها المُتَّقدَتَين. لمَسَت جدتي وجهها برفقٍ، ثم قالت: «حبيبتي لينغ تزه، لا تخافي يا حبيبتي.»

كانت الفتاة لينغ تزه ذات السبعة عشر عامًا أجمل فتاة في قريتنا. وعندما بدأ القائد يو جان آو في تجهيز قواته، كان قد جمَع فريقًا قوامه ما يزيد على خمسين رجلًا من رجال القرية، كان من بينهم شابٌّ نحيف في زي أسود، ينتعل حذاءً جلديًّا أبيض اللون، ذو وجه شاحب، وشعر طويل أسود. ويُحكَى أن الفتاة الجميلة لينغ تزه كانت تَعشَق هذا الشاب. وكان الشابُّ يَتحدَّث بلهجة بكين الجميلة الواضحة، كان دائمًا ما يبدو عبوس الوجه، وقد ملأت التجاعيد وجهه من كثرة التَّكشير، وكان الجميع ينادونه بالسيد رن نائب القائد. وكانت الجميلة لينغ تزه تشعر بأن خلف مظهره الخارجي الوسيم قوة جذب فائقة تشدها إليه، في ذلك الحين كانت فرقة القائد يو تداوم يوميًّا على التدريب أعلى الهضبة التي تستخدمها عائلتي في جمع الذُّرَة لصناعة النبيذ. وكان السيد الزمَّار ليو سه شان يقوم بعمل جندي الإشارة بفرقة القائد يو. ويقوم بالنفخ في البوق ليجمع أعضاء الفرقة قبل كل تدريب. وكانت الجميلة لينغ تزه بمجرد أن تسمع صوت البوق، تخرج من منزلها مُسرِعة نحو هذه الساحة، وتتسلق السور الترابي وتنتظر رؤية نائب القائد رن. كان نائب القائد هو المُدرِّب المسئول لأعضاء الفريق، وكان يضع حول خصره حزامًا جلديًّا واسعًا يُعلِّق فيه المسدس الخاص به.

تَقدَّم نائب القائد أمام أعضاء الفريق نافخًا صدره، وصاح أن استعدوا جميعًا، فلبَّى الجمع نداءه، واصطفُّوا جيدًا في صفين متوازيين تمامًا.

قال نائب القائد: «عند الاستعداد يجب أن تكون أرجلكم مستقيمة مع شفط البطن للداخل، ويكون الصدر منفوخًا ومشدودًا جيدًا، والعينان مفتوحتان، مثل الفهد في حالة انقضاضه على الفريسة.»

«آه منك أيها الحيوان!» ركل نائب القائد وانغ بيي ون ركلة، ثم قال: «انظر إلى فتحة رجلك، وكأنك بغل يستعد للتبول، ليس صعبًا أن أكسرها لك أيها الحيوان.»

كانت الجميلة لينغ تزه تحب أن ترى نائب القائد وهو يضرب أعضاء فريقه، وتحب أيضًا سماع توبيخه وسبابه لهم. كانت تعبيرات وجهه تسيطر عليها تمامًا. وعندما يكون نائب القائد غير منشغل بأي عمل من أعمال التدريب، كنت دائمًا ما تراه داخل هذه الساحة الفارغة في فناء عائلتي وهو يَتمشَّى واضعًا يديه خلف ظهره، بينما الجميلة لينغ تزه تختبئ خلف السور الترابي لتتمتع برؤيته عن قرب.

سألها نائب القائد: «ما اسمك أيتها الفتاة؟»

– «لينغ تزه.»

– «وماذا تفعلين خلف السور؟»

– «أنظر إليك.»

– «هل تجيدين القراءة والكتابة؟»

– «لا أجيد.»

– «هل ترغبين في العمل كجندية؟»

– «لا أرغب.»

– «أوه، لا ترغبين!»

وقد شعرت لينغ تزه بعد ذلك بالنَّدم الشديد، وقالت لأبي إنه إذا عاد نائب القائد يسألها نفس السؤال، فستجيب بأنها ترغب في العمل كجندية. ولكنه لم يسألها هذا السؤال مرة ثانية.

وانبطحت لينغ وتزه مع أبي أعلى السور، وراحَا ينظران إلى نائب القائد وهو يقوم بتعليم أعضاء الفريق التغني بالأغاني الثورية، كان أبي قصير القامة، يقف أعلى ثلاث قطع من الطمي حتى يتمكن من رؤية المشهد داخل السور. أما لينغ تزه فكانت تسند ذقنها على السور الترابي وتُحدِّق النظر في نائب القائد. بينما نائب القائد ينشغل بتعليم أعضاء الفريق أنشودة:

«لقد نضجت الذُّرَة، لقد احمرت الذُّرَة، وجاء الشياطين اليابانيون، وجاء الشياطين اليابانيون. وتدمرت البلاد، وهلك العباد، فانهضوا أيها الرفاق، احملوا خناجركم وأسلحتكم، قاتِلوا الشياطين واحموا بلادكم.»

كان جميع أعضاء الفريق ثقيلي اللسان، لا يستطيعون إتقان كلمات هذا النشيد الثوري. أما الأطفال الذين كانوا يراقبون التدريب من أعلى السور، فكانوا يتقنون هذه الكلمات جيدًا. وكان أبي طيلة حياته يحفظ هذا النشيد جيدًا.

ذات يوم تَجرَّأَت الجميلة لينغ تزه وخرجت تبحث عن نائب القائد، ودخلَت بطريق الخطأ إلى غرفة رئيس قسم المهمات العسكرية بالفرقة. كان الرجل يُدعَى يودا يا العم الشقيق للقائد يو جان آو، تجاوز الأربعين من عمره، وكان رجلًا شهوانيًّا يعشق الخمر والمال، وفي ذلك اليوم كان قد أفرط في الشراب حتى بلغ أقصى درجات السُّكْر، فما إن رأى الجميلة لينغ تزه في غرفته، حتى انقض عليها مثل الثور الهائج.

وأمر نائب القائد بعض رجاله بالقبض على السيد يودا يا الذي اعتدى على الفتاة لينغ تزه.

خلال وقوع هذه الواقعة، كان القائد يو جان آو يستريح في منزله، وعندما ذهب نائب القائد السيد رن إليه ليخبره بما حدث، كان القائد يو نائمًا في غرفة جدتي. وأثناء انشغال جدتي بإعداد بعض الطعام والنبيذ، دخل نائب القائد فجأة إلى فناء الدار، فانتفضت جدتي مذعورة.

وسألها نائب القائد: «أين القائد يو؟»

– فأجابت: «نائم بالداخل!»

– «أيقظيه على وجه السرعة.»

فراحت جدتي توقظ القائد يو.

خرج القائد يو من الغرفة، ولم يكن قد أفاق من نومه تمامًا، وراح يميل بجسده ويتثاءب، ثم قال: «ماذا حدث؟»

فسأله نائب القائد: «أيها القائد، ما قولك إذا اعتدى أحد اليابانيين على أخواتي، أليس يحق لي أن أقتله؟»

أجاب القائد يو: «اقتله!»

– «أيها القائد، وما قولك إذا اعتدى أحد الصينيين على أخواته، أليس يحق لنا قتله؟»

– «نعم يحق لنا ذلك!»

«حسنًا أيها القائد، وقد كنتُ أنتظر ردك هذا.» ثم قال نائب القائد: «لقد اغتصب يودا يا المواطنة تساو لينغ تزه، وقد أمرتُ الرفاق بأن يقبضوا عليه ويُحكموا وثاقه.»

قال القائد يو: «هل حدث هذا بالفعل؟»

– «أيها القائد، متى ننفذ الحكم؟»

تثاءب القائد يو، ثم قال: «أن يقضي الرجل وقتًا بجوار امرأة، فإن هذا لا يُعَد قضية كبرى.»

– «أيها القائد، إذا ارتكب الملك خطأ فلا بد أن يُحاسب على خطئه مثل الرعية!»

فسأل القائد يو وقد بدا عابسًا: «وماذا ترى في الحكم عليه إذًا؟»

ردَّ نائب القائد في الحال: «الرمي بالرصاص!»

تأوَّه القائد يو، وراح يتقدم نحوه وهو في غاية القلق. وعاود الابتسامة مرة أخرى، ثم قال: «السيد رن نائب القائد، ما رأيك في أن نحكم عليه بالجلد خمسين جلدة أمام أعين الناس، ونقدم لعائلة المواطنة لينغ تزه عشرين دا يانغ؟٦»

قال نائب القائد بلهجة ساخرة: «أهذا الحكم لأنَّ الجاني عمك أيها القائد؟»

– «نحكم عليه بالجلد ثمانين جلدة، ونحكم عليه بأن يتزوج الفتاة لينغ تزه، وأعترف بها أنا شخصيًّا عمة لي!»

فك نائب القائد حزامه، وأخرج مسدسه، وألقى به إلى القائد يو. وانحنى نائب القائد أمام القائد يو وهو يضم يديه مقدمًا له التحية، ثم قال: «أيها القائد يو، فلنفترق!» ثم خطا خطوات سريعة إلى خارج فناء عائلتي.

وحمل القائد يو المسدس، ونظر إلى ظل نائب القائد، ثم قال وهو يعض على أسنانه: «فلترحل إلى الجحيم، لست سوى تلميذ حقير، وتودُّ أن تتدخل في اختصاصاتي! لم يجرؤ أحد على هذا منذ أن تَولَّيتُ مهامي قبل عشر سنين مضت.»

قالت جدتي: «جان آو، يجب أن توقف نائب القائد ولا تدعه يرحل، إنه يتمتع بكفاءة وخبرة يصعب تعويضها.»

فرد القائد يو بصوت متذمر: «وماذا تفهم تلك المواطنة البسيطة!»

فأجابته جدتي: «كنتُ أحسبكَ رجلًا شهمًا، ولم أتوقع أنك أيضًا مُجرَّد شخص تافه ليس له في العير ولا في النفير!»

سحب القائد يو المسدس، ثم قال: «هل سئمتِ حياتك أيتها المرأة؟»

فسارعتْ جدتي وقطعَت حمَّالة صدرها، وكشفت له صدرها، وواجهته بشجاعة قائلة: «فلتطلق الرصاص إذًا!»

هنا صاح أبي على أمه بصوتٍ عالٍ، ثم ارتمى في حضنها.

وعندما رأى القائد يو جان آو حُسن خلق أبي وحنو وجمال جدتي، تداعت إلى ذهنه الكثير من الأحداث والذكريات الماضية. فتنهد قليلًا، واستعاد مسدسه، ثم قال: «استُرِي نفسك!» وأخذ سوطه وخرج إلى الفناء، ووصل إلى إسطبل الحيوانات وفك حصانه الأصفر، وركبه في عجالة متوجهًا إلى ساحة التدريب.

كان أعضاء الفرقة يجلسون على سور الساحة، وما إن رأوا القائد يو جان آو حتى انتفضوا وقاموا لتحيته، وخَيَّم عليهم الصمت.

كان يودا يا المتهم بالاعتداء على الفتاة مربوطًا من ذراعيه إلى جذع شجرة.

ونزل القائد يو عن حصانه، وترجل أمام يودا يا، ثم قال: «أحقًّا فعلت ما ذكروا لي؟»

فرد يو دا يا: «ابن أخي الحبيب، فكَّ وثاق عمك، وسأغادر هذه الجماعة على الفور!»

نظر جميع أعضاء الفرقة إلى القائد يو.

وقال القائد يو: «عمي، إنني سأرميك بالرصاص.»

صاح يودا يا: «أيها اللعين، أتجرؤ على قتل عمك؟ فلتعمل حسابًا لعمك الذي رعاك في طفولتك، وتذكر أن أباك مات وأنت طفل صغير، وأنا عمك الذي عملتُ على إعالتك وأمك الأرملة، ولو لم أفعل ذلك، لأصبحت لقمة سائغة للكلاب الضالة!»

رفع القائد يو يده إلى أعلى، ثم نزل بها على وجه يودا يا، وراح يسبه قائلًا: «يا لك من وغدٍ حقيرٍ!» ثم سجد على ركبتيه ومضى يقول: «عمَّاه، لن ينسى ابنك جان آو أفضالك إلى الأبد، وسأحزن عليك بعد مماتك وألبس ثياب الحداد، وسأزور قبرك وأقدم لك القرابين في كل عيد.»

قفز القائد يو جان آو بسرعة على ظهر حصانه، وضربه بالسوط، وأسرع في اتجاه نائب القائد، وكان الحصان يسير بأقصى سرعة، ويزلزل الأرض تحت قدميه.

حضر والدي مشهد رمي يودا يا بالرصاص. قاد الأخرس ورجلان آخران من أعضاء فرقة القائد يو، المتهم يو دا يا إلى المدخل الغربي للقرية، واختاروا مكان الإعدام، منطقة تتجمع حولها المياه الراكدة، وممتلئة بالبعوض والصراصير. توجد بها شجيرة صفصاف يتيمة، تقفز حولها جماعات الضفادع.

وحمل اثنان من أعضاء الفرقة يودا يا إلى أعلى الجرف، وأَرْخَوا وثاقه، ونظروا إلى الأخرس. فهز الأخرس مسدسه، واستعدَّ جيدًا.

فاستدار يودا يا بجسده تجاه الأخرس، ثم ابتسم له. واكتشف أبي أن ابتسامته آنذاك كانت ابتسامة صادقة طيبة، تمامًا مثل الشمس الغاربة. «أخي الأخرس، فُكَّ وثاقي، لا يمكن أن أموت وأنا مربوط بهذا الحبل!»

ففكر الأخرس قليلًا، ثم تقدم خطوة والمسدس في يده، ونزع الخنجر من حزامه، وقطع الحبل. فمد يودا يا ذراعيه إلى الأمام يريحهما قليلًا، ثم استدار بجسده وراح يصيح: «أطلق الرصاص، أطلق الرصاص، أخي الأخرس، ولا تدعني أتعذب بما فعلت!»

ويعتقد أبي أن أي إنسان قُبَيل مماته، يجعل الجميع يشعرون تجاهه ببعض المهابة والاحترام. وعلى كل حال فإن يو دا يا يُعَدُّ أحد أبناء قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، وارتكب جريمة كبرى، والموت أخَفُّ عقاب له، غير أنه قُبَيل مماته عَبَّر عن روح بطولية هو أَهْلٌ لها، وتأثر أبي كثيرًا بذلك المشهد، وود أن يقفز إليه.

أعطى يو دا يا وجهه للمياه الراكدة المتعفنة، نظر إلى أسفل قدميه حيث الطحالب الكريهة، ونظر حوله إلى حقول الذُّرَة، وراح ينشد: «لقد نضجت الذُّرَة، لقد احمرت الذُّرَة، وجاء الشياطين اليابانيون، وجاء الشياطين اليابانيون. وتدمرت البلاد، وهلك العباد.»

كان الأخرس يرفع سلاحه ثم ينزله، ويُنزله ثم يرفعه.

فقال الرجلان الآخران المصاحبان له: «أيها الأخرس، فلتشفع له عند القائد يو لكي يصفح عنه!»

اتكأ الأخرس على سلاحه، وانتظر حتى انتهى يودا يا من الغناء.

واستدار يودا يا بجسده ثانيةً، وراح يطلق نظرات غريبة ومريبة، ثم صاح بصوتٍ عالٍ: «أطلق الرصاص يا أخي الأخرس! ألست ترغب في أن تجعلني أقضي على نفسي؟»

فحمل الأخرس سلاحه، وحدَّد هدفه جيدًا صوب جبهة يودا يا، وشدَّ زناد سلاحه.

ورأى أبي أن جبهة يودا يا قد تناثرت في شكل قطع صغيرة، وكان الأخرس قد طأطأ رأسه مع صوت إطلاق الرصاص، وقد خرج الدخان بكثافة من فوهة المسدس. وتحامل جسد يودا يا قليلًا، ثم سقط داخل المياه الراكدة.

سحب الأخرس مسدسه وغادر المكان، ثم تبعه الرجلان الآخران.

أما أبي ومَن كان بصحبته من الأطفال، فقد تَجمَّعوا على حافة الترعة وهم في غاية الذُّعر. وراحوا يتأمَّلُون جثة يودا يا الملقاة في عرض المياه. ونظروا إلى وجهه، فرَأَوا أن فمه لا يزال موجودًا كما هو، في حين تشوَّهت جميع أجزاء الوجه الأخرى. كانت جثته قد حطمت أثناء سقوطها الطمي المترسب على الحواف، وتقطعت سيقان أزهار اللوتس. وهنا شم أبي رائحة أزهار اللوتس العطرة.

وجاء بعد ذلك مباشرةً نائب القائد وهو يحمل معه قطعة من الستان الأصفر، وتابوتًا من خشب السرو ملصقًا أعلاه بعض النقود الفضية، وألبس يودا يا ثياب الحداد، واختار أن يكون قبره أسفل شجرة الصفصاف الصغيرة على حافة الترعة. وفي يوم تشييع الجنازة، اتشح نائب القائد بالسواد، وعلَّق بذراعه قطعة من الحرير الأحمر. هذا بينما كان القائد يو يظهر وقد لبس ثياب الحداد، يبكي بصوتٍ عالٍ. وما إن تجاوَز حدود القرية، حتى أخذ بجرة من القرميد وحطمها على كسرة طوب.

في ذلك اليوم، لفَّت جدتي أبي بثوب من ثياب الحداد البيضاء، ارتدت هي ثياب الحداد حزنًا على يودا يا، وكان أبي يسير خلف القائد يو وجَدَّتي ممسكًا بعصا من أغصان شجرة الصفصاف، ورأى أبي بأم عينيه مشهد تَحطُّم تلك الجرَّة أعلى كسرة الطوب، وتَذكَّر مشهد تَحطُّم رأس يودا يا. واعتقد أبي أن هناك علاقة حتمية بين هذين المشهدين المتشابهين. وأن المصادَفة التي جمعت بين هذين المشهدين، قادرة على أن تُنتِج مشهدًا ثالثًا.

ولم تسقط من أبي الذي كان ينظر بفتور إلى مُشيِّعي الجنازة دمعة واحدة. وعندما التفَّ المشيعون في حلقة واحدة تحت شجرة الصفصاف، رأوا ستة عشر شابًّا من الشباب الأقوياء ينزلون التابوت الخشبي برفق إلى القبر العميق. وأخذ القائد يو بحفنةٍ من التراب ونثرها على التابوت الخشبي اللامع، فأحدثَتْ صوتًا اهتزَّتْ له مشاعر جموع الحاضرين. وقام بعض الرجال الممسكين بخوازيق حديدية، بغرز هذه الخوازيق في الطمي الأسود، وألقوا بها على التابوت الذي بدا كأنه يصيح بأعلى صوته، وهكذا راح التابوت يختفي تدريجيًّا تحت كُتَل الطمي الأسود. وعلت كتل الطمي حتى تَساوى القبر بسطح الأرض، وأصبح تلًّا كبيرًا في شكل واحدة المانتو.٧ أخرج القائد يو مسدسه وأطلق ثلاث رصاصات لأعلى شجرة الصفصاف. واخترق الرصاص أعواد الشجرة، فتساقط بعض من أوراقها الرقيقة الذابلة، وراحت تتطاير في عنان السماء. أما أغلفة الرصاص، فقد سقطت داخل الترعة ذات المياه الراكدة. فقفز أحد الصبية إلى الترعة، وراح يدوس في الوحل، حتى عثر على تلك الأغطية وعاد إلى حيث كان. وأخذ نائب القائد بمسدسه وأطلق أيضًا ثلاث رصاصات. أحدثَت عند خروجه من بيت النار صوتًا مُدَوِّيًا اهتزَّتْ له جنَبات الذُّرَة المجاورة. فحمل كل من القائد يو ونائبه الشاب رن مسدسه، وراحَا ينظران في جميع الأرجاء. وهز نائب القائد رأسه قائلًا: «إنه بطل عظيم ماجن!»، ثم أعاد مسدسه إلى جرابه ومضى بخطوات سريعة في اتجاه القرية.

اكتشف أبي حينها أن يد القائد يو التي تحمل السلاح، كانت ترتفع رويدًا رويدًا، وتلاحق فوهة السلاح ظل نائب القائد. فذهل جميع الحضور، ولكن لم يجرؤ أحد منهم على التفوه بكلمة واحدة. بينما كان السيد رن نائب القائد يتقدم مرفوع الرأس بخطوات واسعة غير واعٍ بما يحدث خلفه، وهو يمضي تجاه القرية في محاذاة قرص الشمس. رأى أبي المسدس يهتز قليلًا في يد القائد يو. ولم يكد يسمع صوت إطلاق النار الذي كان ضعيفًا وعلى مسافة بعيدة منه. رأى تلك الطلقة تُحلِّق على ارتفاع منخفض وتمر من أعلى شعر رأس نائب القائد. غير أن نائب القائد لم ينظر إلى الخلف، وواصل السير بخطوات واسعة. وسمع أبي صوت صافرة تأتي من ناحية نائب القائد، كان أبي يعرف هذا الصوت جيدًا، إنه صوت «لقد احمرت الذُّرَة، لقد احمرت الذُّرَة!» وامتلأت عينَا أبي بالدموع. كان شبح نائب القائد يصبح أكبر حجمًا كلما ابتعد عن مرمى البصر. وأطلق القائد يو رصاصة ثانية. فزلزلت الأرض والسماء، وقد أحس أبي جيدًا بهذا الصوت المُدوِّي. كانت الرصاصة قد أطلقت أعلى حقول الذُّرَة، فتساقط على إثرها بعض من سنابل الذُّرَة. وخلال تساقط هذه السنابل، إذا برصاصة ثالثة تُحطِّمها تحطيمًا. وأحس أبي أن نائب القائد يظهر هنالك يحني ظهره ليقتطف زهرة من الأزهار البرية ويشمها لفترةٍ طويلةٍ.

كان أبي قد أخبرني بأن نائب القائد كان على الأرجح ينتمي للحزب الشيوعي، من الصعب العثور على مثل هذا البطل في مكان سوى الحزب الشيوعي. ولكن للأسف كان عمر هذا البطل نائب القائد قصيرًا، كان البطل الشجاع الذي أطلق النار على نفسه، وأنهى حياته خلال قيامه بتنظيف مسدسه، وذلك بعد مضي ثلاثة أشهر من رؤية أبي له عندما كان يسير مرفوع الرأس بخطوات واسعة. دخلت الرصاصة من ناحية عينه اليمنى لتخرج من فتحة أذنه اليمنى، وامتلأ هذا الشطر من وجهه بالدماء، ونزفت أذنه اليمنى كمية كبيرة من الدم، وما إن سمع أهل القرية صوت إطلاق الرصاص، حتى هَبُّوا فَزِعِين يتتبعون مصدر الصوت، وعندما وصلوا إلى نائب القائد وجَدُوه مُلقًى على الأرض وقد فارق الحياة.

مال القائد يو على الجثة وأخذ بالمسدس، وبقي صامتًا لفترةٍ طويلةٍ.

٧

وحملت جدتي الفطائر، بينما حملت زوجة وانغ ون إي برميلين من حساء البازلاء الخضراء، وسارَتا في اتجاه الجسر الكبير أعلى نهر موا شوى. كانتا ترغبان في الحقيقة في اختراق حقول الذُّرَة، والمضي في اتجاه الجنوب الشرقي، غير أنه بعد نجاحهما في الدخول إلى حقول الذُّرَة، اكتشفتَا أن من الصعب عليهما السير داخل الذُّرَة وهما يحملان ما يحملانه من طعام وشراب. فقالت جدتي مخاطبة رفيقتها: «زوجة أخي، أرى أن نسير في الطريق المستقيم، ففي التأني السلامة في هذا المكان على وجه الخصوص.»

مضت جدتي وزوجة وانغ ون إي تتحركان في هذا الخلاء، كأنهما زوج طيور كبير يحلق في عَنان السماء. كانت جدتي ترتدي سترة قرمزية اللون، بينما بدا شعر رأسها الأسود لامعًا براقًا، وقد وضعت عليه بعض الزيت وأحسنت تمشيطه. وكانت زوجة وانغ ون إي تتسم بأنها قصيرة القامة نشيطة، رشيقة الحركة. وعندما كان القائد يو يقوم بتجميع قُوَّاته، كانت قد أرسلت بزوجها وانغ ون إي إلى دار عائلتي، وطلبت من جدتي أن تتوسط له عند القائد يو ليستخدمه كأحد الفدائيين في عصابته، وقد استجاب جَدِّي لرغبتها من أول مرة. وقَبِل القائد يو، وانغ ون إي حرصًا على حفظ ماء وجه جدتي. كان القائد يو قد سأل الرجل: «هل تهاب الموت؟» فرد وانغ ون إي قائلًا: «نعم أهابه.» وقالت زوجتُه: «أيها القائد يو، حتى إذا كان يهاب الموت فإنه لن يهابه هذه المرة، فلقد قصفت الطائرات اليابانية أبناءنا الثلاثة وتطايرت أشلاؤهم في شكل قطع صغيرة.»

ولم يكن هذا الرجل وانغ ون إي طينة صالحة للعمل كجندي، فقد كان رد فعله بطيئًا جدًّا، ولا يميز بين اليمين واليسار، وأثناء التدريب على الخطة في الساحة، كان لا يُقدِّر المسافة التي بينه وبين نائب القائد. وقد اقترحت عليه زوجتُه اقتراحًا جميلًا، بأن يمسك في يده اليمنى عقلة من عود الذُّرَة، وعندما يستمع إلى نداء نائب القائد بالدوران صوب اليمين، عليه فقط أن يدور ناحية اليد التي تُمسِك بعقلة الذُّرَة. ولم يسمح لوانغ ون إي بحمل السلاح بعد اختياره جنديًّا بقوات القائد يو، وكانت جدتي قد أعطته بندقية الصيد التي كانت تمتلكها عائلتي.

سارت جدتي ورفيقتها بمحاذاة نهر موا شوى، ولم تُبالِيَا برؤية أزهار الأقحوان الكثيفة والذُّرَة الرفيعة الحمراء الدامية، ثم انعطفتَا صوب الشرق. كانت زوجة وانغ ون قد ذاقت خلال حياتها شتَّى أنواع الصعاب، في حين عاشت جدتي شتى أنواع السعادة. فبدت جدتي وقد تصببت عرقًا، في حين لم ينزل من زوجة وانغ ون إي قطرة عرق واحدة.

كان أبي قد عاد منذ وقتٍ طويلٍ إلى أقصى طرف الجسر. وأخبر القائد يو بأن الطعام سوف يصله في أقرب وقت، فضربه القائد يو ضربةً بسيطةً على رأسه فرحًا ومزهوًّا بأبي الذي أنجز المهمة التي كلَّفه بها. وكان معظم أعضاء الفرقة آنذاك يرقدون على ظهورهم وسط حقول الذُّرَة شاخصين بأبصارهم إلى السماء. فأحس أبي بالضيق والوحدة، فتوجه إلى داخل حقول الذُّرَة على حافة الناحية الغربية للطريق، ذهب إلى هناك لمراقبة الأخرس. كان الأخرس منشغلًا بشحذ خنجره، وهنا وضع أبي يده على مسدسه، ثم وقف أمام الأخرس تعلو وجهه ابتسامة البطل المنتصر. فعندما رأى الأخرس أبي بهذه النشوة، ابتسم ابتسامة خفيفة. وفي تلك الأثناء كان هنالك أحد أعضاء الفريق يغط في نومٍ عميقٍ، وقد سمع أبي صوت شخيره العالي. حتى أولئك الأعضاء الذين لم يروحوا في النوم، كانوا جميعًا يضطجعون وسط حقول الذُّرَة، ولم يكن أحد منهم يرغب في تبادُل أطراف الحديث مع أبي. فقفز أبي ثانيةً إلى الطريق العام، وقد بدا الطريق العام أيضًا في غاية التعب. لاحظ أن مسحاة الطريق وغيرها من الأدوات قد أصابها الإرهاق الشديد. وبدا الجسر الحجري مستندًا إلى صفحة المياه وكأنه مريض. ثم ذهب أبي ليستريح على حافة النهر. ومضى ينظر تارةً إلى الشرق وتارةً إلى الغرب، وهو يتأمل مياه النهر وجماعات البط التي كانت تسبح وسط مياه النهر الجارية. بدا النهر جميلًا، وهو يمتلئ بالحشائش النضرة، وبدت أمواجه وكأنها تخفي الكثير من الأسرار. ورأى أبي بعض قطع من عظام بغال أو خيل تختفي خلف تلك الحشائش الكثيفة. فتذكر على الفور هذين البغلين اللذين كانت تمتلكهما العائلة. فعندما كان يحل الربيع، وتمتلئ الحقول بالأرانب البرية، كانت جدتي تخرج على ظهر البغل ممسكة ببندقية الصيد لتلاحق جماعات الأرانب البرية، وكان أبي يركب على ظهر البغل متشبثًا بخصر أمه. وكان البغل يطارد الأرانب ويفزعها فزعًا شديدًا، وتسارع جدتي بملاحقة تلك الأرانب واصطيادها. وعندما كانَا يعودان إلى المنزل، كنت دائمًا ترى رقبة البغل وقد علق بها بعض الأرانب البرية. رأى أبي أسراب النمل على حافة النهر. كانت هناك وفود من النمل الأحمر تقوم بنقل الطمي. كان يأخذ كتلًا من التراب ويضعها وسط جماعة النمل، فيقوم النمل بالتجمع حولها وتسلقها، ثم يحمل التراب ويلقي به في النهر. وفي وقت الظهيرة، كان أبي يحس بحرارة الجو وانعكاس الشمس على صفحة مياه النهر. ويمضي يستمتع بحمرة الذُّرَة الرفيعة التي تغطي ما بين السماء والأرض، وبالرائحة الذكية لنبيذ الذُّرَة. ويريح جسده على حافة النهر، فيدق قلبه دقات متتالية خلال لحظات قليلة، وقد اكتشف أن هذه الأحداث كانت لها نتائجها، وعندما ستَتجلَّى هذه النتائج ستكون نتائج عادية وطبيعية. اكتشف أبي أن هناك أربعة أشياء غريبة في شكل الخنفس تسير على الطريق العام في هدوءٍ تامٍّ.

«إنها سيارات!» هكذا صاح أبي بصوت غامض، غير أن أحدًا لم يبال بحديثه.

انتفض أبي، ثم قال: «إنها سيارات الشياطين اليابانيين»، ومضى ينظر إلى تلك السيارات التي تخترق الطريق، معلَّقًا في مؤخرتها ذيل أصفر طويل، وفي المقدمة ترسل بعض الضوء المتوهج.

«وصلت السيارات!»، كان وقع صوته يبدو كأنه خنجر حادٌّ قطع جميع أعناق أعضاء الفريق، بينما كان الصمت يُخيِّم على حقول الذُّرَة.

صاح القائد يو مسرورًا: «أيها الرفاق، لقد جاءوا أخيرًا. أيها الأخوة، فلتَستعِدُّوا جيدًا، وأطلقوا النيران بمجرد أن آمركم بذلك.»

قفز الأخرس من الناحية الغربية من الطريق. بينما كان عشرات الرجال من أعضاء العصابة يحنون ظهورهم حاملين أسلحتهم، منبطحين على حافة النهر في انتظار أوامر القائد يو.

لقد سمعوا بالفعل صوت السيارات القادمة من بعيد. وكان أبي منبطحًا إلى جوار القائد يو، ممسكًا بمسدسه الثقيل، تبللت رَاحَة يديه بالعرق الغزير، وبدت عليه علامات التوتر، ورأى قطعة لحم من كف يده تقفز قفزات غير منتظمة. وتعجب أبي كثيرًا من هذا المنظر الذي كان أشبه ما يكون بعصفور صغير قد خرج لتوِّه من البيضة. لم يكن أبي يرغب في أن تستمر كف يده في القفز، فضغط عليها ببعض القوة، حتى سيطر على ذراعه كاملًا. وضغط القائد يو على ظهره قليلًا، فتوَقَّفَت هذه القفزات في الحال، فنقل أبي مسدسه من يده اليمنى إلى اليسرى، وبدت أصابع يده اليمنى الخمسة وقد أصابها بعض التشنج، ولم يستطع مدها لفترة غير قصيرة.

تحرَّكَت السيارات اليابانية بسرعة ملحوظة راحت تتزايد شيئًا فشيئًا، وبدت السيارة التي كانت في المقدمة ترسل ضوءًا أبيض عبر مصابيحها الأمامية، بينما كانوا يسمعون وقع صوت محركها كصوت الريح العاتية التي تسبق نوبة المطر الغزيرة، ويحمل هذا الصوت شعورًا غريبًا يضغط على الأنفاس. كانت هذه هي المرة الأولى التي يشاهد فيها أبي سيارة في حياته، مضى يفكر في أمر هذا الشيء العجيب وهل يَتغذَّى على النبات أم على المواد الأخرى؟ وهل يشرب الماء أم الدم؟ لاحَظ أن تلك الكائنات العجيبة تفوق سرعتها سرعة البغلين اللذين كانت تمتلكهما عائلته. أما إطارات السيارات التي تشبه القمر، فقد كانت تدور بسرعة فائقة، يتطاير معها الكثير من كميات التراب بالطريق العام. وشيئًا فشيئًا استطاع أبي رؤية الشيء الذي كان موجودًا داخل السيارات. وعند اقترابها من الجسر الحجري، أبطأت السيارات سرعتها، وراح بعض الدخان يتطاير من خلف السيارات إلى أمامها، حتى غطى الدخان الكثيف ما يزيد على عشرين شخصًا كانوا يقفون أعلى سطح السيارة الأولى في زي أصفر، ويرتدون قبعات حديدية سوداء، عرف أبي فيما بعد أن تلك القبعات السوداء يطلق عليها خوذة فولاذية. جدير بالذكر أنه خلال دعوة صهر الحديد في عام ١٩٥٨م،٨ كانت عائلتي قد قدمت جميع الأواني الحديدية التي تمتلكها، وكان أخي الأكبر قد سرق خوذة فولاذية من وسط أكوام الحديد، وعلقها على الفحم المشتعل، واستخدمها في طهي الطعام. ونظر أبي إلى تلك الخوذة التي تَغيَّر لونها أعلى النار المشتعلة، وانتابه بعض الحزن. أما السيارتان الثانية والثالثة واللتان كانتَا في المنتصف، فقد كانتَا مُحمَّلتَين بتلٍّ من الأجولة، في حين كانت السيارة الأخيرة مثلها مثل الأولى يقف على سطحها ما يزيد على عشرين من الجنود اليابانيين يرتدون الخوذات الفولاذية.

وعندما اقتربت السيارات الأربعة أكثر فأكثر من حافة النهر، ظهرت عجلاتها الكبيرة، وبدا لأبي أن السيارة التي كانت في المقدمة كما لو كانت جرادًا ضخمًا للغاية. وبدأ التراب الذي كان يغطي المكان يتضاءل شيئًا فشيئًا، وظهر عند ذيل السيارة دخان أزرق داكن.

بدأ الخوف يدب في قلب أبي، راح يضغط على رأسه بقوة، وسرت داخل معدته برودة لم يعهدها من قبل، وبدأت هذه البرودة تجتمع حتى سيطرت على جسمه كاملًا. وأحس بأنه في حاجة شديدة لقضاء حاجته، بل وجد صعوبة في التحكم في بوله الذي كان يتناثر في كل مكان. وهنا خاطبه القائد يو بصرامة شديدة: «اثبت أيها الأرنب الجبان!»

ولم يكن أمام أبي أي اختيار آخر، فراح يتوسل لأبيه القائد يو أن يسمح له بالنزول لقضاء حاجته.

وبمجرد أن حصل أبي على موافقة القائد يو، تراجَع بسرعة ونزل إلى داخل حقول الذُّرَة ليقضي حاجته التي حبسها بشدة. وبعدها أحس براحة كبيرة. واختلس نظرة إلى أعضاء الفريق الآخرين، فوجدَهم وقد علا وجوههم شيء من الرُّعب. كان وانغ ون إي يخرج لسانه من شدة خوفه. ونظره يبدو جامدًا مثل السحلية.

ومضت تلك السيارات الأربعة تسير إلى الأمام مثل وحش حذر كاتمة الأنفاس، وشم أبي تلك الرائحة العطرة التي كانت تنبعث منها. وهنا ظَهرَت جدتي بسترتها الحمراء وزوجة وانغ ون إي التي كانت تلهثُ، ظهَرتَا هناك على حافة نهر موا شوى المتعرج.

ظهرت جدتي وهي تحمل سلة الفطائر المحشوة بالبيض، وزوجة وانغ ون إي وهي تحمل سلة من حساء البازلاء الخضراء، تنظران بارتياح إلى الجسر الحجري الكبير الكئيب على نهر موا شوى. قالت جدتي لزوجة وانغ ون إي بلهجة سعيدة: «أخيرًا وصلنا يا زوجة أخي.» بعد أن تزوجت جدتي، كانت تحافظ دائمًا على التنعم بحياة رغيدة، وقد أثَّرَت هذه السلة المحملة بالفطائر على كتفها، وتركت عليه علامة بنفسجية، لازمتها هذه العلامة حتى فارقت الحياة وصعدت إلى السماء. بل كانت هذه العلامة دليلًا على بطولة جدتي في حرب المقاومة ضد اليابان.

كان أبي هو أيضًا أول من اكتشف ظهور جدتي آنذاك، اعتمد على قوة عجيبة في لحظة كان يحدق فيها الجميع إلى السيارات اليابانية التي تقترب منهم شيئًا فشيئًا، كان أبي في تلك الأثناء قد استرق النظر إلى الناحية الغربية، ليرى جدتي تقترب منهم بسرعة فائقة كأنها فراشة حمراء كبيرة وسط حديقة مليئة بالأزهار، فراح أبي يُناديها بصوتٍ مسموعٍ: «أماه.»

بمجرَّد سماع هذا الصوت، قام الجنود اليابانيون بإطلاق سيل من الرصاص. كان اليابانيون ينصبون ثلاثة رشاشات أعلى سياراتهم، وكان صوت إطلاق النار مدوِّيًا، أشبه ما يكون بنباح الكلاب في ليلة ممطرة. وانتبه أبي إلى ثقبين يظهران في قميص جدتي. وسمع صوت جدتي وقد صاحت بصوت مبتهج، ثم مالت ميلًا شديدًا حتى سقطت وأعطت وجهها لسطح الأرض. أما الفطائر التي كانت تحملها، فجزء منها سقط ليستقر عند جنوب حافة النهر، والجزء الآخر عند شمالها. فنظر أبي إلى تلك الفطائر البيضاء الكبيرة المحشوة بالبصل والبيض، وقد تناثرت أجزاؤها على الأعشاب الخضراء. وبعد سقوط جدتي، إذا بأبي يرى جثة زوجة وانغ ون إي والدم يسيل من جبهتها حتى تهاوت تمامًا، وسقطت إلى داخل الذُّرَة على حافة الطريق. رأى أبي هذه المرأة قصيرة القامة، تأثَّرت بشدة مما أصابها من طلقات نارية، حتى سقطت جثة هامدة. أما برميلَا الحساء اللذان كانت تحملهما هذه المرأة قصيرة القامة، فقد سقطَا معًا على الأرض، وسال الحساء في كل مكان وكأنه دم جماعة من الشهداء سقطوا في توقيتٍ واحدٍ. راح أحد البرميلين يجري ثم يجري حتى سقط داخل النهر، واستمر في جريانه داخل مياه النهر، مرورًا من أمام عيني الأخرس، ليصطدم بركيزة الجسر الحجري، ثم ليمر من داخل إحدى فتحات الجسر، ثم يمضي في رحلته ليمر من أمام القائد يو وأبي ووانغ ون إي والأخوين فانغ ليو وفانغ تشي.

راح أبي ينادي أمه بصوت يعتصره الألم، حتى سقط على حافة الحاجز الترابي. وحاول القائد يو أن يسحبه بعيدًا عن هذا المكان، لكنه لم يستطع. وخاطبه القائد يو: «عُد يا صغيري!»، ولكنه لم يسمع أمر القائد، ولم يسمع أي نداء آخر. وهكذا سقط جسم أبي النحيل الضعيف داخل هذا المجرى المائي الضيق، وكان أثناء سقوطه إلى داخل النهر قد ألقى بمسدسه بعيدًا عنه، حتى استقر المسدس أعلى بعض أزهار الأقحوان. وبدأ أبي يقاوم ويسبح بسرعة الطيور في اتجاه والدته. كان الطريق على جانبي النهر ساكنًا تمامًا، ومياه النهر راكدة تمامًا، وحقول الذُّرَة على الجانبين نائمة في طمأنينة وهدوء تامَّيْن. ومضى أبي يسبح في مياه النهر، وراح يصيح ثانيةً بأعلى صوته: «أماه … أماه … أماه»، امتزج صياحه ببكاء شديد تخالطه مشاعر سامية. وأخيرًا نجح أبي في العبور من الضفة الشرقية للنهر إلى الضفة الغربية، وتجاوز تلك الدعامات الحديدية التي كانت تعترض طريقه. وبمحاذاة الحاجز الترابي، سمع أبي وقع أقدام الأخرس وجماعته يمرون على مقربة منه، انقض أبي على جثة أمه، ونادى عليها بصوت يملؤه الحزن والحنين في آنٍ. كانت جدتي حينها ترقد مرتاحة على حافة النهر، وقد التصق وجهها الغض بالأعشاب الكثيفة. ولاحظ أبي على ظهرها أثر طلقتين، وشم رائحة دمائها الذكية تتدفق عبر الفتحتين اللتين أحدثتهما هاتان الطلقتان. مد أبي يديه وسحب جثة أمه، حتى نجح في قلبها على ظهرها، ورأى أن وجهها لم يصب بأي جرح، بدت ملامحها صارمة تمامًا، وشعرها لا يزال على هيئته مرتبًا لم يطله أي تغيير. حاجباها مالا إلى الأسفل، وبدت شبه مغمضة العينين، شفتاها حمراوان كالورود. أمسك بيدها الرقيقة وراح يناديها: «أماه.» فتحت جدتي عينيها، وابتسمت له ابتسامة بريئة، وسلمت له يدها الثانية.

وتوقفت سيارات الشياطين اليابانيين، وصوت محركاتها تارةً يرتفع وتارةً ينخفض.

وفجأة ظهر على حافة النهر طيف إنسان طويل قوي البنية، سحب جدتي وأبي إلى أسفل الحافة، كان هذا الصنيع الجيد صنيع الأخرس. وتوقف أبي عن التفكير تمامًا وسلَّم نفسه وأمه للأخرس، وهنا سمع صوت طلقة نارية حطمت الكثير من أعواد الذُّرَة التي كانت تظللهما.

اقتربت السيارات اليابانية أكثر فأكثر، واستقرت أخيرًا خارج حدود الجسر الحجري. وبدأت الرشاشات التي كانت مثبتة أعلى السيارة الأولى والسيارة الأخيرة ترسل نحوهم سيلًا من الطلقات النارية، تارةً نحو شرق الطريق، وتارةً أخرى في اتجاه غرب الطريق، خيم السكون تمامًا على حقول الذُّرَة المجاورة. وحطمت الطلقات النارية أوراق وسنابل الذُّرَة التي راحت تتطاير في كل مكان، وامتلأت سماء المكان بالدخان الكثيف.

أما أعضاء عصابة القائد يو، فقد كانوا ملتصقين بالأعشاب البرية والحاجز الترابي بمحاذاة النهر. واستمر دوي إطلاق اليابانيين النار لمدة ثلاث دقائق، ثم توقف فجأة، وقد امتلأ المكان المحيط بسياراتهم بفوارغ الطلقات النارية التي زلزلت المكان.

قال القائد يو بصوت منخفض: «غير مسموح بإطلاق النار!»

وساد الصمت بين الشياطين اليابانيين. وبدأ الدخان الكثيف يتطاير شرقًا بفعل الرياح الشرقية.

كان أبي قد أخبرني أنه في تلك اللحظة التي عمَّ فيها الصَّمت، كان العم وانغ ون إي قد حاوَل الوصول إلى ضفة النهر، حتى نجح في الوقوف أعلاها، وأخذ ببندقية الصيد التي كانت بحوزته، وراح يصيح بصوت يملؤه الحزن والحسرة: «زوجتي، أم أطفالي!» وتسمَّر في مكانه بعض الوقت، حتى ناله سيل من الرصاص في بطنه. وكانت تلك الطلقات النارية الكثيفة التي تطايرت إلى بطن وانغ ون إي على مقربة من القائد يو.

سقط وانغ ون إي إلى داخل النهر، والتقى بزوجته إلى جانب الجسر الحجري. وعندما سقط وانغ ون إي كان قلبه لا يزال يدق، ورأسه لم تُصَب بأي أذًى، وأحسَّ بشعور عميق لم يعهده طيلة حياته.

وكان أبي قد أخبرني أيضًا أن زوجة العم وانغ ون إي كانت قد وَلدَت له ثلاثة ذكور. كبر الأبناء الثلاثة، وترَعْرَعوا على طعام الذُّرَة. وذات يوم كان وانغ ون إي وزوجته قد خرجَا للعمل في حقول الذُّرَة، وترَكُوا الأطفال الثلاثة يلعبون في فناء المنزل، وفجأة حلَّقَت طائرة يابانية أعلى سماء القرية الصغيرة. وألقت الطائرة بقذيفة سقطَت داخل فناء العم وانغ ون إي، وحطَّمَت تلك القذيفة الأطفال الثلاثة تحطيمًا لم يُبقِ على أي جزء من أشلائهم، وهكذا وبمجرد أن أعلن القائد يو تكوين عصابته لمقاوَمة المعتدي الياباني، سارعت زوجة وانغ ون إي بإرسال زوجها ليكون عضوًا بين أفراد هذه العصابة الوطنية.

هنا راح القائد يو يَعَضُّ على أسنانه، ويُحدِّق إلى جثة وانغ ون إي التي سقَطَت في عُرْض النهر، ثم قال بصوت منخفض: «عليكم بالثبات!»

٨

راحت حَبَّات الذُّرَة تتطاير على وجه جدتي، حتى استقرَّت حبة عند أسنانها البيضاء. ورأى أبي شفتيها وقد تَغيَّرتْ تمامًا، وأصبحت باهتة بعد حُمْرتها التي كانت تجذب الأنظار، وراح ينادي أمه في حسرة شديدة. وفي تلك الأثناء فتحت جدتي عينيها، وقالت: «ابني العزيز، أين أبوك بالتبنِّي؟» فردَّ أبي: «إنه في أرض المعركة.» فقالت جدتي: «إنه أبوك.» … فهز أبي رأسه.

حاولَتْ جدتي أن تجلس في مكانها، وكانت كلما حاولت ذلك زاد تدفق الدم الذي كان يسيل من جرحها الغائر.

فقال أبي: «أماه، سأذهب لأنادي أبي.»

لوَّحت جدتي بذراعها، وفجأة نجحتْ في الجلوس بمفردها، وقالت: «صغيري دوو قوان … اسند أمك. فلَنَعُد إلى المنزل، لِنَعُد إلى المنزل.»

ركع أبي قليلًا، وحاول أن يأخذ بذراع أمه حول رقبته، حتى نجح أخيرًا في حمل أمه على كتفيه. وبللت دماء جدتي رقبة أبي، كان أبي يشم من هذه الدماء الذكية رائحة نبيذ الذُّرَة القوية. وكان يتمايل ويُجاهِد في حمل أمه إلى داخل حقول الذُّرَة، والطلقات النارية تكاد لا تَتوقَّف عن مطاردتهما. مد أبي يده واقتلع عودًا من الذُّرَة، وراح يتكئ عليه، وقد اختلط عرق أبي ودموعه بدماء أمه على ظهره، حتى غطَّى الدم وجهه تمامًا. أحسَّ أبي بأن جسد أمه يتثاقل شيئًا فشيئًا، وعيدان الذُّرَة لا تتوقف عن مضايقته واعتراض طريقه، وأوراقها لا تتوقف عن ضرب وجهه، فسقط على الأرض داخل حقول الذُّرَة، والتصق وجه جدتي بوجهه، فألقت إليه بابتسامة غامضة، تركت داخله أثرًا لا يُنسى.

رقدَتْ جدتي داخل الذُّرَة، وقد بدأتْ تتحسن بعض الشيء. وأحسَّت فجأة بأن ابنها يفك ملابسه، وهو يمد يده ليغطي الفتحتين اللتين أحدثتهما الطلقات النارية في صدر أمه. وأصبحت يده مخضبة بدمائها، واختلط هذا الدم بصدرها. كانت الطلقات النارية قد تجاوزت صدرها العالي، لتصيب المنطقة المحيطة به، وتركت هذه الفتحة الغائرة. ونظر أبي إلى صدرها، وهو في غاية الحزن على ما أصابها. لم يستطع أن يسد تلك الفتحة جيدًا، فاستمرت الدماء تسيل بغزارة منها، حتى بدت جدتي أكثر شحوبًا، وبدأت تضعف شيئًا فشيئًا، وكأنها تنتظر أن تُفارِق هذا العالَم بين اللحظة واللحظة.

راحت جدتي تنظر بسعادة إلى أبي الذي كان ثمرة لقائها بالقائد يو داخل حقول الذُّرَة، وهكذا بدأت تسترجع صفحة ذكرياتها في هذا المكان.

تذكرت ذلك العام، عندما كانت تعبر النهر في ذلك اليوم شديد المطر، وعندما دخلتْ إلى قرية عائلة دان يان شيو، وكانت الشوارع تمتلئ بمياه الأمطار الغزيرة، وتمتلئ صفحة مياه النهر بسنابل الذُّرَة. وعندما وصل الهودج إلى مدخل منزل عائلة دان، كان قد خرجت لاستقباله عجوز بمفردها. وبعد توقف المطر الغزير، كانت لا تزال هناك بعض قطرات المياه تتساقط متفرقة على سطح الأرض. وعلى الرغم من عدم توقُّف جماعة الزَّمَّارين والطَّبَّالين عن الضرب على آلاتهم، فإن أحدًا من أهل القرية لم يسارع ليشاهد هذا الجمع والطبل والزمر، عرفَتْ جدتي على الفور أن هذا إنما يدعو إلى عدم التفاؤل بهذا الزواج. وساعد جدتي على تقديم التحية للسماء والأرض٩ اثنان من الرجال، أحدهما يزيد عمره عن الخمسين، والآخر فوق الأربعين. كان الرجل الذي تجاوز الخمسين هو الجد ليو لوو خان، أما ذلك الذي تَجاوَز الأربعين فهو أحد العمال في فرن صناعة النبيذ.

وقف الحمَّالون والطَّبَّالون والزَّمَّارون وسط الفناء الذي أغرقته مياه الأمطار الغزيرة، وراحوا ينظرون إلى الرجلين اللذين حملا جدتي إلى داخل غرفتها المظلمة. شَمَّت جدتي رائحة نبيذ الذُّرَة القوية التي كانت تفوح من جسَدَي هذين الرجلين، وكأنهما كانَا قد انغمسا في النبيذ لفترة طويلة.

وعندما دخلتْ جَدَّتي العروس إلى غرفتها، قامت بتقديم التحية للغرفة وهي لا تزال تغطي رأسها بذلك الوشاح الأحمر. وتحت ضوء الشموع، أحسَّت جدتي بأن يدًا تسحبها إلى مكان داخل الغرفة. وكانت هذه المسافة القصيرة التي سارت خلالها جدتي مع هذه اليد، مسافة ألقت على قلبها برعبٍ شديدٍ. فقد سحبتها تلك اليد لتستريح عند مصطبة التدفئة. ولكن لم يبادِرْ أحد بنزع ذلك الوشاح الأحمر من فوق رأسها، فقامت بنزعه بنفسها. رأت على الفور رجلًا يبدو أنه مصاب بتشنج عصبي يجلس إلى أسفل المصطبة. ورأت رأس الرجل الطويل، ولاحظَت احمرار عينيه. ووقف الرجل ومد يده إليها. فصرَخَت جدتي وأخرجت على الفور ذلك المقص الذي كانت تخبئه داخل ملابسها، ووقفت إلى جانب المصطبة، تنظر إلى ذلك الرجل بغضب شديد. فتراجَع الرجل ثانيةً وجلس على المصطبة. ولم يفارق المقص يدها طوال تلك الليلة الصعبة، ولم يفارق ذلك الرجل مكانه الذي كان قد استقر فيه أعلى المصطبة.

في صباح اليوم التالي، استغَلَّت جدتي نوم زوجها الأبرص وتسَلَّلتْ من جانب المصطبة لتهرب من تلك الغرفة الكئيبة، وعندما أوشكت على فتح باب المنزل لتلوذ بالفرار، اعترضَتْها يد ما. كانت تلك العجوز النحيفة صاحبة الضفيرة على شكل حبَّات الفاصوليا، أمسكت العجوز بيدها وراحت ترميها بنظرات حادَّة.

وسعل العجوز دان يان شيو، وأخفى غضبه ونظر إلى جدتي بابتسامة خفيفة قائلًا: «ابنتي الغالية، لقد أصبحتِ بعد زواجك مثل ابنتي من لحمي ودمي، ولتعلمي أن ابني بيان لانغ ليس مصابًا بذلك المرض، فلا تستمعي لما يهذي به الآخرون. أسرتُنا تستند إلى تجارة كبيرة، ويتميز ابني بيان بحسن سلوكه، ولتكوني مسئولة عن هذا البيت منذ اليوم.» ومدَّ الرجل إليها سلسلة من المفاتيح النحاسية، ولكن جَدَّتي أبت أن تأخذها من يده.

في الليلة الثانية داخل منزلها الجديد، سهرت جدتي حتى بزوغ الفجر وهي تمسك بالمقص.

وفي صباح اليوم الثالث، جاء والدها وهو يجر حمارًا صغيرًا، لكي يحمل العروس لتعود لزيارة بيت والدها وفقًا لتقاليد الزواج آنذاك، كان والد العروس يأتي ليصطحب ابنته في اليوم الثالث من الزواج، لكي تعود إلى بيته للزيارة. وجلس والدها يشرب النبيذ بصحبة العجوز الثَّري دان يان شيو حتى وقت الظهيرة، ثم عزم والدها على اصطحابها إلى المنزل.

وركبتْ جدتي على ظهر الحمار الذي كان والدها قد وضَع أعلى ظهره لحافًا خفيفًا، وسارت على ظهر الحمار حتى خرجت من حدود القرية. وعلى الرغم من مرور ثلاثة أيام على سقوط الأمطار الغزيرة، فإن الطريق كان لا يزال مبللًا بالمياه، والبخار يتصاعد من داخل حقول الذُّرَة، حتى غطى الدخان حقول الذُّرَة الخضراء. خرج والدها وجيوبه مثقلة بالنقود الفضية، وكان الرجل قد شرب حتى الثمالة، وبدت عيناه غائمتين. ومضى الحمار يسير ببطء ورقبته مرفوعة إلى أعلى، وقد تركت حوافره أثرها على سطح الأرض المبللة بمياه الأمطار. كانت جدتي تَركَب على ظهره، وقد بدَا عليها الإرهاق الشديد، حيث تَورَّم جفناها وتبعثرت ضفيرتها. ولاحت نباتات الذُّرَة التي ارتفعَت مقدار عقلة خلال ثلاثة الأيام الماضية تنظر إلى جدتي نظرات تملؤها السخرية.

قالت جدتي: «أبتاه، لن أعود إلى منزله ثانيةً، نعم، أُفضِّل الموت على أن أعود إليه ثانيةً.»

رد الأب: «ابنتي الحبيبة، ما أسعد حظك، انظري إلى حماك سيهدي لنا هذا الحمار، سأبيعه وأحصل على ثمنه.»

ومد الحمار رأسه في اتجاه مستقيم ليقضم بعض الحشائش من على جانب الطريق.

وتابعت جدتي: «أبتاه، إنه مصابٌ بالبرص.»

فرد الأب: «إن حماك سيهدي لنا بغلًا.»

كان أبوها قد شرب حتى لم يَعُد لديه عقل يفكر، وكان لا يتوقف عن البصق بالقاذورات هنا وهناك. حتى شعرت جدتي بالامتعاض الشديد. وصدرها يغلي حقدًا على هذا الأب الجشع المُجرَّد من المشاعر الإنسانية.

وسار الحمار حتى وصل إلى نفق الضفادع، الرائحة الكريهة التي كانت تملأ هذا المكان جعلته يخفض أذنيه اللتين كانتَا مرفوعتين طوال الطريق. ورأت جدتي جثة ذلك الرجل قاطع الطريق الذي كان قد اعترض الهودج في طريقها إلى منزل دان يان شيو. رأته وقد انتفخت بطنه، وتجمعت على جثته كميات كبيرة من الذباب الأخضر. وسار الحمار بجدتي من أمام هذه الجثة المتعفنة، ورأت الذباب يحلق بكثرة حول هذه الجثة الكريهة. ومضى أبوها يسير وراء الحمار، وقد بدا جسده عريضًا أكثر مما كان عليه من قبل، ولاحظت أنه كان يسير وهو يتخبط في سيقان الذُّرَة والحشائش على جانبي الطريق. توقف أمام الجثة وراح يلعن صاحبها قائلًا: «أيها الشيطان الوضيع، يا لك من شيطان فقير … هل غلبك النوم في هذا المكان؟» لم تستطع جدتي أن تنسى ملامح هذا الرجل قاطع الطريق، بدت ملامحه الصفراء الآن على العكس تمامًا من ملامح أي قاطع طريق آخر لا يزال على قيد الحياة. وتقدمت جدتي وهي تقطع المسافة على ظهر الحمار، حتى طلع النهار، وتقدم الحمار في السير حتى لم يستطع أبوها العجوز ملاحقته، ومضى الحمار مسرعًا يحمل جدتي عائدةً إلى منزل أبيها، كان الحمار يعرف هذا الطريق جيدًا. ومع انحدار الطريق قليلًا، سار الحمار مع هذا الانحدار، بينما كانت جدتي تهتز على ظهره، وهناك امتد إليها ساعدٌ قويٌّ مفتولٌ في صمتٍ وسحبها من على ظهر الحمار الصغير إلى داخل حقول الذُّرَة.

لم تكن لديها القوة لتعترض هذا الساعد القوي، بل لم تكن ترغب في ذلك. كانت حياتها الجديدة خلال ثلاثة الأيام الأخيرة مثل حلم كبير تحطم، فهناك من يكتب له أن يصبح زعيمًا عظيمًا خلال دقيقة واحدة، إلا أن جدتي أدركت خلال ثلاثة أيام حقيقة الحياة الإنسانية. حتى أنها مَدَّت ذراعيها وتشبثت بذلك الرجل صاحب الساعد القوي المفتول، لعله يسرع في خطوته. كان الرجل يضرب أثناء سيره ما يعترضه من أوراق الذُّرَة التي كانت لا تتوقف عن إحداث أصوات مسموعة، ووسط هذا كله سمعت أباها ينادي بصوت مبحوح: «أين أنت يا ابنتي الحبيبة؟»

فجأة سمعَتْ صوت بوق حزين وطلقًا ناريًّا غير واضح بالقرب من الجسر الحجري. كان دم جدتي لا يتوقف عن التدفق، فراح أبي يحذرها: «أماه، إن دمك لا يتوقف عن التدفق بغزارة، وأخشى أن يسيل كاملًا وتتعرضي للوفاة.» ومد يده إلى أسفل عيدان الذُّرَة، وأخذ ببعض الطين وحاول أن يسد فوهة الجرح، ولم يتوقف الدم، فراح يأتي بكمية أكبر من الطمي. نظرت إليه جدتي نظرة يملؤها الرضا، ثم راحت تحدق في السماء الزرقاء، وفي نباتات الذُّرَة التي بدت لها وكأنها أم لطيفة وحنون. ومر بذهنها طيف طريق صغير تحيط به الأزهار البيضاء الصغيرة، كانت جدتي قد سلكته في صباها على ظهر حمار صغير. وكانت أثناء سيرها في ذلك الطريق تستمع إلى صوت رجل قوي البنية، يغني بصوت يخترق هالة صمت تخيم على حقول الذُّرَة المجاورة. سارت تتبع هذا الصوت متغلغلة وسط حقول الذُّرَة.

تملك ذلك الرجل من جدتي وأسقطها على الأرض، وجدها شابة ذات جسم أبيض طري كعجين الذُّرَة، تنظر إليه بنظرات مثل الحمل الوديع. قام الرجل بنزع الوشاح الأسود الذي كان يغطي عينيها وكشف لها الحقيقة التي كانت تنتظرها. إنه هو! وراحت عيناها تذرفان دموع الفرحة التي غابت عنها خلال الأيام الثلاثة الماضية.

نزع يو جان آو لباس القش الذي كان يرتديه، وانقض كالوحش يكسر بقدميه عيدان الذُّرَة، ثم فرش لباسه وسط حقل الذُّرَة. وحمل جدتي بين يديه ليلقي بها على هذه المصطبة التي صنعها بيديه. بينما هي في ذهولٍ تامٍّ مما يحدث أمامها، وراحت تسترق النظر إلى صدره العاري، فأحست وكأنها رأت دماءه تغلي بشدة أسفل هذا الجلد الذي تراه بأم عينيها. ثم انفجرت أحاسيسها وشهوتها التي كانت تكتمها منذ زمنٍ طويلٍ.

وهكذا التقَت جدتي وجدي وتحابَّا وسط حقول الذُّرَة، وعاشَا نشوة لم يَذُقْها كلاهما من قبل. استطاعَا في هذا المكان أن يبدآ لحظات فارِقة في تاريخ قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي. ويمكن القول بأن أبي كان ثمرة لهذا اللقاء الذي اختلطت فيه مشاعر الحزن بلذة النشوة، وارتفع صوت نهيق الحمار الصغير، وراح يتغلغل وسط حقول الذُّرَة، وهنا عادت جدتي من عالَم الأحلام الذي عاشت فيه أجمل لحظات حياتها إلى هذا العالم الوحشي. ونهضت لتجلس وسط الذُّرَة قلقة، وراحت عيناها تذرفان الدموع. وقالت: «إنه حقًّا أبرص.» كان جَدِّي لا يزال راكعًا، وفجأة اكتشَفَ أن بحوزته سيفًا صغيرًا. وما إن لوح بيديه، حتى أطاح السيف بعودين من عيدان الذُّرَة القريبة منه، قال: «عليك أن تفكري فقط في العودة إلى هنا بعد ثلاثة أيام!» فنظرت إليه جدتي وهي في غاية الحيرة. فنهض جَدِّي وارتَدَى ملابسه. وقامت هي بترتيب ملابسها وشعرها. ولم تعرف أين أخفى سيفه الصغير بتلك السرعة. قام وودَّعَها حتى حافة الطريق، ثم اختفى من أمامها تمامًا.

وبعد مُضِي ثلاثة أيام، عادت جدتي على ظهر حمارها الصغير. وما إن دخلت حدود القرية حتى سمعت بأن هناك من يُردِّد أن الثَّرِي دان يان شيو وابنه الأبرص قد قُتِلَا، أُلْقِيَت جُثَّتاهما وسط الترعة التي تقع في الناحية الغربية من القرية.

اضطجعت جدتي قليلًا، وغرقت في دفء الذُّرَة واللحظات الجميلة التي عاشَتْها بين أحضانها، وأحَسَّت بأنها أصبحتْ أكثر رشاقةً مثل طائر سنونو يُحلِّق أعلى سنابل الذُّرَة. وبدأت حركة تلك الصور الخاطفة تصبح أكثر بطئًا، وراح يظهر أمامها ويتلاشى الحقد والامتنان والقسوة والإخلاص صور دان بيان لانغ ودان يان شيو ووالدها ووالدتها والجد لوو خان و … كتبَتْ جدتي آخر كلمة في تاريخ حياتها التي امتدَّت ثلاثين عامًا. مر الماضي بسرعة خاطفة وكأنها ثمرة ذات رائحة عطرية فوَّاحة أصابها سهم قاطع فأسقطها على الأرض، أما المستقبل، فإنها كانت ترى بغموض بعض الدوائر الضيقة التي توشك على الاختفاء. يبقى لديها فقط هذا الحاضر الذي تُجاهِد لأجل الحفاظ عليه. وأحسَّت جدتي بيدي أبي الصغيرتين تمسحان على جبينها، وهو يناديها بصوت يملؤه الخوف، هذا الصوت الذي جعل وعيها الذي اختلطت فيه مشاعر الحب والكراهية والفضل والحقد يستعيد الأمل في الحياة مرة أخرى. جاهدَت لترفع ذراعها لأعلى لتمسح على وجه صغيرها، لكنها لم تستطع أن تفعل ذلك. وعندما كانت تحاول النهوض، رأت ضوءًا شديدًا يأتي من السماء، وسمعتْ صوت موسيقى ولحنًا جميلًا تعزفه آلات البوق الصغير والبوق الكبير.

شعرَتْ جدَّتِي بالتَّعَب الشديد، وأحسَّت أن الأمل في الحاضر قد بدأ يتضاءل. هل هو الموت؟ هل سأموت؟ هل سأفتقد النظر إلى هذه السماء وهذه الأرض وإلى الذُّرَة وإلى ابني وإلى حبيبي الذي يقود الآن جيشه لملاقاة المُعتدِين؟ كانت تسمع دَوِيَّ طلقات نارية على مسافة بعيدة عنها، وبدت السماء أمامها مليئة بالدخان والضباب الكثيف. فنادت على صغيرها: «دوو قوان، دوو قوان، ابني الحبيب، تعال وساعدني لأنهض، ساعدني لأستند عليك، فأمُّك لا تتمنى الموت، يا إلهي! يا آلهة السماء … أنعمي عليَّ وعلى حبيبي وطفلي وثروتي وعلى حياتي هذه الحياة القوية مثل الذُّرَة. أيتها الآلهة، لا تسلبيني شيئًا مَنحتِني إيَّاه، فلتصفَحِي عني، فلتمنحيني الحياة! أيتها الآلهة هل تعتقدين أنني مذنبة؟ ما رأيكِ في أنني رفضت أن أكون زوجة لذلك الأبرص، رفضت أن أهبه نفسي وأنجب منه شيطانًا مريضًا يفسد هذا العالم الجميل؟ أيتها الآلهة، ما العِفَّة؟ وما الاستقامة؟ ما الخير؟ ما الشر؟ لَمْ تخبريني عن هذا كله من قبل؛ لذا فإنني تصرفت وفق فكرتي ورؤيتي في هذه الحياة، إنني أعشق السعادة، أعشق القوة، أعشق الجمال، إنني حرة في جسدي، أهبه لمن أشاء، لا أخشى الجريمة، لا أخشى العقاب، لا أخشى الجحيم، فعلت جميع ما يجب عليَّ فعله. لكنني لا أرغب في الموت، أريد الحياة، أتمنى أن أنعم بالنظر إلى هذا العالم، يا إلهي.»

تأثَّرَت السماء بإخلاص جدتي وصدقها، غرقت جدتي في دموعها، واستمر نزيف جرحها الغائر، وانعكست أشعة الشمس على عينيها، وراحت تنظر في عيني طفلها شديد الشبه بأبيه. وبدأت شفتاها تتحركان بصعوبة وهي تنادي على صغيرها، فراح أبي يصيح بصوت مرتفع: «أماه، هل أنت بخير! لن تموتي، لقد أحكمتُ السيطرة على مصدر النزيف، توقَّف النزيف بالفعل! سأذهب لأنادي أبي، أناديه ليأتي لرؤيتك. أماه، لا تموتي الآن، لا بد أن تنتظري قدوم أبي!»

غادَر أبي المكان مسرعًا. وبدا وقع خطواته مثل همسات خفيفة، مثل تلك الموسيقى التي كانت تأتي من كبد السماء منذ قليل. وسمعَتْ جدتي صوت هذا الكون المحيط بها، إنه صوت نباتات الذُّرَة. راحت تُحدِّق النظر إليها، بدت هذه الذُّرَة أمام عينيها شبه النائمة وكأنها شبح غامض. أحست بأن الذُّرَة تَتأوَّه وتتمايل وتصيح وتلتَفُّ حول نفسها، كانت تبدو لها تارة مثل عفريت مخيف، وتارةً أخرى مثل حبيب قريب إلى قلبها، بَدتْ لها حقول الذُّرَة مثل أفعى، وهكذا حتى عجزت جدتي عن وصف حقول الذُّرَة. رأت عيدان الذُّرَة حمراء وخضراء وسوداء وزرقاء، رأتها تضحك بصوت مرتفع، ورأتها تبكي بصوت أعلى، ورأت دموعها وكأنها أمطار غزيرة تسيل على شاطئ قريب منها. كانت ترى عبر عيدان الذُّرَة تلك السماء مرتفعة عنها وقريبة منها. أحسَّت أن هذه السماء قد التحَمَت مع الأرض مع الإنسان مع الذُّرَة، أحسَّت بأن غطاء واحدًا يلفها معًا. ومرَّت على وجه جدتي سحابة بيضاء، وراحت السحابة البيضاء تَتجوَّل فوق حقول الذُّرَة حرة طليقة. هبط إلى أعواد الذُّرَة سرب من الحمام الأبيض. وأيقظ صوت هديل الحمام جدتي، راحت تنظر إلى سرب الحمام وقد بدا جليًّا أمام عينيها. كما راح الحمام ينظر إليها عن قرب بعيونه الصغيرة في حجم حبة الذُّرَة. ابتسمت جدتي للحمام ابتسامة يعلوها الصدق، كما بادلها الحمام ابتسامة رقيقة، كانت أقل ما يمكن أن يقدم لسيدة مثلها تقديرًا لعشقها للحياة والإنسانية وهي على فراش الموت. راحت جدتي تصيح بأعلى صوتها: أحبائي، إنه لَيَعِز عليَّ فراقكم! ومضى الحمام ينقر بعض حبات الذُّرَة، في محاولة منه للرد على ندائها الصامت. وكان الحمام يحوم حولها تارةً ينقر بمنقاره بعض حبات الذُّرَة، وتارةً يبتلع حبات أخرى، انتفخت بطونه بينما كان يبسط أجنحته الجميلة. وبدَا رِيش الحمام الجميل كأنه نُتَف صغيرة تهزها الرياح. كانت عائلتي قد رَبَّت من قبل مجموعة كبيرة من طيور الحمام. وكانت جدتي تقوم في فصل الخريف بوضع حوض كبير ممتلئ بالمياه الصافية داخل فناء المنزل، وبمجرد أن يعود الحمام من رحلته اليومية للبحث تراه يجلس بانتظام داخل الحوض الكبير، ثم ينظر إلى صورته على صفحة الماء الصافي وهو يقضم ما في حلقه من حبات الذُّرَة. كنتَ ترى الحمَام وقد خرج في جماعات تسير وسط الفناء الكبير. ونظرَت جدتي أمامها لترى هذا السرب الكبير من الحمام الذي استقر فوق أعواد الذُّرَة بعد أن جاء فرارًا من اضطرابات الحرب التي أصبحَتْ تطارده في كل مكان، وكأن هذا السرب الكبير إنما جاء ليقدم التعازي في وفاة جدتي.

وأُصِيبَت عينَا جدتي بشيء من الغموض مرة أخرى، لترى جماعات الحَمَام تطير بعيدة عنها، وهي تعزف لحنًا معروفًا لها، ثم ارتفع الحمَام بعيدًا في عَنان السماء.

وأوشك أن ينقطع آخِر حبل يربط بينها وبين هذه الحياة، وسقطت جميع شكوكها وأحزانها وتوترها وكآبتها داخل حقول الذُّرَة الممتدة على جانبي الطريق، تجمع كل ذلك على أعواد الذُّرَة. وراحت تَغرِس جذورها داخل هذه الأرض السوداء، ليجني ثمارها أبناؤها جيلًا بعد جيل. وهكذا طارت جدتي مع جماعات الحمام، طارت لتكتب نهاية حياتها وتَحرُّرها، طارت وقد أحسَّت الآن بمشاعر الفرح والسكون والدفء والراحة والانسجام. وبدت جدتي راضية بهذه النهاية، فراحت تنادي بصدق وإخلاص: «يا إلهي، يا إلهي.»

٩

استمرت الرشاشات المثبتة على سطح السيارات اليابانية في إطلاق الرصاص بكثافة، واستمرت محركات هذه السيارات في الدوران بسرعة بينما هي تستمر في صعود الجسر الحجري. حاصرت الطلقات النارية جدي وفريقه حصارًا شديدًا. لقي بعض أعضاء الفريق الذين أطَلُّوا برءوسهم بدون حذرٍ إلى حافة الطريق حَتْفهم بعد أن أصابتهم الطلقات النارية التي ترمي بها هذه الرشاشات في كل مكان. كاد جَدِّي ينفجر غضبًا من هول هذه الفاجعة. وبعد أن صعدت السيارات اليابانية إلى أعلى الجسر الحجري، أصبحت الطلقات النارية تطير على ارتفاع ملحوظ. قال جدي: «أيها الرفاق، فلنبدأ الهجوم الآن!»، وبادر هو وأطلق ثلاث طلقات، فأصابت طلقاته اثنين من جنود الشياطين اليابانيين، ولطخت دماؤهم السيارة التي كانت تسير في المقدمة. ومع هذه المبادرة التي بدأها جدي، انتشر صوت إطلاق النار على الجانبين الشرقي والغربي من الطريق، ليسقط حوالي سبعة أو ثمانية من جنود الشياطين. كما سقطت أقدام وأذرع اثنين آخرين من جنود الشياطين إلى داخل المياه على جانبي الجسر الحجري. ورفع الأخوة من عائلة فانغ العصيان وهم يصيحون بصوت مرتفع، ألقوا بالمشاعل الملتهبة، ليفزعوا العدو المرابط أمامهم، ألقوا بالكُرَات الحديدية المشتعلة على الأجولة البيضاء التي كانت تحملها السيارة الثانية. وبمجرد أن ارتفعت ألسنة اللهب، راحت تسيل كميات كبيرة من الذُّرَة البيضاء. وجاء أبي زاحفًا من داخل حقول الذُّرَة حتى وصل إلى حافة النهر، وراح يتحدث بتوترٍ شديدٍ مع جدي، فنظر جَدِّي في عُجالة إلى سلاحه وما به من طلقات نارية. وأسرعت السيارة الأولى من السيارات اليابانية الأربعة بالصعود إلى سطح الجسر الحجري، غير أن عجلاتها الأمامية اشتبكت بطاقم التروس، فتعطلت العجلات الأمامية. اشتد الصوت المنبعث من السيارة، وامتدت سلسلة من الأمشاط الحديدية تقبض على السيارة، وأحس أبي أن السيارة تبدو مثل أفعى كبيرة ابتلعت قنفذًا، وأنها الآن تَتلوَّى من هول ما أصابها. وهنا بدأ جنود الشياطين يقفزون من أعلى السيارة التي كانت تسير في المقدمة. وقال جَدِّي مخاطبًا رجاله: «يا لاو ليو، بلغ الإشارة!» فنفخ لاو ليو في البوق الكبير ليصدر منه صوتٌ حزينٌ ومفزعٌ. وصاح جدي: «اهجموا!» وقفز حاملًا سلاحه، ولم يكن قد حدد هدفه بعد، بينما كان عدد من الجنود اليابانيين ينحنون أمام فوهة سلاحه. كما سارع رجاله الذين كانوا يرابطون في الناحية الغربية بالهجوم على السيارات اليابانية، واشتبكوا معهم في الحال، بينما راح الجنود اليابانيون الذين كانوا يراقبون المكان من على السيارات الخلفية يطلقون الرصاص في الهواء. كان هناك اثنان من الجنود اليابانيين لا يزالون على سطح السيارة التي كانت في المقدِّمة، وهنا رأى جَدِّي الأخرس، وقد انقض على هذه السيارة، فقابله الجنديان بالخناجر، رفع الأخرس خنجره، واشتبك معهم في معركة حامية، حتى أسقطهم بضربة قوية. وراح أبي يفكر في قوة الأخرس وحدَّة خنجره. ورأى أيضًا التعبيرات التي كانت تعلو وجه الجنديين اللَّذَين قضى عليهما الأخرس، رأى خدودهم التي كانت لا تزال ترتعش، وأنوفهم المفتوحة والدم الذي كان لا يتوقف عن التدفق من جراحهم الغائرة. وفي ذلك الوقت، جاءت جماعة الجنود اليابانيين الذين كانوا يَستَقِلُّون السيارات الخلفية، وبدَءُوا في إطلاق سَيْل من الطلقات النارية، فسارع رجال جدي، وألْقَوا بأنفسهم فوق جثث القتلى اليابانيين، بينما سارع الأخرس، واحتمى بسطح السيارة والدماء لا تزال تسيل من صدره.

ألقى أبي وجدي بنفسيهما على الأرض، وراحَا يزحفان مُتوجِّهَين إلى داخل حقول الذُّرَة، محاولين أن يرفعَا رءوسهما ببطء لمراقبة ما يحدث على حافة النهر. وهنا بدأت تتراجَع آخر السيارات اليابانية، فسارَع جَدِّي بإصدار أوامره إلى رجاله قائلًا: «فانغ ليو، أطلقوا المدافع! اضربوا هؤلاء الكلاب!» فألقى الأخ فانغ ليو بالقذيفة صوب حافة النهر، بينما كان أخوه فانغ تشي يمضي إلى إشعال النار في فتيلٍ جديدٍ، وقد أصيب بطلقة في بطنه خرجت معها معدته. راح فانغ تشي يتأوَّه وينادي على أمه، ثم سارع بالزحف إلى داخل الذُّرَة. وعندما لاحَظ جَدِّي أن السيارة اليابانية أوشكت على تخطي الجسر الحجري، راح يصيح وقد بدَا عليه التَّوتُّر: «أطلقوا النيران!» فأخذ فانغ ليو الفتيل، ولكنه واجه صعوبة كبيرة في إشعاله. فانقض عليه جَدِّي مسرعًا، وانتزع منه الفتيل، راح ينفخ فيه بفمه حتى نجح أخيرًا في إشعاله. غير أن السيارة اليابانية كانت قد نجحت في الهروب من أعلى الجسر الحجري، بل لحقت بها السيارة الثانية والثالثة. تبعثرت بكميات كبيرة من الأرز الذي كانت تحمله تلك السيارات، وسقط الأرز داخل المياه أسفل الجسر الحجري. وظهرت بعض جثث الجنود اليابانيين تطفو وتسبح صوب الشرق والدم يسيل من أجزاء متفرقة منها. وأخيرًا تَمكَّن رجال جَدِّي من إشعال النيران في تلك السيارات اليابانية.

توقفت السيارات التي نجحت في الهروب، وبدأ الجنود اليابانيون يقفزون من أعلاها، وسارَعوا وانبطحوا على حافة النهر المقابلة، وأحكموا وَضْع مدافعهم، وراحوا يقصفون الجزء المقابل لهم. وأصيب فانغ ليو بطلقة في وجهه، وتَحطَّم أنفه تمامًا، حتى إن دماءه تطايرت لتصل إلى وجه أبي الذي كان على مسافة قريبة منه.

أما الجنديان اللذان كانَا لا يزالان على سطح السيارة المشتعلة، فقد دَفعَا باب السيارة وقَفزَا إلى خارجها، ثم ألقيَا بنفسيهما داخل النهر. والسيارة التي كانت تحمل الأرز، وجدت نفسها مُحتجَزة في منتصف الطريق، وراحت كميات الأرز التي كانت على سطحها تتساقط بكميات كبيرة مثل مياه الأمطار الغزيرة.

فجأة توقَّفتْ مدافع الشياطين اليابانيين على حافة النهر المقابلة، وبقي فقط عدد من الرشاشات التي كانت تطلق بعض الطلقات هنا وهناك. وانقَضَّ ما يزيد على عشرة من الجنود اليابانيين حاملين أسلحتهم صوب الشمال. فصاح جَدِّي أن أطلقوا النيران، غير أن عدد الجنود الذين لبوا نداءه كانوا قليلين جدًّا. والتفت أبي لينظر إلى جثث أعضاء فريق جَدِّي الملقاة أسفل وأعلى حافة النهر، سَمِع تأوُّهات المصابين منهم، الذين نجحوا في الزحف إلى داخل حقول الذُّرَة المجاورة. فراح جدي يُطلِق طلقات متتالية حتى نجح في إرغام بعض الشياطين على مغادرة الجسر الحجري. سمع دَوِي طلقات نارية على الناحية الغربية من الطريق، نجحت في إسقاط بعض الشياطين. حتى اضطروا إلى التراجع، وفجأة تطايرت قذيفة صوب حافة النهر الجنوبية لتصيب ذراع جَدِّي اليمنى، وتأثَّر ذراعه بهذه الطلقة حتى سقط منه سلاحه. فسارع جَدِّي بالتراجع إلى داخل الذُّرَة، وراح ينادي على أبي: «دوو قوان، هلمَّ لمساعدتي.» وشقَّ جدي كمَّه، وطلب من أبي أن يساعده في ربط الجرح مستخدِمًا قطعة القماش البيضاء التي كان يَلفُّها حول خصره. واستغل أبي هذه الفرصة، وقال: «أبي، إن أمي تشتاق إليك.» فرد جدي: «ابني العزيز! فلتقف الآن إلى جوار أبيك للقضاء على هؤلاء الكلاب!» ومد يده إلى خصره، وأخرج المسدس الذي كان قد ألقى به أبي وسلمه له من جديد. وجاء العم ليو دا خاو من جانب النهر وقدمه مُخضَّبة بالدماء، وسأل جدي: «أيها القائد، هل أسرع بتبليغ الإشارة لرجالنا؟»

فرد جدي: «نعم يا رفيقي!»

فوقف ليو دا خاو ورفع البوق وراح ينفخ فيه ليُخرِج منه صوتًا مليئًا بالحماس الشديد.

وراح جَدِّي يصيح بصوت مرتفع: «اهجموا أيها الرفاق!»

سمع بعض الأصوات التي كانت تُردِّد كلامه من داخل حقوق الذُّرَة على الناحية الغربية من الطريق. وأخذ جَدِّي السلاح بيده اليسرى، وعندما همَّ أن يقفز إلى خارج الذُّرَة، إذا ببعض الطلقات النارية المتواصلة تتطاير من جانب خده، فألقى بنفسه على الأرض، ثم زحف مسرعًا إلى حيث كان. وسمع صوت إنسان يتأوه بشدة على حافة النهر عند الناحية الغربية من الطريق. فعرف أبي على الفور أن جنديًّا آخَر من رجالهم قد أصيب بطلق ناري.

مضى العم ليو دا خاو ينفخ في البوق، اختلط صوت حماسه مع صوت احتكاك أوراق وأعواد الذُّرَة بعضها ببعض.

فأمسك جَدِّي بِيَد أبي قائلًا: «ابني الحبيب، اتبعني إلى الناحية الغربية من الطريق لنلتحم مع بقية الرفاق.»

وابتعدت السيارات التي كانت على سطح الجسر الحجري، بينما بدَت حبَّات الأرز وكأنها حبات جليدية صغيرة تتحرك أعلى صفحة مياه النهر. وسحب جَدِّي ابنه وعَبَر بسرعة إلى الطريق العام، بينما كانت الطلقات النارية لا تتوقف عن مطاردتهم وقد زلزلت المكان. وصادفوا في طريقهم اثنين من رجالهم امتلأت وجوههم بحبات الأرز المحترقة وجلودهم مليئة بالتشققات، فراحَا يشكوان حالهما لجدي قائلين: «أيها القائد، لقد انتهينا!»

جلس جَدِّي داخل حقل الذُّرَة مهمومًا، ولم يرفع رأسه عن الأرض لمدة طويلة، بينما تَوقَّفَت قذائف الشياطين على ضفة النهر المقابلة. وسمع صوت انفجار السيارة التي كانت على سطح الجسر، وسمع صوت البوق الذي كان ينفخ فيه العم ليو دا خاو على الناحية الشرقية للطريق.

لم يَعُد أبي يشعر بالخوف، فسار بمحاذاة حافة النهر وتسلل قليلًا ناحية الغرب، ومد رأسه من خلف بعض الأعشاب الذابلة. ورأى أبي أحد الجنود الشياطين يقفز من أعلى مظلة تلك السيارة التي لم تنفجر بعد. ثم قام ذلك الجندي بمساعدة جندي آخر كبير في السن، ساعده على الخروج من داخل السيارة. كان هذا الجندي الكبير نحيفًا جدًّا، ويرتدي قفازًا أبيض، ويعلق عند ردفه خنجرًا طويلًا، وينتعل حذاءً جلديًّا أسود. سارَا معًا إلى جانب السيارة، حتى تسلَّلَا إلى أسفل الجسر. فرفع أبي مسدسه، غير أن يده لم تتوقف عن الارتعاش، بينما كانت مؤخرة ذلك الجندي الياباني العجوز تتمايل أمام فوهة مسدسه. فعض أبي على أسنانه، وأغمض عينيه قليلًا، ثم ضغط على زناد مسدسه، فسمع دوي الطلقة، وقد استقرت داخل المياه، وأصابت بطن سمكة داخل مياه النهر. وسقط الجندي العجوز إلى داخل المياه. فصاح أبي: «أبتاه، هناك مسئولٌ كبيرٌ!»

سمع أبي صوت طلقة نارية تمر من خلفه رأسه، حتى وصلت إلى رأس الجندي العجوز لتحطمه تمامًا، وامتلأت مياه النهر على الفور بدماء الجندي الياباني. بينما لاذ الجندي الآخر بالفرار إلى خلف الجسر الحجري.

ثم عاود الجنود اليابانيون إطلاق قذائفهم مرة أخرى، فقام جدي بحماية ابنه. وكان اليابانيون يطلقون النيران بصورة عشوائية أعلى أعواد الذُّرَة. فقال جدي: «أحسنت، هكذا تكون من صُلبي!»

لم يكن أبي وجدي يعلمان أن ذلك الجندي الياباني العجوز الذي تَمكَّنَا من قتله، هو اللواء الشهير جونغ قانغ ني قاو.

لم يتوقف العم ليو دا خاو عن النفخ في البوق، وقد بدَت السماء من فوقه مليئة بالدخان المتطاير من لهيب السيارة المشتعلة.

قال أبي: «أبتاه، إن أمي تشتاق إليك، وتطلب منك الذهاب إليها.»

فسأله جدي: «هل لا تزال أمك على قيد الحياة؟»

فأجاب أبي: «نعم، إنها لا تزال حية.»

سحب القائد يو ابنه وسارَا معًا إلى داخل حقول الذُّرَة.

كانت جدتي لا تزال ترقد أسفل أعواد الذُّرَة، وقد ظللت الذُّرَة وجهها، بينما لا تزال تشرق أعلى وجهها ابتسامة رقيقة تنتظر بها جدي. بدَا وجهها أبيض على نحو لم تعهده من قبل، وعيناها لا تزالان مفتوحتين.

كانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها أبي دموع جَدِّي القائد يو.

ركع جَدِّي إلى جانب جثة جَدَّتي، وراح يمد يده السليمة ليغمض عينيها.

عندما تُوفِّي جَدِّي في عام ١٩٧٦م، كانت أمي قد أغمضت عينيه بيدها التي كانت تحتوي على ثلاثة أصابع فقط. وعندما عاد جَدِّي من التلال والقمم الجرداء في جزيرة بيي خاي اليابانية، كان لم يَعُد يُحسِن نُطْق الكلمات. وكان أهل القرية قد أقاموا له احتفالًا كبيرًا فور عودته من اليابان، شارَك فيه الجميع بمن فيهم رئيس المدينة. وكنتُ آنذاك قد بلغتُ الثانية من عمري. وأذكر أن القرية أعدَّت في ذلك الاحتفال المهيب ثَمانِي طاولات كبيرة تم وضْعُها أسفل أشجار التفاح عند مدخل القرية، وُضِع على كل طاولة جرة من النبيذ وما يزيد على عشرة أوانٍ صغيرة لشرب النبيذ. وكان السيد رئيس المدينة قد حمل جرة النبيذ وملأ قدحًا وقدَّمه إلى جَدِّي قائلًا: «أيها البطل الشيخ، فلنشرب جميعًا في صحتك، فأنت فخر لشعب هذه المدينة!» وجاهَد جَدِّي نفسه حتى وقف بين الجمع ومُقلَتاه لا تكادان تَكفَّان عن الحركة هنا وهناك، وأخذ القدح الذي كان يهتز بين يديه، حتى إن معظم النبيذ ضل الطريق إلى فمه وجرى إلى مكان آخر.

أذكر أنه عندما كان جَدِّي يَسحبُني معه للتجول، وكنت أسحب معي كلبًا صغيرًا أسود، نطوف معًا حقول القرية. كان أكثر مكان يفضل جدي الذهاب إليه هو الجسر الذي يقع أعلى نهر موا شوى، حيث يقف عند رأس الجسر ويمسك بدعامته ويتسمر في مكانه وقتًا طويلًا. وكنتُ أُلاحِظ أن عينيه تتوقفان كثيرًا عند بعض الأجزاء المتصدعة في جسم الجسر. وعندما كانت تعلو الذُّرَة، كان يصطحبني معه إلى داخل حقول الذُّرَة، والحقل الذي كان يَتردَّد عليه كان أيضًا قريبًا جدًّا من نهر موا شوى. أُخَمِّن أن هذا المكان هو بالضبط المكان الذي صعدت فيه روح جدتي إلى السماء، وأن تلك البقعة من أرض هذا الحقل هي التي تشربت يومًا ما بدمائها الذكية. حتى ذلك الحين لم يكن منزل العائلة قد تهدم بعدُ، وكان جَدِّي قد وقف ذات يوم أسفل الشجرة التي في وسط الفناء وراح ينبش بيديه التراب. حتى عثر على بعض الحشرات الصغيرة وقدَّمَها لي، وألقيت بها على الفور لكلبي الصغير الذي راح يعضها حتى ماتت، ثم ألقى بها بعيدًا ولم يأكلها. فسألَتْه أمي التي كانت تستعد للذهاب إلى المطبخ لإعداد الطعام قائلةً: «ماذا تفعل يا أبي؟» فرفع جدي يديه وراح ينظر إلى أمي بنظرة مباغتة. فغادرت أمي المكان وسعت لحاجتها، بينما استمر هو في نبشه أسفل الشجرة. واستمر حتى نجح في حفر حفرة كبيرة، وأتى ببعض جذور الأشجار وحمل صندوقًا حديديًّا أصابه الصدأ. وما إن وقع الصندوق على الأرض حتى تحطم تمامًا. ثم أتى بقطعة حديد حمراء أطول من قامتي آنذاك، فسألته عن هذا الشيء الذي أراه بيده، فأجابني قائلًا: «وه، وه، بندقية. بندقية.»

وضع جَدِّي البندقية تحت أشعة الشمس، وجلس أمام بندقيته وراح يتأمَّلُها بدقة. ثم نهض من مكانه وراح يبحث حوله حتى عثر على فأس كبيرة كنا نستخدمها في تقطيع الحطب، وراح يضرب بها البندقية. واستمر يضربها حتى حطمها وجعَلَها مُجرَّد قِطَع حديدية صغيرة، وأخذ بهذه القطع الصغيرة وراح يُلقي بها هنا وهناك حتى ملأ بها جميع أرجاء الفناء.

فسأله أبي: «أبتاه هل ماتت أمي؟»

فهز جَدِّي رأسه.

فقال أبي: «أبتاه!»

مسح جَدِّي على رأس ابنه، ومد يده إلى مؤخرته، وأخرج سيفًا صغيرًا، وقطع بعض عيدان الذُّرَة وغطى بها جثة زوجته.

سمع صوت طلقات نارية وصياحًا وانفجارات هناك على جنوب الحاجز الترابي. فأخذ جَدِّي بابنه وألقى به إلى أعلى الجسر.

واتجهت جماعة تزيد على المائة رجل في لباس عسكري رمادي إلى داخل حقول الذُّرَة الواقعة على جنوب الجسر. وجاء إلى حافة النهر ما يزيد على عشرة من الجنود اليابانيين، كان من بينهم من لقي حتفه بالرصاص ومن قُتِل بطعنات الخناجر. ورأى أبي القائد لينغ الذي كان يضع الحزام الجلدي حول خصره، والذي كان معلقًا فيه مسدسه، رأى القائد لينغ وهو يحيط به بعض الجنود ذوي القامات العالية، رآهم جميعًا يدورون حول السيارات اليابانية، قادمين نحو شمال الجسر. فما إن رأى جَدِّي القائد لينغ حتى ابتسم ابتسامة يملؤها الغضب، ثم أمسك بسلاحه ووقف عند رأس الجسر.

جاء إلينا القائد لينغ مزهوًّا مغرورًا، ثم قال: «أيها القائد يو، لقد أحسنت القتال!»

فلعنه جدي: «أنت، أيها اللعين ابن الكلاب!» «لو كُنتَ قد تأخَّرتَ خطوة واحدة!»

– «ابن الكلاب!»، «لو لم نكن لحقنا بكم، لكنتم انتهيتم تمامًا!»

– «ابن الكلاب!»

ووَجَّه جَدِّي فوهة سلاحه تجاه القائد لينغ. وبمجرد أن أعطى القائد يو إشارة صغيرة، كان هناك اثنان من رجاله الأشداء استوليَا على سلاح جدي.

رفع أبي مسدسه، وأصاب به ذلك الجندي الذي كان يحكم قبضته على مؤخرة جدي.

فمدَّ أحد الجنود قدمه في حركة سريعة لتطرح أبي أرضًا، ثم سلب منه المسدس.

قام الجنود بالسيطرة على جَدِّي وأبي.

– «أيها الكلب لينغ ماتزه، افتح عينيك وانظر إلى رفاقي!»

كان هناك على ضفة النهر، وعلى جانبي الطريق العام وداخل حقول الذُّرَة، جُثث قتلى وجنود مصابين، وكان العم ليو دا خاو لا يزال ينفخ في البوق والدماء تنزف من فمه وأنفه.

خلع القائد لينغ ماتزه قبعته، وسجد سجدة لحقول الذُّرَة الواقعة على الناحية الشرقية للطريق العام، ثم أتبعها بسجدة للحقول الواقعة على الناحية الغربية.

وقال القائد لينغ ماتزه: «فلتطلقوا سراح القائد يو وابنه الأمير الصغير!»

قام الجنود على الفور بإطلاق سراحهما. بينما كانت الدماء لا تزال تسيل من جرح ذلك الجندي الذي أصابه أبي.

مد القائد لينغ يده، وأخذ البندقية من يدي الجندي، وأعادها إلى القائد يو.

عبَر جنود القائد لينغ الجسر، واتجهوا صوب السيارات اليابانية وجثث الجنود اليابانيين. وقاموا بجمع المدافع والرشاشات والأعيرة النارية وصناديق الذخيرة والخناجر والمحافظ وغيرها من الغنائم. حتى إن بعضهم نزل إلى داخل النهر وأمسك بأحد الشياطين اليابانيين الذي كان لا يزال حيًّا مختبئًا خلف دعامة الجسر، ورفع أيضًا جثة أحدهم.

قال الجندي الصغير: «أيها القائد لينغ، إنه القائد!»

فتقدم القائد يو إلى الأمام متأثرًا بما سمع، ثم قال: «جرِّده من لباسه العسكري، واستولِ على جميع ما لديه.»

وقال القائد لينغ مخاطبًا جدي: «أيها القائد يو، سنلتقي يومًا ما!»

فأحاط بعض الجنود بالقائد لينغ، وغادروا في اتجاه الجنوب.

صاح جَدِّي قائلًا: «قف يا لينغ!»

فالتفت القائد لينغ إليه، ثم قال: «أيها القائد يو، سأسامحك لأنك لن تستطيع النيل مني!»

فقال القائد يو: «أما أنا فلن أسامحك!»

رد القائد لينغ: «يا وانغ خو، اترك للقائد يو رشاشًا!»

فقام بعض الجنود بحمل رشاش ووضعوه أمام جدي.

«وسنترك لك أيضًا هذه السيارات بما تحمله من الأرز.»

قام جميع رجال القائد لينغ بعبور الجسر، وساروا في صفٍّ واحدٍ في اتجاه الشرق بمحاذاة النهر.

عند غروب الشمس، كانت تلك السيارة قد احترقت تمامًا، وبقي منها فقط بعض القطع الحديدية السوداء، وكانت رائحة الإطارات المحترقة خانقة للغاية. أما السيارتان اللتان لم تَحترقَا، فكانتَا لا تزالان أعلى الجسر. وقد امتلأ النهر بالمياه السوداء، وبدت على جانبي الطريق حقول الذُّرَة الحمراء.

مدَّ أبي يده إلى حافة النهر ليُمسك بقطعة فطير سليمة بعض الشيء، وقدَّمها لأبيه قائلًا: «فلتأكل يا أبي، إنها من صُنْعِ أمي.»

قال الأب: «فلتأكل أنت يا صغيري!»

فدسَّ أبي قطعة الفطير داخل يد والده، ثم قال: «سأذهب لأبحث عن قطعة أخرى.»

عاد أبي وقد عثر على قطعة فطير جديدة، وراح يلتهمها بشراهة.

١  نهر موا شوى: نهر يجري في منطقة شمال شرق الصين على حدود مقاطعة شان دونغ الصينية، يصل طول مجراه إلى ٥٢٫٤١ كيلومترًا، ومساحة حوضه ٢٫٣١٧ كيلومترًا مربعًا. وينقسم إلى أربعة فروع رئيسية هي: نهر ليو تسون، ونهر لونغ تشوان، ونهر تو تشياو توو، ونهر شي ليو فينغ. (المترجم)
٢  جمهورية الصين الوطنية تأسَّست في عام ١٩١١م وظَلَّت قائمة حتى أكتوبر عام ١٩٤٩م، إذ سقطَتْ بتأسيس جمهورية الصين الشعبية. (المترجم)
٣  عيد تشينغ مينغ والذي يعني اسمه عيد الصفاء والنقاء، وهو أحد الأعياد التقليدية المهمة التي تعطل فيها الهيئات في إجازة عامة بالبلاد لمدة ثلاثة أيام. وموعد هذا العيد في الخامس من شهر أبريل كل عام. ويرجع تاريخ هذا العيد إلى عصر أسرة جوو الصينية أي حوالي ٢٥٠٠ عام. ويُسمَّى أيضًا عيد زيارة الموتى، حيث يخرج الكثيرون في هذا العيد لزيارة قبور موتاهم. (المترجم)
٤  تسون: وحدة لقياس الأطوال في الصين قديمًا، والمتر الواحد يُعادل ٣٠ تسون. (المترجم)
٥  ويقصد به العام الذي أعلن فيه تأسيس سلطة سياسية جديدة، ويُشير هنا إلى عام ١٩١٢م. (المترجم)
٦  دا يانغ: وحدة عملة من الفضة كانت تُستخدَم في الصين قديمًا. (المترجم)
٧  المانتو: أحد أنواع المأكولات الصينية المعروفة داخل الصين، ويُصنَع من الدقيق والماء والسكر وبعض المكوِّنات الأخرى، ويكون على شكل نصف كرة أو مستديرًا. وهناك المانتو المحشو الذي يتم حشوه بقطع من اللحوم أو الخضروات، وهناك أيضًا المانتو السادة أو الأبيض الذي يخلو من أي حشوٍ. وينتشر طعام المانتو بشكلٍ كبيرٍ في مناطق جنوب الصين ووسط الطبقات الفقيرة، وذلك لرخص سعره وبساطته. (المترجم)
٨  دعوة صهر الحديد: وتعود إلى قرار لجنة الحزب الشيوعي الصيني في نوفمبر عام ١٩٥٧م ودعوة الزعيم الصيني المعروف ماو تسي تونغ إلى حملة شعبية شاملة لصهر أكبر كَمٍّ من الحديد للحصول على كمية كبيرة من إنتاج الحديد سنويًّا، وذلك للتحَوُّل خلال فترة ١٥ عامًا إلى دولة متقدِّمة صناعيًّا ولديها مخزون من الحديد يُعادل بل ويفوق مخزون بريطانيا. وقد استجابت جماهير الشعب الصيني العريضة لهذه الدعوة، وقدَّمت الأسر الصينية ما لديها من أشياء من الحديد لصهرها لتحقيق الهدف من دعوة الزعيم ماو. حيث وصل إجمالي إنتاج الحديد في أغسطس ١٩٥٨م إلى ١٠ ملايين و٧٠٠ ألف طن، وهو ضِعف ما كان عليه عام ١٩٥٧م قبل هذه الدعوة. وعلى الرغم من النجاح الذي حققته هذه الحملة، فإنه كان لها تأثير سلبي على الزراعة والصناعات الخفيفة وأضَعَفت القوة الجسدية للأيدي العاملة وغير ذلك من الآثار السلبية. (المترجم)
٩  تقديم التحية للسماء والأرض: حيث يقوم العروسان وفق تقاليد الزواج في الصين بتقديم ثلاث تحيات يوم الزفاف. التحية الأولى السجود للسماء والأرض، اعترافًا بشمولهما بالرعاية حتى كبرَا ووصلَا إلى سن الزواج. والتحية الثانية للشيوخ الكبار، اعترافًا بفضلهم. والتحية الثالثة للوالدين شكرًا لهم وتعبيرًا عن البر بهما. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤