نبيذ الذُّرَة
١
كانت أمي قد أخبرتني بأنها لا تعلم السبب الذي جعل من الذُّرَة الرفيعة الحمراء بريف دونغ بيي بمدينة قاو مي؛ مادة خامًا رئيسية لنبيذ الذُّرَة ذي الرائحة العطرة الذكية والطعم اللذيذ الذي لا يصيب خلايا المخ بأدنى ضرر، كانت أمي دائمًا تكرر على مسامعي: إن العائلة تتوارث هذه الوصفة الخاصة، وأنه غير مسموح بإفشاء سر هذه الوصفة إطلاقًا؛ لأن في إفشائها إضرارًا بسمعة عائلتي الطيبة أولًا، ثانيًا: لأنه في يوم من الأيام ستقوم الأجيال اللاحقة بإدارة شركة لصناعة النبيذ، وإذا تم إفشاء سر هذه الوصفة، فإن تلك الأجيال ستفتقد إلى الأبد تلك السمات المميزة لهذه الصناعة. كما أن جماعة الحرفيين في بلدنا، إذا ما كانت لديهم وصفات خاصة، فإنهم كانوا يفضلون توريثها لزوجات أبنائهم وليس لبناتهم، حتى إن هذا الأمر كان في غاية الجدية، ولا بد من الالتزام به كما تلتزم بعض الدول بقوانينها.
قالت أمي: إنه عندما كان السيد دان يان شيو وابنه الأبرص دان بيان لانغ يُشرِفان على فرن صناعة النبيذ، حقَّقَا نجاحًا معقولًا. وعلى الرغم من أن نبيذ الذُّرَة الذي كانت تنتجه العائلة آنذاك كان ذا طعمٍ جيدٍ، فإنه لم يكن بنفس الدرجة الممتازة التي أصبح عليها فيما بعد، ولم يكن إطلاقًا بنفس الطعم اللذيذ الذي أصبح يتميز به خلال السنوات الأخيرة. والسبب الحقيقي الذي كان وراء تَفرُّد نبيذ الذُّرَة الذي اشتهرت به عائلتي عن جميع ما كانت تنتجه العائلات الأخرى على مستوى البلدة، يرجع إلى حكاية قيام جَدِّي بقتل السيد دان يان شيو وابنه الأبرص دان بيان لانغ، وما قامت به جدتي من استعادة شهرة ومكانة نبيذ عائلة دان بعد فترة قصيرة من الهلع والرعب وقدرتها على التقدم وإثبات موهبتها في هذا المجال. فكما تكون المصادفة والأمور الهزلية سببًا في العديد من الاكتشافات العظيمة، فإن قيام جدي بالتبوُّل داخل قدر النبيذ كان هو السبب وراء تفرد وذيوع شهرة نبيذ الذُّرَة الذي تخصصت في صناعته عائلتي. إذًا فلماذا أصبح ذلك القِدر الذي امتلأ ببول جَدِّي ينتج نوعًا متفردًا من نبيذ الذُّرَة؟ في الحقيقة هذا أمر علمي، وليس بإمكاني أن أتعرض له، وقد قَررتُ أن أترك هذا الأمر لأهله من العلماء المتخصصين في صناعة النبيذ لدراسته والوقوف على حقيقته. كانت جدتي والجد لوو خان قد قامَا بعد ذلك بمزيد من التجارب في مجال صناعة النبيذ، قامَا بتلخيص التجارب السابقة للعائلة، وقامَا باستخدام ذلك القِدْر الذي امتزج بالبول ليحلَّ محل الطريقة القديمة التي كنت تعتمد على خلط مختلف أنواع النبيذ لصناعة نبيذ الذُّرَة. كانت طريقتهم هذه تعتبر سرًّا مهمًّا، ولم يكن يعرف هذا السر آنذاك سوى ثلاثة أشخاص فقط هم جدتي وجدي والجد لوو خان. ويُحكَى أن طريقة الخلط السرية كانت تتم في ساعة متأخِّرة من الليل والناس نيام، كانت تقوم جدتي بإشعال البخور وحرق عدد ثلاثمائة ورقة من النقود الورقية، ثم تأتي ببعض الأعشاب وتُلقي بها داخل القدر الكبير. كما يقال إنها كانت تتعمد القيام بهذه الأمور أمام جمع من الحاضرين، لكي تستعرض أمامهم ما بجعبتها من طُرق سحرية تتفرد بها هذه العائلة، حتى تراهم في ذهولٍ شديدٍ معتقدين بأن السماء تبارك هذه الصناعة وهذه الطريقة التي تنفرد بها العائلة. وهكذا حازت العائلة شهرة واسعة في مجال صناعة نبيذ الذُّرَة، وكانت تسيطر على هذه السوق خلال السنوات الماضية.
٢
عادت جدتي إلى منزل أبيها، ومكثَت به ثلاثة أيام حتى حل موعد العودة إلى منزل زوجها الأبرص. وخلال هذه الأيام الثلاثة، كانت ترفض الطعام والشراب، وتبدو شاردة طوال الوقت، حتى عندما كانت تقوم أمها بإعداد ما لذَّ وطاب من الطعام والشراب، وتداعب ابنتها لكي تأكل أقل قدر من الطعام، كانت جدتي لا تزال ثابتة على موقفها مُحجِمة تمامًا عن الإقبال على الطعام والشراب، حتى أصابها ضعف وإرهاق شديد. وعلى الرغم من قلة ما دخل جوفها من طعام وشراب خلال تلك الأيام الثلاثة، فإن ملامحها لم تتغير، كنت لا تزال ترى جبهتها البيضاء، ووجنتيها الحمراوين وعينيها السوداوين. وبالطبع كانت أمها لا تتوقف عن توجيه اللوم لها قائلة: «أيتها الابنة، إلى متى ستستمرين هكذا ممتنعة عن الطعام والشراب؟ هل ارتقيتِ إلى مصاف الآلهة أو أصبحت في مكانة بوذا؟ لقد أوشكتُ أن أموت حزنًا على حالك!» ثم تنظر الأم إلى صغيرتها القابعة في مكانها ممتنعة عن الزاد، حتى لا تتمالك الأم نفسها، وتذرف الدموع على حال صغيرتها المسكينة. بينما كانت الابنة تَسْتَرِق النظر إلى أمها بعينين تملؤهما الحيرة. وكأنها سمكة كبيرة تُراقِب ظلام النهر من أعلى حافة عالية. وفي اليوم الثاني من عودتها إلى منزل أبيها، كان أبوها قد أفاق من سُباته، وتذكر جيدًا وَعْد حما ابنته له، حيث وعده بأن يُهدِيَه بغلًا كبيرًا أسود اللون، فراح الأب يسرح بخياله بعيدًا يرى البغل وهو يعدو بسرعة بين الحقول. بغل أسود اللون، ذو عينين بارقتين وحوافر قوية. قال الأب مخاطبًا نفسه وهو في غاية القلق: «أيها العجوز، إن ابنتك تمتنع عن الطعام والشراب، فما العمل إذًا؟» ثم قال: «دعها في عنادها حتى تهلك.»
ووقف الأب أمام ابنته وقال وهو يلهث: «أيتها الصغيرة، ماذا تنوين أن تفعلي؟ إن الزواج قسمة ونصيب. وستتزوجين من يختاره لك هذا النصيب. وعليك أن تعلمي أنني لستُ مسئولًا كبيرًا ذا مالٍ وفيرٍ وجاهٍ عريق، وأنَّكِ لستِ جميلة الجميلات، من عظيم حظك أن يكون لك هذا الزوج الثَّرِي، بل من عظيم حظي أنا أيضًا. انظري لقد قرَّر حموك الثري أن يهديني بغلًا كبيرًا، فما أجوده من حمٍ عظيمٍ.»
وكانت جدتي لا تزال قابعة في مكانها مغمضة عينيها. وقد بدَا عليها التعب الشديد من قلة النوم. فراح الأبُ يُحدِّق فيها ثم قال غاضبًا: «إلى متى سَتستمرين في عنادك، اعلمي جيدًا أنه حتى ولو أصبحتِ جثة هامدة، فأنت زوجة لابن عائلة دان، وأنه ليس لك نصيب في مقبرتي الخاصة!»
فابتسمَتْ جدتي ابتسامة تعلوها السخرية مما سمعته.
فرفع الأب يده وصفعها على وجهها صفعة قوية.
وبدت جدتي حزينة، وقد ظهر الشحوب على وجهها الذي كان متوردًا، واستمر وجهها في الشحوب حتى بدا مثل شمس الأصيل. فراحت تعض على أسنانها، وتضحك ضحكات ساخرة، وتنظر إلى أبيها بكل قسوة، ثم قالت: «إنك تخشى فقط … إذا حدث أن … فإنك لن ترى حتى شعرة من بغلك الكبير!»
طأطأتْ جدتي رأسها، وخطفَت عصا الطعام، ثم أخذت بسلطانية الطعام الذي كان لا يزال دافئًا بعض الشيء، وألقت بها بعيدًا، ثم أخذت بسلطانية أخرى ورمتها لأعلى، فراحت السلطانية تبرق أمامها حتى اصطدمت بسقف الحجرة، ثم سقَطَت قِطَع صغيرة ملأت أرجاء الحجرة. ثم ركلَت سلطانية ثالثة، ركلتها ركلةً قويةً لتصطدم بالحائط لتنكسر إلى نصفين. فأصيب الأب بذهولٍ شديدٍ من هول ما رأى، وبقي مكانه صامتًا لفترة طويلة. فقالت الأم: «ابنتي الحبيبة، أخيرًا انتبهْتِ إلى الطعام!»
كانت جدتي قد بدأت نوبة بكاء شديدة بعد أن قامت بتحطيم آنية الطعام، وكان بكاؤها بكاءً عذبًا رقيقًا، يفيض بالمشاعر، بكاء بدموع غزيرة، وتجاوَز بكاؤها حدود الحجرة الصغيرة، ليُسْمَع دَوِيُّه في الحقول الممتدة خارج المنزل، وليمتزج صوت بكائها مع صوت اهتزاز أعواد الذُّرَة في نهاية الصيف. وخلال استغراقها في هذا البكاء الحارِّ المُفجِع، كانت تتنازعها الكثير من الأفكار، وهي غارقة في الذكريات التي مرت بها خلال هذه الأيام الثلاثة منذ أن صعَدَت الهودج، وغادَرت منزل أبيها حتى عادت إليه ثانية على ظهر ذلك الحمار الصغير. فكانت جميع الصور التي مرت أمام عينيها خلال هذه الأيام الثلاثة، وجميع الأصوات التي سَمعَتها، والروائح التي شمَّتْها، كان ذلك كله ينال قدرًا كبيرًا من تفكيرها، بما في ذلك الرياح التي هَبَّت على حقول الذُّرَة، والأمطار التي هطلت أثناء رحلتها، والعواصف وجميع ما عاشَتْه خلال هذه الأيام الثلاثة، تَذكَّرَت الحركات البطولية التي قام بها ذلك الشاب عندما اعترض طريقهم قاطع الطريق، كان ذلك الشاب أقوى وأشجع هؤلاء الشباب الذين كانوا يحملون الهودج، كان زعيم هؤلاء الكلاب. وكان عمره لا يزيد على أربعة وعشرين عامًا، وقد بدَا لها وجهه القوي يخلو من التجاعيد. وتَذكَّرَت أيضًا عندما كان ذلك الوجه القوي قريبًا جدًّا من وجهها، وعندما التقَت شفتاهما. وهنا احمرَّ وجهها وسرى الدم في عروقها. كانت الذُّرَة هي الشاهد الوحيد على لقائهما، لفَّتهما أعوادها وامتلأت سماؤهما برحيق ثمارها. حاولَتْ هي كثيرًا أن تكبح جماح رغبتها، ولكن باءت محاولاتها بالفشل أمام إصرار ذلك الرجل الذي كان يبدو لها مثل فجلة متعفنة. تَذكَّرَت أصابع يده العشرة التي كانت طويلة وقوية مثل مخالب الطيور. وشَعْر رأسه الذي كان قد تركه في ضفائر صغيرة، وسلسلة المفاتيح النحاسية التي كانت معلقة في الحزام الملفوف حول خصره. جلست جدتي تتذكر، وعلى الرغم من بُعْد المسافة التي كانت تفصلها عن ذلك المكان الذي شهد لقاءهما، فإنها كانت تشعر وكأنها تشم رائحة ذلك المكان جيدًا. تَذكَّرتْ ذلك الرجل عندما استلَّ سيفَه الصغير وقام بتقطيع عدد كبير من أعواد الذُّرَة، تَذكَّرَت تلك الرائحة التي كانت تشمها من أعواد الذُّرَة المتقطعة وكأنها رائحة دماء ذكية. وتَذكَّرَت أيضًا ما قاله لها ذلك الرجل: عليك أن تفكري فقط في العودة إلى هنا بعد ثلاثة أيام! لا تزال تَذكُر جيدًا ذلك الشَّرَر الذي لمحته في عينيه حينما كان يوجه حديثه إليها. وأَحسَّت جدتي أن المستقبل الذي ينتظرها لَهُو تغيير كبير لم تعهده طيلة حياتها.
يعلم الكثيرون أن البطولة موهبة طبيعية يولد الإنسان وهو مُزَوَّد بها، وأن الروح البطولية روح كامنة داخل الإنسان، وأنها تَتحوَّل إلى تَصرُّف بطولي عندما يصادف الإنسان إغراءات من العالم الخارجي. كانت جدتي آنذاك قد بلغت السادسة عشرة من عمرها، وكانت منذ صغرها تداوم على مختلف أنواع اللعب المحببة لدى الفتيات الصغيرات من القص والتطريز والتصفيف. ولم تكن علاقاتها تَتعدَّى الأخت الكبرى والأخت الصغرى من بنات جيرانهم من الناحية الشرقية والغربية، فأين لها القوة التي تمكنها من تَحمُّل ومواجهة هذه التغيرات الكبيرة التي تَشهدُها حياتها؟ وأين لها القوة التي تجعلها تَتحلَّى بالبطولة في مثل هذه المواقف الخطيرة؟ هذه أمور يصعب توضيحها.
وخلال نوبة البكاء الطويلة التي قَضَتْها جدتي في حجرتها بمفردها، أقول: لم تشعر خلال ذلك بحجم المعاناة التي تَعرَّضَت لها، بل وتنتظرها فيما بعدُ، ولكنها على العكس تمامًا أَحسَّت وأدركت أن بداخلها شعورًا بالسعادة، نعم فقد كانت تبكي وهي تتذكر مشاعر السعادة والسرور والمعاناة والحزن التي عاشتها خلال الأيام الثلاثة الأخيرة، وأحسَّت أن صوت البكاء الذي تسمعه إنما هو صوت موسيقى تعزف من مكان بعيد. وأخيرًا راحت تُفكِّر في أمر هذه الحياة، أدركت أنها قصيرة مثل حياة الأزهار الصغيرة التي تنتهي بانتهاء فصل الربيع، فلماذا كل هذا الخوف الذي يسيطر عليها؟
وسمعَتْ صوت أبيها يناديها باسمها قائلًا: «حان وقت الرحيل يا جيو إر! هيا بنا، هيا بنا، هيا بنا!»
طلبَتْ جدتي بعض الماء وغسلَت وجهها، ثم وضعَت عليه بعض المساحيق. ونظرت إلى المرآة، وفكت دبابيس الشعر التي كانت تثبت بها شعرها الطويل المرسل، فتفَرَّق شعرها الكثيف، وانساب على ظهرها. ووقفت أعلى المصطبة، وأخذت المشط الخشبي بيدها اليمنى، وبدأت تمشط شعرها الطويل، بينما كانت يدها اليسرى تقوم بتجميع خصلات الشعر ولفها أمام صدرها. وكان شعرها يتميز بأنه شعر أسود ناعم طويل ذو لمعان قوي. وهكذا مَضَت تُرتِّب خصلات شعرها التي انتهت من تمشيطها جيدًا، وراحت تثبتها ببعض الدبابيس الصغيرة. كما قامت بتهذيب خصلات الشعر التي تنزل على جبينها. ثم قامت بربط قدميها الصغيرتين، وارتدت زوج الجوارب الصغير الأبيض، وارتدت سروالها الطويل، وانتعلَت الحذاء المطرز، وانتبَهَت إلى ضرورة أن تكون قدماها الصغيرتان بارزتين.
كانت قدماها الصغيرتان أول ما لفَت انتباه السيد الثَّرِي دان يان شيو، كانت هاتان القدمان الصغيرتان أيضًا أول ما حرك شهوة الشاب حامل الهودج يو جان آو. وكانت جدتي شديدة الفخر والاعتزاز بقدميها الصغيرتين. فإذا كانت الفتاة تمتلك قدمين صغيرتين فإنها ستفوز بالزَّوْج المناسب مَهمَا كان قُبْح وجهها، أما إذا كانت الفتاة تمتلك قدمين كبيرتين، فإنها ستظل عانسًا حتى لو كانت في جمال الحُور العين. كانت جدتي تمتلك قدمين صغيرتين ووجهًا جميلًا، كانت جميلة الجميلات، أعتقد أن أقدام النساء قد تحولت خلال فترة زمنية طويلة إلى عضو جنسي مهم، فلقد كانت الأقدام الصغيرة تمنح الرجل قوة وشهوة جامحة. وأخيرًا انتهَتْ جدتي من لباسها وزينتها وخرجت إلى خارج الحجرة. وكان الأب قد جهَّز حماره، ووضع على ظهره حاشية مناسبة. وراح الحمار ينظر إلى جدتي. وانتبهت جدتي إلى نظراته، وأحسَّتْ بأن هذا الحيوان لديه القدرة على إدراك ما يدور بداخلها الآن. فرفعَت رجلها وصعدت إلى أعلى ظهر الحمار الصغير. ولم تجلس على ظهر الحمار كما تجلس النساء على ظهور الحمير والبغال والخيل في ذلك الحين، ولكنها جعَلَت ظهر الحمار بين رجليها الاثنتين. فطلب منها أبوها أن تجلس كما تجلس النساء على جانب من ظهر الحمار، فرفضَت وركلَت الحمار في بطنه حتى يُسرع في السير. ونفخَتْ صدرها وراحت تنظر إلى الأمام غير عابئة بما كان وبما سيكون.
وهكذا ذهبَتْ جدَّتي ولم تَعُد. وفي البداية كان أبوها هو الذي يمسك الحبل ليجر الحمار، وما إن وصلوا إلى خارج حدود القرية، قامت جدتي بسَحْب الحبْل وجعلَت تقود الحمار بمفردها. وراح الأب يجري خلف الحمار. وخلال الثلاثة أيام الأخيرة، كانت قد هطلت نوبة من الأمطار الرَّعْدية، ونظرت جدتي إلى يمين الطريق فوجدَت بعض الذُّرَة التي بدَت أوراقها ذابلة. فعرَفَت على الفور أن هذه المنطقة قد تأثَّرَت بالرعد الشديد، وتَذكَّرَت زميلتها تشينغ إر التي كانت قد تُوفِّيَت في العام الماضي بسبب عاصفة رعدية شديدة، كانت زميلتها شابَّة في السابعة عشرة من عمرها، احترق شعرها وتمزَّقَت ملابسها، وامتلأ ظهرها بالكثير من التجاعيد، وهناك من ذَكَر أن هذه التجاعيد لم تكن بسبب هذه العاصفة الرَّعْدية، وإنما كانت تجاعيد وُلِدت بها الفتاة. وانتشرت الأقاويل في البلدة لتقول إن تشينغ إر أَوْدَت بحياتها بسبب طمعها في الأموال، وأنها قد قَضَت أيضًا على حياة طفل صغير. يذكر أن تشينغ إر أثناء سَيْرها في الطريق سمعتْ صوت بكاء طفل صغير، فاقتربتْ منه لتتصَفَّح أمْره، فوجدَت طفلًا صغيرًا ملفوفًا في صُرَّة. فراحت تفتح الصرة لترى الطفل، فظَهر لها طفل ذَكَر وإلى جانبه قصاصة صغيرة مكتوب عليها: أبي عمره ثمانية عشر عامًا، وأمي فتاة في السابعة عشرة من عمرها، وأنجبَا طفلًا اسمه لو شي. وتزوَّج أبي بالأخت الكبرى جانغ إر صاحبة القدمين الكبيرتين من القرية الغربية، وتستعد أمي للزواج من با يان تزه من القرية الشرقية، هان عليهما أنْ يُلقِيَا برضيعهما، وكانَا قد غرقَا في دموعهما من شدة الموقف، وحاولَا أن يخفيَا دموعهُمَا حتى لا يفتضح أمرهما. وأعلنَا أن الأسرة التي ستحتضن لو شي وتقوم بلفه بقطعة من الحرير ستحصل على مكافأة قدرها عشرون دا يانغ، فليخبر القاصي الداني، ولتنقذوا هذا الرضيع. وحكى الكثيرون أن الفتاة تشينغ إر كانت قد أخذَت بقطعة من الحرير لفت بها الطفل، وحصلت على المكافأة الكبيرة، غير أنها قامت بإلقاء الطفل داخل حقول الذُّرَة، ومن ثم فقد أصابتها لعنة السماء. وبما أنَّ جدتي كانت صديقة حميمة للفتاة تشينغ إر، لم تُصدِّق ما تداوله الناس حول موت صديقتها، ولكن بمجرد أن فَكَّرَت في أمر هذه الحياة الإنسانية، وأنه من الصعب التَّكهُّن بالحياة والموت، لم تستطع إخفاء ما بداخلها من حزنٍ وخوفٍ.
كان الطريق لا يزال رطبًا بعد توقُّف تلك الأمطار الرعدية، نظَّفَت مياه الأمطار الطريق جيدًا، وتركَت بعض النتوءات في مناطق مختلفة من الطريق. وهكذا قام الحمار الصغير بترك أثر أقدامه مرة ثانية على هذا الطريق الذي يعرفه جيدًا. وظهرت أزهار الأقحوان الكبيرة وأوراقها مُغطاة بطبقة من الطين. بينما كانت بعض الجَنادِب تملأ أعواد الأعشاب البرية وأعواد الذُّرَة، وهي تهز أجنحتها مُصْدِرة صوتًا حزينًا. اقتربت نهاية الصيف الطويل، وبدأت تنتشر تباشير الخريف، فبدأت جماعات من الجراد التي أحسَّت بقرب حلول الخريف، بدأت تخرج من داخل حقول الذُّرَة ببطونها الممتلئة لتتجمع وتتركز في عرض الطريق، لتعلن استعدادها للبيض وسط هذا الطريق العام.
مد الأب يده وكسر غصنًا من أعواد الذُّرَة، وراح يضرب به الحمار ليحثه على السير، فرفع الحمار ذيله قليلًا، وأسرع بعض الشيء، ثم عاد ثانيةً إلى مشيته المعهودة بين السرعة والبطء. وبدَا أن الأب كان مسرورًا من أعماق قلبه، حيث كان يسير خلف الحمار وهو يتغنَّى بأغنية «خاي ماو تزه تشيانغ» المعروفة في ريف دونغ بيي بمدينة قاو مي. فكان الأب ينشد: «شرب وو دا لانغ السم وشعر بألم شديد … وأحس باضطراب شديد شمل أمعاءه ورئته … تزوج الرجل القبيح من حسناء فاتنة، فحَلَّت مصيبة كبيرة على العائلة … آه … آه، وأحس وو دا بامتعاضٍ شديدٍ في بطنه فراح يأمل فقط في حل مشكلة أخيه الصغير … فعاد إلى المنزل لرفع الظلم عن أخيه ورماه بنظرات ساخرة.»
اشتد خفقان قلبها عند سماعها غناء أبيها العجوز، وسيطرت عليها حالة من السكون. وظهَرت أمامها فجأة صورة ذلك الشاب الذي التقَت به قبل ثلاثة أيام، والذي كان ممسكًا بسيفٍ صغيرٍ وهو ينظر إليها نظرات عابسة. وراحت تُفكِّر في أمره، فمَن يكون ذلك الشاب؟ وما هدفه؟ وعلى الرغم من أنها لم تكن تعرفه من قبل، فإن ما تراه الآن ليس إلا حالة من التقاء السمك بالماء بعد رحلة طويلة على الشاطئ، وبعد معركة داخلية من التردد في الاستجابة إليه والتسليم له، فإنها استجابت لترتيبات القدر، وتَنهَّدَت تنهُّدَات عميقة.
أطلقت العَنان لحمارها الصغير، بينما كانت تستمع إلى صوت غناء أبيها الشيخ الكبير، وأخيرًا وصلت بعد رحلة من المعاناة إلى نفق الضفادع. فراح الحمار يُطأطئ رأسه ويرفعها، وأنفه مغلق تمامًا، ثم راح يقفز ثابتًا في مكانه. فضربه الأب بعود الذُّرَة على مُؤخِّرته ليواصل السَّير، ثم ضربه على قدميه الخلفيتين وهو يلعنه: «إلى الأمام أيها الحمار الخسيس! إلى الأمام أيها الحيوان الهجين!» وهكذا استمر في ضربه حتى سمعَت جدتي صوت عود الذُّرَة على ظهر الحمار، غير أن الحمار لم يستجب للشيخ الكبير وتحذيراته، بل كان يبطئ الخُطَى ويتراجع نحو الخلف. وشمت جدتي رائحة كريهة، فنزلت من على ظهر الحمار، ووضعت كمها على أنفها لعلها تتقي شر هذه الرائحة الكريهة، ومَدَّت يدها لتسحب الحمار. فرفع الحمار رأسه ومضى خلف الفتاة، وقد فاضَت عيناه بالدموع. فخاطبته جدتي قائلة: «أيها الحمار الشجاع، تحمَّل قليلًا وامضِ إلى الأمام، واعلم جيدًا أنه لا مستحيل عند أهل العزيمة.» تأثر الحمار بكلامها، ورفع رأسه ونهق بصوت مرتفع، ثم مضى يشق طريقه بسرعة فائقة، حتى إنها شعرت بصعوبة كبيرة في اللحاق به. وعندما مر الحمار وصاحبته بجثة قاطع الطريق، حاولت جدتي أن تنظر إليها نظرة خاطفة، لاحظت تَكوُّم أعداد كبيرة من الذباب والحشرات حول الجثة.
وسحَبَت جدتي الحمار لتتخطى نفق الضفادع، ثم صعدت على ظهره من جديد، وتركت لأنفها العنان في شم رائحة نبيذ الذُّرَة القادمة مع الرياح الشمالية الشرقية. كانت جدتي فخورة جدًّا بشجاعتها التي أظْهرَتها مؤخرًا، غير أن الحيرة عادت تتملكها من جديد. فلا تزال قرية زوجها دان بيان لانغ تبعد عنها كثيرًا، وبينما هي مُستغرِقة في شَمِّ رائحة نبيذ الذُّرَة الذكية التي كانت تشتد شيئًا فشيئًا، أحسَّت بأن عظامها بدأتْ تَتجمَّد من شدة البرد. وانتبهَتْ إلى صوت رجل داخل حقول الذُّرَة على الناحية الغربية للطريق يَتغنَّى بصوت خشن قائلًا:
راح الأب الشيخ يصيح بصوت مرتفع موجِّهًا صياحه إلى صاحب ذلك الصوت قائلًا: أنت يا هذا، يا من تَتغنَّى داخل الذُّرَة! اخرج لمواجهتي، فما هذا الهراء الذي تصيح به!
٣
وبعد أن انتهى أبي من أكل قطعة الفطير، راح يدوس على بعض الحشائش البرية التي انعكست عليها أشعة الغروب في طريقه للنزول من أعلى حافة النهر، ثم مضى حتى وقف على ضفة النهر. ونظر إلى السيارات الأربعة، وقد تَحطَّمت إطارات السيارة التي كانت في المقدِّمة تمامًا، والتي لا تزال في مكانها أعلى الجسر الحجري على نهر موا شوى، بينما يظهر على سطح السيارة وعلى جسمها بقايا دم. رأى الجزء الأعلى من جسد أحد الجنود اليابانيين معلقًا على سطح السيارة، وقد بدَا رأسه وكأنه كاد ينفصل عن رقبته. وقد امتلأت خوذته بدمائه. واستمع إلى صوت مياه النهر التي بدت كأنها تبكي بشدة. وحدَّق في حقول الذُّرَة المجاورة التي لا تتوقف عن النمو. وفي ضوء الشمس الذي بدَا غير واضح أعلى صفحة مياه النهر الحزين. واستمع إلى صوت بكاء الحشرات الصغيرة التي كانت تختفي أسفل الحشائش البرية. ونظر إلى السيارتين الثالثة والرابعة اللتين كادتَا أن تحترقَا بالكامل. وسط كل هذه الأصوات والمناظر التي سمعها وشاهدها، راح أبي ينظر ويستمع إلى صوت نزيف الدم الذي كان يسيل من جثة الجندي الياباني. كان أبي حينذاك يزيد قليلًا عن الرابعة عشرة من عمره. فإذا به ينظر إلى شمس اليوم التاسع من شهر أغسطس لعام ١٩٣٩م حسب التقويم القديم، وقد توارت تمامًا، وإلى الجثث التي تَركَت دماؤها أثرًا واضحًا على جميع الأشياء المحيطة به، وإذا به ينظر إلى وجهه النحيف وقد تلطخ بقطع صغيرة من الطين الممزوج بدماء تلك الجثث. ثم جلس على موقع مُتقدِّم من النهر إلى جوار جثة زوجة العم وانغ ون إي، وعندما لامست شفتاه مياه النهر، إذا به يشعر بامتعاضٍ شديدٍ من مياهه، وقد أحسَّ بطعم ورائحة الدماء، وأحس بتشنج شديد سيطر على حلقه تمامًا، ومضى يجاهد نفسه حتى عاد حلقه إلى حالته الطبيعة. وعندما دخلت مياه نهر موا شوى حَلْقَه، رطَّبتْ جفافَه فشعر ببعض السعادة الممتزجة بالمعاناة، فعلى الرغم من رائحة الدم القوية التي تفوح من مياه النهر، فإنه لم يتوقف عن الشرب حتى ارتوى بعد ظمأ شديد. وعندما اقترب حلول الظلام، وبقي بصيص من أشعة الشمس الحمراء، بدأت رائحة احتراق السيارتين الثالثة والرابعة تتضاءل بالتدريج. وفجأة سمع صوتًا جعله يشعر بذهول شديد، رفع رأسه وراح يتتبع الصوت، فإذا به صوت انفجار بقايا إطارات السيارات، استمر في مشاهدتها وهي تطير أعلى وحول الجسر الحجري مثل الفراشات السوداء حتى سقطت داخل مجرى النهر، كما شاهد أجولة الأرز الياباني، وقد ملأت صفحة مياه النهر. واستدار بجسمه ليرى جثة تلك المرأة القصيرة زوجة وانغ ون إي الملقاة إلى جانب النهر، بدت غارقة في دمائها. فصعد أبي إلى أعلى حافة النهر، وراح ينادي على أبيه بصوت مرتفع: «أبي!»
كان جَدِّي يقف آنذاك أعلى حافة النهر، وقد بدَا عليه الإرهاق الشديد، ونظر أبي إلى شعر والده فوجده قد ابيضَّ، فشعر بمزيد من الحزن والأسف على ما أصابه، ثم اقترب منه ودفعه برفقٍ قائلًا: «أبي! أبي! ماذا بك؟»
فلاحَظ على وجهه خطين من الدموع، وسمع صوت بكاء يأبى أن يخرج من حلقه. ورأى ذلك الرشاش الذي تركه له القائد لينغ شفقة به، رأى الرشاش الياباني مُلقًى أمام جَدِّي وكأنه ذئب كبير يحرسه، ونظر إلى فوهة الرَّشَّاش وقد بدت وكأنها عين كلب.
«أبي، فلتتحدث إليَّ، ولتأكل هذه القطعة من الفطير، ثم لتذهب لتروي ظمأك ببعض الماء، وإلا فإنك ستموت من الجوع والعطش.»
فمَدَّ الأب رقبته إلى الأمام، وقد بدا في غاية الإرهاق. ثم جلس على حافة النهر، ووضع يديه حول رأسه وصمت لحظات قليلة، ثم رفع رأسه. وراح ينادي أبي قائلًا: «دوو قوان! ابني الحبيب، هل ترى أننا مُنِينا بهزيمة نكراء؟»
فنظر أبي إليه وهو في ذهولٍ تامٍّ. وكانت عَينَا أبي مفتوحتين وقد أظهرتَا بعض الشجاعة التي ورثها عن أمه، أضاءت هذه النظرات التي تبعث على الأمل في هذه الظروف الصعبة، قلب جَدِّي الحزين.
قال الابن: «أبي، أرجو منك ألا تشعر بالحزن الشديد، فسأتعلم إطلاق الرصاص، وسأتقنه كما كنتَ تُتقنُ الصيد في صباك، ثم سآخذ بثأرك من ذلك الكلب اللعين لينغ ماتزه!»
قفز الأب في مكانه، وأصدر صوتًا ما بين البكاء والضحك. وقد سالت بعض الدماء من بين شفتيه: «أحسنتَ يا صغيري! نعم لقد أحسنتَ، ابني العزيز!»
مد جَدِّي يده والتقط قطعة الفطير التي كانت قد أَعدَّتْها جدتي بيديها، وراح يلتهمها بشراهة، وقد ظهرت بعض آثار الدم حول شفتيه. وعندما سمع أبي صوت الطعام وقد اختنق داخل جوف أبيه، خاطبه قائلًا: «أبي، فلتنزل إلى النهر لتروي عطشك وحتى ينزل الطعام بسهولة إلى معدتك.»
نزل جَدِّي عن حافة النهر وهو يتمايل، ثم جثَا بركبتيه على بعض الحشائش على ضفة النهر، ومد رقبته الطويلة يشرب من مائه، وكأنه بغل أو حصان. ونظر إليه أبي، فإذا به بعد أن ارتوى من مياه النهر يغطس رأسه حتى النصف الأعلى من رقبته داخل المياه، وراح يُحرِّكه داخل المياه. وترك رأسه داخل المياه لوقتٍ غير قصيرٍ، كان أبي يراقب جدي وقد نسي رأسه في المياه، فانتابه بعض القلق على أبيه، وأخيرًا رفع الأب رأسه، وأخذ نفَسًا عميقًا، ثم وقف وصعد إلى أعلى حافة النهر، حتى وقف أمام ابنه. فنظر الابن إلى رأس أبيه، كانت لا تتوقف عن التقطير. رفع الأب رأسه، فتطايرت حوله كمية كبيرة من قطرات المياه التي بدت وكأنها حبات من اللؤلؤ.
وقال الأب مخاطبًا ابنه: «دوو قوان، فلترافقني حتى نذهب للاطمئنان على أعضاء الفريق!»
سار جَدِّي يتمايل داخل حقول الذُّرَة الواقعة على الجانب الغربي من الطريق، ثم تبعه أبي في عجالة. وقد داسَا بأقدامهما الكثير من أعواد الذُّرَة، ومضيَا داخل حقول الذُّرَة، وكانَا ينحنيان بين الحين والآخر لمشاهدة أعضاء الفريق الذين كانوا يرقدون داخل الذُّرَة في صمتٍ تامٍّ. لقد ماتوا جميعًا، راح جَدِّي وأبي يُحرِّكان جثث أعضاء الفريق لعلهم يجدون من بينها أحياء، لكن باءت محاولتهم بالفشل، حيث مات جميع أعضاء الفريق. ورفع جَدِّي وأبي أيديهما، وقد بدت ملطخة بالدماء. نظر أبي إلى اثنين من أعضاء الفريق كانت جثتاهما مَلقِيَّتَين هناك في أقصى الطرف الغربي، واكتشف أن هناك مسدسًا مَحلِّي الصُّنع يغلق فم إحدى الجثتين، بينما كانت الجثة الثانية ملقاة على الأرض وبها خنجر مُعلَّق في بطنها. راح جَدِّي يُقلِّب في الجثتين، بينما اقترب أبي منهما لينظر إلى أقدامهما المكسورة ومعدتيهما المحطمتين. فأخذ جَدِّي نفَسًا عميقًا، ثم مدَّ يده لينتزع المسدس، من داخل فم الجثة الأولى، والخنجر من بطن الجثة الثانية.
تبع أبي جَدِّي في السير على الطريق العام الذي بدَا منيرًا وسط السماء المكفهرة، ومضيَا يُقلِّبان النظر في جثث أعضاء الفريق التي كانت ملقاة في مناطق مُتفرِّقة داخل حقول الذُّرَة على الناحية الشرقية من الطريق. لاحظَا أن جثة العم ليو دا خاو لا تزال في مكانها وعلى هيئتها، وبدا العم ليو ممسكًا بالبوق وكأنه في وضع الاستعداد للنفخ فيه. فدنَا منه جدي، وقال بصوت متأثر: «يا ليو دا خاو!» فلم يَرُد عليه العم ليو، فَتقدَّم أبي ودفع العم ليو دفعة بسيطة ثم صاح: «عمي الكبير!» فسقط البوق على الأرض، وعندما أحنى أبي رأسه ليلتقط البوق، رأى وجه العم ليو قد أصبح جامدًا تمامًا وكأنه قطعة حجرية.
وأخيرًا عثر جَدِّي وأبي على بُعد عشرات الخطوات من حافة النهر وداخل حقول الذُّرَة التي لم تتعرض للتخريب الخطير، على اثنين من أعضاء الفريق هما فانغ تشي، و«الأخ الرابع المسلول» (وقد أُطْلِقَت عليه هذه التسمية؛ لأن ترتيبه بين أخوته هو الرابع، كما أنه أصيب في صغره بمرض السُّل الرئوي)، ولاحظَا أن قدم المسلول مصابة بطلق ناري، وأنه قد أغمي عليه تمامًا بسبب شدة النزيف. فوضع جَدِّي يده الملطخة بالدماء على شفتي المسلول، أحس بالرائحة والنفس الجاف القادم من أنفه. أما أمعاء فانغ تشي فقد بدت محشورة داخل بطنه، حاول سد الجرح بورقة من أوراق أعواد الذُّرَة. فما إن انتبه فانغ تي إلى القائد يو وابنه حتى راح يخاطبهما: «أيها القائد يو … انظر إليَّ لقد انتهيتُ … وإذا قابلتَ زوجتي … فأَعْطِها بعض المال … ولا تَدعْها تَتزوَّج من بعدي … فإنه ليس لدينا أبناء … فإذا ما غادرت زوجتي … فستنتهي عائلة فانغ.» كان أبي يعلم أن فانغ تشي لديه ابن يبلغ عمره ما يزيد على عامٍ واحدٍ، وأن زوجته كان لديها ثدي كبير ممتلئ باللبن، وكان كافيًا لإشباع طفلهما.
قال جدي: «أخي العزيز، دعني أحملك على ظهري لتعود إلى منزلك.»
فجلس جَدِّي مُقرْفِصًا، ثم شد ذراع فانغ تشي ليجعله خلف ظهره، فسمع صوت صراخ فانغ تشي، فنظر أبي إلى فانغ تشي، فإذا به يتألم من سقوط ورقة الذُّرَة التي كانت تسد فوهة الجرح، وشم رائحة الدماء المنبعثة من داخل بطنه. وضع جَدِّي فانغ تشي على الأرض، فراح فانغ تشي يواصل صراخه قائلًا: «أخي الأكبر … هذا يكفي هذا يكفي … أرجو ألا تجعلني أتألَّم أكثر من ذلك … فَلْتُرِحْني برصاصة واحدة.»
قَرْفَص جَدِّي ثانيةً، وأمسك بيد فانغ تشي، ثم قال: «أخي العزيز، دعني أحملك لنبحث عن السيد جانغ شين إي، فإن بإمكانه أن يعالج مثل هذه الجروح.»
– «أخي الأكبر … فلتسرع … ولا تدعني أعاني كل هذه المعاناة … فإني أصبحتُ إنسانًا لا حول له ولا قوة.»
زَرَّ جَدِّي عينيه، وراح يتأمَّل سماء شهر أغسطس المصفرة والمزينة بالكواكب اللامعة، ثم قال لأبي: «دوو قوان، هل لا يزال هناك طلقات نارية داخل مسدسك؟»
رد أبي: «نعم لا يزال يوجد بعض الطلقات.»
فأخذ جَدِّي المسدس من يد أبي، وفتح بيت النار، ثم نظر إلى السماء المصفرة، ولفَّ عَجَلة المسدس. ثم قال: «أخي فانغ تشي، فَلْتطمئن كثيرًا، فلن تجوع زوجتك وطفلك ما دمتُ أَمتَلِك قُوت يومي.»
هز فانغ تشي رأسه ثم أغمض عينيه.
ورفع جَدِّي المسدس، وقد أحس أنه أصبح ثقيلًا جدًّا، بالضبط كما لو كان يرفع بيده صخرة تزن ما يزيد على خمسمائة كيلوجرام، وارْتَجفَت جميع فرائصه.
ففتح الأخ فانغ تشي عينيه ونظر إلى جَدِّي قائلًا: «أخي الأكبر.»
وفجأة حرَّك جَدِّي وجهه قليلًا، فخرجت كرة من اللهب من فوهة المسدس، أضاءت رأس فانغ تشي الناعمة. فتهاوى جسده بسرعة خرجت أمعاؤه تمامًا، ونظر أبي إلى أمعاء فانغ تشي، ولم يكن يصدق بأن بطن الإنسان تحوي داخلها هذا الكم من الأمعاء.
نظر جَدِّي إلى المسلول نظرة، ثم قال: «وأنت أيضًا أيها الأخ المسلول. فَلْتَسترِح مبكرًا، حتى لا ندع فرصة لهؤلاء اليابانيين الملاعين ينهون حياتك بأيديهم!» وأطلق جَدِّي الرصاصة الأخيرة على المسلول.
وبعد أن قتل جَدِّي هذا القاتل الذي اعتاد أن يزهق الأرواح بلا حساب. بعد أن قتل المسلول لم يستطع أن يتمالك نفسه من شدة الموقف، فسقط من يده المسدس، وأحسَّ بأن يده شُلَّت تمامًا، ولم يستطع أن ينحني قليلًا ليأخذ المسدس ثانيةً.
مال أبي على الأرض، والتقط المسدس ووضعه داخل حزامه الملفوف حول خصره، وحاوَل أن يشد أباه الذي كان شاردًا تمامًا قائلًا: «أبي، فلنعد إلى المنزل، فلنعد إلى المنزل.»
وهكذا سحب أبي جَدِّي وصعدَا إلى حافة النهر، وسارَا بخُطًى بطيئة صوب الغرب. ونظرَا إلى السماء، فإذا بقمر اليوم التاسع من شهر أغسطس وقد لاح في الأفق، وأضاء القمر ظهرهما، وانعكس ضوؤه على نهر موا شوى العظيم. وراحت جماعات الأسماك الصغيرة تنطلق وتحوم حول نفسها بعد أن استفزَّتْها مياه النهر الممتزجة بالدماء. امتزجت نسمات برودة مياه النهر مع نسمات الدفء المنبعثة من داخل حقول الذُّرَة، لتُكوِّنَا معًا هالة من الضباب الخفيف الصافي. وتذكر أبي الضباب الذي شاهده فجر ذلك اليوم عند بدء الرحلة، وأحس بأن هذا اليوم مر عليه كأنه عشر سنين كاملة، بل مر كلمح البصر. وتذكر أمه عندما خرجت تُودِّعه وسط ذلك الجو الضبابي، وبدَا له مشهد توديعها بعيدًا وقريبًا في آنٍ. وتذكَّر الصعوبات التي لاقاها خلال السير وسط حقول الذُّرَة، ومشهد نزيف أذن العم وانغ ون إي، ومشهد تَقدُّم أعضاء الفريق الأربعين إلى الطريق العام، وخنجر العم الأخرس، ورءوس الشياطين اليابانيين، ومؤخرة ذلك الشيطان العجوز، ومشهد سقوط أمه على حافة النهر … ومشهد سقوط وتَناثُر سلة الفطائر … وسقوط أعواد الذُّرَة الحمراء … ومشهد سقوط أعواد الذُّرَة وكأنها أبطال تتساقط في أرض المعركة.
حمل جَدِّي أبي الذي كان قد غلبه النعاس أثناء سيره، ثم أحس جَدِّي بأن المسدس الذي كان يعلقه أبي عند خصره يَخِزُه في صدره، فتألَّم الأب كثيرًا، ثم مضى يفكر في أن هذا المسدس هو في الأصل مسدس الرفيق رن نائب القائد، ذلك الشاب الأسمر النحيف الوسيم الذي كان يحمل مؤهلًا جامعيًّا. ثم تَذكَّر الأب أن هذا المسدس هو نفسه الذي قتل نائب القائد والرفيق فانغ تشي والرفيق «المسلول» وود لو ألقى به في عرض نهر موا شوى، آه من هذا المسدس المشئوم! نعم إنه يفكر فقط في التَّخلُّص من هذا المسدس، فانحنى قليلًا، ورفع ابنه النائم على ظهره، ليخفف عن نفسه الألم الذي يسببه له المسدس.
استمر جَدِّي في السير وهو تائه لا يعرف أين يكون، ولا حتى إلى أين يمضي. وبينما هو تائه وقد غلبه الدوار، سمع صوتًا قويًّا. فرفع رأسه يتحقق من الصوت، فإذا به يرى تنينًا يَتلوَّى على حافة النهر البعيدة.
ركز جَدِّي انتباهه قليلًا، وقد بدت أمامه صورة مرتبكة غامضة حينًا وواضحة حينًا آخر، وعندما كانت الصورة تبدو غامضة كان يرى هيئة التنين المفزعة وهو يعدو بسرعة رهيبة، ويهز جسمه الضخم الممتلئ بالحراشف مُحدِثًا صوتًا مسموعًا، ويصيح بصوت قوي جدًّا، وقد اختلطت الأصوات من حولي مُتجمِّعة في صوت قوي مفزع، وكأنه رياح عاتية تهلك جميع ما يقابلها، أما عندما كانت الصورة تبدو واضحة، فكانت عيناي تميز أن ما تراه عبارة عن تسعة وتسعين مشعلًا ناريًّا، وقد بدأت المشاعل تَقتَرِب نحوي تحملها مئات البشر. انعكس ضوء المشاعل النارية على مساحات الذُّرَة الرفيعة جنوب النهر وشماله. حيث سطع ضوء مجموعة المشاعل الأمامية على هؤلاء الذين كانوا يسيرون في الخلف، بينما سطع ضوء المشاعل الخلفية على السائرين في المقدمة. فأنزل جَدِّي أبي من فوق ظهره، وهزه بقوة، ثم قال: «دوو قوان! دوو قوان! استيقظ استيقظ! لقد خرج أهل البلدة لاستقبالنا، انظر إنهم أهل البلدة جاءوا لاستقبالنا.»
سمع أبي صوت جَدِّي المبحوح. ثم نظر إلى عينيه وقد نزلت دمعتان تُعبِّران عن رضاه وسروره بقدوم أهل البلدة.
٤
عندما قام جَدِّي بقتل دان يان شيو وابنه، كان قد بلغ الرابعة والعشرين من عمره. وعلى الرغم من أن لقاء جدتي به وسط حقول الذُّرَة قد خالَطه شعور بالحزن والسعادة في آنٍ، وعلى الرغم من أن جدتي قد ارتكبت تلك الجريمة، وحملت بأبي الذي أصبح فيما بعد ممثلًا لجيل من أجيال قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، على الرغم من ذلك كله فإن جدتي كانت حينها تُعتَبَر زوجة شرعية لأحد أبناء عائلة دان الثرية، لقاؤها بجدي كان لقاءً غير شرعي، كان لقاءً عفويًّا اعتراضيًّا، بالإضافة إلى أن أبي لم يكن قد وُلِد بعدُ، ومِن ثَمَّ فإنني سأَكْتُب عن ذلك الرجل هنا باسم يو جان آو أَدَقُّ مِن أن أطلق عليه جَدِّي.
كانت جدتي قد واجهَت يو جان آو آنذاك حزينة من أن زوجها الشرعي دان بيان لانغ مريض بالبرص، فراح يو جان آو يقطع بسيفه الصغير بعض أعواد الذُّرَة، ثم طلب من جدتي أن تنشغل فقط بأمر العودة إلى هذا المكان بعد ثلاثة أيام، لم تكن جدتي تعي آنذاك ما يرمي إليه قوله، فقد أسكرَتْها نشوة الحب التي أحاطها بها. كان قد أضمر نية التخلص من الزوج الأبرص. وقام ليودع جدتي إلى خارج حقول الذُّرَة، ونظر إليها وإلى الحمار الصغير وإلى أبيها الذي كان في سُكْرٍ شديدٍ. وسمع صوته وهو يناديها بصوت إنسان ثَمِل من كثرة الشراب: «ابنتي … أنت … قضيتِ كل هذا الوقت الطويل لقضاء حاجتك داخل الذُّرَة … إن حماك … سيهدي لنا بغلًا كبيرًا.»
لم تعبأ جدتي بهذيان والدها، وصعدت على ظهر الحمار، وجعلَتْ وجهها تجاه حقول الذُّرَة الممتدة على الجهة الجنوبية من الطريق. كانت تعرف جيدًا أن ذلك الحمَّال الشاب يراقبها من داخل الذُّرَة. وفجأة استطاعت أن تخرج عن الحالة التي كانت تسيطر عليها منذ قليل، وانتبهَتْ إلى أن أمامها الآن طريقًا جديدًا وغريبًا ممتلئًا بحبات تشبه كثيرًا حبات الذُّرَة، وعلى جانبي هذا الطريق تفوح رائحة نبيذ الذُّرَة. ولا تزال هناك مساحات شاسعة من الذُّرَة، ثم اختلطَت الذُّرَة الموجودة في الواقع على جانبي الطريق مع الذُّرَة التي كانت تظهر في خيالها، حتى أصبح من الصعب تمييز الواقعي والخيالي.
كان يو جان آو لا يزال يمسك بأعواد الذُّرَة، وعيناه تُودِّع جدتي وهي تنعطف يمينًا ويسارًا. ثم بدأ يعود إلى محرابه الذي نصبه داخل الذُّرَة، وسقط بقوة وراح في نوم عميق. ونام حتى الغروب، وما إن فتح عينيه رأى سيقان وسنابل الذُّرَة وقد انعكست عليها شمس الغروب. فلَبِس رداءه المصنوع من القش، وهمَّ بالخروج من داخل حقول الذُّرَة التي بدأ يلفها الظلام، وبينما هو كذلك هبت رياح خفيفة تبعها صوت ارتطام أعواد الذُّرَة بعضها ببعض. وأحس ببرودة الجو، فشد رداءه عليه. واصطدمت يده ببطنه الخاوية التي سمع شكواها من شدة الجوع والعطش. وبينما هو شارد هكذا، تذكر أنه قبل ثلاثة أيام مضَتْ، وعندما كان يسير من هذا المكان حاملًا تلك المرأة على ظهره، كان قد رأى لافتة مطعم بالية أسفل أحد المساكن عند مدخل القرية. وهكذا أرغمه الشعور بالجوع والعطش على كسر حاجز الخوف والتردد، فهَمَّ بالخروج من حقول الذُّرَة، وأسرع الخُطَى يقصد ذلك المطعم. وراح يفكر في أنه قد جاء إلى هذه البلدة قرية دونغ بيي ليعمل في شركتها لخدمات الأفراح والجنائز منذ أقل من عامين، وأن سكان المنطقة القريبة من القرية لن يَتعرَّفوا عليه. وعزم على الذهاب بسرعة إلى الحانة التي يوجد بها المطعم ليسد جوعه ويروي عطشه، ثم العودة بأسرع ما يمكن إلى مأواه داخل حقول الذُّرَة. وما إن فكر في هذه الخطة التي رسمها لنفسه، حتى راح يتأمَّل منظر الغروب والظلمة التي بدأت تلف المكان. ثم تَوجَّه صوب اليسار، ثم سار يقصد قرية دان بيان لانغ الزوج الشرعي لجدتي. وكانت الحقول قد أصبحت في سكونٍ تامٍّ، نامَ جميع أهل القرية من الفلاحين الذين يعملون في هذه الحقول، فلم يكن أحد منهم يجرؤ على الوجود خارج منزله ليلًا، وبمجرد دخول الظلام، كانت الحقول تتحول إلى فضاء يلفه ظلام الليل وسكونه. وقد حالفه الحظ في تلك الأيام، حيث لم يعترض طريقه أي من قُطَّاع الطُّرق . وعندما دخل يو جان آو القرية كان الدُّخان يتصاعد من مطابخ منازلها، ورأى شابًّا وسيمًا يأتي من ناحية البئر وهو يحمل جَرَّتين ممتلئتين بالمياه الصافية. ودلف يو جان آو إلى داخل الحانة التي كانت خالية من الأسوار، فيما عدا بسطة صغيرة من الطين تقسم المكان إلى نصفين، ورأى بالداخل مَوقِدًا ومِرْجلًا وجَرَّة كبيرة. وخارج الحانة توجد منضدتان قديمتان، تحيط بهما في غير انتظام مجموعة من المقاعد الصغيرة الضيقة. وأعلى البسطة يوجد مجموعة من أدوات النبيذ. وهناك شيخ ممتلئ يقف عند الموقد. وما إن نظر يو جان آو إلى الرجل حتى عرفه على الفور، كان ذلك الرجل يُدعَى «قاو لي بانغ تزه» وقد اشتهر بقتل الكلاب. وتذكر يو جان آو أنه رأى هذا الرجل في منطقة ما جيان جيي شانغ، وقد تَمكَّن من قتل كلب خلال أقل من نصف دقيقة، حتى إن جميع الكلاب في ذلك المكان كانت ترهبه ولا تجرؤ على التقدم نحوه.
وجلس يو جان آو على أحد المقاعد، ثم قال: «أعطني كأسًا من النبيذ أيها المعلم!»
فلم يَتحرَّك الشيخ السمين من مكانه قيد أُنْمُلَة، وراح يحرك مقلتيه الرماديتين.
فصاح يو جان آو: «يا معلم!»
فنزل العجوز من أعلى المصطبة وفتح جلد كلب. كان يتغطى بجلد كلب أسود، ويفترش جلد كلب أبيض. رأى يو جان آو جلودًا لكلاب خضراء وزرقاء وملونة مُعلَّقة على الحائط.
ومد الشيخ يده، وأخرج من أسفل البسطة سلطانية حمراء بُنِّيَّة، وراح يصبُّ داخلها بعض النبيذ.
فسأله يو جان آو: «ما هذا الشيء الذي تستخدمه في صب النبيذ؟»
فأجابه العجوز بلهجةٍ قاسيةٍ: «رأس كلب!»
فقال يو جان آو: «إذًا أرغب في أكل لحم الكلاب!»
فرد العجوم: «لا يوجد سوى لحم رأس الكلب!»
فقال يو جان آو: «فليكن لحم الرأس!»
فتح العجوز غطاء القِدْر، ليرى يو جان آو أن بداخله رأس كلب يغلي.
فصاح يو جان آو: «أرغب في أكل لحم الكلاب!»
فلم يُعِرْه الشيخ أدنى اهتمام، وانشغل بالبحث عن سكين، وراح يقطع الرأس الذي كان يغلي داخل القِدْر، ثم وضع ما انتهى منه أعلى البسطة. فراح يو جان آو يسبه قائلًا: «أخبرتك أنني أرغب في أكل اللحم!»
فدفع الشيخ الرأس أمامه قائلًا: «إما أنْ تأكل، وإما أنْ تنصرف.»
– «هل تَجْرُؤ على سَبِّي؟»
فرد الشيخ: «فلتجلس أيها الشاب!»، «هل ترى أنك تستحق أكل اللحم؟ لقد تركتُ اللحم ليأكله السيد خوا بوه تزه.»
كان هذا السيد خوا بوه تزه زعيم عصابة قُطَّاع طُرق مشهور في قرية دونغ بيي، حتى إن يو جان آو قد ذُهِل بمجرد سماع اسمه. وتقول الإشاعات المختلفة إن خوا بوه تزه بارع في إطلاق الرصاص، حتى إنه يُلقَّب «بملك النار»، وما إن تسمع رصاصة في أي مكان داخل القرية، حتى يُؤكِّد الجميع أنه هو الذي أطلقها. وعلى الرغم من أن يو جان آو لم يكن ليستسلم لقول العجوز، فإنه اضطر للسكوت، ومد يده وحمل سلطانية النبيذ وأمسك بلحم الرأس، وبدأ يلتهمها بشراهة. كان يشعر بجوعٍ شديدٍ. فأكل حتى شبع، وراح يتجشأ.
فقال العجوز: «دا يانغ واحدًا.»
«معي سبع عملات نحاسية فقط.» أخرج يو جان آو العملات النحاسية السبعة ووضعها أعلى المنضدة.
– «دا يانغ كاملًا!»
– «معي سبع عملات نحاسية فقط.»
– «أيها الشاب، هل جئتَ إلى هنا …؟»
«معي فقط سبع عملات نحاسية!»، وقام يو جان آو ليغادر المكان، فتقدم الشيخ إلى أمام البسطة وجذبه إليه. ودخل آنذاك رجل ضخم البِنْية.
فتساءل الرجل الضخم: «يا معلم قاو لي بانغ تزه، كيف لا تشعل المصابيح؟»
فأجاب الشيخ: «لقد تعرضتُ لأحد الذين يرغبون في الأكل بالقوة.»
فبدَا الرجل الضخم عابسًا، ثم قال: «فلتقطع لسانه! أَشْعِل المصباح.»
ترك الشيخ يو جان آو من بين يديه، وتقدَّم نحو البسطة، وأشعل فتيل المصباح. فانعكس ضوؤه على ذلك الرجل الضخم، ليرى يو جان آو الرجل بوضوح، كان يلبس حُلَّة من الحرير الأسود، وحذاءً مصنوعًا من القماش، وبدَا الرجل ضخم البنية، ذا رقبة طويلة فخمن يو جان آو أنه بالتأكيد زعيم عصابة قُطَّاع الطُّرق خوا بوه تزه.
راح خوا بوه تزه يُحدِّق النظر في يو جان آو، ووضع فجأة ثلاثة أصابع من أصابع يده اليسرى على جبهته.
فنظر يو جان آو إليه وهو في حيرة من أمره.
هزَّ خوا بوه تزه رأسه، ثم قال: «…»
قال يو جان آو: «أنا أحد الحمَّالين المأجورين.»
فقال خوا بوه تزه بازدراء: «إذًا فإنك تأكل من طعام موائد المناسبات. وكيف تجرؤ على أن تأكل من الطعام المُخصَّص لي؟»
رد يو جان آو: «إطلاقًا.»
فقال خوا بو تزه: «فَلتَغْرُب عن وجهي، ولأرحم شبابك حتى أمنح لسانك هذا فرصة تقبيل النساء!»
فتراجع يو جان آو بسرعة إلى الخلف، ثم إلى خارج الحانة، وهو لا يعرف حقيقة الشعور الذي يسيطر عليه في تلك اللحظة. فعلى الرغم من أنه يَتحلَّى بالسِّمات الأساسية للعمل كأحد أفراد عصابات قُطَّاع الطُّرق، فإنه لا تزال هناك مسافة كبيرة بينه وبين أن يكون قاطع طريق بالمعنى الحقيقي للكلمة. ومِن ثَمَّ فقد كانت هناك أسباب كثيرة جعلته يَتأخَّر في العودة إلى مأواه داخل حقول الذُّرَة. ويمكن تلخيص هذه الأسباب في ثلاث نقاط أساسية: أولًا خضوعه لثقافة وأخلاقيات المجتمَع، واعتقاده بأن العمل كقاطع طريق يُعتبَر اعتداء وسرقة ومخالفة للتعاليم السماوية. بالإضافة إلى تقديسه للسُّلطات المحلية وعدم زعزعة ثقته في ضرورة الحصول على الثروة والزوجة بالطرق «الشرعية». ثانيًا: أنه لم يتعرض بعد لأي ضغوط تجبره على العمل كقاطع طريق أو القيام بما شابه ذلك من أعمال. ثالثًا: أن وجهة نظره في الحياة الإنسانية في مرحلة التطور، وأنها لم تصل بعد للمستوى الذي يرى به قُطَّاع الطُّرق هذه الحياة. أما فيما يتعلق بالموقف الذي كان قد تعرض له قبل ستة أيام مضت عندما قام بقتل قاطع الطريق الذي اعترض الهودج، نقول على الرغم من أنه قد أظهر شجاعةً ملحوظةً في هذا الموقف وتصدَّى لقاطع الطريق، فإن الدافع الرئيسي لما قام به كان انطلاقًا من الشعور بالعدل والعطف والشفقة، وعدم بروز ما يشير إلى صفات قاطع الطريق. أما قيامه بخطف جدتي قبل ثلاثة أيام مضت إلى داخل حقول الذُّرَة، فإن ذلك قد وقع منه انطلاقًا من عشقه للنساء الجميلات، ولم يبرز في هذا الموقف أيضًا ما يعبر عن روح وصفات قاطع الطريق. وتعتبر قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي منطقة تَفشَّى فيها ظهور عصابات قُطَّاع الطُّرق، بل إن العناصر المُكوِّنة لهذه العصابات كانت على درجة كبيرة من التعقيد، كما أنني كنتُ قد قمتُ بتأليف كتاب كبير كَسِجِل ضخم لعصابات قُطَّاع الطُّرق في قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، وبذلتُ فيه مجهودًا كبيرًا إلى حد ما، وها أنا أشير إلى الخطوط العامَّة في هذا المقام حتى أحدد ما إذا كنت قادرًا على خداع أو تضليل عدد من القُرَّاء.
وقد امتزج شعور يو جان آو تجاه زعيم العصابات خوا بوه تزه بالاحترام الكبير وكراهيته والحقد عليه في آنٍ واحد.
بعد مغادرته الحانة الصغيرة، عاد يو جان آو إلى حقول الذُّرَة مرة أخرى، وراح يراقب من داخل الذُّرَة تلك الحانة والضوء الذي كان مشتعلًا داخلها، واستمر في مراقبتها حتى ظهور الهلال في السماء ثم اختفائه، وبينما هو قابع في الخلاء داخل حقول الذُّرَة، أحس ببرودة الجو التي ازدادت عمَّا كانت عليه قبل مغادرة الذُّرَة إلى الحانة، وفي منتصف الليل، سمع صوت حركة داخل الحانة الصغيرة، وقد انطفأ ضوء المصباح، ولاحَظ ظِل رجل ضخم يظهر خلف الضوء، وتَقدَّم إلى المصباح ثم عاد ثانيةً، فعرف يو جان آو أن ذلك الظل هو ظل الشيخ السمين صاحب الحانة، ودخل العجوز غرفته، وبعد أن قام بإطفاء المصباح، رأى يو جان آو لافتة الحانة من جديد، ورأى زعيم العصابات خوا بوه تزه قادمًا على جانب الطريق، فكتم يو جان آو أنفاسه وبقي قابعًا في مكانه، وتوقَّف الزعيم أمام المكان الذي كان يختبئ داخله بالضبط ليقضي حاجته، ومسح يو جان آو على سيفه، مُحدِّثًا نفسه بأنه إذا تَقدَّم خطوة واحدة، فإنه سيتمكن من القضاء على هذا الزعيم المعروف، وبدأت ترتعد جميع فرائصه، ومضى يفكر فقط في أنه لا يوجد أي عداء بينه وبين الزعيم خوا بوه تزه، بل إن هذا الزعيم عدو لدود للسيد تساو مينغ رئيس المدينة، وهذا الرئيس هو الذي حكم عليه بالضرب مائتي ضربة بنعل الحذاء، وإنه لا يجد أي مبرر يحمله على قتل الزعيم خوا بوه تزه، ثم عاد ليفكر في أنه: كان في الأصل يملك الفرصة لقتل هذا الزعيم المعروف خوا بوه تزه، لكنه تعمد ألا يقتله.
وبالطبع فإن الزعيم خوا بوه تزه لم يكن يعرف الخطر الذي ينتظره على مقربة منه، بل لم يكن يعرف ما سيحدث من أَمْر قتله في نهر موا شوى على يد هذا الشاب، وغادَر الزعيم المكان بعد أن انتهى من قضاء حاجته.
وعندها سارع يو جان آو بالخروج من داخل مخبئه وسط حقول الذُّرَة، وتسلل إلى داخل القرية، ومضى يتسلل بحذرٍ شديدٍ لم يُثِر أيًّا من أهل أو كلاب القرية، وعندما وصل إلى فناء دار عائلة دان، حبس أنفاسه وركَّز انتباهه جيدًا، وراح يراقب الوضع بحذرٍ شديدٍ، كانت دار عائلة دان تتكون من عشرين غرفة في صفٍّ واحدٍ، يفصل بينها سور يقسمها إلى نصفين، به بوابتان كبيرتان، الجزء الشرقي من الدار مخصص لفرن لصناعة النبيذ، أما الجزء الغربي فكان مخصصًا لإقامة أهل البيت، وكان داخل هذا الجزء الغربي ثلاث غرف جانبية، وبالجزء الشرقي ثلاث غرف جانبية يسكنها عُمَّال الفرن، كما كانت هناك خيمة صيفية كبيرة داخل الجزء الشرقي من الفناء، تحتها رَحًى حجرية كبيرة، أمامها زوج من البغال السوداء الكبيرة، كان هناك داخل هذا الجزء الشرقي أيضًا ثلاث غرف جنوبية، تفتح على باب صغير؛ كان يتم داخل هذه الغرف بيع النبيذ الذي ينتجه الفرن الكبير المملوك لعائلة دان، ولم يستطع يو جان آو رؤية منظر الفناء بالكامل؛ كان السور عاليًا جدًّا حتى إنه فشل في تَسلُّق السور، فراح يقفز لأعلى محاولًا صعود السور، ولكن صوت قفزاته أيقظت الكلاب التي كانت داخل الفناء فراحت تنبح بصوتٍ مرتفعٍ، فتراجع بعيدًا عن نظر الكلاب، واختبأ هنالك إلى جانب الجزء المخصص لجمع وتشميس الذُّرَة المستخدَمة في صناعة النبيذ، وراح يُدبِّر خطة الهجوم، وكان هذا الجزء الذي يختبئ به ممتلئًا بكميات كبيرة من أعواد الذُّرَة، وكانت هذه الأعواد مُكدَّسة في هذا المكان لتشميسها، وقد نشرت رائحة عطرة عَمَّت جميع أرجاء المكان، وبينما هو مُقَرفِص إلى جانب أعواد الذُّرَة، قام بإشعال النيران في تلك الأعواد، وعندما شارفت النيران على التوهج، تَذكَّر أمرًا ما، فقام على الفور بإخمادها ثانيةً، ثم عاود وأشعل النيران مرة ثانية في كومات أعواد الذُّرَة التي كانت على بُعد بضع وعشرين خطوة من المكان الذي أشعل فيه النيران في المرة الأولى، وبسبب هدوء الرياح في ذلك اليوم، اشتعلت النار بسرعة، ثم انطفأت أسرع، واستمر في محاولاته حتى نجح في إشعالها، لتشتعل بقوة وتُغطي سماء القرية برمتها.
راح يو جان آو يصيح بأعلى صوته: «أطفئوا النيران، أطفئوا النيران»، ثم قفز بسرعة ليختبئ داخل الجزء الغربي من فناء دار عائلة دان، وارتفعت ألسنة اللهب، وعمَّ الصخب القرية، ولم يتوقف نباح الكلاب، وأفاق عمال فرن صناعة النبيذ من مخادعهم في الجزء الشرقي من الفناء، وراحوا يصيحون في صوت واحد أنْ أطفئوا النيران، وتم فتح بوابة الفناء الكبيرة، لتظهر جماعة تزيد على عشرة أشخاص يرتدون ملابس غير مُرتَّبة، وتم أيضًا فتح بوابة الفناء الغربية، ليظهر الشيخ الثري دان يان شيو مستندًا على البوابة، وهو غارق في البكاء والصياح، وخرج في نفس الوقت زوج من الكلاب الكبيرة ذات الشعر الأصفر، وراحت تحيط باللهب وهي لا تتوقف عن النباح.
سمع صوت صياح الشيخ الثري وهو ينادي: «النجدة … النجدة.» فلبَّى العمال نداءه مُسرعِين، وأخَذُوا بالجرادل وتوجَّهوا صوب البئر كما أسرع الشيخ عائدًا إلى منزله، وخرج ممسكًا بِجرَّة كبيرة ولحق بالعمال إلى البئر.
وخلع يو جان آو رداءه المصنوع من القش، وتَسلَّل عَبْر سور الفناء؛ ليجد نفسه أخيرًا داخل الجزء الغربي من الفناء الكبير، فوقف هنالك خلف السور يراقب الجَمْع الغفير من العمال وهم يهرولون نحو مصدر الحريق؛ ورأى أحد العمال وقد حمل دلوًا من الماء، ثم مضى ليسكبه بسرعة على ألسنة اللهب، وهكذا كان العمال يحاولون جاهدِين لإخماد النار التي كانت تشتعل أحيانًا وتخمد أحيانًا أخرى، مُكوِّنة لوحة في غاية الجمال.
سمع صوت أحد الحكماء يقول: «يا معلم دان، لا داعي لإخماد هذه النيران، دعها تخمد من نفسها.»
فرد المعلم الشيخ باكيًا: «أَطفِئوا النيران … أَطفِئوا النيران.» «فَلْتُسرِعوا في إطفاء النيران … إن هذه الكومة حصيلة شتاء هذا العام كاملًا.»
ولم يكن يو جان آو مهتمًّا بمشاهدة ما يحدث بالخارج، فمضى يَتسلَّل حتى نجح في دخول غُرَف الجزء الغربي من الفناء، وما إن دخل إلى الغُرَف الداخلية، حتى شعر برطوبة شديدة، وسمع صوتًا تفوح منه رائحة تَعفُّن قادم من إحدى الغرف الداخلية يقول: «أبي … ما الذي احترق.»
وانعكس لهيب النار إلى داخل الغرفة، فتسمَّر يو جان آو في مكانه، وراح يُحاوِل التَّخفِّي عن صاحب الصوت، بينما كان صاحب الصوت لا يزال يُوجِّه أسئلته لأبيه، وقد دخل الضوء إلى الغرفة عَبْر ستارة النافذة المصنوعة من الورق، فنظر إلى أرجاء الغرفة، فإذا برأس إنسان ترقد هنالك على الوسادة، فمد يده يتحسس الرأس، فقبض صاحبها على يده وقال مذعورًا: «مَن؟ … مَن أنت؟» ثم حاوَل القبض على يده بقوة، فاستل يو جان آو سيفه الصغير وضرب تلك الرقبة البيضاء الطويلة، فطرطَش الدم على يديه، وشعر بامتعاضٍ شديدٍ، فرفع يديه عن الجثة مفزوعًا، بينما كانت الرأس لا تزال تجاهد في مكانها، وبدأت الدماء تنزف بكثرة، فراح يو جان آو يمسح يديه بملاءة المصطبة وهو يشعر بالاشمئزاز، ثم استعاد سيفه الصغير وجرى إلى خارج الغرفة، وانتزع بعض الحشائش من داخل القِدر وراح يدعك بها يديه وسيفه وخنجره، حتى بدا السيف يلمع وكأنه دَبَّت فيه الحياة من جديد.
كان منذ أن أهدى له صديقه الحميم الحداد تشينغ هذا السيف، يداوم على اللعب به يوميًّا، وكان يحركه بشدة في كل مرة يزور فيها الراهب منزلهم ويختلي بأمه، وكان الكثير من أهل القرية يضايقونه ويقولون بأنه راهبٌ صغيرٌ، الأمر الذي كان يجعله ينظر إليهم بغضب شديد، ومنذ ذلك الحين، كان السيف لا يَكفُّ عن الحركة أسفل الوسادة، حتى إنه لم يكن يَقْدِر على النوم، فعرف حينها أن الوقت قد أَزِف، وحسب المعتاد فإن تلك الليلة كانت من المفترض أن تكون ليلة مقمرة، إلا أن الغيوم الكثيفة حجبت القمر تمامًا، ونام أهل القرية مبكرًا، وهطلت أمطار خفيفة تركت آثارها على سطح الطريق، ودخل الراهب إلى منزلهم وهو يحتمي بمظلة من القماش الأصفر، وبينما كان يرقد داخل حجرته الصغيرة، رأى الراهب وهو يلم المظلة، وانشغل بمسح الطين العالق بحذائه، وسمع صوت أمه تسأل الراهب: «لماذا تَأخَّرتَ هكذا؟» فرد الراهب: «كنت منشغلًا بزيارة القبر في اليوم السابع لوفاة زوجة «دا ياو رن» من غرب القرية؛ حيث ذهبتُ إلى هناك لتلاوة بعض الترانيم.»
– «كنتُ أحسب أنك لن تأتي هذه الليلة.»
– و«كنت أستطيع ذلك؟!»، «سآتي إليك حتى ولو سُلِّط السيف على رقبتي.»
– «فلتدخل بسرعة!»
وعندما دخل الراهب عتبة المنزل سألها بصوت منخفض: «هل لا تزالين تشعرين بألم في مَعِدَتك؟»
– «لقد زال الألم بعض الشيء.» «فيمَ تُفكِّر؟» «لقد مرت عشرة أعوام على رحيل زوجي … بالإضافة إلى أنه قد تقدَّم بي العمر، من الصعب أن يحدث ما تفكر فيه الآن»
– «حسنًا، اصعدي إلى جواري لأتلو عليك بعض الترانيم.»
ولم تغمض عيناه في تلك الليلة، بقي ساهرًا يستمع إلى حركة السيف تحت الوسادة، وإلى صوت تساقُط المطر خارج النافذة، حتى استمع إلى صوت شخير الراهب بعد أن غطَّ في نومٍ عميقٍ ثم صوت همهمات أمه وهي غارقة في عالَم الأحلام، وفجأة انتفض مذعورًا إثر سماع صوت البومة التي كانت تُعشِّش أعلى الشجرة القريبة من نافذته، فقام من سريره وارتدى ملابسه، ثم حمل سيفه الصغير، ومضى حتى وقف خارج الحجرة التي ينام داخلها الراهب وأمه وجعل يتنصَّت عند باب الغرفة، ومد يده وفتح باب غرفته، ثم مضى إلى الفناء، ونظر إلى السماء، فرأى بعض الغيوم الخفيفة، ونظر إلى ضوء الفجر الذي بدأ ينبثق ليضيء الفناء، ولم تكن الأمطار قد توقَّفتْ بعد؛ حيث كان يسمع صوت تساقُط حبات المطر داخل بركة المياه، ثم مضى يسير ناحية الطريق المتعرج الصغير المؤدي إلى معبد تيان تشي مياو، وكان هذا الطريق يمتد طوله حوالي واحد ونصف كيلومتر، يمر الطريق بجدول صغير، يمتلئ الجدول ببعض الصخور السوداء، وفي النهار، كانت مياه الجدول تبدو صافية تمامًا، لترى عَبْرها عددًا كبيرًا من الأسماك الصغيرة تتراقص في قاع الجدول الصغير، أما الآن فقد بدَا الجدول وقد لفه الضباب، في مشهد يجعل الناظر إليه يشعر ببعض الخوف، فوقف أعلى الصخور، وأحنى رأسه وراح يتأمَّل الموج الذي لا يتوقف عن الاصطدام بالصخور، وبقي يشاهدها وقتًا طويلًا، وعلى جانبَي الجدول، كانت هناك مساحة من الأراضي الرملية المزروعة بأشجار الكمثرى، التي كان قد حان موعد تَفتُّح أزهارها، فعَبَر الجدول الصغير، ليجد نفسه وسط أشجار الكمثرى، وراح يسير أسفل تلك الأشجار على الأراضي الرملية، ويستمتع برائحة أزهار أشجار الكمثرى العطرة.
وفي عمق غابة أشجار الكمثرى، عثر على قبر أبيه، وقد نَمَت بجانبه مجموعة من الحشائش البرية، ثم رأى عدة فتحات لدخول وخروج الفئران بين تلك الحشائش، وراح يُركِّز تركيزًا شديدًا لكي يستعيد صورة أبيه المرسومة في ذاكرته؛ حيث كان يذكر أنه كان رجلًا طويل القامة نحيفًا ذا بشرة صفراء، وشارِب أصفر.
وعاد إلى طريق فرعي بالقرب من الجدول الصغير، وراح يتأمَّل الموج الذي كان يصطدم بتلك الصخور الموجودة داخل الجدول، وكانت الغيوم قد بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا، فبدا الطريق واضحًا أمامه، ثم رأى الراهب قادمًا في عجالة وهو يحتمي بمظلته الصفراء، ولم يتمكن من رؤية رأس الراهب التي كانت تختفي تحت المظلة، ولاحَظَه وهو يَعبُر الجدول الصغير وقد رفع ملابسه الطويلة ومظلته، استطاع حينها أن يرى وجهه الأبيض النظيف، فضرب على سيفه ليسمع حركة السيف وكأنه يرد له التحية، وبعد أن عبر الراهب الجدول الصغير، أنزل ملابسه مرة أخرى، ولاحَظ أن هناك بعض الطين قد عَلِق بملابسه الطويلة، فأخرج منديلًا وراح يُنظِّف بقع الطين، كان ذلك الراهب الأبيض النظيف يعشق النظام والنظافة، كنتَ دائمًا تَشمُّ رائحة صابون عطرة تفوح من جسده الأبيض النظيف.
اقترب يو جان آو ليشم رائحة الصابون العطرة، وينظر إلى الراهب وهو يلم مظلته الصفراء — كان يقوم أثناء ذلك بهزها لتصفية قطرات المياه التي علقت بها — ثم وضع المظلة تحت إبطه، ونظر إلى رأس الراهب كانت تلمع، وتذكَّر عندما كانت أمه تمسح بكلتا يديها هذه الرأس، بينما يكون الراهب نائمًا على حِجرها وكأنه طفل رضيع، وعندما اقترب من الراهب، سمع صوت تنهداته، بينما كان السيف لا يتوقف عن الحركة داخل الجراب، فتصبب وجه يو جان آو عَرقًا، وشعر بدوارٍ شديدٍ، وكاد أن يهوي على الأرض، ومضى يلاحق الراهب في كل تحركاته، فإذا به يميل إلى بعض الحشائش ويتفل ثم يمضي في طريقه، وفجأة أحس بأن السيف كما لو كان قد اتخذ قراره بنفسه وانغمس داخل ضلع الراهب، فتمايل الراهب قليلًا ثم راح يتكئ على إحدى الأشجار القريبة، ثم التفتَ إليه، وبدت عينَا الراهب ممتلئتين بالحزن والشَّفَقة، فشعر يو جان آو حينها ببعض النَّدَم على ما فعل، ثم غاب الراهب في صمتٍ تامٍّ، وسقط أسفل الشجرة.
مدَّ يده وانتزع السيف من ضلع الراهب، بينما راحت دماء الراهب تسيل في مشهد يثير الشَّفَقة، حتى إن حبات المطر التي كانت مختزنة أعلى أشجار الكمثرى لم تَعُد تَقْوى على تَحمُّل هذا المشهد المثير للشفقة، تساقطت مياه الأمطار على الأرض الرملية، وامتلأت الأرض ببراعم أزهار أشجار الكمثرى، وهَبَّت رياح باردة، يذكر أنه قد شم حينها رائحة أزهار أشجار الكمثرى العطرة.
لم يشعر بأي ندمٍ أو دهشةٍ بعد قتل الأبرص دان بيان لانغ، فقط شعر آنذاك ببعض الاشمئزاز من منظر القتيل، وكانت النيران قد بدأت تهدأ تدريجيًّا، لكنها كانت لا تزال تضيء جنبات المكان، ولم تكن الكلاب قد تَوقَّفتْ عن النباح الذي غمر القرية بأكملها، وسمع صوت غطاء برميل الماء المصنوع من الحديد، وصوت سكب المياه داخل النيران المشتعلة.
كان قد غرق هو ورفاقه من الحمَّالين خلال الأمطار الشديدة التي تساقطت قبل ستة أيام، كما تَبلَّل وجه تلك الفتاة، وكان قد وقف ومن معه من الحمَّالين والطَّبَّالين والزَّمَّارين داخل هذا الفناء، وقفوا يدوسون على مياه الأمطار التي غطت سطح المكان، فإذا برجلٍ كبيرٍ في السن يخرج إليهم ليصحب الفتاة إلى داخل الغرفة، ولم يأتِ فرد واحد من هذه القرية الكبيرة لمشاهدة ذلك الموكب الصاخب، ولم يلمح أي ظهور للعريس، وشم رائحة غير طيبة تأتي من ناحية تلك الغرفة التي دخلت إليها العروس، فراح يغمغم ومن معه من الحمَّالِين: «من المؤكد أن يكون هذا العريس الذي يختبئ بالداخل مصابًا بالبرَص»، وعندما انتبه الطبَّالون والزَّمَّارون إلى أن أحدًا لم يخرج لرؤية الموكب، لم يهتموا بعملهم وراحوا ينفخون ويزمرون بشيء من عدم الاهتمام، وخرج إليهم ذلك الشيخ حاملًا صرة من العملات النحاسية وراح يصيح فيهم: «هذه مكافأتكم! هذه مكافأتكم! فتأخذوا هذه العملات النحاسية وتصعدوا لأعلى.» فنظر الحمالون والطبالون والزمارون إلى العملات النحاسية وهي تسقط إلى أعلى مياه الأمطار التي غطت سطح أرض الفناء، ولم يهتم أحد منهم بجمعها، فنظر إليهم العجوز ثم أحنى ظهره وراح يجمع تلك العملات النحاسية، حتى جمعها كاملة، وكان يو جان آو قد فكر آنذاك في أن يجهش على رقبة ذلك الشيخ النحيفة، والآن بدت أمامه النيران وقد أضاءت جميع أرجاء الفناء الكبير، وانعكست على الملصقات المعلقة على باب غرفة العروس، ثم راح يحاول قراءة الكلمات المكتوبة على هذه الملصقات، محا غضبه في تلك اللحظة شعوره بالبرد والرجفة، وراح يسوق الأعذار لنفسه، مضى يفكر أن القتل وإشعال النيران وغيرها من هذه الطُّرق الشرسة هي وحدها الطريق إلى الثراء والجاه، وأنه ما دام رغب في تلك العروس، فلم لا يقدم على قَتْل والد العريس؟ حتى لا يتركه يتوجَّع ويحزن على ابنه، وحتى يساعد تلك الفتاة على أن ترى عالمًا جديدًا غير عالم ذلك الأبرص، راح يغمغم في داخله: «أيها الشيخ دان، أيها الشيخ دان، ستكون الذِّكْرى السنوية لك في نفس اليوم من العام القادم!»
وبدأت النيران تنحسر، وعم الظلام أرجاء المكان، ورأى سماء الفناء وقد امتلأت بالنجوم، وكانت لا تزال هناك بعض بقايا الرَّماد التي لا تزال مشتعلة بعض الشيء، فراح العمال يسكبون الماء على الرماد، ثم حملوا جرادل الماء ووضعوها على الأرض.
سمع صوت ذلك الشيخ الحكيم يقول: «يا معلم دان، لا تحزن، لقد انتهت هذه النكبة.»
فرد عليه المعلم دان يان شيو وهو يثرثر بكلمات تحمل تأنيب الرجل: «أظن أنه من الأدب أن نراعي التعاليم السماوية ولا نشمت في غيرنا … نعم لا داعي للشماتة.»
– «يا معلم دان، فَلْتدَعْ هؤلاء العمال يعودون إلى أماكن راحتهم؛ ليستريحوا بعض الوقت، فإنهم سيعاودون العمل ثانية صباح الغد.»
– «التزِمْ تعاليم السماء … التزِمْ تعاليم السماء ولا داعي لهذا الهراء.»
قصد العمال العودة إلى أماكن راحتهم داخل الجزء الشرقي من الفناء وهم مُتعثِّرو الخُطى، وبينما كان يو جان آو يختبئ خلف السور، أحس بأن المكان قد لفه الصمت تمامًا بعد آخِر صوت سمعه عند قيام العمال بوضع جرادل المياه على الأرض، وبعد أن تعب المعلم صاحب الفرن دان يان شيو من تكرار «التزم التعاليم السماوية»، «التزم التعاليم السماوية»، عاد إلى داخل الفناء ممسكًا الجَرَّة المصنوعة من الطين، وسبقه إلى الداخل كلبان كبيران، وقد بدَا عليها شدة التعب، حتى إنهما لم يُصدِرَا أدنى صوت عندما سمعَا صوت حركة يو جان آو، وسمع يو جان آو صَوتَ حركة أسنان وحوافر زوج البغال في الجزء الشرقي من الفناء، واقترب طلوع الفجر، وكان لا يزال قابعًا في مكانه ينتظر خروج المعلم لينقض عليه عندما يكون على بُعد ثلاث إلى خمس خطوات من باب الفناء، وقد هجم على العجوز بقوة، حتى إن السيف انغمس كاملًا داخل صدر الشيخ الكبير، فحاول الشيخ أن ينظر خلفه قليلًا، ثم سقَطَت الجَرَّة التي كان ممسكًا بها، ثم تهاوى على الأرض، فسمع صوت نباح خفيف أصدره الكلبان، ثم هدأ تمامًا ولم يهتم بما حدث، فمَدَّ يو جان آو يده واستل السيف، ومسحه في ملابس القتيل، وعدل ملابسه ليغادر المكان، لكنه توقَّف ثانيةً.
دخل إلى الغرفة وسحب جثة الابن الأبرص دان بيان لانغ إلى وسط الفناء، وعثر على حبل من ناحية السور، وربط القتيلين معًا، ثم حملهما وخرج إلى الشارع، واستمر في جر القتيلين والدماء لا تزال تنزف من جرحيهما، وسحبهما إلى جانب ترعة عند الناحية الغربية للقرية، كانت مياه الترعة ساكنة في ذلك الحين، وعندما قام الأخرس بقتل عم يو جان آو السيد يو دا يا بعد مرور ثلاثة عشر عامًا من هذا اليوم، كانت مياه الخليج قد جفَّت إلى حدٍّ كبير، وقام يو جان آو بإلقاء الجثتين داخل الخليج لتحدثا صوتًا مسموعًا، واستقرت الجثتان في قاع المياه، ثم مال يو جان آو إلى مياه الخليج ليغسل يديه ووجهه وسيفه، ولكن لم يستسغ أن يستخدم هذه المياه التي تعكرت بدماء الجثتين، ومضى إلى الناحية الغربية من الطريق، وقد نسي أن يرجع إلى منزل عائلة دان ليأخذ ملابسه، وعندما كان على بُعد مائتين وخمسين مترًا من الخروج عن حدود القرية، انعطف إلى داخل حقول الذُّرَة، وقد عاقَتْه أعواد الذُّرَة بعض الشيء، فسقط وسط الذُّرَة، وشعر حينها بتعبٍ شديدٍ شمل جميع فرائصه، وانقلب على ظهره ولم يُبالِ ببرودة الجو، ونظر من خلال أعواد الذُّرَة إلى السماء، ثم راح في نومٍ عميقٍ.
٥
كان السيد دان وو خوه تزه عمدة القرية قد عزم على الذهاب للمُشارَكة في إطفاء الحريق؛ ليقوم بدوره عمدة لهذه القرية، إلا أن المرأة «شياو باي يانغ» تاجرة القنب اعترضت طريقه ومنعته من الذهاب إلى منزل دان يان شيو، كانت سيدة سمينة بيضاء، عوراء، وكانت قد تَسبَّبتْ في قتال شديد بين جماعتين من عصابات قُطَّاع الطُّرق اسْتُخدِمَت فيها الخناجر والأسلحة من أجل الفوز بهذه السيدة السمينة، من قبيل ما يطلق عليه «الصراع على الأوكار بين قُطَّاع الطُّرق .»
ويُعْتَبر السيد تساو مينغ جيو واحدًا من الشخصيات الشهيرة في تاريخ مدينة قاو مي، وعلى الرغم من أن سُمْعَته وإنجازاته لم تصل لمستوى سُمْعة وإنجازات السادة يان يينغ (الذي عمل رئيسًا للوزراء في عصر مملكة تشي)، والسيد جينغ شيوان (أحد العلماء البارزين في عصر أسرة خان الشرقية)، وغيرهم من أبناء مدينة قاو مي، فإن شهرة السيد تساو قد فاقت بكثير كبار الموظَّفِين في مدينة قاو مي خلال فترة «الثورة الثقافية الكبرى»، كان قد أُطْلِق عليه لقب «نعل الحذاء تساو إر»، وذلك بسبب حُبِّه لاستخدام نعال الأحذية في تطبيق العقوبات على المجرمين، وقد التحق بالمدارس الخاصة آنذاك لمدة خمسة أعوام، وعمل عدة سنوات جنديًّا، وكان تساو ينظر إلى عصابات قُطَّاع الطُّرق وتجار الأفيون والمُقامرِين على أنهم يعملون على نشر الفوضى بين أبناء الشعب، ويعتقد أنه لكي تستقيم أمور البلاد فإنه لا بد من القضاء على قُطَّاع الطُّرق، ومَنْع المخدرات والقمار، كان لديه الكثير من الطُّرق الشريرة التي يستخدمها لإجبار المتهمين على الرجوع عن الجريمة، وقد تناقَل شعب مدينة قاو مي الكثير من الحكايات حول هذا الرجل، لم تنقطع حتى يومنا هذا، كان تساو شخصية مُعقَّدة؛ من الصعب أن تنعته بكلمة واحدة مثل كونه «طيب»، أو «شرير» أو غيرها من الصفات، وكانت تربطه علاقة وثيقة بعائلتي، ومن ثم فإنني سأقحمه الآن داخل السرد المُتعلِّق بالعائلة ليكون «خيطًا» للأحداث التالية.
أما عن المحظورات الثلاثة التي اشتهر بها السيد تساو رئيس مدينة قاو مي، فهي مَنْع القمار، ومنع المخدرات، والقضاء على عصابات قَطْع الطُّرق، نَفَّذَها على مدى عامين، وحقق خلالها نتائج كبيرة داخل المدينة، ولكن لم تكن قراراته تُنفَّذ بصرامة في قرية دونغ بيي، بسبب بُعْد هذه القرية عن مركز المدينة، ورافق العمدة دان وو خوو تزه شياو باي يانغ حتى صباح اليوم التالي، واستيقظت شياو باي يانغ قبله، وأشعلت الأرجيلة وملأتها بالمخدرات وقدمتها إلى العمدة دان، فاستلمها وراح يدخنه حوالي دقيقة واحدة، وجذبته رائحة المخدر الموضوع في الأرجيلة، فاستمر في التدخين دقيقتين، حتى جاءه أحد العمال الذين يعملون في فرن صناعة النبيذ المملوكة لعائلة دان وأخبَرَه: «أيها العمدة! أيها العمدة! حدثتْ كارثة كبرى، وقَعتْ حادثة قَتْل!»
فتبع العمدةُ دان وو خوو تزه العاملَ حتى وصل إلى فناء عائلة دان الكبير، وتبعه عددٌ كبيرٌ من عمال الفرن.
قال العمدة دان: «من المؤكد أن الجثث الآن في الخليج.»
فلم يَردَّ عليه أحد.
سأل العمدة دان بصوتٍ مرتفعٍ: «مَن يتشجَّع للنزول إلى الخليج لانتشال الجثث؟»
فنظر الجميع بعضهم إلى بعض، ولم يتشجع أي منهم على الرد عليه.
وكانت مياه الخليج تبدو آنذاك خضراء مثل الجاديت الصافي الخالي من أي عيوب، أما نباتات النيلوفر فقد كانت ثابتة في أماكنها، وقد تَغطَّت أوراقها ببعض قطرات المياه، كانت تبرق وكأنها حبَّات من اللؤلؤ الجميل.
– «سأرصد لمن يقوم بذلك مكافأة مقدارها واحد دا يانغ، فمن قال أنا؟»
ولا يزال الجميع واجمين.
شمَّ الجميع رائحة مصدرها داخل الخليج، وبدت الحشائش التي كانت على جانبي الخليج ممتلئة بالدماء البنفسجية، كانت واضحة تمامًا بعد أن انعكست عليها أشعة الشمس، ثم تجاوزت الشمس حقول الذُّرَة المجاورة لتسطع أعلى الخليج.
راح العمدة دان وو خوو تزه يصيح بأعلى صوته: «مَن سينزل لانتشال الجثث رصدت له واحد دا يانغ أصرفه له في الحال!»
وأخبرتني عجوز في الثانية والتسعين من أهل القرية قائلة: «ومن يجرؤ على القيام بمثل هذا العمل؟ إن الخليج ممتلئ بدم مريض بالبرص، فالنازل إلى هذه المياه سيصاب حتمًا بالبرص، ومهما عرضتم من مال فلن يجرؤ أحد على قبوله والقيام بهذا العمل … إن كل ذلك كان وراءه إثم اقترفته جدَّتُك وجدُّك!»، وحيث أَلقَت تلك العجوز بالمسئولية كاملة على جَدَّتي وجَدِّي، ولم أكن سعيدًا بسماع ذلك منها، ولكنني حافظتُ على ابتسامة خفيفة أمامها احترامًا لشيبتها.
– «لا يوجد أي منكم يرغب في قبول العرض والنزول لانتشال الجثتين؟ اللعنة عليكم جميعًا، لا أحد يجرؤ على ذلك، إذًا فَلندَع السيد دان وابنه داخل المياه بعض الوقت يستمتعان ببرودة مياه الخليج! أيها الأخ ليو لوو خان، إنك أقدم عامل لدى هذه العائلة، فلتذهب إلى المدينة لتخبر السيد «نعل الحذاء تساو إر» بهذه الحادثة.»
قام الجد ليو لوو خان وأكل بعض الطعام في عجالة، ثم شرب قليلًا من النبيذ وهمَّ بالذهاب إلى المدينة، وسحب بغلًا أسود، ووضع أعلى ظهره جوالًا من الخيش، وصعد على ظهر البغل، وسار بمحاذاة الطريق الواقع في الناحية الغربية من القرية قاصدًا مدينة قاو مي.
وبدَا الجد ليو لوو خان في صباح ذلك اليوم واجمًا، ولم يعرف أحد سبب وجومه، وهل كان غاضبًا أو حزينًا؟ وكان هو أول من اكتشفَ مقتل السيد دان يان شيو صاحب عمله وابنه الأبرص دان بيان لانغ، كان قد ساوره الشك في أمر الحريق الذي أصاب فناء العائلة في تلك الليلة، وبمجرد أن استيقظ في الصباح التالي، كان قد نوى البحث وتقصي حقيقة حريق الفناء، وفجأة لاحَظ أن بوابة الجزء الغربي من الفناء كانت مفتوحة، فشعر بغرابة شديدة، فدخل إلى قلب الفناء ليرى بركة من الدماء، ثم تَقدَّم إلى الغرفة الداخلية ليرى المزيد من الدماء، فأصيب بذهول شديد، ولكن فكر خلال تلك اللحظات البسيطة أن هناك شخصًا واحدًا وراء جريمتَي القتل والحرق.
كان الجد لوو خان وغيره من العمال الذين كانوا يعملون لدى العائلة، كانوا يعلمون أن المعلم دان يا شيو لديه ابن مصاب بالبرص، وكانوا لا يرغبون في الدخول إلى الفناء لرؤيته، وفي حالة قيامهم بذلك كانوا ينثرون على أجسادهم بعضًا من النبيذ؛ حيث كان الجد لوو خان يقول بأن نبيذ الذُّرَة قادر على الوقاية من وعلاج آلاف الأمراض، وعندما تزوج الابن الأبرص دان بيان لانغ، لم يجرؤ أحد من أهل القرية على المشارَكة في العرس؛ حيث كان الجد لوو خان وعامِل آخَر هما اللذان قاما باستقبال جدَّتِي وأنزلاها من الهودج؛ وكان الجد لوو خان قد قام آنذاك بمساعدة جدتي ومسكها من ذراعها، ورأى خلسة ذراعها الأبيض، وعلى الرغم من حادثة مقتل السيد دان يان شيو وابنه وما أصاب العائلة من مصيبة كبرى، فإن الجد لوو خان وسط دهشته من هذا الأمر وحُزْنه على ما حدث كان دائم التفكير في قدمَي جدتي الصغيرتين وذراعها الأبيض، وعندما رأى الدماء داخل فناء المنزل، لم يكن يعرف إن كانت هذه الدماء تحمله على أن يشعر بالحزن أم السعادة.
وخلال رحلته إلى المدينة، لم يكن الجد لوو يتوقف عن ضرب البغل لحثه على السير بأقصى سرعة ممكنة، وود لو طار البغل إلى المدينة طيرًا، فقد كان يعلم أنه لا يزال هناك مسلسل رائع ينتظره بعد هذا الحادث، فالزوجة الشابة الجميلة سوف تعود إلى الدار في صباح الغد على ظهر الحمار، وترى إلى من ستنتقل كل هذه الأملاك الخاصة بعائلة دان. وهكذا انشغل الجد لوو خان في التفكير في جميع هذه الأمور، وأن هذه الأمور سيحسمها السيد تساو مينغ جيو رئيس مدينة قاو مي، وكان أهل البلدة يطلقون على السيد تساو خلال السنوات الثلاث التي قضاها رئيسًا للمدينة، لقب «الحاكم العادل تساو»، وكان الجميع يتحاكى عن نزاهَته وعَدْله وحكمته في معالجة الأمور وعدم ميله للمحاباة، وعدم تَردُّده في إنزال العقاب على من يستحق، وهنا ضرب الجد لوو خان البغل لِيحُثَّه على السير بسرعة ليصل إلى هذا الحاكم العادل.
راح البغل الأسود يجري بسرعة ويَدكُّ بأقدامه الطريق الترابي المؤدِّي إلى مدينة شي تونغ، بينما أردافه تلمع وقد انعكست عليها أشعة شمس النهار، ومضى البغل في طريقه وهو يتقدم بجسمه كاملًا إلى الأمام وأقدامه تَتلوَّى في انسجام تام، وهي تَدكُّ الأرض غير عابئة بصلابتها، وبينما كان البغل يمضي بهذه السرعة، كانت تظهر وراءه كميات كبيرة من التراب الذي ملأ سماء الطريق، وعند منتصف النهار، كان الجد لوو خان قد وصل ببغله إلى منطقة سكة حديد جياو جي، امتنع البغل عن عبور السكة الحديد، فنزل الجد لوو خان من على ظهر البغل، وراح يسحبه بقوة، ولكن البغل لم يستسلم وظل يتراجع للخلف، وعرف الجد لوو خان أنه لن يقوى على التصدي للبغل القوي العنيد، فجلس يستريح ويفكر في تجاوز هذه المشكلة، ونظر إلى قضبان السكة الحديد الممتدة من الشرق وقد انعكست عليها أشعة الشمس، حتى لم يَعُد يستطيع النظر إليها جيدًا، وخلع الجد لوو خان جلبابه، وغطَّى به وجه البغل، ثم جعل يسحب البغل ليدور في مكانه بضع دورات، ثم سحبه بعدها ليتخطى قضبان السكة الحديد.
وعند المدخل الشمالي للمدينة، كان يقف شُرطِيَّان في زي أسود وقد حمل كل منهما بندقية صنع خان يانغ، صادف ذلك اليوم يوم سوق المدينة؛ حيث رأى حشودًا من أهل المدينة خرجوا إلى الشارع بين من يدفع بعربته أو يحمل بعض الأشياء أو يركب الحمير أو السائرين على أقدامهم، ولاحظ أن الشرطيين كانَا في معزل تام عن مراقبة تلك الحشود، فلم يهتموا بسؤال المارة عن وجهتهم، وشغلوا أنفسهم فقط بمراقبة الحسناوات من بين جموع المارة.
بعد أن نجح الجد لوو خان في الدخول إلى داخل سور المدينة، جعل يسير بين الهضاب، حتى استطاع أخيرًا أن يسحب البغل ويسير على الطريق الحكومي المرصوف بالأحجار الزرقاء، فمضى البغل يسير على ذلك الطريق محدثًا صوتًا مسموعًا، وكان البغل قد شعر ببعض الخجل في بداية السير على هذا الطريق المرصوف بالأحجار الزرقاء، وكانت جموع السائرين على هذا الطريق قليلة ومتفرقة، وتعلو وجوههم الصرامة والقسوة، أما المساحة الفارغة التي تقع جنوب الطريق المرصوف بالأحجار الزرقاء، فكانت تعج بجموع الأهالي من مختلف الطوائف، وكانوا يقفون وسط الساحة يتساومون في أسعار السلع المختلفة، وينادون على بضاعتهم ما بين بائعين ومشترين، ولم يكن لدى الجد لوو خان المتعة ليقف أمامهم يشاهد هذا السوق المزدحم، فسحب بغله ومضى في طريقه حتى وصل إلى أمام المدخل الكبير لمقر حكومة المدينة، وكان المقر عبارة عن معبدٍ قديمٍ يحتوي على بعض الممرات التي تحتوي بدورها على عدد من الحجرات القديمة المبنية من القرميد، وكانت تنمو داخله بعض الحشائش الصفراء والخضراء، وقد تساقط الدهان الذي كان يزين بوابة المدخل الحمراء، حتى بدت مزركشة ببعض ما بقي من الدهان الأحمر، وإلى يسار المدخل، كان يقف جندي ممسكًا ببندقية، أما على يمينه، فرأى شخصًا ذراعه عارٍ، وقف منحنيًا ممسكًا بِعصا خشبية، أسفلها جرة ممتلئة بقاذورات مقززة.
سحب الجد لوو خان بغله وتقدَّم إلى أمام الجندي، ثم انحنى أمامه للتحية وقال: «سيدي الفاضل، جئت لأقدم شكوى إلى السيد تساو رئيس المدينة.»
فرد عليه ذلك الجندي قائلًا: «لقد اصطحب سيادة رئيس المدينة السيد ييه وذهبَا إلى السوق.»
فسأله الجد لوو خان: «ومتى يعود سيادة رئيس المدينة؟»
قال الجندي: «وكيف لي أن أعرف؟ إذا كانت لديك حاجة مُلِحَّة، فاذهب لتبحث عنه في السوق.»
فانحنى الجد لوو خان لتحية الجندي مرة ثانية، ثم قال: «عظيم الشكر لتوجيهكم الكريم.»
وعندما رأى ذلك الشخص المخيف الواقف إلى يمين المدخل الجد لوو خان ينوي الانصراف، تحرك فجأة؛ وراح يستخدم عصاه ويعبث بالجرة المملوءة بالقاذورات ثم صاح: «فلتقتربوا جميعًا، فلتقتربوا جميعًا لمشاهدتي، أنا أُدعى وانغ خاو شان، متهم في قضية تزوير عقود رسمية، ولقد حكم عليَّ السيد تساو رئيس المدينة بأن أحمل هذه الجرة المملوءة بالقاذورات وأعبث داخلها هكذا.»
سحب الجد لوو خان بغله ومضى إلى سوق المدينة، وعندما وصل إلى السوق راح ينظر إلى جموع الأهالي الذين احتشدوا داخله ما بين بائعي أغطية المواقد، وبائعي الفطائر، وبائعي الأحذية المصنوعة من القش، وبائعي الكتب، والعرَّافين، والشَّحَّاذِين، والقائمين على استعراضات القرود، وبائعي الحلوى، وبائعي العرائس المصنوعة من الصلصال، والمُغنِّين، وبائعي الخضروات والثوم والخيار، وبائعي أدوات التدخين، وبائعي الشعرية الباردة، وبائعي سم الفئران، وبائعي الكيوي، وبائعي الأطفال حيث كان هناك «سوق أطفال» مُخصَّص لهذا الغرض، وكانوا يعلقون عودًا من العُشب الجافِّ في رقبة الطفل الذي تم بيعه. كان البغل الأسود يسير وسط جموع الأهالي وهو يرفع رأسه بين الحين والآخر؛ ليصدر بعض الأصوات من احتكاك القيود الحديدية المعلقة بجسده، وكان الجد لوو خان يخشى كثيرًا أن يهيج البغل فيؤذي أحد الأهالي داخل السوق.
وأخيرًا عثر الجد لوو خان على السيد رئيس المدينة داخل سوق الدجاج.
كان السيد تساو رئيس المدينة رجلًا ذا وجه مُتورِّد، يرتدي زيًّا صينيًّا أزرق اللون، وقبعة من الصوف بنية اللون، ممسكًا بعصا جميلة، كان يقف داخل سوق الدجاج لحل بعض النزاعات، وقد تَجمَّع حوله حشدٌ كبيرٌ من الأهالي، ولم يجرؤ الجد لوو خان على التقدم إليه، فسحب بغله ووقف خارج حلقة الأهالي المحتشدين حوله، وقد تَعذَّر عليه أن يشاهد ما يجري داخل الحلقة من كثرة المحتشدين، فاهتدى الجد لوو خان بسرعة إلى حيلة بارعة، فقفز أعلى ظهر البغل وراح يشاهد ما يجري داخل الحلقة بوضوح تام.
ورأى السيد تساو فإذا به رجل طويل القامة، يقف إلى جواره رجل نشيط قصير القامة، فخمَّن الجد لوو خان على الفور أن ذلك الرجل قصير القامة هو بالتأكيد ذلك «السيد ييه» الذي تحدث عنه الجندي، وكان يقف أمام السيد رئيس المدينة رجلان وامرأة مُكبَّلَي اليدين، وقد تَصبَّبتْ وجوههم عرقًا، ولم تكتفِ المرأة بالعرق الذي ملأ وجهها، بل كانت عيناها تذرفان الدموع، بينما كانت هناك دجاجة سمينة تجلس أمام قدمَي المرأة.
وسمع صوت المرأة تقول وهي منخرطة في البكاء: «سيدي الحاكم العادل، لقد أصيبت حماتي بنزيف الدم وليس لدينا من المال الكافي لشراء ما تحتاجه من دواء، ولذا فقد حضرت إلى السوق لبيع هذه الدجاجة التي تبيض لنا … هو يصر على أن هذه الدجاجة تخصه هو.»
– «هذه الدجاجة تخصني، وهذه المرأة تريد أن تغتصبها مني، فلا تصدقها يا سيادة رئيس المدينة، ويشهد جميع جيراني على كلامي هذا.»
قال الرجل الذي كان يرتدي قبعة من قشر البطيخ: «سيادة رئيس المدينة، أنا خادمك جار المدعي وو سان لاو، ودجاجته هذه تأتي إلى منزلي كل يوم للتنافس على الطعام مع الدجاج الذي أملكه، وكثيرًا ما تُعبِّر زوجتي عن استيائها تجاه هذا.»
فبدا القلق على وجه تلك المرأة، وغشيها الصمت، ثم أجهشت بالبكاء وهي تغطي وجهها.
خلع رئيس المدينة قبعته، وثبتها على إصبعه الوسطى وجعل يلفها عدة مرات، ثم وضعها فوق رأسه مرة أخرى.
وسأل رئيس المدينة وو سان لاو: «ماذا أطعمتَ دجاجك صباح اليوم؟»
فأجاب وو سان لاو وهو يحرك مقلتيه: «أطعمته اليوم بعض الحبوب المخلوطة بقليل من النخالة.»
قال الرجل الذي كان يرتدي قبعة من قشر البطيخ: «حقًّا حقًّا، وعندما ذهبتُ إلى منزله أستعير الفأس، رأيت بعينيَّ زوجته وهي تخلط طعام الدجاج.»
وسأل رئيس المدينة المرأة التي كانت لا تزال تبكي: «أيتها الأخت الريفية، لا عليك بكل هذا البكاء، هل لي أن أسألك ماذا أطعمتِ دجاجتك اليوم؟»
فأجابت المرأة وهي تنشج: «أطعمتها بعض الذُّرَة.»
فقال رئيس المدينة: «أخي يان، فلتذبح هذه الدجاجة!»
أمسك يان بالدجاجة وقطع حوصلتها بمهارة فائقة؛ ليخرج منها بعض حبات الذُّرَة.
فضحك السيد رئيس المدينة، وقال: «أنت أيها المكَّار وو سان لاو، لقد ذبحنا لك هذه الدجاجة، فلتأتِ بثمنها، ثلاثة دا يانغ كاملة في الحال.»
انتفض وو سان لاو مذعورًا، وأخرج من جيبه اثنين دا يانغ وعشرين وحدة من العملات النحاسية، ثم قال: «سيادة رئيس المدينة، لا أملك الآن غير هذا القَدْر من المال.»
فقال رئيس المدينة: «تبًّا لك أيها الطماع!»
فأخذ رئيس المدينة النقود وقدمها للمرأة.
فقالت المرأة: «سيادة رئيس المدينة، إن دجاجتي لا تستحق كل هذا السعر، ولن أقبل ما يزيد على سعرها.»
فوضع السيد تساو مينغ جيو رئيس المدينة يديه على جبهته، متعجبًا من أمر المرأة ثم قال: «نِعمَ المرأة الطيبة المتسامحة، أما أنا تساو مينغ جيو فأنحني أمامك لأحيي تسامحك وشهامتك!» فتقدم إلى الأمام وخلع قبعته، وانحنى أمام المرأة.
ذهلت المرأة القروية، وراحت تنظر إلى رئيس المدينة وعيناها تذرفان الدمع، ثم أفاقت بعد لحظات، وسجدت على الأرض لتحية رئيس المدينة وهي تقول: «سيادة الحاكم العادل! سيادة الحاكم العادل!»
فلمس تساو مينغ جيو ذراع المرأة بعصاه الخشبية، ثم قال: «انهضي، انهضي.»
فقامت المرأة القروية ووقفت أمامه.
قال السيد رئيس المدينة تساو مينغ جيو: «بالنظر إلى ملابسك القديمة المهترئة، وإلى نحافة وجهك، وأنك جئت إلى المدينة لبيع الدجاجة لأجل شراء الدواء الذي تحتاجه حماتك، فإنني أثق في أنك زوجة ابن بارة بحماتها، وإن حكمي هذا حكم عادل احترامًا مني لطيبتك وكونك بارة بحماتك، فلتأخذي هذه النقود كاملة، لأجل أن تشتري الدواء اللازم لحماتك، ثم خذي هذه الدجاجة أيضًا، لتطعمي العجوز المريضة.»
فتقدمت المرأة وأخذت النقود وحملت الدجاجة بين يديها، وغادرت المكان وهي لا تتوقف عن شكر السيد تساو.
هذا بينما كان المحتال وو سان لاو وجاره شاهد الزُّور يرتجفان خوفًا أسفل الشمس الحارقة.
فقال السيد تساو مينغ جيو: «أيها الطماع وو سان لاو، فلتخلع بنطالك.»
بدا وو سان لاو في غاية الخجل من أن يفعل ذلك.
فقال السيد تساو مينغ جيو: «ألم تشعر بالخزي لأن تظلم هذه المرأة الطيبة في وضَح النهار؟ وهل تعرف سعر «الخزي»؟ أسرع بخلع بنطالك.»
فخلع وو سان لاو بنطاله.
وخلع السيد رئيس المدينة حذاءه، وألقى به إلى السيد يان الذي كان واقفًا إلى جواره ثم قال: «اضربه مائتي جلدة، وأوجعه ضربًا حتى يتقطع إلى أشلاء منفصلة.»
فأخذ السيد يان بحذاء رئيس المدينة، وجعل الطماع وو سان لاو يوجه مؤخرته تجاه السماء، ثم راح يضربه مائة ضربة، بينما وو سان لاو لا يتوقف عن البكاء، وبعد أن انتهى من ضربه على مؤخرته، بدأ يضربه مائة أخرى على وجهه، حتى لم يعد وو سان لاو يقوى على البكاء.
وضرب السيد تساو مينغ جيو الطماع وو سان لاو بالعصا على جبهته قائلًا: «أيها الطماع، هل ستجرؤ على النصب والاحتيال مرة أخرى؟»
فإذا بالطماع وو سان لاو مُلقًى على الأرض ووجهه محمر من كثرة الضرب.
ثم أشار السيد رئيس المدينة إلى الجار شاهد الزور قائلًا: «وأنت!»، «لقد قمت بتزوير الحقيقة، وما أشد خطر الكذابين أمثالك، ولا أرغب في ضربك أيها الكذاب، أخشى أن تلوث مُؤخِّرتك حذائي النظيف، وسأجعلك تلعق فقط، ثم طلب من السيد يان أن يذهب لشراء سلطانية من العسل.»
قام السيد يان مسرعًا متوجهًا إلى حيث أمره السيد رئيس المدينة، فأفسح له الأهالي الطريق، بينما كان شاهد الزور ساجدًا على الأرض.
قال السيد تساو مينغ جيو: «انهض انهض انهض، فإنني أولًا لن أضربك، ثانيًا لن أعاقبك، وسأشتري لك العسل لتأكله، فلماذا تسجد هكذا؟»
وعاد السيد يان بسلطانية العسل، فأشار السيد تساو مينغ جيو إلى الطماع وو سان لاو ثم قال: «ادهن مؤخرته بهذا العسل.»
فقلب السيد يان الرجل على وجهه، ثم جاء بقطعة خشب وجعل يدهن مؤخرته بالعسل.
ثم وجه السيد تساو حديثه إلى شاهد الزور قائلًا: «العق، ألم تكن تنوي جني بعض الفائدة من وراء شهادة الزور؟ الْعَق.»
راح الرجل يسجد أمام السيد تساو، ويقول: «سيادة رئيس المدينة، سيادة رئيس المدينة، لن يجرؤ خادمكم على الكذب ثانية.»
فقال السيد تساو مينغ جيو: «أيها الأخ يان، جهز الحذاء، واضرب هذا الكذاب ضربًا مبرحًا.»
فقال شاهد الزور: «لا داعي للضرب، لا داعي للضرب، سألعق، سألعق.»
فسجد الرجل على الأرض وراح يفعل ما أمره السيد تساو مينغ جيو رئيس المدينة.
بينما كان الجميع يشاهدون ما يحدث أمام أعينهم وهم في ذهولٍ تامٍّ.
جعل الرجل يستمَّر فيما أُمِر به، حتى ظهر عليه التعب الشديد، فقال رئيس المدينة: «كفاك أيها الحيوان.»
فنهض الرجل ورفع جلبابه ليغطي وجهه.
وعندما همَّ السيد تساو مينغ جيو أن يغادر المكان مع السيد يان، إذا بالجد لوو خان يستغل هذه الفرصة وينزل من على ظهر البغل، وينادي بصوت مرتفع: «سيادة الحاكم العادل! إن هناك مظلومًا يحتاج إلى نصرتكم.»
٦
وعندما همَّت جدتي أن تنزل من على ظهر حمارها الصغير، أوقفها السيد دان وو خوو تزه عمدة القرية قائلًا: «أيتها المرأة، لا تنزلي عن الحمار، فإن السيد رئيس المدينة يدعوكِ للذهاب إليه.»
مَضَت جدتي على حمارها وقد تبعها جنديان يمسكان بسلاحهما يحرسانها وهي في طريقها إلى خليج المياه الذي يقع في غرب القرية، بينما كان والد جدتي يقف هناك منهكًا لا يقوى على الحركة، فوَخَزه الجندي بالبندقية في ظهره، فجعله يمضي مسرعًا خلف الحمار.
ونظرت جدتي إلى شجرة صغيرة إلى جانب الخليج، فرأت بغلًا أسود صغيرًا مربوطًا بجذع الشجرة، ثم نظرت إلى سرج البغل وإلى القلادة الحمراء التي كانت مُعلَّقة في جبهته. وعلى بعد خطوات من البغل، رأت منضدة مربعة وقد وُضِع أعلاها براد شاي وعدد من الأكواب، ورأت أن هناك رجلًا يجلس إلى جوار المنضدة، ولم تكن جدتي تعرف آنذاك أن هذا الرجل هو السيد تساو مينغ جيو رئيس المدينة المعروف، كما كان يقف إلى جوار المنضدة رجل آخر، ولم تكن جدتي أيضًا تعرف أن هذا الرجل هو السيد يان لوا قو الشجاع والماهر والصديق المُقرَّب للسيد رئيس المدينة، وأمام المنضدة، كان يقف جميع أهل القرية وقد ظهر على وجوههم الوجوم، يحيطهم ما يزيد على عشرين جندي من رجال رئيس المدينة.
ووقف الجد لوو خان أمام المنضدة وقد تَبلَّل جسده بالكامل.
رأت جُثَّتَي زوجها وحماها موضوعتين على لوح خشبي إلى أسفل شجرة الصفصاف بالقرب من ذلك البغل الأسود الصغير، وشمت رائحة تَعفُّن الجثتين، ورأت مياهًا ملوثة صفراء تنزل من حواف اللوح الخشبي الذي يحمل الجثتين، بينما كانت هناك عشرات الغربان تحوم فوق شجرة الصفصاف، وكأن قمة الشجرة تحولت إلى قدرٍ كبيرٍ ممتلئ بالحساء.
وعندئذٍ انتبه الجد لوو خان ورأى وجه جدتي بوضوح تام، ظهر وجهها ممتلئًا، وكانت أهدابها جميلة ورقبتها طويلة بيضاء، وشعرها الطويل الجميل ينزل خلف رأسها، وتوقف الحمار أمام المنضدة، بينما كانت جدتي لا تزال تركب على ظهر حمارها رافعة الرأس في أناقة وسحر جذاب، ورأى الجد لوو خان عيني السيد تساو مينغ جيو رئيس المدينة السوداوين لا تَتوقَّفان عن النظر إلى وجه وصدر جدتي، وفجأة طرأتْ على ذهن الجد لوو خان فكرة خاطفة: إن هذه المرأة حتمًا وراء موت السيد المعلم دان يان شيو وابنه الأبرص! وأنها بالتأكيد تواطأت مع القاتل، وأشعلَت النيران في الفناء، لإغراء السيد يان وابنه على الخروج إلى النار المشتعلة، ثم تم قتل الرجل وابنه، وهي الآن تقوم بهذه الخدعة، ومن اليوم فصاعدًا ستصبح …
نظر الجد لوو خان إلى جدتي نظرة خاطفة، وكأنه يشك في هذه الفكرة التي طرأت عليه فجأة، إن أي قاتِل مهما حاول أن يخفي جريمته، لن يستطيع أن يخفيها حتى النهاية، غير أن هذه المرأة التي تركب الحمار … كانت جدتي تجلس على ظهر الحمار وكأنها حسناء من الشمع تُحرِّك قدميها، وقد ظهر على وجهها الاتزان والحزن، إلى درجة تفوق بوذا نفسه، كما زاد والدها من الهالة التي كانت تحيط جدتي، حيث كان …
قال السيد تساو رئيس المدينة: «فلتنزل تلك المرأة عن حمارها لتُجيب عن أسئلتي.»
كانت جدتي لا تزال على ظهر حمارها، فتقدم نحوها السيد دان وو خوو تزه عمدة القرية ووبخها قائلًا: «فلتنزلي عن حمارك! سيادة رئيس المدينة يأمرك بالنزول.»
فرفع السيد تساو يده ليوقف توبيخ العمدة لجدتي، ثم قال رئيس المدينة بصوت رقيق: «أيتها المرأة، فلتنزلي عن حمارك، لتنزلي عن حمارك، إن رئيس المدينة لديه بعض التساؤلات لكِ.»
فقام والدها بإزاحتها عن ظهر الحمار.
وسأل السيد تساو رئيس المدينة: «ما لقبكِ؟ وما اسمكِ أيتها المرأة؟»
كانت جدتي لا تزال واقفة في مكانها مغمضة العينين، ولم تنبس ببنت شفة.
فقال والدها مرتجفًا: «فلتجيبي على سيادة رئيس المدينة، سيدي الفاضل إن لقبها داي واسمها فينغ ليان، وكنيتها جيو إر، وقد ولدت في اليوم التاسع من الشهر السادس حسب التقويم القديم.»
فصاح السيد رئيس المدينة: «يا لك من ثرثار!»
فسأل السيد دان وو خوو تزه عمدة القرية موبخًا إيَّاه: «ومَن أَذِن لك بالكلام أيها العجوز؟!»
فخبط رئيس المدينة بيده على المنضدة قائلًا: «مزعج!» فأرهب كلًّا من عمدة القرية ووالد جدتي العجوز، ثم استعاد رئيس المدينة قناع الرقة والحنو، وراح يشير بيده إلى الجثتين الموضوعتين أسفل شجرة الصفصاف، وسأل جدتي: «أيتها المرأة هل بإمكانك أن تتعرفي على هذين الشخصين؟»
فنظرت إليهما جدتي بطرف عينيها وقد بدت حزينة، ثم هزت رأسها بدون أن تتكلم.
فصرخ السيد رئيس المدينة بشدة قائلًا: «إنهما زوجكِ وحموكِ، لقد تم اغتيالهما.»
تمايلت جدتي قليلًا ثم سقطت على الأرض، فتقدم جماعة الحاضرين نحوها لمساعدتها، فاصطدمت أيديهم ببنس شعرها الملفوف، وغطت السماء سحابة سوداء، وكان وجه جدتي في غاية الشحوب، كانت تارةً تبكي وتارةً تضحك، ثم سالت بعض الدماء من شفتها السفلى.
ضرب السيد تساو رئيس المدينة بيده على المنضدة ثانيةً، ثم قال: «استمعوا أيها الحضور الكرام، هذا هو حكم رئيس المدينة، إننا وجَدْنَا أن المرأة داي سيدة ضعيفة، حليمة واسعة الصدر، لا تميل إلى التَّذلُّل أو التكبر، وأنها شعرت بالحزن الشديد بمجرد سماع خبر وفاة زوجها وحميها، وتأثَّرَت بهذا الخبر كثيرًا، واسودت الدنيا في عينيها، وأنها نِعْم الزوجة البارة، فكيف لمثل هذه الزوجة الطيبة أن تتواطأ مع مجرم لقتل زوجها وحميها؟ أما فيما يخص السيد دان وو خوو تزه عمدة القرية، فإنني أرى أنه يظهر عليه جميع علامات الجوع والطمع، وأنه بالتأكيد مُدْمِن مُقامِر وَضِيع، وأنه باعتباره عمدة لهذه القرية خالف قوانين المدينة التابعة لها قريته، وأنه ليس فقط تسبب في هذه الجريمة، بل إنه كان يخطط لإلصاق التهمة بالأبرياء، فزاد جريمة جديدة على جريمته، وأنه بعد التحقيقات الجادَّة والصارمة التي يأمر بها ويتابعها رئيس هذه المدينة، فإنه لا أحد فوق القانون، وأنت أيها العمدة من المُؤكَّد أن لك علاقة ما بقتل السيد دان وابنه، حيث إنك أولًا تَحْسد السيد دان وابنه على ثروتهما الكبيرة، ثانيًا أنك تطمع في المرأة الشابة داي، ومن ثم فإنك تسعى إلى خداعي اعتمادًا على منصبك في هذه القرية، ويبدو أنكَ أخطأتَ وجئتَ ترفع فأسك أمام منزل لوو بان، وتهز سيفك أمام قوان ييه، وترتل «كتاب الجمل الثلاث» للفيلسوف الحكيم كونفشيوس، وجئتَ تقرأ «كتاب الطب» على مسامع الطبيب لي شه جين، أقول إنك: «تبيع المياه في حارة السقايين، فاخلع عنك هذا الرداء.»»
فصعد بعض الجنود وقاموا بتشبيك يدي العمدة دان وو خوو تزه وأوثقوه، فراح دان وو خوو تزه يصيح: «مظلوم، مظلوم أيها الحاكم العادل.»
– «ائتوا بنعال الأحذية واصفعوه على وجهه.»
– «مظلوم مظلوم مظلوم.»
– «إذا لم تكن أنت وراء هذه الجريمة، فمَن القاتل إذًا؟»
– «نعم … لا أعلم، لا أعلم.»
– «منذ قليل تحدثت إليَّ بكلام واضح، والآن تقول: إنك لا تعلم، أسرعوا بصفعه على وجهه.»
فقام شياو يان برفع نعل الحذاء وصفعه ما يزيد على عشر صفعات على وجهه، حتى تشققت شفتاه وامتلأ وجهه بالدماء، فراح عمدة القرية يتألم قائلًا: «سأتكلم … سأتكلم.»
– «مَن القاتل؟»
– «إنه … إنه … إنه قاطع طريق، إنه خوا بوه تزه.»
– «وأنت الذي استأجرته للقيام بهذه الجريمة؟»
– «إطلاقًا! نعم نعم نعم، أبي الفاضل، أرجوك لا تصفعني ثانية!»
وبينما كان الحضور يستمعون إلى العمدة دان وو خوو تزه، قال السيد تساو مينغ جيو رئيس المدينة: «إنه منذ تولي رئيس هذه المدينة مهام عمله، فإنه يسعى جاهدًا إلى تحقيق ثلاثة أهداف كبرى: منع المخدرات والقمار والقضاء على قُطَّاع الطُّرق، وقد حققنا نتائج كبيرة في مجالي منع المخدرات ومنع القمار، ولم نحقق نتائج مرجوة في مجال القضاء على ظاهرة قُطَّاع الطُّرق. وتُعْتَبر قرية دونغ بيي معقل قُطَّاع الطُّرق في هذه المدينة، وإننا نهيب بالمواطنين الصالحين في هذه المدينة أن يتعاونوا مع الحكومة لأجل المعلومات السرية الخاصة بقُطَّاع الطُّرق والإخبار عنهم، للعمل على تحقيق الأمن والأمان في جميع ربوع المدينة! وبما أنَّ المرأة داي هي الزوجة الشرعية في عائلة دان، فإن جميع ثروات عائلة دان ستئُول إليها، وإننا سوف نعامل كل من يسعى لظلم هذه المرأة الضعيفة ويحوك لها المؤامرات، نقول: فإننا سوف نعامله كما لو كان أحد أفراد عصابات قُطَّاع الطُّرق!»
تَقدَّمَت جدتي ثلاث خطوات إلى الأمام، وركعت أمام سيادة رئيس المدينة، ثم رفعَت وجهها قليلًا ونادت: «أبي! أبي!»
فرد السيد رئيس المدينة قائلًا: «أنا لست أباكِ، إن أباكِ هنالك يسحب الحمار.»
فقامت جدتي على ركبتيها وأمسكت بقدمي السيد تساو مينغ جيو رئيس المدينة وصاحت: «أبي، أبي، كيف لا تعترف بابنتك بعد أن أصبحتَ رئيسًا للمدينة؟ فقبل عشرة أعوام مضت، كنت قد بعت ابنتك بسبب المجاعة آنذاك، وإذا كنتَ لا تعرف ابنتك الآن، فإنها تعرفك جيدًا.»
– «كيف يحدث هذا؟ إنه مجرد افتراء!»
– «يا لك من مجنونة أيتها المرأة، لقد أخطأت في معرفتي.»
– «لم أخطئ! لم أخطئ! أبي، أبي العزيز!» وأخذت جدتي تتشبث بقدمي السيد رئيس المدينة ولا تتوقف عن هزهما، وقد فاضت دموعها، وانخرطت في نوبة بكاء عميق.
فمد رئيس المدينة يده وسحب جدتي قائلًا: «سأعترف بك ابنةً لي.»
– «أبي العزيز!» فمالت جدتي لتركع ثانيةً أمام رئيس المدينة الذي اعترضها وأمسك بذراعيها، فقبضت جدتي على يديه، وقالت بتدلل: «أبي، متى ستصحبني معك لرؤية أمي؟»
فرد السيد تساو مينغ جيو رئيس المدينة قائلًا: «فورًا، فورًا، فلترخي يديكِ، فلترخي يديكِ.»
خففت جدتي من قبضتها على يدي رئيس المدينة.
وأخرج رئيس المدينة منديلًا وراح يمسح عرقه.
وراحت جموع الحاضرين تنظر إلى رئيس المدينة وإلى جدتي بغرابة.
وخلع رئيس المدينة قبعته، ثم ثبتها أعلى إصبعه الوسطى وراح يلفها بسرعة، وقال وهو يتهته: «أيها الأخوة الريفيون، أيها الإخوة الريفيون، إن رئيس هذه المدينة يدعو دائمًا إلى منع المخدرات ومنع القمار ومحاربة قُطَّاع الطُّرق.»
صمت السيد رئيس المدينة صمتًا تامًّا، ثم سمع صوت طلق ناري، كان مصدره حقول الذُّرَة الواقعة خلف خليج المياه، جاءت ثلاث طلقات نارية استطاعت أن تصيب تلك القبعة البنية التي كان يعبث بها رئيس المدينة أعلى إصبعه الوسطى، فطارت القبعة في الهواء وكأنها أصابتها روح عفريت، ثم سقطت على الأرض ثانيةً وراحت تلفُّ حول نفسها.
وخلال ذلك الصخب، لم يتوقف جمع الحاضرين عن الصفير، حتى إن بعضهم راح يصيح بأعلى صوته قائلًا: «لقد جاء قاطع الطريق خوا بوه تزه.» «لقد جاءت العنقاء الثلاثية.»
ودخل رئيس المدينة أسفل المنضدة، وراح يصيح: «الهدوء! الهدوء!»
بينما كانت جموع الحاضرين في هرج ومرج تام.
أسرع شياو يان بفك الحصان الذي كان مربوطًا إلى أسفل شجرة الصفصاف، وسحب رئيس المدينة إلى الخارج، وأحكم وضع السرج على ظهر الحصان، ثم ضرب الحصان بنعل الحذاء، فاستسلم الحصان للسيد رئيس المدينة وطار به حتى توارى عن عيون الجميع، بينما انشغل ما يزيد عن عشرين جنديًّا بإطلاق الرصاص عشوائيًّا تجاه حقول الذُّرَة، ثم انطلقوا ليلحقوا بالسيد رئيس المدينة.
وعمَّ الصمت جانبي الخليج.
وبقيت جدتي في مكانها عابسة، تضع يدها على ظهر الحمار بينما هي منشغلة بالتحديق إلى مصدر الطلقات الثلاث التي هرب فور سماعها رئيس المدينة، أما والدها السيد داي، فقد اختبأ أسفل بطن الحمار، واضعًا يديه على أذنيه ساكنًا في مكانه، كما كان الجد لوو خان لا يزال أيضًا قابعًا في مكانه وقد بدت ملابسه متبخرة.
هدأت مياه الخليج، وبدت نباتات النيلوفر هادئة في أماكنها، وبتلاتها قوية صامدة مثل العاج.
أما عمدة القرية السيد دان وو خوو تزه الذي تورَّم وجهه من كثرة الضرب بنعال الأحذية فقد راح يصيح: «أطلقوني! أطلقوني! أنقذني يا خوا بوه تزه!»
وما إن أنهى العمدة دان وو خوو تزه كلامه، حتى سمع دوي ثلاث طلقات نارية مكثفة، ورأت جدتي بأم عينيها الطلقات الثلاث وهي تُصيب مؤخرة رأس عمدة القرية، وأثناء دَوِي الطلقات النارية، كان قد وقف شعر رأسه رعبًا، ثم سقط على الأرض، ورأسه لأعلى وهي تنزف سائلًا أبيض.
لم يطرأ أي تغير على ملامح جدتي، استمرت في النظر إلى حقول الذُّرَة مصدر الطلقات النارية، وكأنها تنتظر شيئًا ما، وهَبَّت نوبة رياح، راحت تهتز على إثرها نباتات النيلوفر في خليج المياه، وانعكست الأضواء داخل المياه، أما الغربان التي كانت تقف أعلى شجرة الصفصاف، فقد سقط نصفها على جثتي السيد دان يان شيو وابنه الأبرص دان بيان لانغ، بينما بقي نصفها الآخر واقفًا أعلى شجرة الصفصاف مُحدِثة بعض الضوضاء، وبدت أجنحة الغربان فوق الشجرة تهزها الرياح مفتوحة وكأنها مراوح تتطاير بفعل الرياح، وكانت الغربان تكشف عن مؤخراتها الزرقاء.
خرج من داخل حقول الذُّرَة رجل ضخم، وبدأ يسير بمحاذاة خليج المياه، وكان يرتدي لباسًا من القش، وقبعة مصنوعة من أوراق الذُّرَة، يتخلل حبل القبعة حبات من الزجاج الأخضر، ويربط حول رقبته وشاحًا من الحرير الأسود، وتَقدَّم الرجل نحو جثة عمدة القرية السيد دان وو خوو تزه، ونظر إليها نظرة خاطفة، ثم مضى إلى أمام قبعة السيد تساو مينغ جيو رئيس المدينة، والتقط الرصاصة الفارغة ولفها بيده عدة لفات ثم ألقى بها بعيدًا، وألقى بالقبعة التي راحت تلف حتى استقرت داخل المياه.
ونظر الرجل إلى جدتي، فالتقت عيناه بعينيها.
وسألها الرجل: «هل ضاجعك دان بيان لانغ؟»
فردت جدتي: «نعم.»
فسبَّ الرجل «اللعنة على أمه»، ثم استدار بجسده ومضى إلى داخل حقول الذُّرَة.
وكان الجد لوو خان في حيرة وارتباك تام من سلسلة الأحداث التي وقَعتْ أمام عينيه، حتى إنه أصبح حائرًا تائهًا لا يقوى على تحديد يمينه من يساره.
وكانت الغربان قد غطت جثتي السيد دان يان شيو وابنه، وكانت تدور بمناقيرها الحادة حول الجثتين تبحث عن عينيهما.
وتذكر الجد لوو خان عندما كان ينادي بالأمس داخل سوق مدينة قاو مي السيد رئيس المدينة ليستمع إلى بلاغه، وكان السيد تساو رئيس المدينة قد اقتاده إلى مقر حكومة المدينة، وراحَا يتجاذبان أطراف الحديث على ضوء الشموع في بهو المقر الحكومي، وقد أمسك كل منهما برأس فجلة يقضمها، وفي صباح اليوم التالي، ركب بغله عائدًا إلى قريته دونغ بيي، بينما ركب السيد رئيس المدينة حصانًا أسود اللون، وسار خلفه مساعده شياو يان وما يزيد على عشرين جنديًّا، ووصل الركب إلى القرية في فترة الصبيحة ما بين السابعة والتاسعة صباحًا، وقام السيد رئيس المدينة بتفقد مكان الحادث. ثم استدعى عمدة القرية السيد دان وو خوو تزه ليقوم بجمع أهل القرية، لأجل تنظيم أعمال انتشال الجثث من داخل مياه الخليج.
في تلك الأثناء كانت مياه الخليج تلمع، وبدت عميقة إلى درجة لا يمكنك الوقوف على مدى عمقها، وأمر السيد رئيس المدينة عمدة القرية دان وو خوو تزه بالنزول إلى المياه لانتشال الجثث، فتعلل العمدة بأنه لا يتقن السباحة بينما كان يرجع إلى الخلف، فتقدم الجد لوو خان وقال بشجاعة: «سيادة رئيس المدينة، هؤلاء عمال لدى المتوفيين، فلتأذن لهم بالنزول إلى المياه لانتشال جثة السيد دان وابنه.» ثم طلب الجد لوو خان من أحد العمال سرعة العودة إلى المنزل ليحضر نصف دلو من النبيذ، ويدهن به جسده، ثم لينزل إلى المياه، وكان عمق مياه الخليج حوالي طول عصا البامبو، وقام الجد لوو خان بحبس أنفاسه، ومد أطراف قدميه إلى داخل طمي مياه الخليج، وراح يعبث داخل مياه النهر كالأعمى الذي يبحث عن شيء ما، ولم يتوصل إلى أي نتيجة، ثم حبس أنفاسه أكثر وتوغل إلى طبقة أعمق، وأحس بأن المياه عند هذه الطبقة أشد برودة من الطبقة الأعلى، وفتح عينيه ليجد أمامه شرائح صفراء، وسمع طنين أذنيه، وإذا بكائن غامض يقترب منه، فمد يده يتحسسه، فأحس أن أظافره تتألم كأنه قد لدغته نحلة، وصاح صيحة ليلقي من فمه بكمية من المياه المشبعة برائحة الدم، وعندها لم يَعُد الجد لوو خان يهتم بأي شيء سوى محاولة الصعود إلى سطح المياه، ثم مضى يقاتل للسباحة حتى شاطئ الخليج، وتسلق إلى حافة المياه، وجلس على الأرض وهو يلهث.
سأله السيد رئيس المدينة: «هل لمست الجثث؟»
فرد ووجهه مصفر: «لا … لم ألمسها بعد.» ثم قال: «هناك كائن غريب … داخل المياه.»
نظر السيد رئيس المدينة إلى مياه الخليج، ثم خلع قبعته وراح يلفها أعلى إصبعه الوسطى، ثم أعاد القبعة إلى رأسه، واستدار بجسمه ونادى على اثنين من الجنود قائلًا: «ألقوا بالقنابل داخل المياه.»
وقام مساعد رئيس المدينة شياو يان بإبعاد الأهالي عن حافة الخليج بحوالي ما يزيد على عشرين خطوة.
وعاد رئيس المدينة وجلس إلى جانب المنضدة.
وانبطح هذان الجنديان إلى جانب حافة خليج المياه، واضعين بندقيتهما إلى الخلف، ثم أخرج كل منهما من حول خصره قنبلة سوداء في شكل ثمرة الشمام، وخلعَا منها مسمارًا ثم قامَا بتثبيت القنبلة على غطاء البندقية وألقيَا بها إلى داخل المياه. فكوَّنت القنبلة عددًا كبيرًا من الدوائر أعلى سطح المياه، فأحنى الجنديان رأسيهما خشية أن يُصابَا بأي أذًى، وخيَّم الصمت على أرجاء المكان، بعد مُضِي وقت غير قصير، ساد الصمت داخل المياه، وتَفرَّقَت تلك الدوائر التي نتجت عن اصطدام القنابل بالمياه إلى حافة المياه، حتى بدت صفحة المياه غامضة.
قال السيد رئيس المدينة وهو يعض على أسنانه: «فَلْتُلقيَا المزيد من القنابل.»
فأخرج الجنديان قنابل جديدة وألقيَا بها إلى داخل المياه بنفس الخطوات التي اتبعاها في المرة الأولى، فأحدثت القنابل السوداء صوتًا أثناء تطايرها إلى داخل المياه، مخلفة دخانًا أبيض على جانبي المياه، وفي لحظة سقوط القنابل إلى داخل المياه سُمع صوت مكتوم من أعماق المياه؛ تساقط هذان العمودان المنتصبان داخل مياه الخليج، كان يبلغ ارتفاعهما حوالي ثلاثة أو خمسة أمتار، لهما قمة غير منتظمة كالأشجار المصنوعة من الثلج.
فر السيد رئيس المدينة إلى جانب المياه، وتبعه الأهالي، بينما كانت كتل المياه المتجمعة لا تزال في غليان شديد، حتى توقفت بعد وقت طويل، وتلاشت أعداد كبيرة من فقاعات المياه، ثم ظهر على سطح المياه ما يزيد على عشرة من صغار الشبوط، وبدأت أمواج المياه تتلاشى شيئًا فشيئًا، ثم امتلأت المياه برائحة كريهة، وسطعت أشعة الشمس على صفحة المياه، واهتزت سيقان وأوراق نباتات النيلوفر، وقد بدت في غاية الأناقة والروعة. أضاءت الشمس وجوه الحاضرين، وبدأ وجه السيد رئيس المدينة يلمع تحت أشعة الشمس، ووقف الجميع ينتظرون مُتجهِّمِين، وكانوا يمدون رقابهم إلى الأمام لمشاهدة مياه الخليج التي بدأتْ تهدأ شيئًا فشيئًا.
وفجأة انطلقت فقاعتان ورديتان في منتصف خليج المياه، فتوقفت أنفاس الجميع، وبدَءُوا ينصتون إلى صوت تلاشي هاتين الفقاعتين، واشتدت أشعة الشمس، وتغطت صفحة المياه بطبقة من القشور الذهبية الباهرة، ولِحُسْن الحظ ظهرت آنذاك غيمة سوداء حجبت ضوء الشمس، ليختفي اللون الذهبي الباهر، ويسيطر اللون الأخضر على مياه الخليج، وظهر شبح كائنين أسودين يبرزان من منطقة الفقاعتين الورديتين اللتين كانتَا قد ظهرتا في منتصف المياه، وزادت سرعة هذين الشبحين بمجرد اقترابهما من سطح المياه، لتظهر عندها مُؤخِّرَتان، ثم تنقلب المؤخرتان ليظهر السيد دان وابنه الأبرص، ووجههما يكاد يختفي أسفل المياه وكأنهما في خجلٍ شديدٍ من الظهور على سطح المياه.
أمر السيد تساو رئيس المدينة بسرعة انتشال الجثتين، فعاد بعض عُمَّال فرن النبيذ إلى منزل السيد المرحوم دان يان شيو وأَتَوا بلوح خشبي، وربطوا به خُطَّافًا من الحديد، وأمسك الجد لوو خان باللوح الخشبي ومد الخطاف ليمسك بقدمي السيد دان وابنه، وعندما سمع الحضور صوت الخطاف ينغمس داخل جَسدَي السيد دان وابنه تأثَّروا تأثرًا شديدًا.
ورفع الحمار رأسه تجاه السماء وراح ينهق بصوتٍ مسموعٍ.
وسأل الجد لوو خان: «ما العمل يا سيدتي؟»
ففكَّرَت جدتي لبعض الوقت ثم أجابت: «فلتأمر العمال بأن يذهبوا إلى مَتْجَر الأخشاب ويأتوا بتابوتين من الخشب الخفيف، ونسرع بوضع الجثتين بداخلهما، ثم لنبحث عن موضع لدفنهما، ويفضل أن نقوم بهذا العمل على وجه السرعة، وبعد الانتهاء من عملية الدفن، أريدك أن تقصدني في الفناء الغربي؛ حيث إن لديَّ بعض الأمور أود مناقشتها معك.»
فأجاب السيد لوو خان باحترام ووقار: «حسنًا يا سيدتي.»
قام الجد لوو خان بوضع جثة السيد دان يان شيو وابنه الأبرص داخل التابوتين، ودفنهما وسط حقول الذُّرَة، وساعده في ذلك ما يزيد على عشرة من عمال فرن النبيذ الذين كانوا في صمتٍ تامٍّ خلال عملية الدفن، وانْتَهوا من عملية الدفن في ساعة الأصيل، وراحت جماعات الغربان تحوم حول القبر، وقد بدت أجنحة الغربان مُصطَبِغة بلون شمس الأصيل، وقال الجد لوو خان مخاطبًا عمال فرن النبيذ: «أيها الرفاق، فلتعودوا إلى أماكنكم وتنتظروا إشارتي، والتزموا قلة الكلام في هذا الموضوع.»
وجاء الجد لوو خان إلى الجانب الآخر من الفناء ليستمع إلى توجيهات جدتي، كانت تفترش آنذاك الحاشية التي كانت تجلس عليها أعلى ظهر الحمار، بينما كان والدها ينشغل بإطعام الحمار بكومة من الأعشاب الجافة.
قال الجد لوو خان: «سيدتي، لقد انتهينا من مراسم الدفن، وهذا هو المفتاح الذي كان يحمله المعلم دان يان شيو.»
فرد الجد لوو خان: «نعم سيدتي.»
فقالت جدتي: «إذًا فلتذهب لشراء سلتين من فطائر باو تزه وتوزعها على جميع عمال الفرن، وبعد أن ينتهوا من أكل الفطائر، ائتني بهم إلى هنا، وأحضر لي معك عشرين فطيرة باو تزه.»
جاءها الجد لوو خان بعشرين فطيرة من فطائر باو تزه ملفوفة داخل ورقة من أوراق اللوتس النضرة، فمدت جدتي يدها لتأخذ الفطائر قائلة: «فلتذهب إلى الفناء الشرقي وتنادي جميع العمال ليأتوا إلى هنا لنأكل معًا الفطائر.»
فانصرف الجد لوو خان من أمامها وهو لا يتوقف عن قول نعم نعم سيدتي.
حملت جدتي الفطائر ووضعتها أمام والدها ثم قالت: «فلتحمل معك هذه الفطائر لتأكلها في طريق عودتك!»
فقال الوالد: «جيو إر، إنك ابنتي من لحمي ودمي.»
فقالت جدتي: «فلتغادر بسرعة، ودعك من كثرة الكلام في هذا الموضوع.»
فقال الوالد بلهجة قاسية: «اعلمي جيدًا أنني والدك.»
فردت جدتي: «إنني أتبرأ منك، ومن الآن فصاعدًا غير مسموح لك بأن تخطو عتبة هذا المنزل.»
– «إنني والدك.»
– «ألم تسمع بأن والدي الحقيقي هو السيد تساو رئيس المدينة؟»
– «ليس الأمر بهذه البساطة، وهل يُعْقَل أن تَتخلَّي عن والدك القديم بمجرد العثور على والد جديد؟ وكم عانيتُ أنا وأمك في تربيتك!»
فأمسكت جدتي بالفطائر وألقت بها في وجه والدها؛ لتُحدِث صوتًا مسموعًا عند اصطدامها بوجه الرجل العجوز.
سحب الرجل حماره وجعل يخطو إلى خارج باب المنزل وهو لا يتوقف عن السباب: «ابنة حرام! ابنة حرام، حيوانة! حيوانة تتبرأ من لحمها ودمها! سأذهب إلى حكومة المدينة لشكواكِ، سأشتكيكِ بأنكِ ابنة عاقة لوالديك! وأنكِ مارستِ جريمة الزِّنا مع قاطع الطريق! وأنك تواطأتِ معه بقتل زوجكِ.»
وبينما والد جدتي يغادر المنزل وهو لا يتوقف عن سب ولعن ابنته، إذا بالجد لوو خان يدخل وبصحبته ثلاثة عشر رجلًا من عمال فرن النبيذ.
رفعتْ جدتي يدها وراحت تُرتِّب خصلات شعرها، ثم مدت يدها وجعلت تفرد ملابسها وقالت بكرم واضح: «لقد أجهدتم أنفسكم أيها الرفاق! إنكم ترونني أمامكم شابة تَرمَّلت بعد أيام من أول زواج لها، وليس لي علم بهذه الدنيا الكبيرة، وأتمنَّى أن أجد منكم المساعدة والدعم، وأنت أيها العم لوو خان، إنك تعمل لدى عائلتنا منذ ما يزيد على عشرة أعوام، واسمح لي أن أعتمد عليك من اليوم في أمور فرن النبيذ، وكما تَرون فقد رحل المعلم دان يان شيو وابنه، وأتمنى أن نتعاون معًا لأجل استعادة العمل بهذا الفرن، وكما تعلمون أننا من الممكن أن نَستَنِد إلى مساعدة أبي في المدينة، وإنني على ثقة بأننا سننجح في عملنا هذا إذا راعينا التعاون الجادَّ مع الأصدقاء في المزارع، وإذا لم نُسِئ التعامل مع أقربائنا في هذه البلدة والتُّجَّار الذين يتعاملون معنا، وسيتوقف العمل بالفرن لمدة ثلاثة أيام بدءًا من الغد، وأتمنى أن تساعدوني في إعادة ترتيب المنزل، وأن نتخلص من الأشياء القديمة التي كان يستعملها المعلم دان وابنه زوجي دان بيان لانغ، وذلك بحرق ما يمكن حرقه ودفن ما يصعب عليكم حرقه، ولتستريحوا هذا المساء مبكرًا بعض الشيء، فما رأيك أيها العم لوو خان؟»
رد الجد لوو خان قائلًا: «سنعمل وفق توجيهاتك سيدتي.»
فقالت جدتي: «هل يوجد من لا يرغب في العمل معنا؟ وإذا كان أي منكم لا يرغب في العمل مع هذه المرأة الأرملة، فلن نجبره على البقاء، وبإمكانه أن يبحث له عن عمل في مكان آخر.»
تبادَل العمال النظر بعضهم إلى بعض، ثم قالوا في صوت واحد: «نرغب جميعًا في العمل معك.»
فقالت جدتي: «إذًا فلتتفرقوا الآن.»
فتجمَّع العمال داخل غرفتهم في الفناء الشرقي، وراحوا يتهامسون فيما بينهم، فقال الجد لوو خان: «فلتناموا الآن، فلتناموا الآن، سنستيقظ غدًا مبكرًا.»
وفي منتصف الليل، نهض الجد لوو خان من فراشه ليقدم بعض الحشائش للبغلين، فسمع جدتي تبكي بصوتٍ منخفضٍ داخل الفناء الغربي.
وفي اليوم التالي، نهض الجد لوو خان من فراشه مبكرًا، وراح يلف خارج باب المنزل الكبير، فرأى باب الفناء الغربي موصدًا وقد خيم السكون على جميع أرجاء الفناء، فعاد الجد لوو خان إلى الفناء الشرقي، وصعد أعلى كرسي عالٍ وجعل ينظر إلى داخل الفناء الغربي، فإذا بجدتي تنام جالسة على حاشية وظهرها تجاه حائط الفناء.
خلال تلك الأيام الثلاثة، حدثت تغيرات كبيرة جدًّا في منزل عائلة دان، تَصبَّبتْ أجساد الجد لوو خان وعمال الفرن بالنبيذ، وقاموا بتنظيف المكان من الألحفة والملابس والأواني والأطباق والخيوط وغيرها من الأشياء والأدوات التي كان يستخدمها المعلم دان يان شيو وابنه الأبرص، وحملوا هذه الأشياء إلى ميدان الفناء، وسكبوا عليها النبيذ وأضرموا فيها النيران، ثم دفنوا الرماد الذي تخلف عن عملية الحرق.
وبعد أن أفرغوا الحجرة مما كان بداخلها من أشياء وأدوات تخص المعلم دان وابنه الأبرص، جاء الجد لوو خان بسلسلة المفاتيح وقد وضعها داخل سلطانية ممتلئة بنبيذ الذُّرَة، وقال مخاطبًا جدتي: «سيدتي، لقد غمسنا هذا المفتاح في النبيذ ثلاثة مرات.»
فقالت جدتي: «أيها العم لوو خان، فلتتولَّ أنت أمر هذا المفتاح، فثروتي تعتبر ثروتك ولا فَرْق بيننا.»
ذُهِل الجد لوو خان ولم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة.
ثم قالت جدتي: «أيها العم لوو خان، الآن ليس وقت الاعتذار، ولتسارع بشراء بعض القماش والقطن، حتى نتمكن من إعادة تهيئة المنزل من ألحفة وخيام وغيرها، واستدعِ بعض العمال للقيام بذلك ولا تقلق بشأن التكاليف، واطلب من عمال الفرن أن يحملوا بعض النبيذ ويرشوه داخل الغرف وخارجها وعلى سور المنزل.»
سألها الجد لوو خان: «وما كمية النبيذ التي تأمرين بها؟»
فأجابت جدتي: «فليستخدموا الكمية التي يرونها مناسبة.»
فجاء العمال بالنبيذ وجعلوا يرشونه في جميع أرجاء المنزل، بينما وقفت جدتي تراقبهم وهي تبتسم.
استخدموا هذه المرة مقدار تسعة أوانٍ من النبيذ، وبعد الانتهاء من رش النبيذ، أمرت جدتي العمال بأن يحملوا القماش الجديد والنبيذ، وأن يمسحوا به جميع الأشياء التي يمكن مسحها، ثم ليقوموا بعد ذلك بدهان السور بالجير، وطلاء الأبواب والنوافذ وفرش المنطقة المحيطة بمصطبة التدفئة بالأعشاب الجديدة وتغيير الحصير القديمة بأخرى جديدة، وهكذا حتى يجعلوا المكان يبدو في صورة جديدة تمامًا عمَّا كان عليه من قبل.
وبعد انتهاء المهمة، قامت جدتي بصرف مبلغ ثلاثة دا يانغ مكافأة لكل عامل من العمال الذين اشتركوا في هذه المهمة.
وهكذا سارت تجارة النبيذ على ما يرام، وحققت نتائج فائقة تحت إشراف جدتي والجد لوو خان.
وفي اليوم العاشر من القيام بتعقيم جميع أرجاء المنزل بالنبيذ، وبعد زوال رائحة النبيذ التي كانت تعبق المكان، بدأت تسري داخل المكان رائحة الجير الذي تم استخدامه في طلاء سور المنزل، وبدت جدتي في غاية السعادة، وخرجت إلى متجر الخرداوات بالقرية واشترت مقصًّا وكمية من الورق الأحمر وإبرة وخيوطًا ذهبية وغيرها من الأدوات التي تستخدمها المرأة، وبعد العودة إلى المنزل، صعدت إلى أعلى مصطبة التدفئة وجلست أمام النافذة وأخذت بالورق الأبيض المدهون بالغراء، وراحت تستخدم المقص في عمل بعض الأشكال، كانت جدتي معروفة بمهارتها الفائقة، وأثناء إقامتها في منزل أبيها قبل الزواج، كانت كثيرًا ما تتعاون مع جاراتها في أعمال القص وينتجن الكثير من الأعمال الجيدة، كانت جدتي فنانة شعبية من الدرجة الأولى، وقد قدمت إسهامات بارزة في مجال تطور فن قص الورق في قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي.
وكان فن قص الورق بمدينة قاو مي يتميز بالروعة والدقة والتفرُّد والأسلوب الخاص الذي يميزه عن فن قص الورق في المناطق الصينية الأخرى.
أخذت جدتي بالمقص وراحت تقص ورقة حمراء مربعة، وفجأة انتابها شعور بالاضطراب، وأحست للحظة أن جسدها لا يزال هنا أعلى مصطبة التدفئة، بينما طار قلبها إلى خارج النافذة إلى حقول الذُّرَة وكأنها حمامة لا تتوقف عن التحليق فوق الذُّرَة … وقد كانت جدتي منذ صغرها محبوسة في منزل أبيها لا تغادر عتبة البيت، وكأنها كانت في عزلة تامَّة عن العالم الخارجي، ومع تقدم سنها والتزامًا منها بطاعة والديها، قَبِلَت الزواج من العريس الذي أتت به إليها الخاطبة، وخلال الأيام القليلة الماضية، هبت رياح وأمطار، وامتلأت الترع بأوراق اللوتس … وخلال تلك الأيام الأخيرة مرت جدتي بالكثير من الأحداث التي لم تَتعرَّض لها من قبلُ بما فيها الخوض في المياه الباردة والانغماس في نبيذ الذُّرَة وغيرها، ولم تَعُد تعرف، ما الذي تتطلع إليه، فأخذت بالمقص وتكاد لا تعرف ماذا تنوي أن تفعل به، تلاشت جميع أحلامها وتخيلاتها قبل الزواج، ووسط هذه الحالة من الاضطراب والتَّشتُّت التي كانت تسيطر عليها، سمعت جدتي صوت جندب حزين وجميل في نَفْس الوقت قادم من داخل حقول الذُّرَة، كان الوقت بداية الخريف، وأحسَّت جدتي وكأنها رأت تلك الحشرة الخضراء تَتحرَّك فوق سنابل الذُّرَة الحمراء وهي لا تَتوقَّف عن الهز بجناحيها، وتَخيَّلَت أن الصوت الجميل الذي سمعته إنما يصدر عن هذه الحشرة الصغيرة.
وبعد أن انتهت جدتي من قص صورة الجندب وهو يخرج من داخل القفص، قامت أيضًا بقص غزالة صغيرة، وقد نمت على ظهرها زهرة حمراء، وكانت الغزالة تسير شامخة الرأس مرفوعة الصدر وسط هذا الكون الحر وهي تبحث عن حياتها الجميلة الخالية من الأحزان والقيود.
ولا شك أن تلك الأفكار والتخيلات التي تسيطر على جدتي أثناء قيامها بقص الورق، إنما توضح أنها في الأصل سيدة شجاعة، يمكن لمثلها فقط القيام بإضافة أزهار المايخوا إلى ظهر الغزالة، وكلما رأيتُ أعمال الورق التي أبدعَتْها جدتي، أشعر بمزيد من الاحترام والتقدير لهذه المرأة الموهوبة، فلو كانت جدتي مارسَت الكتابة الأدبية، كانت ستطيح بعددٍ كبيرٍ من الأدباء، إنها حقًّا مبدعة أصيلة صادقة فيما تقول وتبدع.
جدتي، أشعر أمامك كأنني حشرة صغيرة هزيلة.
وبينما كانت جدتي مشغولة بقص الورق، سمعَتْ فجأة صوت الباب، ثم سمعَت صوتًا يبدو معروفًا لها وغريبًا عنها يصيح داخل الفناء: «أيها المعلمة، هل أنتم بحاجة إلى عمال؟»
فسقط المقص من يدها أعلى مصطبة التدفئة.
٧
استيقظ أبي متأثرًا بالقلق الذي كان يسيطر على جدي، استيقظ ليرى أمامه ذلك التنين الطويل الممتد على حافة النهر يدنو منهم بسرعة، وسمع صوت تشجيع وحماس يصاحب المشاعل، وكان من الصعب على أبي أن يفسر آنذاك مدى تأثُّر جَدِّي ذلك القائد الذي لا تهتز له شعرة من قَتْل الأنفس، لم يستطع أبي تفسير تأثره برؤية المشاعل والصوت المصاحب لها، وراح جَدِّي يبكي بصوتٍ منخفضٍ، ثم بدأ يتمتم قائلًا: «دوو قوان … ولدي … لقد جاء أهالي القرية.»
ظهر أهالي القرية متجمعين، ظهر المئات من الشباب والشيوخ والرجال والنساء، ظهروا يحملون بأيديهم المَشاعل والمَعاوِل والمَجارف والعِصِي، وكان أصدقاء أبي المُقرَّبون يقفون في الصفوف الأمامية، حامِلِين المشاعل المرفوعة على أعواد الذُّرَة: «لقد انتصرنا أيها القائد يو!» «أيها القائد يو، لقد قام أهالي القرية بذبح الأغنام، وأعَدُّوا مأدبة للاحتفال بالنصر، وهم الآن في انتظار عودة الرِّفَاق.»
سجد جَدِّي أمام تلك المشاعل التي كان ضوؤها ينعكس على حقول الذُّرَة الممتدة على جانبي النهر بصورة مهيبة، ثم قال بصوت يغلبه البكاء: «أهلي وعشيرتي الأفاضل، لقد وقعتُ أنا المجرم يو جان آو فريسة أمام غدر لينغ ماتزه … أيها الرفاق … لقد ضاع كل شيء!»
وتَجمَّعَت المشاعل أكثر فأكثر، وعلا الدخان في الأفق، ولم تَتوقَّف قِمَم المشاعل عن الحركة، بينما كانت تتساقط بعض من كُرات اللهب المشتعلة على الأرض، حتى بدت الأرض تحت أقدام الجمع المُحتشدِين مفروشة بِكُرات اللَّهَب، وسُمِع صوت ضباح ثعالب داخل حقول الذُّرَة المجاورة، وتَجمَّعَت أعداد كبيرة من الأسماك وسط النهر مُحدِثة صوتًا مسموعًا، ولفَّ الجميع صمت تام، وفجأة سُمِع صوت قوي قادم من داخل حقول الذُّرَة.
وظهر شيخ كبير، أسود الوجه، أبيض اللحية، إحدى عينيه كبيرة والأخرى صغيرة جدًّا، وقدَّم المشعل الذي كان يحمله بيده إلى إنسان كان يقف إلى جواره، ثم أحنى ظهره، وأمسك ذراع جَدِّي بكلتا يديه وقال: «أيها القائد يو، انْهَضْ، انْهَضْ، انْهَضْ.»
فصاح الجميع في صوتٍ واحدٍ: «انْهَضْ أيها القائد يو، انْهَضْ، انْهَضْ.»
قام جَدِّي على مهل، وقد أحس بدفء شديد من خلال تَشبُّث ذلك الشيخ العجوز بذراعه، وقال: «أيها الأهل الكرام، هيا بنا إلى أعلى الجسر.»
وسار جَدِّي وأبي في المقدمة، وتبعهم جموع الأهالي حاملين المشاعل، وقد أضاءت ألسنة لهب المشاعل المنطقة المحيطة بالنهر وحقول الذُّرَة، وصولًا إلى المنطقة القريبة من الجسر الكبير، وظهرت في سماء اليوم التاسع من شهر أغسطس بعض الغيوم المحيطة بالقمر، وأضاءت المشاعل الجسر، ليروا اصطدام تلك العربات البالية، ثم شمت أنوفهم رائحة الدماء التي كانت تملأ ساحة المعركة، والتي كانت تختلط برائحة الذُّرَة النهر الخالد.
بكَت عشرات النساء في صوت واحد، وتساقطت قطرات من زيت المشاعل الملتهبة على أيدي وأقدام الجمع المحتشدين، وبدت وجوه هؤلاء الرجال تحت ضوء المشاعل مثل قطع حديد ملتهبة، بينما بدَا الجسر الحجري الكبير وكأنه قوس قزح.
وصاح الشيخ العجوز ذو الوجه الأسمر واللحية البيضاء: «ما الذي يُبكِيكن أيتها النساء؟ أليس ما تم تحقيقه يُعَدُّ انتصارًا كبيرًا؟ فالصين يبلغ تعدادها حوالي أربعمائة مليون نسمة، بينما يُعتَبر تعداد الأقزام اليابانيين ضئيلًا أمام إجمالي تعداد المواطنين الصينين، وإذا واجهناهم وجهًا لوجه، فمن أين لهم بالعدد الكافي لمواجهتنا؟ فإذا تَركْنَا مائة مليون من الصينين للقضاء عليهم تمامًا، فسيتبقى لدينا عدد ثلاثمائة مليون مواطن صيني، ألا ترون أن هذا انتصار كبير؟ أيها القائد يو، ما أعظمه من انتصار!»
فرد جَدِّي القائد يو جان آو: «أيها الأب الفاضل، إن كلامك هذا إنما يهدف إلى طمأنتي.»
قال الشيخ العجوز: «ليس كما تقول، أيها القائد يو إنه حقًّا لانتصار عظيم، فلتسرع بإصدار الأوامر، واؤْمُر بما ترى، فالصين ليس لديها شيء سوى هذا التعداد السكاني الكبير.»
فنصب جَدِّي قامته ثم قال: «أنتم هذا الجمع، عليكم بجمع جثث الرفاق الذين لقوا مصرعهم خلال المعركة.»
فتفرق الحشد وراحوا ينشغلون بجمع جثث أعضاء فرقة القائد يو جان آو من داخل حقول الذُّرَة الممتدة على جانبي الطريق العام، ويحملونها إلى حافة النهر عند الناحية الغربية للجسر الحجري، وبدَءُوا في رصِّها وجعلوا رءوس الجثث ناحية الجنوب والأقدام إلى ناحية الشمال، ورصوها في صف طويل، وسحب جَدِّي أبي من يده وتقدَّمَا إلى الأمام لإحصاء الجثث، فتعرف أبي من بين تلك الجثث على وانغ ون إي وزوجته، وفانغ ليو وشقيقه فانغ تشي، والعم ليو دا خاو، و«المسلول» وغيرها من الوجوه المألوفة وغير المألوفة له، ولاحَظ أبي التشنج والضيق الذي ملأ وجه جدي، إذ راحت الدموع تتساقط من عينيه.
قال جدي: «أين الأخرس؟ يا صغيري دوو قوان، هل رأيت عمك الأخرس؟»
فتذكَّر أبي على الفور ذلك المشهد عندما كان قد رأى العم الأخرس يجهش بخنجره الحادِّ على أحد العفاريت اليابانيين ليقطع رأسه، لتطير رأس القتيل إلى السماء، وقال أبي: «إنه داخل العربات اليابانية.»
فتجمَّع بعض من حاملي المشاعل حول العربات اليابانية، وقفز ثلاثة رجال من بينهم إلى داخل إحدى العربات، وحملوا العم الأخرس إلى خارج العربة، ومضى نحوهم جَدِّي القائد يو، وتقدم ليساعد في حمل ظهر الأخرس، ثم تقدم رجلان آخران، وأمسك أحدهم برأس الأخرس وأمسك الآخر برجليه، ومضوا إلى حافة النهر، ثم قاموا بوضع الجثة في أقصى شرق صف الجثث الطويل، وبدَا ظهر الأخرس منحنيًا، وكانت يده لا تزال تقبض على ذلك الخنجر الملطخ بالدماء، وعيناه مفتوحتان، وفمه أيضًا وكأنه في حالة استعداد للصياح بأعلى صوته.
سجد جَدِّي أمام الجثة، وأمسك بركبة العم الأخرس وصدره وراح يضغط عليهما بقوة، حتى سمع أبي صوت عظام الأخرس، وأخيرًا استقامت جثة الأخرس بفعل حركة جدي، ثم راح جَدِّي يتقدم ليأخذ الخنجر، ولكنه عجز عن سحبه من يد الأخرس؛ لذا فقد قام بلم ذراعي الجثة، ليجعل الخنجر يلتصق أكثر فأكثر برجل الأخرس، وتقدَّمَت سيدة وسجدت أمام الجثة، وجعلت تفرك عيني الأخرس المفتوحتين، وهي تقول: «فلتغلق عينيك أيها الرفيق الحميم، فلتغلق عينيك، وسيأخذ لك القائد يو جان آو بثأرك.»
قال أبي باكيًا: «أبي، إن جثة أمي لا تزال ترقد داخل الذُّرَة.»
فلوَّح جَدِّي بيده، ثم قال: «فلتذهب … فلتذهب بصحبة بعض من الأهالي لحمل جثتها.»
غاص أبي إلى داخل الذُّرَة، وتبعه بعض من حاملي المشاعل، واصطدمت المشاعل بأعواد الذُّرَة لتتساقط قطرات الزيت الملتهبة داخل الذُّرَة؛ لتشتعل أوراق الذُّرَة شبه الجافة، وبدأت أعواد الذُّرَة تحني رءوسها متأثرة بما حلَّ بها.
راح أبي يزيح أعواد الذُّرَة التي تعترضه، حتى نجح في الكشف عن جثة جدتي التي كانت ترقد داخل الذُّرَة ناظرة إلى سماء قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي اللامعة، وكانت جدتي قُبَيل موتها اجتهدت في مناداة السماء التي عاشت تحت ظلها، حتى تأثَّرَت السماء بمناداتها، وبدا وجه جدتي بعد موتها وجهًا جميلًا كأحجار الجاد الجميلة، وبدت أسنانها بيضاء جميلة، وصدرها الذي أصابته الطلقات النارية منتصبًا في زهو، في إشارة منه لازدراء أخلاقيات البشر والمواعظ الكبرى، لتُعبِّر عن ذلك الشرف والكبرياء العظيم الذي تمتلكه، من قوة وحرية وحب عظيم للحياة!
ثم وصل جَدِّي إلى حيث ترقد جثة زوجته، وكانت تحيط بجثتها عشرات من المشاعل، وكانت تتطاير كميات من أوراق الذُّرَة التي اشتعلت بفعل قطرات الزيت المتساقطة من المشاعل، بدت سنابل الذُّرَة متأثرة بما أصابها.
قال جدي: «فلتحملوها.»
وتجمعت زمرة من النساء الشابات حول جثة جدتي، وقد أحاطت بهن المشاعل من أمامهن وعن اليمين وعن اليسار، ليغطي ضوء المشاعل جميع الأرجاء داخل حقول الذُّرَة.
حُملت جثة جدتي إلى حافة النهر، ووُضعت في أقصى يسار صف الجثث المصطفة هنالك.
وسأل الشيخ العجوز ذو الوجه الأسمر واللحية البيضاء جَدِّي قائلًا: «أيها القائد يو، من أين ستدبر هذا العدد من التوابيت لدفن هذه الجثث؟»
فأجاب جَدِّي بعد أن فكر قليلًا في سؤال الشيخ العجوز: «لا داعي لأن نعود بهذه الجثث، ولا حاجة لنا بالتوابيت، ولنقم بدفن الجثث هنا داخل حقول الذُّرَة، وسنقيم جنازة مهيبة لهؤلاء الرفاق بعد أن نعيد ترتيب صفوفنا.»
أبدى الشيخ العجوز موافقته على اقتراح جدي، وراح يطلب من البعض سرعة العودة إلى القرية لتجهيز المشاعل والاستعداد لدفن الجثث ليلًا، فقال جدي: «ولتأتوا ببعض الدواب لجرِّ هاتين العربتين وتعودوا بهم إلى القرية.»
بدأ الجمع في حفر القبور تحت ضوء المشاعل الملتهبة، حتى انتهوا من الحفر عند منتصف الليل، وأمر القائد يو بعضًا من الرجال بقطع عدد من أعواد الذُّرَة وفرش جزء منها داخل القبور ثم تغطية الجثث بالبعض الآخر، ثم ليهيلوا عليها التراب في شكل تلال صغيرة.
كانت جثة جدتي آخر الجثث التي واروها التراب، تغطت الجثة تمامًا بأعواد الذُّرَة، وراح أبي يتأمَّل مشهد تغطية جثة أمه بأعواد الذُّرَة وقلبه يتمزق ألمًا وكأنه قد جرح جرحًا غائرًا، ولم يلتئم هذا الجرح الغائر طيلة حياته، كان جَدِّي أول من أهال التراب على جدتي، أحدثَتْ ذَرَّات التراب الأسود صوتًا عند اصطدامها بأعواد الذُّرَة التي كانت تُغطي الجثة، وبدا هذا الصوت مسموعًا ليكسر حالة السكون التام التي خيَّمَت على المشهد، وأحس أبي بانقباض قلبه، وبأن الدماء تسيل بشدة من جرحه الغائر، وراح يعض شفته السفلى الرقيقة بثناياه.
وأخيرًا تم الانتهاء من تشييد قبر جدتي؛ ليظهر داخل حقول الذُّرَة ما يزيد على خمسين قبرًا، فقال ذلك الشيخ العجوز: «فلتسجدوا أيها الإخوة تحية لهذه القبور!»
فسجد جميع أهل القرية من الكبار أمام هذه القبور الجديدة، ثم علَت أصوات البكاء والنَّحِيب لتملأ جميع الأرجاء، وانطفأت المشاعل، وهبط كوكب من السماء وملأ ضوؤه المكان، حتى اختفى هذا الضوء عند ملامسة الكوكب لقمَّة أعواد الذُّرَة.
ثم قام الجمع بحمل مشاعل جديدة، لتملأ أضواؤها المكان من جديد، واختلطت الدواب التي أتى بها الأهالي من القرية مما يزيد على عشرة رءوس من الخيل والبغال والحمير والأبقار، ثم راحت تلك الدواب تقضم أعواد وسنابل الذُّرَة بنهمٍ شديدٍ.
أمر جَدِّي بجمع الآلات التي استخدمت في حفر القبور، ثم أمر بأن يتم سحب العربة الأولى التي تم تحطيم إطاراتها بواسطة تلك الآلات إلى الطريق العام، وإلقائها إلى داخل المياه، ثم أخذ جَدِّي ببندقية وصوبها نحو تنك الزيت الخاص بتلك العربة؛ لينفجر التنك وتمتلئ المنطقة المحيطة بالعربة بعدد كبير من القطع الحديدية الصغيرة، وعمت رائحة الزيت جميع أرجاء المكان، ثم أخذ جَدِّي مشعلًا من أحد أهالي القرية القريبين منه وتراجع بضع خطوات إلى الخلف، ثم ألقى بالمشعل تجاه العربة؛ لتشتعل النار في بدن العربة لتصبح قطعة حديدية متفحمة.
ونادى جَدِّي على الجمع المحتشدين، وأمرهم بأن يسحبوا العربة الثانية التي كانت ممتلئة بالأرز إلى قمة الجسر، ثم إلى الطريق العام، وأمرهم أيضًا أن يقوموا بإلقاء الهياكل التي تبقت من العربتين الثالثة والرابعة إلى داخل المياه، كما قام بتصويب طلقة نارية تجاه تنك الزيت الخاص بالعربة الخامسة، وألقى عليها مشعل، لتحترق في الحال، وخلا الجسر الكبير من الأجسام الكبيرة التي كانت تظهر أعلاه، وبقي فقط بعض من بقايا ترابية وبقايا الأشياء المحترقة، وسمع دوي أصوات انفجارات متلاحقة لتلك الأشياء على جنوب وشمال النهر، وتفحمت الجثث اليابانية التي كانت داخل تلك العربات تفحمًا، وعمت رائحة تلك الأجساد المحترقة المكان، وقد بدت تلك الرائحة خانقة.
عاود الشيخ العجوز سؤال جدي: «أيها القائد يو، ماذا ستفعل في هذه الجثث اليابانية؟»
فرد جدي: «هل نقوم بدفنها؟ إنها ستصيب هذه الأرض الذكية بالتعفن! هل نُلقي بها داخل النار؟ إنها ستلوث سماء بلادنا! سنقوم بإلقائها داخل عرض النهر ونجعلها تسبح حتى تصل إلى اليابان.»
فأمسك الأهالي بالصنارات الحديدية، وقاموا بسحب ما يزيد على ثلاثين جثة من جثث جنود الشياطين اليابانيين إلى أعلى الجسر، بما فيها جثة ذلك القائد الياباني الكبير الذي قام لينغ ماتزه بتجريده من زيه العسكري.
وقال جدي: «فلتختفِ النساء بعض الوقت.»
وأخرج سيفًا صغيرًا، قام بقطع الأعضاء التناسلية لجميع جثث الشياطين اليابانيين، ثم نادى على بعض الرجال وقاموا بحمل تلك الجثث ليلقوا بها إلى داخل النهر وهم يصيحون: «فلترجعوا إلى حيث أتيتم أيتها الكلاب اليابانية.» فامتلأت صفحة النهر بجثث الشياطين اليابانية التي سارت جميعها في اتجاه الشرق.
وعند ظهور ضوء الفجر الباهت، بدا على الأهالي جميعًا التعب والإرهاق، وتضاءل ضوء المصابيح، لترى زرقة السماء الصافية في بعض الأماكن التي لم يصل إليها ضوء المشاعل، وأمر جَدِّي بعض الأهالي بسحب الدواب من الخيل والبغال والحمير والأبقار أمام تلك العربة المحملة عن آخرها بالأرز، وأمر بعض الرجال بأن يلازموا الدواب لحثها على سحب تلك العربة المحملة بالأرز، وأحكمت الدواب قوتها وراحت تسحب ذلك الحمل الثقيل، حتى أخذت العربة تتلوى مثل الخنفساء، وبدت عجلات السيارة الأمامية تسير بدون انتظام، فأمر جَدِّي بإيقاف الدواب التي كانت تسحب العربة، وفتح باب العربة ودخل إلى كابينة السائق وراح يقلد حركات قائد السيارة وهو يحرك عجلة القيادة يمينًا ويسارًا، بينما كانت الدواب تقفز أمام العربة، وراح يحرك عجلة القيادة حتى عرف أن العربة خالية تمامًا، وتقدمت العربة بشكلٍ مستقيمٍ إلى الأمام، وتبعها جموع الأهالي وهم يرتجفون خوفًا، وكان جَدِّي يجلس داخل الكابينة وقد جعل إحدى يديه تُمسك بعجلة القيادة والأخرى تعبث هنا وهناك، حتى عبثت هذه اليد بمفتاح ما، فإذا به مفتاح الإضاءة حيث رأى الضوء الأبيض المنبعث من المصابيح الأمامية.
وسمع صوتًا يصيح خلف السيارة قائلًا: «افتحوا أعينكم! افتحوا أعينكم!»
وأضاء نور المصابيح مسافة طويلة من الطريق العام، وكان الضوء شديدًا حتى إن الناظر باستطاعته أن يميز كل شعرة من شعر الخيل والبغال والحمير والأبقار، وعندئذٍ بدا على جَدِّي السرور والرضا، وقد راح يستمر في العبث بالمفاتيح المجاورة لمفتاح الإضاءة، فإذا به يضغط على مفتاح الكالكس الذي أحدث صوتًا قويًّا انتفضت على إثره الخيل والبغال والحمير والأبقار مذعورة، ومضى جَدِّي يفكر في نفسه: هل لا زلتِ قادرة على الصياح! وفجأة تقدمت العربة إلى الأمام بسرعة جنونية وصدمت الحمير والأبقار وقلبت الخيل والبغال، وأرعبته هو رعبًا شديدًا وتصبب جسده عرقًا.
وأصيب الجميع بالذهول الشديد عندما رأوا العربة تتقدم بهذه السرعة الجنونية وتصطدم وتقلب هذه الدواب القوية، وتقدمت العربة إلى الأمام لمسافة عشرات الأمتار حتى وصلت إلى الخندق الذي يقع غربي الطريق، ونجح جَدِّي في الخروج من داخل العربة بعد أن قام بكسر زجاج الكابينة، وقد تلطخت يداه ووجهه بالدماء.
وراح جَدِّي يتأمل هذا الشيء الساحر وهو في غاية الذعر، وفجأة علت وجهه ابتسامة حزينة.
وقام الأهالي بنقل حمولة الأرز التي كانت على ظهر العربة، وأخذ جَدِّي بندقيته وأطلق طلقة تجاه تنك الزيت ثم ألقى إليها بأحد المشاعل لتحترق ويملأ دخانها الكثيف عَنان السماء.
٨
قبل أربعة عشر عامًا مضت، كان يو جان آو قد وقف وسط فناء منزل عائلتي وهو يلتحف بعباءة صغيرة ويرتدي سروالًا من القماش، وقف وسط الفناء وراح يصيح بأعلى صوته: «أيتها المعلمة، هل أنتم بحاجة إلى عمال جدد؟»
فجاشت داخل صدر جدتي كل الأحاسيس، وشعرت ببعض الاضطراب، حتى سقط المقص الذي كانت تمسك به أعلى حصيرة مصطبة التدفئة، وشعرت ببعض الهزال، وسقطت على الغطاء الذي انتهت من صناعته مؤخرًا من القماش الملون.
وشم يو جان آو رائحة ماء الكلس الطازجة ورائحة نسوية قادمة من داخل الغرفة فتجرأ ودفع باب الغرفة.
«أيتها المعلمة، هل أنتم بحاجة إلى عمال جدد؟»
وكانت جدتي مضطجعة أعلى الغطاء الملون، وراحت تنظر إليه نظرات غامضة.
وألقى يو جان آو بعباءته، وتقدم بضع خطوات إلى جانب مصطبة التدفئة، ومال بنصف جسده الأعلى في مواجهة جدتي، وبدا يو جان آو في تلك اللحظة التي اقترب فيها من جدتي في غاية الرِّفْق، وفي تلك اللحظة وعندما اقترب وجهه كثيرًا من وجه جدتي، إذا بها ترفع يدها عالية وتصفعه صفعة على صلعته البيضاء، ثم قامت جدتي وأخذت بالمقص وراحت تُوبِّخه بلهجة قوية: «مَن أنت؟ يا لك من وقح! كيف تجرؤ على دخول غرفتي بدون سابق معرفة وتصطنع هذه الرِّقَّة أمامي؟!»
أصيب يو جان آو بذهول شديد، وتراجع بضع خطوات إلى الخلف ثم قال: «أنتِ … هل حقًّا لا تعرفينني؟»
فأجابت جدتي: «يا لك من إنسان وقح، كيف لي أن أعرفك وقد كنت ألزم منزل أبي في صغري، ولم يكد يمر خمسة عشر يومًا على زواجي؟»
فقال يو جان آو مبتسمًا: «فلتنكري معرفتي كما يحلو لك، سمعتُ أن حضرتك تحتاجين لبعض العمال للعمل في فرن النبيذ الذي تمتلكينه، وها أنا جئتُ لأبحث عن عمل أتحصل منه على قوت يومي.»
قالت جدتي: «موافقة، موافقة، ما دمت قادرًا على تحمل الصعاب، ما لقبك؟ وماذا تُدعَى؟ وكم عمرك؟»
– «لقبي يو، وأدعى جان آو، وعمري أربعة وعشرون عامًا.»
قالت جدتي: «فلترتد عباءتك ولتخرج إلى خارج هذه الغرفة.»
أطاعها يو جان آو وخرج إلى خارج الغرفة، ووقف ينتظر أوامرها، وسطعت أشعة الشمس على البرية، وبدَا الطريق الموصل إلى مدينة شي تونغ ضيقًا وطويلًا جدًّا وسط حقول الذُّرَة التي تحيطه من الجانبين، وكانت لا تزال توجد بقايا براعم الذُّرَة المحترقة، وانتظر يو جان آو خارج باب المنزل لمدة نصف ساعة كاملة، ساوره خلالها الاضطراب والقلق، وود أن يقتحم الباب ويدخل إلى تلك المرأة ويتناقش معها، ولكنه منع قدميه من الدخول، وفي ذلك اليوم الذي قام فيه بقتل السيد دان يان شيو وابنه الأبرص دان بيان لانغ، لم يكن يو جان آو قد هرب إلى مكانٍ بعيدٍ، ولكنه اختبأ داخل حقول الذُّرَة القريبة وراح يتابع تلك المسرحية الرائعة التي حدثت إلى جانب الخليج، وكان عرض جدتي البارِز كفيلًا بأن جعله يشعر بكثير من الدهشة، يعرف جيدًا أن جدتي على الرغم من صغر سنها، فإنها شابة ذات أنياب طويلة، ماهرة في رسم الخُطط، وأنها امرأة خطيرة للغاية، وربما تكون معاملتها له اليوم بهذه الطريقة، إنما لتجنب نظرات الآخرين، وانتظَرَ مدة أخرى، ولم تخرج جدتي لملاقاته، بدا الفناء في غاية السكون، إلا من صياح طائر العقعق الذي كان يقرفص أعلى سقف الغرفة، وأضمر يو جان آو نيته الشريرة بضرورة أن يقوم باقتحام الباب، وقبيل تنفيذ نيته الشريرة، إذا به يسمع صوت جدتي تناديه من وراء ستارة الشباك قائلة: «اذهب إلى المسئول في الفناء الشرقي وأفصح له عن طلبك.»
فانتبه يو جان آو فجأة، وعرف أنه يجب ألا يَتعدَّى توجيهات المرأة الأهم في هذا المكان، فهدأ بعض الشيء، والتحف عباءته وخرج قاصدًا الفناء الشرقي، وما إن دلف إلى الفناء الشرقي حتى رأى أعدادًا كبيرة من أوعية النبيذ، وأكوامًا من الذُّرَة، والفرن تعج بالكثير من العمال الذين كانوا جميعًا منشغلين في أعمالهم، فدخل يو جان آو تلك الخيمة الصيفية وسأل أحد العمال الذي كان يقف أعلى مقعد مرتفع ويقوم بإلقاء كميات الذُّرَة داخل دلو مربع في الفرن، سأله يو جان آو: «آي، أيها العامل، أين الشخص المسئول في هذا المكان؟»
نظر إليه العامل بطرف عينه، واستمر في عمله إلى جانب فرن النبيذ، ثم نزل من أعلى المقعد المرتفع بعد أن انتهى من إلقاء كمية الذُّرَة إلى داخل الفرن، نزل وإحدى يديه تأخذ بالجاروف والأخرى تسحب المقعد المرتفع من جانب الفرن، وراح العامل يصيح بصوت مرتفع، وما إن سمع ذلك البغل الذي كانت عيناه مغطاة بقطعة قماش سوداء الصياح حتى استدار بجسده وجرى مسرعًا، وقد طبعت أقدام البغل على حجر طاحونة الفرن، وكان صوت الرحى عاليًا؛ كانت تدور بسرعة لتخرج من أسفلها كميات من مسحوق الذُّرَة، تنزل داخل الإناء الخشبي الكبير المُعَد لذلك، وقال ذلك عامِل الطاحونة: «إن العم المسئول داخل المتجر.» وأشار العامل إلى الغرف الثلاث الواقعة على الجانب الغربي لمدخل الفناء.
فسأله يو جان آو، «أيها المدير، هل أنتم في حاجة إلى عمال جدد؟»
نظر الجد لوو خان إلى السائل وكأنه يساوره بعض الشك في أمره، ثم سأله: «هل ترغب في العمل لفترة طويلة أم لفترة قصيرة؟»
فردَّ يو جان آو: «ما ترونه سيادتكم، أما أنا فأتمنى العمل لأطول فترة ممكنة.»
قال الجد لوو خان: «أنا أملك الحق في الموافقة على مدة العمل القصيرة حوالي عشرة أيام، أما الفترات الطويلة فلا بد من موافقة المعلمة حتى نقبلك في هذا المكان.»
قال يو جان آو: «إذًا فلتسارع بسؤال المعلمة.»
وخرج يو جان آو إلى خارج غرفة الحسابات، وسحب مقعدًا وجلس يرتاح بعض الوقت. وترك الجد لوو خان المحسب، واستدار بجسده وغادر المكان من الباب الخلفي للغرفة، ثم عاد ثانيةً ليأخذ سلطانية من الخزف كانت ممتلئة بالنبيذ إلى حد المنتصف، ووضعها على الخزينة ثم قال: «فلترو عطشك باحتساء بعض النبيذ.»
أخذ يو جان آو السلطانية وجعل يشرب ما بداخلها، ومضى يُفكِّر في حيل ومكائد تلك المرأة، والتي أعجب بها كثيرًا، وعندئذٍ دخل إليه الجد لوو خان وقال: «إن المعلمة ترغب في رؤيتك.»
وسارا معًا حتى وصلَا إلى الفناء الغربي، وعندها قال الجد لوو خان: «فلتنتظر قليلًا.»
خرجَت جدتي إليه، وقد بدت في غاية الوقار والاتزان، وغاية الغرور، وراحت تسأل يو جان آو بعض الأسئلة، وأخيرًا لوحت بيدها قائلةً: «فلتأخذوه إلى الفرن، وليعمل مدة شهر تحت التدريب، وليحسب له راتبه من الغد.»
ومنذ ذلك اليوم أصبح يو جان آو أحد عمال فرن النبيذ المملوكة لعائلتي، وكان الرجل قوي البنية، بارعًا وماهرًا، يؤدي عمله على خير وجه، وكان الجد لوو خان كثيرًا ما يُثني عليه أمام جدتي، وبعد مرور شهر من عمله في الفرن، استدعاه الجد لوو خان إلى غرفة الخزينة، وأخبره: «إن المعلمة راضية عنك كل الرضا، وقد قَرَّرت الإبقاء عليك لتكون أحد عمال هذا الفرن.» ثم قدَّم له الجد لوو خان كيسًا من القماش قائلًا: «وهذه مكافأة من المعلمة.» ففتح يو جان آو الكيس القماشي، ليجد بداخله زوجًا جديدًا من الأحذية المصنوعة من القماش، قال يو جان آو: «أيها المعلم الثاني، أستأذنك في أن تخبر المعلمة بأنني يو جان آو أشكرها عظيم الشكر.» فقال الجد لوو خان: «فلتذهب الآن، ولتجتهد في عملك.»
قال يو جان آو: «أعدك بأنني سأجتهد في عملي.»
ومرَّت سريعًا فترة ستة أشهر من عمل يو جان آو في فرن المعلمة جدتي، بينما كان يو جان آو يشعر بشيء من عدم الصبر وعدم الرضا تجاه بعض الأمور في الفرن، كانت المعلمة تأتي كل يوم إلى الفناء الشرقي لتقصِّي أحوال العمل والعمال، وكانت تروح وتجيء بصحبة الجد لوو خان، ولا تهتم بهؤلاء العمال الذين كانوا يبدون في غاية التعب والإرهاق، وهكذا شعر يو جان آو ببعض الظلم من تَصرُّف المعلمة تجاه عمال الفرن.
وحينما كان السيد دان يان شيو وابنه الأبرص دان بيان لانغ يَتولَّيان إدارة الفرن، كانَا يعتمدان على بعض المطاعم في القرية لإعداد وجبات الطعام اللازمة لعمال الفرن، أما بعد تَولِّي المعلمة جدتي شئون الفرن، فقد قامت باستئجار سيدة فوق الثلاثين من العمر تُدعَى العمة ليو بواتزه، وفتاة في حوالي الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من العمر تدعى ليان إر؛ كانت العمة ليو بواتزه والفتاة ليان إر تقيمان داخل الفناء الغربي، وتتوليان مهام إعداد الطعام، كما قامَت جدتي بشراء ثلاثة كلاب جدد، كلب أسود وآخر أخضر وثالث أحمر، وذلك بالإضافة إلى كلبين آخَرَين كانت تملكهم العائلة من قبل، وهكذا فقد أصبح الفناء الغربي عالمًا خاصًّا يسكنه ثلاث سيدات وخمسة كلاب، وإذا ما هبت أدنى رياح في الليل، أو حدث أدنى حركة قريبة من الفناء، فإن الكلاب الخمسة كانت تنبح بصوتٍ عالٍ، ولم يكن يَفلِت منهم أحد، فكانوا إما يتغلبون عليه بعضه، أو أن يموت اللص من شدة الخوف من الكلاب الخمسة.
وعندما مر شهران على عمل يو جان آو في الفرن، كان قد حل شهر سبتمبر، نضجت محاصيل الذُّرَة التي كانت تملأ أرجاء القرية، وأمرت جدتي الجد لوو خان باستئجار بعض عمال اليومية للقيام بتنظيف ساحة الفرن؛ لتكون جاهزة لتخزين كميات جديدة من الذُّرَة تشتريها جدتي هذا الموسم، سطعت شمس سبتمبر على الساحة الكبيرة، وظهرت جدتي ترتدي ثوبًا من الحرير الأبيض، وتنتعل زوجًا من الأحذية الحمراء المصنوعة من الستان، تمسك بعصا من خشب الصفصاف نزعت قشرتها، تتبعها زمرة من الكلاب، هكذا راحت جدتي تروح وتجيء في جميع أرجاء الساحة، حتى كان جميع أهل القرية في عجب شديد من زينتها وتبخترها بهذه الطريقة، ولكنَّ أحدًا منهم لم يجرؤ على التَّفوُّه بكلمة واحدة، وقد حاول يو جان آو التقرب منها أكثر من مرة، إلا أن جدتي كانت تبدو في غاية الصرامة، ولم تتحدث إليه بكلمة خارج حدود العمل.
في تلك الليلة تَجرَّع يو جان آو أكثر من سلطانية من النبيذ، حتى وصل به الأمر إلى بعض الثُّمالة، فألقى بنفسه على مصطبة التدفئة وراح يَتقلَّب كثيرًا عاجزًا عن النوم، وانعكس ضوء القمر إلى داخل الغرفة عَبْر نافذتي الفناء الشرقي، ورأى اثنين من عمال الفرن ينشغلان بإصلاح وترقيع ثيابهما تحت ضوء القمر.
– «فلتطلب من المعلمة أن تساعدك في إصلاحها.»
– «تقصد المعلمة؟ تلك الإِوَزَّة السمينة، يا ترى من ذا سعيد الحظ الذي سينعم بأكلها.»
– «إن العم المسئول في هذا الفرن يأمل في الفوز بتلك الإوزة السمينة، وتقديم حياته في سبيل تحقيق أمنيته.»
– «آي، لقد سمعت أن المعلمة أقامت علاقة غير شرعية قبل زواجها بأحد الحمالين.»
– «إذًا فإن كلامك هذا يؤكد أن السيد دان وابنه قد قُتِلَا على يد ذلك الحمَّال.»
– «فلتَسكُتوا عن الخوض في هذا الحديث، فإن الحيطان لها آذان.»
وعندها ضحك يو جان آو الذي كان يرقد على مصطبة التدفئة.
فسأله أحد العمال: «وما الذي يُضْحِك يا يو؟»
فأمسك يو جان آو بغطاء سلطانية النبيذ وشرب جرعة ثم قال: «أنا الذي قتلتُ السيد دان وابنه.»
– «لقد سكرت يا يو جان آو.»
انتصب يو جان آو وراح يرد على ذلك العامل الذي اتهمه بالسُّكْر، فقال: «سكرتُ؟ إنك أنت السكران! وأنا القاتل!»، ثم مد يده إلى صرة ملابس معلقة على الحائط، وأخرج منها خنجرًا صغيرًا، وكان يلمع تحت ضوء القمر وكأنه سمكة فضية، ثم قال بلهجةٍ شديدةٍ: «ولأخبركم أنني … أنني ضاجعت هذه المعلمة … ضاجعتها هناك وسط حقول الذُّرَة.»
ساد الجميع صمتٌ تامٌ، ثم تَقدَّم أحد العمال ونفخ نفخة ليُطفِئ ضوء المصباح؛ ليلف الغرفة ظلام دامس، ويزداد بريق الخنجر الصغير أكثر وأكثر.
– «فلتناموا الآن، فلتناموا الآن، فلتناموا الآن، فستستيقظون غدًا مبكرًا للعمل داخل الفرن.»
راح يو جان آو يغمغم: «اللعنة عليكِ … تُنكرينني بعد أن ارتديتِ الثياب الجميلة … وترغبين في أن أكون خادمًا لكِ … ليس الأمر سهلًا كما تتخيلين … وسأذبحك الليلة.» ثم قفز من أعلى المصطبة، وأمسك بخنجره ومضى إلى خارج الغرفة، فانتفض العمال وفتحوا أعينهم داخل الظلام، وراحوا ينظرون إلى بريق الخنجر، ولم يجرؤ أحد منهم أن ينبس ببنت شفة.
ووصل يو جان آو إلى ساحة الفرن، ليرى ظلمة الليل وقد لفَّت جميع أرجاء الساحة، حتى بدت جرات النبيذ تلمع وكأنها كنوز نفيسة، وشعر ببعض البرودة التي كان مصدرها الرياح الجنوبية القادمة من الخلاء البعيد والمحملة برائحة الذُّرَة الناضجة، وسمع صوتًا نسائيًّا قادمًا من الفناء الغربي، وتسلل إلى داخل الخيمة الصيفية، ونقل ذلك المقعد العالي ذا الأرجل الأربعة، وكان أول ما رأى فور تسلله إلى داخل الخيمة، ذلك البغل الأسود الذي كان يغط في نومٍ عميقٍ، ولم يبالِ يو جان آو بالبغل، ومضى يرفع المقعد إلى جانب الحائط، ثم صعد إلى أعلى المقعد، وانتصب لتتساوى قامته مع حافة الحائط، ورأى ضوء المصباح الذي كان ينعكس على ورق النافذة الأبيض، وقد لصق أعلاه بعض الرسومات الحمراء، كانت المعلمة تنشغل بالحديث مع الفتاة الطباخة ليان إر فوق مصطبة التدفئة، ثم سمع صوت العمة الطباخة ليو بواتزه تقول: «يا لكم من ثرثارتَين، فلتنامَا، فلتنامَا!» ثم قالت العمة ليو بواتزه: «يا ليان إر، فلتذهبي إلى القِدر لتنظري إلى الخميرة، وتري هل نضجت أم لم تنضج بعد؟»
وأخذ يو جان آو الخنجر بفمه، وجعل يتسلق الحائط، فشعرت به الكلاب الخمسة، فرفعت رءوسها وراحت تنبح، فدهش يو جان آو اندهاشًا شديدًا من تلك الكلاب اليقظة، ثم ألقى بنفسه إلى داخل الفناء الغربي ورأسه ثقيل وقدماه متخاذلتان، وفي الحقيقة أنه لو لم تكن قد خرجت جدتي في تلك اللحظة مسرعةً إلى الفناء، لكانت تلك الكلاب كفيلة بأن تلتهم اثنين في قوة يو جان آو.
قامت جدتي بتوبيخ الكلاب لإقصائها عن المكان، ثم نادت: «يا ليان إر، أوقدي المصباح وائتيني به.»
وجاءت العمة ليو بواتزه وهي تمسك بالمطرقة التي تستخدمها في عجن الخبز، وراحت تصيح بأعلى صوتها: «حرامي، حرامي!»
وجاءت ليان إر بالمصباح؛ لينعكس ضوءه على وجه يو جان آو الذي كان في رعبٍ شديدٍ، وهنا ضحكت جدتي ضحكة باردة وقالت: «إنه أنت!»
ومدت جدتي يدها والتقطت الخنجر، وراحت تقلبه وتتفحصه، ثم وضعته إلى داخل جيبها، وقالت: «يا ليان إر، اذهبي لتنادي الجد لوو خان.»
وما إن فتحت الفتاة ليان إر باب الفناء، حتى دخل الجد لوو خان، وراح يسأل: «ما الذي حدث يا سيدتي؟»
ردت جدتي: «يبدو أن هذا العامل سكران.»
فقال الجد لوو خان: «نعم إنه سكران.»
قالت جدتي: «يا ليان إر، ائتني بالعصا.»
فخرجت الفتاة ليان إر وأحضرت عصا جدتي الخشبية البيضاء، ثم قالت جدتي: «أما أنا فسأجعلك تفيق من سُكرِك.»
رفعت جدتي العصا عالية وراحت تضرب بها يو جان آو على مؤخرته.
وأحس يو جان آو وسط هذا الضرب المبرِّح ببعض السرور يدخل إلى قلبه، حتى وصل السرور إلى حنجرته، ثم أسنانه، وتجمع السرور ليخرج في كلمات من الهذيان: «يا أمي! يا أمي! … يا أمي! … يا أمي!»
وبعد أن تَعبِت جدتي من ضربه، اتَّكأَت على عصاها وراحت تلهث من شدة التعب.
وقالت جدتي: «احملوه إلى حيث كان.»
فتقدم الجد لوو خان ليسحبه، غير أن يو جان آو كان ملتصقًا بالأرض وأبى أن يقوم من مكانه، وهو لا يتوقف عن: «يا أمي! … فلتستمري في ضربي … فلتستمري في ضربي.»
وجَّهَت جدتي العصا نحو رقبته، وضربته ضربتين مبرحتين، فراح يو جان آو يلملم قدميه ويَتلوَّى مثل الأطفال، واستدعى الجد لوو خان اثنين من العمال، ليقوموا بحمله إلى غرفة العمال، ويلقوه على المصطبة، فراح يَتلوَّى أعلى المصطبة كالضفدعة، وهو لا يتوقف عن الهذيان بالكلام القبيح، فأتى الجد لوو خان بسطل من النبيذ وأمر بعض العمال أن يمسكوا بذراعيه وقدميه، ثم قام بسكب سطل النبيذ داخل فمه، فأرخى العاملان أيديهما عنه، فراح يهز رقبته دون أن يتفوَّه بكلمة واحدة أو يصدر عنه أدنى نفس، فصاح أحد العمال مفزوعًا: «هل مت؟» ثم راح يأتي بالمصباح في عجالة، ونظر إلى وجهه إذا به يتحرك، ونفخ في المصباح نفخةً قويةً أطفأت ضوءه.
ونام يو جان آو في ذلك اليوم حتى وقت متأخِّر من الصباح، وبعد أن استيقظ من نومه، راح يسير إلى داخل فرن النبيذ، حيث محل عمله بخطى بطيئة، بينما كان العمال ينظرون إليه باستغراب شديد، وراح يو جان آو يَتذكَّر مشهد تَعرُّضه للضرب ليلة أمس، ومد يده يتلمس مؤخرته، فلم يحس بأدنى ألم، وكان في غاية العطش، فأخذ بمغرفة من الحديد وجعل يغرف بها النبيذ، ومضى يشرب وهو رافع رقبته لأعلى.
قال العم لاو دو العازف على آلة بانخو مخاطبًا يو جان آو: «أخي الصغير يو، هل ستجرؤ على القفز أعلى السور مرة ثانية بعد أن أوجعتك أمك ضربًا؟»
قبل وقوع تلك الحادثة، كان عمال فرن النبيذ يشعرون ببعض الخوف من هذا الشاب المُتجَهِّم، غير أن هذا الخوف قد زال عنهم تمامًا بعد أن سمعوا بآذانهم صراخه وصياحه في تلك الليلة، وكانوا بعدها يتحدثون عن جنونه ويهزءون منه بكل حماس، ولم يرد عليهم يو جان آو، غير أنه سارع بسحب أحدهم وأوجعه ضربًا، فتلاقت أعينهم، ثم تَقدَّموا معًا نحوه، وطرحوه أرضًا، وانهالوا عليه ضربًا، وبعد أن كَلُّوا من ضربه، فكوا حزامه، وقاموا بوضع رأسه داخل بنطاله وجعلوا يديه متشابكتين خلف ظهره، ثم طرحوه أرضًا، فسقط يو جان آو مغشيًّا عليه كالنَّمر القوي الذي خارت قوته، وراح يجاهد لفك أسر رأسه الذي حُشر داخل حجر بنطاله، بينما كان جسده يَتلوَّى على الأرض مثل الكرة التي تتزحلق هنا وهنا، وبعد مجاهدته لمدة كافية لإشعال سيجارتين، إذا بالعم لاو دو لم يتمالك رؤيته على هذا النحو، فتقدم ليخلصه من ورطته، وأخيرًا نجح في تخليص رأسه من داخل حجر البنطال؛ ليظهر وجه يو جان آو وكأنه ورقة ذهبية ذابلة ترتفع أعلى كومة حطب، أو كأنه مثل أفعى ميتة، وأخيرًا استطاع أن يلتقط أنفاسه بعد وقت طويل، أخذ العمال ببعض الأشياء في أيديهم واستعدوا للانتقام منه، غير أنهم رأوه يتمايل ويسير بصعوبة نحو قدر النبيذ، ثم راح يرفع غطاء القدر وبدأ يشرب بجنون، وبعد أن ارتوى من النبيذ، جعل يتسلق كومة الحطب وراح يصيح حتى غلبه النعاس.
ومنذ ذلك الحادث، كان يو جان آو يُرى يوميًّا سكران يرقد فوق كومة الحطب، وعيناه الزرقاوان شبه مغمضتين، وتظهر على أساريره ابتسامتان: ابتسامة تنم عن البلاهة وأخرى عن المكر والخداع، وخلال اليومين الأولين من تَغيُّره إلى هذا الحال، كانت جموع العمال تتلذذ برؤيته على هذا الحال، ثم بدءوا يتذمرون منه تدريجيًّا، وبدأ الجد لوو خان يجبره على النهوض من فوق كومة الحطب للعمل، بينما كان يو جان آو ينظر إلى الجد لوو خان بطرف عينيه قائلًا: «ومَن أنت حتى تأمرني هكذا؟ أنا المسئول الحقيقي في هذا المكان، وأنا أيضًا أبو ذلك الطفل الذي هو في بطن المعلمة.»
كان أبي — ذلك الجنين في بطن جدتي — قد أصبح في حجم الكرة الجلدية، كان صوت تقيؤ جدتي صباحًا داخل الفناء الغربي يدوي داخل أرجاء الفناء الشرقي، كان من يعرف سبب هذا الصوت من العمال يَتناقَشون حول هذا الأمر بصوت خفيض، وفي ذلك اليوم، سأل أحد العمال العمة ليو بواتزه التي جاءت إلى الفناء الشرقي لتقديم الطعام لجموع العمال، سألها ذلك العامل قائلًا: «أيتها العمة ليو بواتزه، هل المعلمة حامل؟»
فرمته العمة ليو بواتزه بنظرة ازدراء ثم قالت: «الزم حدودك وإلا سيُقطع لسانك.»
– «ما أشد المعلم دان بيان لانغ!»
– «وربما كان الذي فعلها المعلم الكبير.»
– «لا تُخمِّن كما يحلو لك! فهل تعتقد أن طباعها تسمح لأحد من أسرة دان بمواقعتها؟ فمن المؤكَّد أن ذلك الحمَّال هو الذي وراء هذا الحمل.»
وهنا قفز يو جان آو من فوق كومة الحطب، وراح يصيح في سعادة بالغة: «إنني أنا الذي فعلتُها! ها ها! أنا الذي فعلتها!»
فنظر إليه العمال وراحوا يضحكون ويسبونه في صوتٍ واحدٍ.
وكان الجد لوو خان قد اقترح أكثر من مرة أن تقوم المعلمة بفصل يو جان آو من العمل، غير أن جدتي كانت تقول دائمًا: «دعه يعاني بعض الوقت، وسترى كيف أوقفه عند حده.»
وفي ذلك اليوم، كانت جدتي قد أتت إلى الفناء الشرقي وهي تنصب ظهرها، أتت للحديث مع الجد لوو خان.
ولم يجرؤ الجد لوو خان على رفع رأسه ليرى جدتي الواقفة أمامه، وقال ببرود: «أيتها المعلمة، لقد حان وقت نصب الموازين لجمع كميات من الذُّرَة.»
سألته جدتي: «وهل تم تجهيز الساحة والقدور المخصصة لتخزين الذُّرَة؟»
فأجاب الجد لوو خان قائلًا: «نعم تم تجهيزها.»
سألت جدتي: «ومتى كنتم تنصبون الموازين في الأعوام الماضية؟»
فقال الجد لوو خان: «في مثل هذا التوقيت.»
قالت جدتي: «فلنؤخر هذا الأمر العام الحالي.»
فقال الجد لوو خان: «ولكنني أخشى ألا نستطيع جمع ما يكفينا إذا ما تَأخَّرْنا بعض الوقت، ولقد بدأت اليوم بعض الأفران الأخرى في جمع ما تحتاجه من الذُّرَة.»
فقالت جدتي: «إن محصول الذُّرَة هذا العام يبدو وفيرًا، وهم لن يسيطروا على كل هذه الكمية، ولتكتب إعلانًا تذكر فيه أننا لم نستعد بعد، ولنبدأ في جمع ما نحتاج إليه بعد أن يشتروا هم ما يكفيهم من الذُّرَة، وعندها سنحدد السعر الذي نرغب فيه، بل إن الذُّرَة ستكون حينها أخف بكثير.»
فقال الجد لوو خان: «أحسنت يا معلمة.»
ثم سألته جدتي: «هل هناك أمور أخرى تودُّ في مناقشتها معي؟»
– «في الحقيقة ليست هناك أمور كبيرة، فقط موضوع ذلك العامل، الذي يبدو يوميًّا سكران تمامًا، وأرى من الأفضل أن نعطيه بعض المال ونتركه يغادر هذا المكان وننتهي منه.»
ففكرت جدتي قليلًا، ثم قالت: «فلتقودني إلى الفرن لرؤيته.»
سار الجد لوو خان أمامها، حتى دخلت المعلمة إلى داخل الفرن، كان العمال ينشغلون بوضع كميات الذُّرَة التي خمرت إلى داخل القدر الكبير المُعَد لتبخير الذُّرَة، بينما كانت تسمع صوت الذُّرَة داخل الأواني وكأنها كميات من الحطب تحترق، ويصل ارتفاع هذا القدر الكبير إلى ما يزيد على مائة متر، مصنوع من الخشب، موضوع أعلى الغلاية، في أسفله حصيرة مصنوعة من البامبو، كان هناك أربعة من العمال يحملون مغرفة خشبية ويقومون بنقل كميات من الذُّرَة المتخمرة التي تفوح منها رائحة حلوة من الأوعية إلى القِدْر الكبير، وكانوا يقومون بتقليب كميات الذُّرَة داخل المناطق الأكثر حرارة في القدر الكبير.
وعندما انتبه العمال إلى مجيء جدتي، هبوا يعملون بهمةٍ وحماسةٍ، بينما كان يو جان آو يرقد فوق كومة الحطب، وقد بدا ذا شعر أشعث ووجه غير نظيف، يرتدي ثيابًا مهلهلة تمامًا مثل المتسول، راح ينظر إلى جدتي نظرات باردة.
قالت جدتي: «أود أن أرى اليوم كيف تتحول الذُّرَة إلى نبيذ؟»
فأحضر الجد لوو خان مقعدًا، وطلب من جدتي أن تستريح.
حمل العمال تزينغ وقاموا بتغطية القدر الكبير، حتى اختفت رائحة التبخر من القدر، كانوا يسمعون فقط صوت اشتعال النيران بداخله، وراحوا ينظرون إلى القِدْر الخشبي الكبير أعلى النيران المشتعلة، كانت النار تبدو أحيانًا بيضاء وأحيانًا أخرى صفراء، كانوا يَشمون رائحة خفيفة وحلوة أشبه ما تكون برائحة النبيذ تنبعث من خلال القِدْر الخشبي الكبير.
قال الجد لوو خان: «أضيفوا الماء البارد.»
فصعد العمال أعلى بعض المقاعد العالية، وقاموا بسكب دلوين من المياه الباردة إلى داخل وعاء مُحدَّب في القدر الكبير، ثم أخذ أحد العمال بعصا خشبية في شكل المجداف، وصعد أعلى مقعد عالٍ وراح يُقلِّب المياه الباردة داخل الوعاء المُحدَّب، وبعد وقت قصير شمَّت جدتي رائحة النبيذ العطرة.
قال الجد لوو خان: «استعدُّوا لاستقبال النبيذ.»
فقام اثنان من العمال بحمل سلة النبيذ المصنوعة من شرائح الشمع والملفوفة بالورق والمدهونة بالزيت، ووضعوها أمام مجرى النبيذ في شكل فَم البطة الذي يتدفق من القدر الكبير.
قامت جدتي ثانيةً، وراحت تُحدِّق في مجرى النبيذ، واختار ذلك العامل الصغير بعض الحطب كبير الحجم المدهون بزيت الصنوبر وألقى به إلى داخل الفرن المتوهِّج، فاستعَرَت النار ثانيةً وامتد لهيبها الأبيض، وانعكس اللهيب على صدر ذلك العامل الذي كان يَتصبَّب عرقًا.
فقال الجد لوو خان: «فلتُغَيِّروا المياه.»
أسرع اثنان من العمال إلى داخل الفِناء، وجاءوا بأربعة جرادل ممتلئة بالماء البارد، وقام العامل الواقف أعلى المقعد العالي بتحريك مفتاح تزينغ، لِتتدَفَّق كميات المياه المغلية، وقام بسكب المياه الباردة وانهمك في تقليب المياه داخل تزينغ.
وهكذا انشغل العمال بالقيام بمَهامِّهم حول فرن النبيذ الضخم بنظام تامٍّ، بينما راحت جدتي تُتابِع هذا العمل المهيب المُقدَّس، مُتأثِّرَة بما ترى بأم عينيها، شعرت في تلك اللحظة أن أبي يَتحرَّك داخل بطنها، ثم ألقَتْ نظرة خاطفة على يو جان آو الذي كان يرقد فوق كومة الحطب ويحدق إليها بعينيه الغائرتين، كانت هاتان العينان هما العينين الباردتين في هذا الفرن الحامي، هذا وقد بدأ هذا البرود يُهدِّئ من حماس جدتي، راحت تنظر بهدوء إلى العامِلَين اللَّذَين كانَا ينشغلان بالإمساك بسلة النبيذ الكبيرة في انتظار استقبال النبيذ من فوهة القدر الكبير.
بدأت تشتد رائحة النبيذ العطرة، وقد انساب أريجها من خلال فتحات ذلك القِدْر الخشبي، ونظرت جدتي إلى الضوء المنبعث من مجرى النبيذ الأبيض، تَجمَّع هذا الضوء راح يتحرك ببطء، مكونًا في النهاية بعض قطرات المياه اللامعة، مضت تسيل إلى داخل سلة النبيذ وكأنها قطرات من الدمع.
فنادى الجد لوو خان أن: «غيروا المياه، وزيدوا النار اشتعالًا.»
وانشغل العاملان المنوطان بحمل المياه الباردة بحمل مزيد منها، وقد انفتح صنبور تغيير المياه في تزينغ، وبدَءُوا في سكب كميات المياه الباردة من أعلى، بينما كانت تتدفق كميات المياه المغلية من أسفل، كانت تزينغ لا تزال تحافظ على درجة حرارة المياه الباردة داخلها، وقد تَجمَّع البخار عند طبقات القدر ليخرج من عند مخرج النبيذ.
كانت أول كمية نبيذ تخرج من القدر ملتهبة للغاية، شَفَّافة، تغلي بشدة، وأتى الجد لوو خان بمغرفة نظيفة، وجمع بداخلها قدرًا من النبيذ وقدمه إلى جدتي قائلًا: «أيتها المعلمة، فلتتذوقي هذا النبيذ.»
راحت جدتي تشم رائحة النبيذ النفاذة، كان لسانها لا يتوقف عن الحركة على حواف فمها، وعندئذ عاود أبي الحركة داخل بطنها، فكأن أبي يودُّ أن يشاركها في شرب النبيذ، أخذت جدتي المغرفة الممتلئة بالنبيذ، وراحت تشمه، ثم مدت لسانها تلعقه، ثم أخذت قليلًا منه بشفتيها، وراحت تتذوقه على مهل، كان هذا النبيذ ذا رائحة ذكية جدًّا، وحارًّا جدًّا، فأخذت جدتي رشفة منه، واحتفظَتْ بها في فمها، وأحسَّت بأن وجنتيها ناعمتان، وكأنهما قد حُفَّتا بقطنة رقيقة، وأرخت شفتيها لينساب النبيذ بسرعة إلى داخل حلقها، وتَصبَّب جسمها عرقًا، وغمَرَتها نشوة غريبة، وشربت ثلاث رشفات متواصلة، وأحست أن هناك يدًا صغيرة تعبث داخل بطنها، فرفعت رقبتها، وشربت الكمية المتبقية داخل المغرفة، وبعد أن انتهت جدتي من شراب النبيذ، إذا بوجهها يبدو متوردًا، وعيناها بارقتان، مشرقتان جذابتان، فَرَاح العمال ينظرون إليها باستغرابٍ شديدٍ، وقد تناسوا أعمالهم من شدة انبهارهم بما يرون.
قال أحد العمال بوقار شديد: «أيتها المعلمة، يا لكِ من امرأة قادرة على الشراب!»
فردت جدتي في تواضُع: «إنه لم يسبق لي الشراب من قبل.»
قال العامل بمزيد من الوقار: «لم يسبق لك الشراب من قبل وتشربين هكذا، إنكِ إذَا تَدرَّبْت قليلًا فبالتأكيد ستكونين قادرة على شرب سلة كاملة من النبيذ.»
وهكذا انهمك العمال في استقبال سلة وراء سلة من النبيذ، وقاموا بوضع ما يستقبلونه من النبيذ الجديد إلى جانب كومة الحطب، ونهض يو جان آو من فوق كومة الحطب، وفك بنطاله وراح يتبول داخل إحدى السلال الممتلئة بالنبيذ، بينما انشغل العمال شاردين بملاحقة ذلك البول الصافي وهو يجري وينساب داخل سلة النبيذ، وقد بدأت تتكون بعض الفقاعات أعلى سطح سلة النبيذ، وبعد أن انتهى يو جان آو من قضاء حاجته، إذا به يبتسم لجدتي ابتسامة عريضة، وبدأ يدنو منها وهو يتمايل، فاحمرَّ وجه جدتي، وتسمَّرت في مكانها، ومد يو جان آو ذراعيه واحتضنها، ثم طبع قبلة على وجهها، فتغَيَّرت ملامح وجهها للتو، ولم تتمالك نفسها، وهبطت لتجلس فوق المقعد.
قال يو جان آو بأسلوب حادٍّ: «ما قولكِ في أن هذا الطفل الذي في بطنك هو ابني؟»
فأجابت جدتي باكية: «إذا كنتَ تزعم أنه ابنك، فليكن ابنك.»
كانت عملية تقطير النبيذ من أصعب مراحل العمل داخل فرن صناعة النبيذ، فبعد أن تم تدفُّق كميات النبيذ المتجمعة داخل القدر، تم تحريك القدر وفتح غطائه، ثم تم الكشف عن كميات حثالة الذُّرَة داخل القدر، وكانت هذه الحثالة صفراء اللون ساخنة جدًّا. ووقف يو جان آو أعلى مقعد مربع الشكل، وأخذ بمغرفة خشبية صغيرة وراح يغرف الحثالة المتجمعة داخل القِدر، ويكومها داخل سلة كبيرة مُعدَّة لذلك، ظهرت حركَتُه بطيئة جدًّا، كأنه كان يعتمد على طرف ذراعه فقط، وانعكس لهيب الحثالة على جسده، حتى بدا ظهره ينز عرقًا، كانت رائحة النبيذ تفوح من عرقه الغزير.
استطاعت مهارة جَدِّي يو جان آو في تقطير النبيذ أن تنال إعجاب جميع عمال الفرن والجد لوو خان، وهكذا استطاع جَدِّي يو جان آو أن يستعيد قُوَّته ومهارته البارعة التي خمدت لعدة شهور، وبعد أن انتهى جَدِّي من عملية تقطير النبيذ، استراح ليشرب قدرًا من النبيذ، ثم قال مخاطبًا الجد لوو خان: «أيها المعلم الثاني، ما زالت لديَّ مهارة ثانية، فعند تَدفُّق كميات النبيذ من داخل القدر، يكون النبيذ ساخنًا جدًّا، وإذا استطعنا تركيب قدر صغير آخر عند فوهة تدفق النبيذ، فإننا بالتأكيد سنتمكن من الحصول على تجميع كميات من أفضل أنواع النبيذ.»
فهزَّ الجد لوو خان رأسه قائلًا: «وربما لا يمكننا ذلك.»
فأجاب جدي: «فلتقطع رأسي إذا فشلت هذه التجربة.»
نظر الجد لوو خان إلى المعلمة الأولى جدتي، وقالت جدتي بصوت يخالجه البكاء: «أنا غير مسئولة عن ذلك، أنا غير مسئولة عن ذلك، وليفعل ما يريد.»
ثم عادت جدتي إلى الفناء الغربي وهي تبكي.
ومنذ ذلك الحين، دبَّت مشاعر الحب في قَلْبَي جَدِّي يو جان آو وجَدَّتي، وقد صَدمَت هذه التصرفات الغريبة لجدي وجدتي جموع العمال والجد لوو خان، فلم يَعُودوا يعيرونهما الاهتمام الأكبر، وساورتهم مختلف الشكوك حول هذه التصرفات الغريبة التي لا يجدون لها أية مُبرِّرات تُذكَر، وقد تحولوا جميعًا بكل احترام إلى مطيعين لجدي يو جان آو، وهكذا اجتمع وتحقَّق ذلك التجديد الكبير الذي قصده جدي، ومنذ ذلك الحين ظهر في قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي نبيذ القِدْر الصغير من الدرجة الأولى، ولم يجرؤ عمال الفرن على التعامل المباشر مع تلك السلة الكبيرة الممتلئة بالنبيذ التي بال داخلها يو جان آو، فقاموا بنقلها إلى داخل الفناء ووضعوها فوق سور بداخل الفناء الكبير، وفي وقت الأصيل ذات يوم، وبينما كانت السماء غائمة، هبت رياح جنوبية شرقية عاتية، وشم جموع العمال رائحة عطرة قوية تختلف عن رائحة نبيذ الذُّرَة التي تَعوَّدَت عليها أنوفهم، وكان الجد لوو خان يتميز بحاسة شم قوية، فراح يتتبع تلك الرائحة الغريبة، حتى اكتشف في النهاية أن مصدر هذه الرائحة القوية هي تلك السلة الممتلئة بالنبيذ الممزوج ببول يو جان آو الموضوعة أعلى السور داخل الفناء، وعندها صمت الجد لوو خان صمتًا تامًّا، ثم قام بنقل تلك السلة خلسة إلى داخل المتجر، وأحكم إغلاق الباب الأمامي والخلفي، وكذا أوصد النافذة الأمامية والخلفية، وأشعل مصباح الزيت عاليًا وبدأ في فحص السلة الممتلئة بالنبيذ الممزوج ببول جَدِّي يو جان آو، وجاء الجد لوو خان بوعاء لشرب النبيذ، وملأه من داخل السلة، ثم سكبه إلى داخل السلة، فتفرَّق النبيذ داخل السلة مكونًا فقاعات خضراء، ذابت داخل النبيذ، وقد كونت تلك الفقاعات بعض أشكال زهور الأقحوان على سطح النبيذ، بينما كانت تلك الرائحة تزداد خلال تكوُّن تلك الأشكال، فأخذ الجد لوو خان ببعض من النبيذ، وقربه إلى فمه وتَذوَّقَه بطرف لسانه، وأخيرًا شرب رشفة منه بلا تَردُّد، ثم أتى ببعض من الماء البارد ومضمض فمه، ثم سكب قدرًا من النبيذ من قِدْر النبيذ الخالص وشرب منه رشفة كبيرة، وألقى بوعاء النبيذ من يده، وهمَّ بفتح باب الفناء، وضرب النافذة إلى الخارج وراح يصيح بأعلى صوته: «أَيَّتُها المُعلِّمة، لديَّ خبر سارٌّ جدًّا!»
٩
كان والد جدتي قد جَرَّ حماره وعاد إلى بلدته بعد تناوله وجبة فطائر ساخنة في منزل جدتي، ولم يتوقف الرجل في طريق عودته عن سب ابنته ولَعْنِها، وبعد أن وصل إلى منزله، راح يشكو إلى زوجته كيف أن جدتي اعترفَت أمام الجميع بذلك السيد تساو رئيس المدينة، اعترفَت به أبًا لها بالتَّبَنِّي، في حين أنكرَتْه هو كأبٍ لها في طرفة عين، فراحت والدتها تَسبُّها وتلعنها في غضبٍ شديدٍ، وجلس العجوزان معًا وهما في غاية الغضب والسخط على جدتي وكأنهما زوج من الضفادع التي تتقاتل على أسبقية الصعود أعلى شجرة ما، ثم قالت والدة جدتي: «لا عليكَ أيها العجوز، فلن تدوم هذه الزوبعة طويلًا، كما لن يطول النزاع بين أبناء الأسرة الواحدة، ولتسترح يومين ثم تذهب إليها ثانيةً، ولتحاول أن تأتي لنا بما يكفي لطعامنا منها بعد أن أصبحت تتنعم في هذا الثراء الكبير.» فقال الرجل: «حسنًا، فسأنتظر خمسة عشرة يومًا أو عشرين يومًا ثم أذهب إلى هذه الوغدة.»
وبعد مُضِي خمسة عشر يومًا، ركب الرجل حماره وجاء إلى منزل عائلتي لمقابلة جدتي، كانت جدتي قد أوصدت أبواب المنزل، فراح الرجل ينادي بأعلى صوته خارج باب المدخل الكبير، حتى تعب من كثرة الصياح، فركب حماره وعاد إلى حيث أتى.
وعندما جاء والد جدتي لمقابلتها ثانيةً، كان جَدِّي يو جان آو قد بدأ العمل في فرن النبيذ، وكانت الكلاب الخمسة التي تمتلكها جدتي قد تَجمَّعَت مكونة قوة لا يُستهان بها، وما إن طرق والد جدتي الباب الكبير، حتى انقضَّت الكلاب إلى مصدر الطَّرْق وراحت تنبح بصوت عالٍ، وبمجرَّد أن فتحت العمة ليو بواتزه الباب، اندفعت الكلاب الشرسة وأحاطت بوالد جدتي العجوز، وراحت تنبح دون أن تعضه، فاحتمى الرجل بالحمار، وراح يحاول التَّودُّد إلى تلك الكلاب الشرسة، بينما كان الحمار يرتعش من خلفه.
وسألت العمة ليو بواتزه: «مَن أنت؟»
فقال والد جدتي بلهجةٍ غاضبةٍ: «بل مَن أنتِ؟ لقد جئت لمقابلة ابنتي.»
– «ومَن تكون ابنتك؟»
– «إنها المعلمة في هذا المكان الذي تعملين فيه.»
– «فلتنتظر في هذا المكان، وسأدخل إليها لإبلاغها.»
– «إذًا فلتخبريها أن أباها قد جاء لمقابلتها.»
فخرجت إليه العمة ليو بواتزه تحمل في يدها مبلغ واحد دا يانغ، وقالت للرجل: «أيها الشيخ الكبير، لقد قالت المعلمة: إنه ليس لديها أب، وأرسلت إليك هذا المبلغ، فلتشترِ به بعضًا من الفطائر لتسد جوعك.»
فراح الرجل يلعنها غاضبًا: «آه منكِ أيتها الوغدة، فلتخرجي لملاقاتي! هل أصبحتِ تنكرين أباكِ بعد أن أصبحتِ ميسورة الحال، تبًّا لك!»
فألقَت العمة ليو بواتزه بالمبلغ على الأرض، وقالت: «يا لكَ من شيخ عنيد، فلتنصرف بسرعة، وإلا فسنقوم بتأديبك إذا تسببت في مضايقة وإزعاج المعلمة.»
فقال الرجل: «إنني أبوها! فهل ستجرؤ على قتل أبيها كما قتلت حماها؟»
فردت العمة ليو بواتزه قائلةً: «فلتنصرف، فلتنصرف، وإذا لم تفعل فسآمر الكلاب لتنقض عليك!»
أوعزت العمة ليو بواتزه إلى الكلاب، فتجمعت الكلاب بسرعة. ثم تَقدَّم الكلب الأخضر وعض الحمار عضة في قدمه، فراح الحمار يتوجع، ويجاهد للتخلص من قيده، حتى نجح في ذلك وفر هاربًا، ثم انحنى والد جدتي والتقط المبلغ الذي عرضته عليه العمة ليو بواتزه، وفر مسرعًا محاولًا أن يلحق بحماره، وطاردته الكلاب وهي لا تتوقف عن الصياح والقفز، حتى خرج عن حدود القرية.
وفي المرة الثالثة التي جاء فيها والد جدتي إلى منزل العائلة، طلب من جدتي أن تُقدِّم له بغلًا كبيرًا أسود اللون، وأخبرها بأن هذا البغل كان قد وعده به حماها قبل قتله، وأخبرها أنه على الرغم من موت الرجل، فإن هذا الدَّيْن لا يموت، وأنها إذا لم تنفذ طلبه، فسيشكوها إلى حكومة المدينة.
قالت جدتي: «إنني أساسًا لا أعرفك، وقد جئتَ إلى منزلي أكثر من مرة لإثارة الشغب ولإرهابي، وأنا التي تنوي أن تشكوك إلى حكومة المدينة.»
وقد أثار صياح والد جدتي غضب وسخط جَدِّي يو جان آو، خرج من غرفته يجر حذاءه، وقام بمساعدة بعض من الرجال بإلقاء الرجل العجوز إلى خارج المنزل.
بحث والد جدتي عمن ساعده في كتابة شكوى، وركب حماره قاصدًا المدينة، حتى وصل إلى السيد تساو رئيس المدينة، وتقدَّم إليه بشكواه.
كان السيد رئيس المدينة قد تَعرَّض خلال زيارته السابقة لقرية دونغ بيي، لإطلاق الرصاص عليه من قِبَل أحد اللصوص الأوغاد حتى أصيب بذعر شديد، وتسبب ذلك في وعكة صحية شديدة ألمَّت به، فما إن رأى أن هذه الشكوى ذات علاقة بقضية القتل التي كان قد ذهب للتحقيق فيها هناك، حتى تصبب جسده عرقًا.
سأل رئيس المدينة الرجل العجوز الشاكي: «أيها العجوز، جئتَ تشتكي ابنتك بممارسة الزنا مع أحد قاطعي الطريق، فهل لديك أدلة على ذلك؟»
فقال والد جدتي: «سيادة رئيس المدينة، إن قاطع الطريق الذي أقصده ينام الآن فوق مضجع ابنتي، وأنه هو ذلك اللص الوغد الذي أطلق عليك الرصاص وأصاب قبعتك.»
فقال رئيس المدينة: «أيها العجوز، عليك أن تعرف أنه إذا كان ما تقوله حقيقة، فإن حياة ابنتك ستكون معرضة للخطر.»
فأجاب والد جدتي: «سيادة رئيس المدينة، إنني لا أبالي ببيع أقرب الأقربين إليَّ لتحقيق العدالة، … غير أن … تلك الثروة التي تمتلكها ابنتي.»
فصاح رئيس المدينة غاضبًا: «يا لك من عجوز وغد طمَّاع! لا تتورع في التضحية بابنتك أمام قَدْر من الثروة، إذًا فلا غرابة أن ابنتك تنكرك، وإنك لا تستحق أن تكون أبًا! اضربوه خمسين ضربة بنعل الحذاء، ثم ألقوه خارج هذا المكان.»
وهكذا لم تنجح شكوى والد جدتي، بل إنه تَعرَّض للضرب بالنعال، حتى تورَّمَت مؤخرته، لدرجة أنه لم يستطع الجلوس فوق ظهر حماره، فراح يجر الحمار ويسير وهو يعرج ويشعر بحزن شديد مما ألمَّ به.
وقبل أن يبعد كثيرًا عن حدود المدينة، إذا به يسمع وقع أقدام خيل تسير خلفه، فما إن نظر خلفه، رأى أحد الأشخاص جاء لملاحقته راكبًا ذلك الحصان الأسود الخاص بالسيد رئيس المدينة، وهنا أحس والد جدتي أن الأمر جِدُّ خطير وأن حياته أصبحت معرضة للخطر، ولم يتمالك نفسه وخارت عزيمته، وخرَّ راكعًا.
كان ذلك الشخص الذي جاء لملاحقته هو السيد يان أقرب الأقربين إلى السيد رئيس المدينة، وخاطبه السيد يان قائلًا: «أيها العجوز، انهض انهض، لقد اعترفَ السيد رئيس المدينة أن ابنتك هي ابنته بالتَّبنِّي، إذًا فإن هناك علاقة قرابة تربط بين ثلاثتكم، وضربك بالحذاء إنما كان لتوجيهك وتعليمك كيف أن تكون إنسانًا، والسيد رئيس المدينة يقول: إن كل شيء له قانونه، وإنه يكافئك بعشرة دا يانغ، فلتأخذها وتَعُد إلى بلدتك وتستخدمها في تجارة صغيرة تعيش منها، ولا تعاود القيام بمثل هذه الأمور الشريرة طمعًا في المال.»
تلقى والد جدتي المبلغ بكلتا يديه، وسجد على الأرض وراح يُعبِّر عن عظيم شكره لرسول السيد رئيس المدينة، ولم يقم من سجوده إلا بعد أن تخطى الحصان طريق السكة الحديدية.
جلس السيد تساو رئيس المدينة داخل بهو مبنى حكومة المدينة، وفكَّر في هذا الأمر نصف ساعة، وبعد أن عاد رسوله السيد يان من مهمة تقديم مبلغ عشرة دا يانغ إلى والد جدتي، استدعاه السيد تساو رئيس المدينة إلى حجرة سِرِّية، ثم قال له: «إنني أجزم أن ذلك الشخص الذي يرقد فوق مضجع تلك المرأة داي لهو اللص الوغد، وأن هذا هو أكبر عَلَم بين جموع قُطَّاع الطُّرُق في قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، وإذا تَمكَّنَّا من القبض عليه فستنهار قوة قُطَّاع الطُّرق في قرية دونغ بيي بأكملها، وإنني أمرتُ اليوم بضرب ذلك العجوز في مبنى حكومة المدينة، إنما لأجل خداع الناس.»
قال السيد يان مساعد رئيس المدينة: «ما أعظم حكمة وذكاء السيد رئيس المدينة.»
فرد السيد تساو رئيس المدينة قائلًا: «كما أنَّ تلك السيدة داي قد خدعتني في ذلك الحين.»
قال السيد يان: «لكل عالِم هفوة، ولكلِّ جواد كَبْوة.»
فقال رئيس المدينة: «فلتصطحب الليلة عشرين من الرجال، وتركبوا أسرع الخيول، وتذهبوا إلى قرية دونغ بيي؛ لتأتوني بذلك اللص زعيم قُطَّاع الطُّرق.»
«وهل سنقبض أيضًا على تلك المرأة؟»
فرد السيد تساو رئيس المدينة: «لا، لا، لا، حذارِ أن تقبضوا على تلك المرأة، أليس في ذلك إهانة لسُمعتي؟ بالإضافة إلى أنني في ذلك اليوم الذي ذهبت للتحقيق في تلك القضية، إنما كنت أقصد مساعدتها، ولتنظر إلى امرأة جميلة مثلها تتزوج من مريض بالبرص، فما أتعسها من امرأة! لذا فإن هناك مبررًا لأن تقع في الزنا، لا عليك إذًا، فلتقبض على ذلك اللص قاطع الطريق، وتترك المرأة لشأنها، ولتدعها تتمتع بأيام سعيدة.»
قال السيد يان: «إن منزل عائلة دان ذو سور عالٍ وفناء كبير، ولديهم مجموعة من الكلاب الشرسة، وذلك اللص قاطع الطريق يتمتع بيقظة عالية، ألسنا إن تسللنا إلى داخل الفناء في منتصف الليل إنما نسلم أنفسنا لسلاح ذلك اللص؟»
فقال رئيس المدينة: «ما أبسط تفكيرك، ما أبسط تفكيرك! لقد فكرت في هذا الأمر جيدًا.»
وهكذا خرج السيد يان على رأس عشرين من الجنود ليلًا وفق حيلة السيد تساو رئيس المدينة، وساروا بسرعة بطيئة يقصدون قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، وقد صادَف ذلك فصل الخريف في شهر أكتوبر؛ حيث امتلأت الحقول بمحاصيل الذُّرَة الرفيعة، التي عمت أزهارها جميع الأرجاء، وعندما وصل الرَّكْب إلى المدخل الغربي لقريتنا، كان ذلك وقت انبلاج ضوء الصباح، حيث غطت قطرات الندى تلك الأعشاب الذابلة، شعر الجميع ببرودة الصباح، ونزل الجنود عن خيولهم، ووقفوا ينتظرون أوامر السيد يان، وأمر السيد يان جنوده بجر الخيول إلى خلف كومة من أعواد الذُّرَة، وأن يتم ربط الخيول بحبل متصل، وأن يتولَّى اثنان من الجنود الاهتمام بالخيول، وأن يسارع باقي الجنود بتغيير ملابسهم والاستعداد لتنفيذ المهمة التي جاءوا من أجلها.
عَلَت شمس الصباح، وامتلأ الطريق بالغبار الشديد، وظهرت آثار برودة الجو على وجوه الجنود والخيل، بينما انشغلت الخيول في قضم أوراق الذُّرَة.
وأخرج السيد يان ساعة جيبه ونظر إليها نظرة سريعة ثم قال: «فلتبدءوا الهجوم!»
فتبعه ثمانية عشر جنديًّا وراحوا يتسللون صوب قرية دونغ بيي، وكانوا يتسلحون بالمسدسات، وعندما وصلوا إلى مدخل القرية، نصب اثنان منهم كمينًا عند مدخل القرية، وعندما تَقدَّموا إلى مدخل أحد الشوارع، قام اثنان آخران من الجنود بنصب كمين عند مدخل ذلك الشارع، ثم نصب جنديان آخران كمينًا ثالثًا عند مدخل شارع آخر، وعندما وصل الفريق إلى مدخل منزل عائلتي، كان قد تبقى منهم فقط السيد يان وستة من الجنود الذين كانوا يرتدون لباس أهل القرية، وقام أحد هؤلاء الجنود ضخم البنية بحمل سلتين من سلال النبيذ الفارغة.
فتحت العمة ليو بواتزه باب المنزل، فغمز السيد يان بعينيه، ليدخل على إثر غمزته ذلك الجندي الذي كان يحمل سلتي النبيذ الفارغتين، فسألت العمة ليو بواتزه غاضبة: «مَن أنتم، وماذا تبغون؟»
فردَّ ذلك الجندي الذي كان يحمل سَلَّتَي النبيذ الفارغتَين قائلًا: «جئنا لمقابلة المعلمة في هذا المكان؛ حيث كنا قد اشترينا منكم سَلَّتَين من النبيذ أول أمس، وقد مات عشرة أشخاص فور شرابهم من النبيذ الذي كان داخل هاتين السَّلَّتَين، فما ذلك السم الذي وضعتموه داخل النبيذ الذي تُنْتِجونه في هذا الفرن؟»
وهنا استغل السيد يان ومن معه من الجنود الموقف وولجوا إلى داخل الفناء، واختبئوا إلى جانب سور الفناء في صمتٍ تامٍّ، بينما أحاطت الكلاب الخمسة بهاتين السَّلَتَين الفارغتين وراحت تنبح بصوت مرتفع.
خرجت جدتي شبه نائمة، وهي تحاول إحكام عراوي لباسها. وقالت بغضب شديد: «إذا كان لديكم أمر ما، فهيا بنا إلى المكتب لمناقشته.»
قال ذلك الجندي ضخم البنية: «ما ذلك السم الذي تضعونه في النبيذ الذي ينتجه هذا الفرن، لقد قَتَل ذلك السم عشرة أشخاص منا، وهذا الأمر لا بد أن نناقشه مع المعلمة دون غيرها.»
فقالت جدتي غاضبة: «ما هذا الهراء؟ إننا نقوم بتسويق منتجنا من النبيذ إلى جميع أرجاء البلاد، ولم يُصَب أحد بالتسمم جرَّاء تناوُل هذا النبيذ، فكيف يُصاب عشرة أشخاص منكم بالتسمم جرَّاء تناوله؟»
واستغل السيد يان تلك الفوضى التي حدثت بسبب الاشتباك بين ذلك الجندي الضخم وجدتي والكلاب الخمسة، وأعطى إشارته لخمسة جنود فتبعوه بسرعة فائقة إلى داخل الغرفة، وعندها قام الجندي الذي كان يحمل سَلَّة النبيذ الفارغة بإلقائها، وسارع بإخراج مسدس من حول خصره وصوَّبَه نحو جدتي.
كان جَدِّي ينشغل بارتداء ملابسه داخل الغرفة، فانقضَّ عليه السيد يان وجنوده وألقوه على المصطبة، وأحكموا وثاق ذراعيه من الخلف، ثم سحبوه إلى الفناء.
وما إن رأت الكلاب الخمسة جَدِّي وقد تم القبض عليه ويُجَرُّ إلى الفناء، حتى انقضت على الجنود تحاول إنقاذه، فقام السيد يان وجنوده بإطلاق بعض الطلقات نحو الكلاب، لتمتلئ أرض الفناء بشعر ودماء كلاب العائلة.
كانت العمة ليو بواتزه ملقاة على الأرض، وقد تبللت ملابسها الداخلية تمامًا.
قالت جدتي: «أيها الإخوة، لم يكن بيننا وبين أحد عَدَاء فيما مضى، ولم نظلم أحدًا خلال الفترة الأخيرة، فإذا كنتم تريدون مالًا أو حبوبًا فلتطلبوا بشكلٍ مباشرٍ، وما الحاجة إلى استخدام السلاح وإرهاب الغير؟»
فرد السيد يان: «كُفِّي عن هذا الهراء، اقبضوا عليه.»
وما إن التفَتَت جدتي بعينيها حتى تَعرَّفَت على السيد يان، فقالت في عجالة: «ألستَ أحد رجال أبي بالتَّبنِّي؟»
فرد السيد يان: «ليس لكِ علاقة بهذا الأمر، وَلْتنْعَمي بحياتك.»
وعندما سمع الجد لوو خان دوي إطلاق الرصاص داخل الفناء الغربي، خرج مسرعًا من متجره داخل الفناء الشرقي، وما إن ظهر الرجل داخل الفناء الغربي، حتى مرَّت إلى جوار أذنه طلقة، فأرعبته رعبًا شديدًا فرَّ مسرعًا إلى حيث كان، كانت الطُّرُقات داخل القرية ساكنة وخالية تمامًا، إلا من نباح كلاب القرية، وخرج السيد يان وجنوده إلى شوارع القرية وهم يقبضون على جدي، وما إن رأى الجنديان المُكلَّفان برعاية الخيول السيد يان وجنوده قادمِين، حتى أسرعوا بفك الخيول وتقدَّموا بها إلى السيد يان ورجاله، وكذلك تجمَّع الجنود الذين كانوا ينصبون الأكمنة عند مدخل القرية ومداخل الشوارع المختلفة داخل القرية، وقفز كلٌّ منهم فوق ظهر حصانه، وتم ربط جَدِّي أعلى ظهر حصان بنفسجي اللون، وجعلوا بطنه ملتصقة بظهر الحصان. وما إن صاح السيد يان صيحة، حتى فر الحصان مسرعًا نحو المدينة.
عندما وصل الرَّكْب إلى أمام مبنى حكومة المدينة، قام الجنود بفك جَدِّي وأنزلوه من فوق ظهر الحصان البنفسجي اللون، وراح السيد تساو مينغ جيو رئيس المدينة يُمسك بلحيته، ثم تَقدَّم مبتسمًا إلى الأمام، وقال: «أيها الوغد قاطع الطريق، لقد طيرت قبعة هذه المدينة بثلاث طلقات من مسدسك، واليوم سترد هذه المدينة لك الجميل بضربك ثلاثمائة ضربة بالنعال.»
وتأثَّرَت عظام جَدِّي تأثرًا كبيرًا من طول مدة ربطه فوق ظهر الحصان، وشعر بدُوارٍ شديد، ولم يَكدْ يتوقف عن التقيؤ، حتى إنه عندما أنزلوه من فوق ظهر الحصان، بدا مغشيًّا عليه وكأنه شبه ميت.
وهنا قال السيد يان: «ابدءوا ضربه بالنعال.»
تقدَّم بعض الجنود نحو جَدِّي وقاموا بربطه من قدميه، ثم أخذوا بنعل حذاء كبير للغاية، كان مُعلَّقًا على عصا خشبية، وراحوا يضربونه ضربات متلاحقة مسموعة. تألَّم جَدِّي كثيرًا من شدة الضرب، وراح يصرخ مستغيثًا بأمه وأبيه.
فسأله السيد تساو مينغ جيو رئيس المدينة: «أيها الوغد قاطع الطريق، هل عرفت مدى شدة نعالي؟»
وكان جَدِّي قد أفاق بعض الشيء، فراح يصيح بصوت متواصل: «لقد أخطأتم في القبض عليَّ، لقد أخطأتم في القبض عليَّ، فأنا لستُ زعيم قُطَّاع الطُّرُق …»
زجره السيد تساو وقال غاضبًا: «أما زلتَ تجرؤ على المكر! فَلْتَضرِبوه ثلاثمائة ضربة جديدة.»
فقام الجنود بطرحه أرضًا، وانهالت عليه النعال وكأنها أمطار شديدة كادت تغرقه، وضربوه ضربًا مبرِّحًا حتى فَقدَت مؤخرته الإحساس، فجاهَد ليرفع رأسه لأعلى وراح يصيح من جديد: «أيها السيد تساو مينغ جيو، الجميع يُطْلِقون عليك لقب الحاكم العادل، وأنت في الأصل لست إلا مسئولًا أحمق! زعيم قُطَّاع الطُّرق الذي تقصده والذي تسميه (ذو الرقبة الملونة)، هناك علامة في رقبته، ولتنظر إلى رقبتي هل بها هذه العلامة؟»
فدهش السيد تساو، وأشار بيده ليتراجع هؤلاء الجنود ويكفوا عن ضرب جدي، وقام اثنان من الجند برفع جدي، ثم تقدم السيد تساو إليه؛ ليفحص رقبته ويرى إن كان بها تلك العلامة أم لا.
وسأل السيد تساو مينغ جيو: «وكيف عرفتَ أن رقبة زعيم قُطَّاع الطُّرق بها علامة؟»
فأجاب جدي: «لقد رأيتُه بأم عيني.»
– «ما دمت تعرفه، فإنك قطعًا أحد عصابة قُطَّاع الطُّرق، ونحن لم نخطئ في القبض عليك.»
– «إن هناك عددًا كبيرًا جدًّا من أبناء قرية دونغ بيي يعرفون زعيم قُطَّاع الطُّرق، فهل لا بد من أن يكونوا جميعًا من جماعة قُطَّاع الطُّرُق؟»
– «وكونك تنام في هذا الوقت المتأخر من الليل فوق مضجع سيدة أرملة، فإنك إن لم تكن قاطع طريق فأنت حتمًا وغد حقير، ونحن لم نخطئ أبدًا في القبض عليك.»
– «لقد كان هذا وفق رغبة ابْنَتِك بالتَّبنِّي.»
– «هل كانت راضية بذلك؟»
– «نعم كانت راضية.»
– «مَن أنت؟»
– «إنني أحد العمال لديها.»
فقال السيد تساو: «آه، آه» ثم قال: «يا سيد يان، فلتحتجزه الآن لنبحث في أمره.»
وعند ذلك جاء جدتي والجد لوو خان إلى أمام مدخل مبنى حكومة المدينة، يمتطيان البغلين الأسودين اللذين كانت تمتلكهما عائلتي. وأمسك الجد لوو خان بالبغلين ووقف خارج المدخل، بينما راحت جدتي تبكي بكاءً حارًّا، حتى تمكنت من الدخول إلى داخل المبنى، فتقدم الحراس ليمنعوها من ذلك، فاصطدموا بها وقد أمطرَتْهم بالبصق على وجوههم، وقال الجد لوو خان: «إنها ابنة السيد رئيس المدينة بالتَّبنِّي»، وعندها لم يجرؤ أحد من الحراس على اعتراض طريقها، فتقدمت جدتي واقتحمت المدخل.
وبعد ظُهر ذلك اليوم، أرسل السيد تساو مينغ جيو رئيس المدينة أحد رجاله ليأتِيَه بعربة ذات ستارة مناسبة للطقس، وأمر بتوديع جَدِّي إلى قرية دونغ بيي.
وقد رقد جَدِّي مدة شهرين فوق مضجع جدتي حتى تلتئم جراحه.
كما قامت جدتي بامتطاء البغل الأسود وذهبت مرة ثانية إلى المدينة؛ حيث قامت هذه المرة بزيارة أمها بالتَّبنِّي وأهْدَت إليها حقيبة هدايا ثقيلة.
١٠
راح جَدِّي يُقلِّب في خزنة الفرن، حتى تمكن من جمع مبلغ ألفي دا يانغ، وقام بوضعها داخل جوال، ثم طلب من الجد لوو خان أن يحمل الجوال إلى المكان الذي حَدَّدتْه عصابة قُطَّاع الطُّرق لافتداء جدتي.
فسأله الجد لوو خان: «هل طلبوا مبلغ ألف دا يانغ فقط؟»
فأجاب جَدِّي قائلًا: «كفَى من هذا الهراء، وافعل ما أمرتُك به.»
فقام الجد لوو خان باللحاق بالبغل ومضى إلى حيث أمره جدي.
وفي أصيل اليوم، عاد الجد لوو خان بجدتي على ظهر البغل الأسود، وقد صحبهم اثنان من قُطاع الطرق حاملين السلاح لحماية جدتي حتى منزلها.
وعندما التقى الرجلان بجدي أخبراه: «أيها المعلم، لقد قال زعيمنا، إنك من الآن فصاعدًا بإمكانك أن تنام وبابك مفتوح على مصراعيه.»
فأمر الجد لوو خان بحمل قدر من النبيذ الممزوج بالبول، وتقديمه إلى رسولَي زعيم قُطَّاع الطُّرق، ثم قال جدي: «احملَا هذا القدر لزعيمكما ليتذوق صَنْع أيدينا.»
وأمسك جَدِّي بأيدي الرَّجُلَين وودَّعَهما حتى خارج حدود القرية.
وبعد أن عاد من توديع الرجلين، قام بإغلاق باب المنزل الرئيسي، ثم أغلق باب الغرف الداخلية، ثم باب الغرفة، وراح يُعانِق جدتي عناقًا حارًّا، وسألها: «هل ضايقكِ زعيم عصابة قُطَّاع الطُّرُق؟»
فهزت جدتي رأسها، وراحت تذرف الدموع.
– «ماذا؟ هل تعرضتِ للأذى على يده؟»
دفنَتْ جدتي وجهها داخل صدر جدي، ثم قالت: «إنه … إنه لمَس صدري.»
فانتفض جَدِّي غاضبًا، ثم قال: «وهل الطفل بخير؟»
فهزت جدتي رأسها بالإيجاب.
وبعد أن عاد جَدِّي بهذين المُسدَّسَين، أغلق على نفسه باب غرفته لمدة ثلاثة أيام كاملة، قام خلالها بفك جميع أجزاء المسدسين، ثم قام بتجميعها مرة ثانية، وفي فصل الربيع من كل عام، كانت مياه الخليج تَتخلَّص من حالة التجمد التي كانت عليها، وكانت أسماك الخليج التي اختبأت طيلة الشتاء تخرج إلى خارج المياه لتتشمس، وخرج جَدِّي إلى هناك حاملًا أحد المسدسين، وحمل معه سلة مليئة بالطلقات النارية، وذهب إلى شاطئ الخليج للصيد، وبعد تعب يوم كامل، لم يتمكن جَدِّي من صيد أسماك كبيرة الحجم، ونجح فقط في صيد بعض الأسماك الصغيرة، كانت عادة جَدِّي أنه لا ينجح في صيد أي شيء من الأسماك إذا وجدوا أحدًا إلى جواره يراقبه، وعندما يكون بمفرده، كان يقوم بإطلاق الرصاص على رءوس الأسماك، وفي فصل الصيف، كانت الذُّرَة الرفيعة قد نضجت، فأتى جَدِّي بمِبْرَدٍ مصنوع من الحديد، وقام ببَرْد الجزء الأعلى من المسدسين.
في مساء السابع من شهر يوليو، هطلت أمطار غزيرة، وسُمِع دَوِي رعد وبرق شديد، كانت جدتي قد قامت بتسليم أبي الذي كان قد اقترب من إكمال أربعة أشهر حينها، قامت بتسليمه للفتاة ليان إر لتساعدها في حمله، وجاءت جدتي مع جَدِّي إلى متجر النبيذ داخل الفناء الشرقي، وقامَا بإغلاق الأبواب والنوافذ، وطلبَا من الجد لوو خان أن يضيء المصابيح، وقامت جدتي بعرض سبعة ألواح من النحاس أعلى منصة خزينة الفرن، عرضَتْهما في شكل زهرة المايخوا، ثم تراجعت إلى الخلف، كان جَدِّي يسير خارج المنصة متبخترًا، ثم قام بإخراج كِلَا المسدسين من حول خصره، ثم استعد جيدًا، وأطلق الرصاص، حتى طارت تلك الألواح النحاسية المعروضة أعلى المنصة إلى أعلى السور، وسقطت ثلاث طلقات على الأرض، بينما اخترقت أربعة أخرى السور.
وتقدَّم كل من جدتي وجدي معًا إلى أمام المنصة، وهما يرفعان المصباح لمشاهدة المشهد أعلى المنصة، وجدَا أن أعلى المنصة خالٍ تمامًا من آثار أي طلق ناري ولم يتأثر أدنى شيء بما حدث.
وهذه هي «الطلقات السبعة على شكل أزهار المايخوا» والتي كان جدي يُتقِنُها ببراعة فائقة.
وركب جَدِّي بغله الأسود، وأتى إلى إحدى الحانات الصغيرة عند مدخل القرية الشرقي، فإذا به يجد أن باب الحانة مُغلَق، وهناك عدد من شِبَاك العنكبوت مُعلَّقة أعلى عتبة باب الحانة، وعندما اقتحم باب الحانة وولج إلى الداخل، شم رائحة جثة متعفنة تزكم الأنوف، فراح يرفع كمه على فمه يتقي الرائحة النتنة ومضى إلى الأمام يتتبع مصدر الرائحة، فإذا بالعجوز السمين يجلس أعلى عمود المنزل، بينما تضغط قدماه على مقعدٍ صغيرٍ، ورأى حبلًا أسود يلتف حول رقبة العجوز، وقد بدت عيناه جاحظتين، ولسانه الأسود الطويل يتدلى إلى خارج فمه، وقد اهتز جزء من الحبل الذي كان يلتف حول رقبته متأثرًا بدفعة جَدِّي للباب.
بصق جَدِّي مرتين متتاليتين، وسحب بغله ومضى حتى وقف عند مدخل القرية، بينما بدَا البغل في حركة دائمة، وهو لا يتوقف عن الهز بذيله الخالي من الشعر محاولًا أن يبعد عنه جماعة الذباب الكبيرة في حجم حبة البازلاء، وبعد أن استغرق جَدِّي وقتًا طويلًا في التفكير، قرر أن يركب بغله متوجهًا إلى جهة منزله، غير أن تلك السلسلة الحديدية القوية التي كانت تقبض على فم البغل أرغمته على تغيير وجهته للخلف، فضربه جَدِّي بقبضته على ظهره، فتقدم البغل للأمام وسار بمحاذاة طريق الذُّرَة الرفيعة.
ترك جَدِّي وبغله آثار أقدامهما على جميع المناطق التي داستها أقدامهما داخل حقول الذُّرَة، وكان الجزء الأسفل من جسد جَدِّي ومنطقة بطن البغل قد امتلأ بآثار الوحل، كان جَدِّي يستمع إلى صوت اصطدام أقدامه وأقدام البغل بالوحل داخل الذُّرَة، وبعد وقت قصير، ازدادت حركة تَنفُّس جدي، وأحس بأن حلقه جافٌّ تمامًا، وأن لسانه لزج وكريه، مضى يفكر في أن حلق البغل بالتأكيد سيكون جافًّا مثل حلقه، وأن لسانه لزج وكريه مثل لسانه، سال جميع العرق الذي كان يسيل على جسده، وبدأ جسده ينزف سائلًا لزجًا مثل زيت الصنوبر الذي كان يبدو حارًّا على جلده، وراحت أوراق الذُّرَة الحادَّة تضرب رقبة جَدِّي العارية، بينما كان البغل يرفع رأسه غاضبًا ويحاول أن يطير بسرعة أعلى حقول الذُّرَة الممتدة، وربما كان ذلك البغل الثاني الذي تمتلكه عائلتي منشغلًا بجر الرَّحَى وهو مُغَشَّى العينين، أو ربما كان يقف مُنهَكًا يأكل أوراق الذُّرَة وبعض الذُّرَة المحمصة.
عقد جَدِّي العزم وقرر في داخله أن يمضي في طريقه بمحاذاة الخندق، بينما كان البغل يحاول أن يسترق النظر إلى صاحبه الذي يقوده إلى الأمام بعينيه اللتين كانتَا متأثِّرَتين بمضايقة أوراق الذُّرَة.
وظهرت آثار أقدام منذ وقت قريب جدًّا داخل حقول الذُّرَة، وشم جدي رائحة كان ينتظرها منذ وقت طويل، بينما ظهر التوتر على البغل، كان لا يتوقف عن هز رقبته والتمايل بجسده الضخم على أعواد الذُّرَة، وهنا راح جَدِّي يسعل بصوت مُبالَغ فيه، وجاءت من أمامهما رائحة زكية، تَعرَّف عليها جدي، واعتمادًا على خياله الصادق، ما إنْ تقدَّم جَدِّي خطوة إلى الأمام حتى وطأت قدماه ذلك المكان الذي كان يتطلع إليه منذ فترة طويلة.
كانت آثار الأقدام التي اكتشفها جَدِّي تُلقِي بقدر من المياه أمام جَدِّي والبغل، كان يبدو أن جَدِّي لا ينظر إليها، بل يتقدم إلى الأمام متتبعًا هذه الأقدام، وفجأة علا صوته وهو يتغنى بمقطوعة: «غادر الحصان الحدود الغربية.»
وسمع جَدِّي وَقع أقدام خلفه، غير أنه استمر في السير إلى الأمام كالأحمق، وهنا أحسَّ أن شيئًا صلبًا خبط رقبته، فرفع يديه مستسلمًا، ثم امتَدَّت يدان إلى أمام صدره وأخرجَت منه المسدسين اللذين كان يحملهما، ثم تم تغطية عَيْنَي جَدِّي بقطعة قماش سوداء.
قال جدي: «إنني أرغب في مقابلة زعيمكم.»
وانقضَّ أحد أفراد عصابة قُطَّاع الطُّرق على جَدِّي وأحاطه بذراعيه، ثم أرخى يديه بعد حوالي دقيقتين، فسقط على الأرض، حتى امتلأت جبهته بالطين، كما غاصت يداه في الوحل عندما حاول الاعتماد عليهما لينهض من مكانه، واتكأ على الذُّرَة حتى نهض واقفًا، بينما كانت رأسه تدور وقد رأت عيناه هالة من السواد تلف حقول الذُّرَة، ثم سمع صوت تَنفُّس ذلك الرجل الفظِّ الواقف إلى جواره، ومدَّ ذلك الرجل الفظ يده وقطع عود ذرة، وراح يمده لجدي تارةً ويمسكه هو تارة أخرى، ثم قال: «هيا بنا!»
وهنا سمع جَدِّي وَقْع أقدام أحد أفراد عصابة قُطَّاع الطُّرق وصوت حوافر البغل التي كانت تدوس في الوحل.
ومد قاطِع الطريق يده وأزال تلك العصابة السوداء التي كانت ملفوفة فوق عَيْنَي جدي، فرفع جَدِّي يده ليغطي عينيه ولم ينزلها إلا بعد أن ذرفت عيناه كمية كبيرة من الدمع، وكان أول ما رآه جَدِّي أمامه معسكر؛ حيث رأى مجموعة كبيرة من الذُّرَة محطمة، ينتصب أعلاها خيمتان، يقف خارج الخيمتين ما يزيد على عشرة من الرجال ملتحفين بعباءات من القش، ثم رأى رجلًا ضخمًا يجلس أعلى مقعد خشبي عند مدخل الخيمة، ولاحَظ أن هناك وشمًا في رقبة ذلك الرجل الضخم.
قال جدي: «أرغب في مقابلة الزعيم.»
فأجاب جَدِّي قائلًا: «نعم.»
– «وما الذي جاء بك إلى هنا؟»
– «جئتُ لأتعلَّمَ على يديكم.»
فضحك أبو شامة ضحكةً باردةً، ثم قال: «ألستَ تُرابِض يوميًّا على حافة الخليج للصيد؟»
فقال جدي: «دائمًا ما أفشل في التصويب.»
فأخذ أبو شامة بمسدسي جَدِّي وراح ينظر إلى فوهتهما ويضغط على زنادهما، ثم قال: «ما أجود هذا السلاح، ولكن لماذا ترغب في تَعلُّم إطلاق النار؟»
فأجاب جَدِّي قائلًا: «لقتل تساو مينغ جيو.»
فسأله أبو شامة: «أليس هو والد زوجتك بالتَّبنِّي؟»
فقال جدي: «لقد ضربني ثلاثمائة وخمسين ضربةً بالنعال! وقد ضُرِبت كل هذه النعال نيابةً عنك.»
فضحك أبو شامة، ثم قال: «لقد قتلتَ رجلين، واستوليتَ على امرأة، وتستحق قَطْع رأسك.»
فقال جدي: «لقد ضربني ثلاثمائة وخمسين ضربة بالنعال.»
فما إن رفع أبو شامة يده اليمنى، حتى أطلق ثلاث طلقات، ثم رفع يده اليسرى لتطلق ثلاث طلقات أخرى، فتَقَرفَص جَدِّي على الأرض، ووضع يديه على رأسه ولم يتوقف عن الصياح، بينما انخرط أعضاء عصابة قُطَّاع الطُّرق في الضحك.
قال أبو شامة بغرابة واضحة: «آه من هذا الرجل، جبان مثل الأرانب ويستطيع أن يقتل!»
فقال أحد أفراد العصابة: «ولكنه شجاع في أمور النساء.»
قال جدي: «إنني أرغب في تَعلُّم إطلاق النار لضرب تساو مينغ جيو.»
أجاب أبو شامة: «إن حياة ذلك تساو جيو مينغ في أيدينا، وبإمكاننا أن نُربِّيه في أي وقت نشاء.»
فقال جَدِّي بنبرة بها بعض الشكوى: «إذًا فهل رحلتي هذه راحت هباءً؟»
فألقى أبو شامة بمسدسي جدي، فانقض جَدِّي وأمسك بأحدهما، بينما سقط الآخر على الأرض، فغاصت ماسورته داخل الوحل، فالتقطه جَدِّي وراح يزيل الوحل من على المسدس وينظفه بطرف ثيابه.
وهنا تَقدَّم أحد أفراد العصابة ليربط تلك العصابة السوداء على عيني جدي، فأشار له أبو شامة بيده قائلًا: «لا داعي لذلك.»
وقف أبو شامة وقال: «هيا بنا، هيا بنا لنسبح في النهر، ولتكن فرصة لأن نرافق المعلم في طريقه.»
فتقدَّم أحد أفراد العصابة وراح يجر البغل نيابةً عن جدي، بينما راح جَدِّي يسير خلف البغل، ثم سار خلفه أبو شامة وجماعة من أفراد عصابته.
وبينما كانوا يسيرون على حافة النهر، راح أبو شامة ينظر إلى جدي نظرات باردة، فرأى جَدِّي وقد انشغل بمسح الوحل والعرق الذي كان يملأ وجهه، ثم قال: «ليس هناك أدنى فائدة من رحلتي هذه، ليس هناك أدنى فائدة من رحلتي هذه، لقد كدتُ أن أموت من شدة الحر.»
وقام جَدِّي بخلع ملابسه المتلطخة بالوحل، ثم ألقى فوقها المسدسين، وسار بضع خطوات ثم نزل إلى النهر، وما إن نزل إلى النهر، حتى راح يرتعش؛ حيث كانت رأسه تغطس داخل المياه أحيانًا وترتفع أحيانًا أخرى، بينما كانت يداه لا تتوقفان عن الارتعاش.
سأل أحد أفراد العصابة: «أترى أن هذا الرجل لا يعرف العوم؟»
فأحدث أبو شامة صوتًا معبرًا عن نفي هذا الكلام.
فجاءهم صوت مُجاهَدة جَدِّي وصوت المياه، وحيث كانت المياه ترمي به صوب الشرق.
فراح أبو شامة يسير في اتجاه المياه نحو الشرق.
«أيها الزعيم، حقًّا إنه يكاد يغرق!»
فقال الزعيم أبو شامة: «انزلوا لإنقاذه.»
قفز أربعة من أفراد العصابة إلى داخل النهر، وأتوا بجدي الذي كانت بطنه ممتلئة بالمياه وكأنه قد شرب جرة كبيرة من الماء دفعة واحدة، ورقد جَدِّي على حافة النهر مثل الجثة الهامدة.
فقال الزعيم أبو شامة: «ائتوا بالبغل.»
أتى أحد أفراد العصابة مسرعًا بالبغل.
فقال أبو شامة: «ارفعوه على ظهر البغل.»
فقام عدد من أفراد العصابة برفعه على ظهر البغل، بينما بدت بطنه المنتفخة غير مستقرة على ظهر البغل.
قال أبو شامة: «اضربوا البغل لعله يفر مسرعًا.»
فتقدم أحد أفراد العصابة يجر البغل، بينما راح آخَر يحثه على السير بسرعة، وانشغل اثنان آخران بِسَنْد جَدِّي على ظهر البغل، فراح بغل العائلة الأسود الكبير يجري بسرعة على حافة النهر، وما إن جرى مسافة غير طويلة، حتى راح جَدِّي يَتقيَّأ ما بداخل بطنه من مياه.
سارع أفراد العصابة بإنزاله من على ظهر البغل، فرقد جَدِّي على حافة النهر، وراح يقلب عينيه المنهكتين مثل عيني سمكة ميتة في ذلك الزعيم الضخم أبو شامة.
فخلع أبو شامة عباءته، وراح يضحك ضحكات طيبة، ثم قال: «أيها الرجل، لقد كُتِب لك عُمْر جديد.»
بدَا وجه جَدِّي شاحبًا، وبَدَت عظام خَدَّيه في حالة يُرثَى لها.
وخلع أبو شامة وجميع أفراد العصابة ملابسهم كاملة، وقفزوا معًا إلى داخل النهر، كانوا جميعًا يتقنون السباحة إلى درجة كبيرة، وكان نهر موا شوى آنذاك يفيض بالماء الوفير، فراحوا يستمتعون بالسباحة داخل النهر الكبير.
وراح جَدِّي يتسلق حافة النهر ببطء وتردد، ثم التحف عباءة أبي شامة، ومخط أنفه، وحاول تسليك حنجرته، وفرد ذراعيه وقدميه، أمسك بملابس أبي شامة وراح ينظف بها سرج البغل الذي كان مبللًا، ثم مد البغل رقبته اللامعة مثل الحرير وراح يلمس بها جسد جَدِّي بلطف شديد، فما كان من جَدِّي إلا أن جعل يمسح على رقبة البغل، ثم قال: «أيها البغل العجوز، انتظِر، انتظِر.»
وعندما رفع جَدِّي المسدسين، كان أفراد العصابة يحاولون التقدم نحو حافة النهر مثل البط، فأطلق جَدِّي سبع طلقات بإيقاع متناغم، فسالت دماء أفراد العصابة واختلطَتْ بمياه نهر موا شوى القاسية.
ثم أطلق جَدِّي سبع طلقات جديدة.
كان أبو شامة قد نجح في الصعود إلى ضفة النهر، وكانت مياه نهر موا شوى قد نَظَّفتْ جلده تنظيفًا جيدًا فجعلته أبيض بياض الثلج، فوقف بلا خوف هناك وسط بعض الحشائش على ضفة النهر، وراح يخاطب جدي بإعجاب وتقدير قائلًا: «تصويب بارع!»
سطعت الشمس الحامية على قطرات المياه التي كانت تتحرك وتسكن على جسده.
فسأله جدي: «أيها الزعيم أبو شامة، هل اعتديتَ على زوجتي؟»
فرد أبو شامة: «نعم للأسف حدث ذلك!»
فسأل جدي: «وكيف تَجرَّأتَ على هذه الفعلة الشنيعة؟»
فقال أبو شامة: «أعلم أنك لن تهنأ بنهاية طبيعية.»
وسأله جدي: «وهل ستكون هذه النهاية بعيدًا عن المياه؟»
فتراجع أبو شامة بضع خطوات إلى الخلف، ووقف في منطقة مياه ضحلة على حافة المياه، وراح يشير بيده إلى قلبه ثم قال: «فَلتصوِّبْ نحو هذا المكان، فما أقبح أن تُحطِّم رأسي!»
فقال جدي: «حسنًا.»
وهكذا أصابت طلقات جَدِّي السبعة قلب أبي شامة وجَعلَتْه مثل خلية نحل، فتأوَّه الرجل قليلًا ثم سقط داخل مياه النهر، ثم راحت قدماه الكبيرتان تطفوان قليلًا على سطح الماء قبل أن تغوص إلى الأعماق مثل الأسماك.
قال جَدِّي مخاطبًا إيَّاه: «سمعتُ أن تساو مينغ جيو كافأك بعشرة دا يانغ؟»
ركع الرجل العجوز على ركبتيه وراح يتوسل إلى جَدِّي قائلًا: «العفو والصَّفْح يا زوج ابنتي المحترم.»
أخرج جَدِّي من جيبه عشرة دا يانغ، وكوَّمَها أعلى صلعة والد جدتي اللامعة.
وراح جَدِّي يصيح بقسوة شديدة «ارفع رقبتك، واثبت جيدًا!»
ثم تراجع بضع خطوات إلى الخلف، ومسح على مسدسيه، ثم أطلق النار ليُطَيِّر اثنين دا يانغ.
أطلق جَدِّي طلقتين جديدتين، أسقط بهما اثنين دا يانغ.
كان جسد والد جدتي العجوز ينكمش، ولم ينتظر حتى ينتهي جَدِّي من إسقاط العشرة دا يانغ، سقط الرجل على الأرض.
فأخرجت جدتي مبلغ مائة دا يانغ من صدرها، وألقتها على الأرض لتملأ جميع أرجاء المكان.
١١
عاد جَدِّي وأبي إلى منزلهما الذي تحطم تحطيمًا كاملًا، وأخرجَا مبلغ خمسين دا يانغ من داخل شق في حائط المنزل، وتَنكَّرَا في صورة شَحَّاذَيْن حتى وصلَا إلى المدينة، وتوصَّلَا إلى سيدة تملأ وجهها بالمساحيق داخل دكان صغير مُعلَّق داخلها فانوس مصباح أحمر بالقرب من محطة القطار، واشتريَا من هذه المرأة خمسمائة وخمسين رصاصة، وبعد ذلك حاولَا التَّخفِّي في المدينة عدة أيام، حتى نجحَا في الخروج من المدينة بما يحملانه من الرصاص، واستعدَّا للبحث عن القائد لينغ ماتزه لتصفية حسابهما معه.
وبعد ظهر اليوم السادس عقب معركة كمين جسر نهر موا شوى؛ أي بعد ظهر الخامس عشر من أغسطس حسب التقويم القديم لعام ١٩٣٩م، استطاع جدي وأبي الإمساك بخروف جبلي صغير وقد حبس بوله ووصلَا إلى حقول الذُّرَة الواقعة عند حدود القرية الغربية، كان هناك ما يزيد على أربعمائة من الشياطين اليابانيين، وما يزيد على ستمائة من قوات العملاء فرضوا حصارًا مطوقًا على قريتنا، فسارع جَدِّي وأبي بقطع رأس فتحة مؤخرة الخروف؛ ليسقط الخروف كمًّا كبيرًا من الروث ثم يسقط خمسمائة وخمسين رصاصة كانت مختزنة داخله، ولم يبالِ جَدِّي وأبي بالقاذورات الكريهة التي خرجت من الخروف، وراحَا يجمعان الرصاص ويستعدان للتَّسلُّح، واشتبكَا مع الغزاة في معركةٍ قاسيةٍ، وعلى الرغم من أنهما نجحَا في قتل عشرات من الشياطين اليابانيين، وكذا عشرات من العملاء الخونة، فإنهما لم يستطيعَا العودة إلى القرية بسبب ضعف عتادهما، وفي أصيل ذلك اليوم، خرجت جموع أهالي القرية للسباحة في جنوب القرية الذي لم يشهد إطلاق نار، إلا أنهم تعرضوا لإطلاق نار كثيف وبطريقة جنونية من قِبَل المدافع والرشاشات اليابانية؛ الأمر الذي أدَّى إلى مقتل مئات من الرجال والنساء داخل حقول الذُّرَة، بينما سارع مَن تبقى منهم بالاختفاء داخل حقول الذُّرَة الممتدة هنالك.
وعندما قرر الشياطين اليابانيون الانسحاب من المكان، قاموا بإشعال النيران في جميع مساكن القرية، فامتلأت سماء القرية بالنيران المشتعلة، التي استمرَّت فترة طويلة حتى تم إخمادها، حتى إن قمر تلك الليلة الذي كان من المُفترَض أن يكون قمرًا مكتملًا أحمر، جعلته هذه الحرب البشعة يبدو قمرًا شاحبًا مهترئًا، وكأنه قصاصة ورق فقد لونها، وقد تَعلَّقَت في السماء حزينة مكتئبة.
– «إلى أين سنذهب يا أبي؟»
فلم يَرُد جَدِّي على سؤال صغيرِه.