الباب الثالث

موقعة الكلب

١

يزخر تاريخ الإنسان بالكثير من الأساطير والذكريات المرتبطة بالكلاب، بما فيها الكلاب الشريرة والمخلصة والمرعبة والمسكينة! وخلال مشوار جَدِّي وأبي الطويل، هناك مئات الكلاب التي داست بأقدامها الصلبة مختلف الطُّرق الرمادية خلال مذبحة الذُّرَة التي وقعت في جنوب قريتنا، وقد تَشجَّعَت تلك الكلاب على ذلك تحت قيادة كلاب عائلتي الثلاثة الأسود والأخضر والأحمر، كانت عائلتي قد ربَّت فيما مضى خمسة كلاب، مات منهما الكلبان الأصفران في نفس العام الذي بلغ فيه أبي الثالثة من عمره بعد أن عاشوا حياة مليئة بالصعاب ومحفوفة بالمخاطر، بينما عمر الكلاب الثلاثة المتبقية الأسود والأخضر والأحمر خلال ظهورهم في مذبحة الذُّرَة الشهيرة وقيادتهم لجماعة الكلاب آنذاك، من الخامسة عشرة من عمرهم، وبالطبع فإن هذا العمر بالنسبة للإنسان يعني عمر الصبا، إلا أنه بالنسبة للكلاب إنما يعني أنها قد بلغَت الأربعين.

خلال الأيام التي أعقبت تلك المذبحة الكبرى، كانت برك الدماء السوداء قد غَطَّت صفحة ذكريات جَدِّي وأبي خلال نَصبِهم الكمائن لملاقاة العدو عند الجسر الممتد أعلى نهر موا شوى، وصفحة ذكرياتهم كانت أشبه ما تكون بسماء غطتها السحب السوداء، غير أن اشتياق أبي لجدتي كان دائمًا مثل ضوء الشمس الذي ينبعث من خلال تلك السحب السوداء، وهذه الشمس المحتجبة بهالات من السحب السوداء كانت بالتأكيد في معاناة كبيرة، والضوء الذي كان يخترق تلك السحب الكثيفة، كان يجعلني في حالة غير مستقرة، كما أنَّ تلك الأوقات التي كان يسترقها أبي خلال تلك المعركة الحامية للتفكير في جدتي، أقول: كان اشتياق أبي لأمه يجعلني في غاية الحيرة مثل الكلب الذي فقَدَ جميع أفراد عائلته.

المذبحة الكبرى التي وقعت في مساء يوم عيد منتصف الخريف لعام ١٩٣٩م، تكاد تكون قد أبادت جميع أهل قريتنا، ومن ثَمَّ قد جعلت مئات من كلاب القرية تفقد عائلاتها بالمعنى الحقيقي للكلمة، كان جَدِّي قد راح يُطلِق وابلًا من الرصاص على تلك الكلاب التي استغلَّت رائحة الدماء التي ملأت المكان، وجاءت لتأكل في الجثث الملقاة في كل مكان، كنتَ تسمع دَوِيَّ مسدسه من نوع «مسدس تزه لاي ده١» في كل مكان، كانت تفوح رائحته الملتهبة في جميع الأرجاء، يخرج من ماسورته لون أحمر داكن، يختلط بلون قمر منتصف الخريف الأبيض بياض الثلج والبارد مثل الجليد، أما حقول الذُّرَة فقد بدت بعد تلك الحرب الضارية في غاية السكون والوحشة، وقد لفها لون قمر منتصف الخريف الحزين، وامتلأت القرية بالمشاعل النارية، وعلت ألسنة اللهب تملأ سماء القرية، وبعد قيام قوات الجيش الياباني والقوات الصينية المعاونة له بمهاجمة القرية، قاموا بإضرام النيران في جميع منازلها، ثم انسحبوا منها من جهة المدخل الشمالي، كان ذراع جَدِّي الأيمن الذي أصيب قبل سبعة أيام من الهجوم على القرية، في حالة سيئة للغاية غير قادرة على الحركة تمامًا، وقد انشغل أبي حينها بمساعدة أبيه في ربط ذراعه المصابة، وكان جَدِّي قد ألقى بمسدسه على التربة السوداء داخل حقول الذُّرَة، وبعد أن أحكم أبي ربط ذراع جدي، جلس جَدِّي يستريح على الأرض، وهو يستمع إلى أصوات الخيول اليابانية التي كانت تصيح بصوتٍ عالٍ، وسمع وقع أقدامها التي كانت تهز المكان وكأنها رياح عاتية، كانت وقتها تجري بسرعة تدريجية وتتجمع عند المدخل الشمالي للقرية، ثم اختفت في النهاية داخل حقول الذُّرَة الواقعة في شمال القرية، كان يسمع أيضًا وقع أقدام البغال التي كانت تعدو بسرعة جنونية، بالإضافة إلى صوت أفراد القوات المُعاونة للجيش الياباني التي كانت قد بلغ بها التعب والإرهاق مداه.

ووقف أبي إلى جانب جَدِّي الذي كان جالسًا يستريح داخل حقول الذُّرَة، يُجاهِد نفسه ويحاول تَتبُّع وقع أقدام الخيول اليابانية، بعد ظُهر ذلك اليوم، أصيب أبي بفزع شديد عندما رأى ذلك الحصان الياباني ذا اللون الأحمر الداكن يقترب منه، ورأى بأم عينيه حوافر الحصان الكبيرة التي بدت له وكأنها سهام مصوبة نحو رأسه، وراحت حوافر الحصان تنير أمامه مثل البرق، لم يتمالك أبي نفسه من الخوف فراح يصيح وينادي جدي، ثم جعل يغطي رأسه بيديه، ثم جلس في وضع القرفصاء على بعض من أوراق الذُّرَة، وغطت رائحة البول الكريهة المحبوسة داخل بطن الحصان ورائحة عرقه؛ المنطقة المحيطة بأبي، ثم تقدَّم الحصان إلى الأمام مقتحمًا الذُّرَة بجسده الممتلئ، بينما راحت أعواد الذُّرَة الممتلئة بالحَب تتساقط فوق أبي، حتى امتلأت الأرض بكميات كبيرة من أعواد الذُّرَة المسكينة، عاد أبي بذاكرته إلى الوراء، وتَذكَّر مشهد تساقُط كميات كبيرة من أعواد الذُّرَة فوق جثة والدته التي كانت ملقاة وسط الذُّرَة، وقبل سبعة أيام مضت، كانت أعواد الذُّرَة قد نضجت كاملًا، غير أنها لم تكن قد أصبحت يابسة بعد، وهكذا تساقطت كميات من الحَب على الأرض بفعل هجوم جماعات الحمام على سنابل الذُّرَة الناضجة، حتى امتلأت الأرض بحبات الذُّرَة الجميلة التي بدت وكأنها قطرات أمطار تملأ أرضية حقول الذُّرَة، كانت شفتا جدتي تكشفان عن أسنانها الجميلة في جمال الصَّدَف، وقد ظهر على أسنانها الجميلة بضع حبات من الذُّرَة التي ظهرت لأبي وكأنها تكمل لوحة جميلة تسر الناظرين، ثم اختفَت تلك اللوحة سريعًا، وجد الحصان الياباني الذي اقترب من أبي صعوبة في العودة إلى حيث جاء، كانت أعواد الذُّرَة لا تتوقف عن ضرب مؤخرته، وكان بعضها ينكسر فور اصطدامه بمؤخرة الحصان، وبعضها ينحني والبعض الآخر ينحني ثم ينتصب ثانية، وهكذا ومع هبوب الرياح الخريفية عَمَّت حالة من الفوضى الشديدة حقول الذُّرَة التي مر بها الحصان الياباني الممتلئ، ولاحَظ أبي كمية السائل التي كانت تسيل من أنف وفم الحصان الياباني الذي كان في غاية التوتر أثناء تَعجُّله في الفرار من داخل حقول الذُّرَة، حتى إنها سالت لتغطي جزءً كبيرًا من المنطقة المحيطة بفمه، بدت عينَا الحصان وقد فاضتا بالدموع بسبب كميات المسحوق الأبيض الذي تناثر إلى داخلها أثناء السير وسط الذُّرَة، ولمع جسد الحصان، ثم ظهرتْ أعلى سنابل الذُّرَة رأسُ جندي ياباني شاب وسيم كان يرتدي فوق رأسه قُبَّعة صغيرة مُربَّعة، ووسط تلك الحرب الحامية داخل حقول الذُّرَة، راحت سنابل الذُّرَة تضرب ذلك الجندي الياباني الوسيم وتضايقه وتعوق طريقه أينما تَوجَّه، حتى اضطر إلى أنه يغمض عينيه بين الحين والآخر لتفادي مضايقتها له، رآه أبي وهو يأخذ بخنجره ويقطع سنابل الذُّرَة، كان بعضها يسقط على الأرض باستسلام تامٍّ، ثم تَبقَى أعواد الذُّرَة ثابتة في مكانها عاجزة عن المقاوَمة، كانت بعض سنابل الذُّرَة تزأر بأعلى صوتها؛ وتتمايل تلك السنابل التي تم قطعها، وتبقى مُعلَّقة فوق سيقان الذُّرَة التي لم تكن أوراقها تتوقف عن الحركة، بدت بعض أعواد الذُّرَة أكثر صلابة؛ كانت تميل مع الخنجر إلى الأمام ثم تعود بسرعة لتنتصب في مكانها، وكأنها حزمة من خيوط الكتان كانت تلتصق على سطح الخنجر، رأى أبي الجندي الياباني الوسيم يَتقدَّم مرة ثانية على ظهر حصانه رافعًا خنجره، وهنا استجمع أبي كل قوته الشريرة إلى جانب قوة مسدسه البرونينج وصوبه نحو وجه الحصان المستطيل، فاتجه المسدس في خط مستقيم وبأقصى سرعة تجاه جبهة الحصان، وخرج منه صوت طلق مكتوم، وما إن رفع الحصان الأحمر رقبته، حتى هوت ركبتاه على الأرض، ولامست شفته التراب، ثم لحقت بها رقبته، حتى سقط رأسه كاملًا على الأرض، وسقط الشاب من على ظهر الحصان، ومن المؤكد أن ذراعه الذي كان يمسك بالخنجر قد كسر تمامًا؛ حيث رأى أبي حينها الخنجر وقد سقط على الأرض، ثم سمع صوت سقوط ذراعه المبتور على الأرض، خرجت عظمة من عظامه الصلبة من داخل جيب ملابسه، بينما بدَا ذراعه السليم وكأنه كائن حي مستقل راح يتمايل بصورة غير منتظمة، ولم يلاحظ أبي خروج دماء في تلك اللحظة التي سقط فيها ذراع الجندي الياباني من داخل جيبه، وخيمت على المكان رائحة المقابر، غير أنه بعد قليل لاحظ الدم الأحمر الفاتح يسيل من جرح الجندي الشاب، وكان الدم يسيل بشكل غير متوازن؛ كان تارةً يسيل بغزارة وتارةً أخرى يبدو دقيقًا، وتارةً بسرعة وتارة أخرى ببطء، كان أشبه ما يكون بعنقود الخوخ الأحمر الذي يظهر باستمرار ثم يختفي بنفس الصورة التي ظهر بها، كانت إحدى قدميه قد انحشرت أسفل بطن الحصان، بينما كانت الأخرى تجاوزتها إلى أمام رأسه، وظهرت القدمان مكونتين زاوية مستقيمة، وكان أبي في غاية الدهشة من أمر ذلك الحصان الياباني الكبير وذلك الجندي الياباني المهيب اللَّذَين لم يكن أبي يَتصوَّر أنهما من الممكن أن يَسقُطَا من أول ضربة، وهنا أطل جَدِّي حانيًا ظهره من داخل أعواد الذُّرَة، وراح ينادي أبي بصوت خفيض قائلًا: «يا دوو قوان.»

وقف أبي وقد ساوره كثير من عدم الاطمئنان، وراح ينظر إلى جدي، وخرجَت جماعة كبيرة من الخيول اليابانية مندفعة من قلب حقول الذُّرَة، واختلَط صوت وقع أقدام الخيول القوية وهي تعدو داخل الحقول مع صوت تحطيمها لأعواد الذُّرَة، كان الجنود اليابانيون يندفعون إلى الأمام وقد أزعجهم صوت إطلاق النار الذي صدر من مُسدَّسَي جَدِّي وأبي، حتى اضطروا إلى التَّخلِّي عن مهاجمة القرية التي أَعلنَت عن التَّصدِّي لهجومهم بكل قوة، وراح الجنود اليابانيون يعسكرون داخل حقول الذُّرَة لصد الغارات المفاجئة التي يتعرضون لها.

واحتضن جَدِّي أبي ومضيَا يزحفان داخل حقول الذُّرَة، سَمعَا أنَّات تربة الحقول وهي تَتوجَّع من ثقل أقدام الخيول اليابانية التي كانت تدكها دكًّا شديدًا، ورأيَا سنابل الذُّرَة وهي تهتز اهتزازًا عنيفًا، وقد امتلأت الأرض بما تساقَط منها رعبًا من الخيول الشرسة.

وما إن ابتعدت الخيول اليابانية حتى هدأت أعواد الذُّرَة المسكينة، وانتفض جَدِّي واقفًا داخل حقول الذُّرَة، وعندما حاول أبي أن يقف على قدميه، أدرك مدى القسوة والشدة التي كان يضغط بها جَدِّي عليه وهما منبطحان داخل حقول الذُّرَة.

لم يَمت ذلك الجندي الياباني، استطاع أن يفيق من الألم الشديد الذي أصابه، وراح يعتمد على ذراعه الذي لم ينكسر، وحاول جاهدًا أن يلم قدمه التي كانت ممدودة إلى أمام الجسر، وراح يحرك قدمه المصابة التي بدت وكأنها لا تَخصُّه وهو يَتأوَّه بصوت خفيض، ولاحظَ أبي قطرات العرق وهي تنزل من على جبين الجندي الياباني، وقد اختلطت قطرات العرق بطين الأرض وغبار الطلقات النارية، بدا وجهه شاحبًا، لم يَمُت أيضًا ذلك الحصان الياباني، كان لا يزال يهز رقبته مثل الحية بينما كانت عيناه الخضراوان الممتلئتان بالحزن تنظران إلى المنطقة الغربية المحيطة به في ريف دونغ بيي بمدينة قاو مي، وبعد أن استراح الجندي الياباني قليلًا، حاول جاهدًا أن يسحب قدمه التي كان محشورة أسفل بطن الحصان.

وتقدم جَدِّي إلى الأمام ناحية الجندي الياباني؛ ليساعده على سحب قدمه المحشورة، ثم أحكم جَدِّي قبضته حول رقبة الجندي وأجبره على النهوض، كانت قدماه في غاية التعب، حتى إنه راح يميل بجسده كاملًا على جدي، وما إن أرخى جَدِّي ساعديه قليلًا، سقط الجندي الياباني على الأرض مثل التمثال المصنوع من الصلصال، مد جَدِّي يده وأخذ الخنجر اللامع، وصوبه تجاه بعض أعواد الذُّرَة، وراح يحركه يمينًا ويسارًا وهو يقصف أعواد الذُّرَة قصفًا شديدًا، حتى امتلأت الأرض بكمية كبيرة من سائل أعواد الذُّرَة المتساقطة.

أحكم جَدِّي حد الخنجر الياباني حول رقبة الجندي ناصعة البياض، ثم خاطبه بصوت منخفض: «أيها العفريت الياباني! أين ذهبت شجاعتك؟!»

لم تتوقَّف عينَا الجندي الياباني السوداوان عن الحركة، وهو يتمتم بكلمات سريعة، عرف أبي أنها كانت عبارة عن كلمات توسُّل يطلب بها الرحمة من جدي، ومد الجندي يده التي كانت تهتز بشدة إلى جيبه مخرجًا حافظة جلدية شفافة، ثم قدَّمها إلى جَدِّي وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة.

تقدم أبي لينظر إلى تلك الحافظة، إذا بها تحتوي على صورة شخصية ملونة، يَظهَر أعلاها سيدة شابة جميلة ذات ذراع بيضاء ناصعة تحتضن طفلًا ممتلئ الجسم، وترتسم على وجه الأم وطفلها ابتسامة رقيقة.

سأله جدي: «هل هذه زوجتك؟»

فراح الجندي الياباني يغمغم بكلمات غير مفهومة.

فعاود جَدِّي سؤاله: «وهل هذا ابنك؟»

فاستمر الجندي يغمغم بكلماته غير المفهومة.

فحشر أبي رأسه إلى الأمام ليتفحص الصورة، وراح يتأمل وجه المرأة المبتسمة والطفل اللطيف.

فمد جَدِّي يده وانتزع الحافظة بقوة قائلًا: «أيها الحيوان، هل تريد أن تَستعطِفَني بهذه الصورة؟» وتطايرت الحافظة بعيدًا، ليستقبلها خنجر جَدِّي قبل أن تسقط على الأرض وقد أصبحت نصفين مستقرة أمام قدم أبي.

سادت هالة من الظلام أمام عَينَي أبي، وراح يرتعش من برودة الجو، انعكست على عينيه أشعة الضوء الخضراء والحمراء، وشعر حينها بحزنٍ شديدٍ، ولم يَعُد قادرًا على أن يفتح عينيه وينظر إلى صورة المرأة الجميلة والطفل اللطيف التي انقسمت إلى نصفين أمام عينيه.

ارتمى الجندي الياباني أمام قدمي أبي وهو في غاية التعب، وراح يمد يده غير المصابة التي كانت تهتز بشدة ليلتقط بها صورة المرأة والطفل التي انقسمت إلى نصفين، حاول بالتأكيد أن يعتمد أيضًا على يده المصابة لكنه فشل في ذلك، وكانت لا تتوقف عن النزيف. فراح يعتمد على يده غير المصابة ليتمكن من أن يلتقط صورة زوجته وطفله وهو لا يتوقف عن التمتمة بكلمات غير مفهومة.

راحت تتساقط دموعه لتملأ جبينه الملطخ بالطين والغبار. نجح في رفع الصورة بيده المصابة ووضعها أمام شفتيه وراح يُقبلها وهو يشعر بكثير من الحزن.

سمع صوت جَدِّي يَسبُّه بصوت مسموع قائلًا: «تبًّا لك أيها الحيوان، هل تعرف الدموع؟ وتعرف أن تُقبِّل زوجتك وطفلك؟ إذًا فكيف تَجرَّأتَ على قتل نسائنا وأطفالنا؟ هل تعتقد أنك هكذا ستنجح في استعطافي وأني سأعدل عن قتلك؟» ثم مد جَدِّي يده ورفع الخنجر الياباني عاليًا.

فاستوقفه صوت أبي وهو يصرخ بصوت عالٍ «أبي.» ومد أبي يديه وأمسك بذراع جَدِّي ثم قال: «أبي، أتوسل إليك ألَّا تقتله!»

فراحت ذراع جَدِّي تهتز بين يدي أبي، ثم رفع أبي عينيه وراح يتأمَّل أباه، صاحب القلب القاسي.

فطأطأ جَدِّي رأسه قليلًا، فإذا به يسمع صوت المدافع والرشاشات اليابانية وقد اختلطت بصوت استغاثة أهل القرية، ثم سمع صوت وَقْع أقدام الخيول اليابانية وهي تهز الأرض متقدمة داخل حقول الذُّرَة. وهنا رفع جَدِّي ذراعه بقوة وأزاح يدي أبي من أمامه.

راح جَدِّي يوبخ ابنه بلهجة قاسية قائلًا: «أيها الجبان، ماذا بك؟ وعلى مَن تذرف هذه الدموع؟ هل تذرفها حزنًا على أمك؟ هل تذرفها حزنًا على الجد لوو خان؟ هل تذرفها حزنًا على العم الأخرس ورفاقه؟ هل تَذرفُ الدموع حزنًا على هذا الكلب الياباني؟ ألستَ أنت الذي أسقطت فرسه بمسدسك؟ أليس هو الذي كان ينوي أن يُجهِز عليك بخنجره ليقتلك؟ امسحْ دموعك يا صغيري، وتَقدَّم لتأخذ هذا الخنجر وتقتل هذا الحيوان.»

فتراجع أبي خطوة إلى الوراء، بينما لا تزال دموعه تنهمر بشدة.

– «تقدم!»

– «لا أستطيع يا أبتاه … لا أستطيع.»

– «أيها النذل الجبان!»

وركل جَدِّي ابنه ركلة قوية، ثم تراجع خطوة إلى الوراء، وجعل بينه وبين الجندي الياباني مسافة قصيرة، قبل أن يرفع الخنجر عاليًا.

ولاحظ أبي النور الذي كان يظهر أمامه وقد تَحوَّل إلى ظلام دامس. وقد فاق صوت قطع رقبة الجندي الياباني بخنجر جدي، صوت المدافع والرشاشات اليابانية القادم من بعيد، حتى شعر أبي برعشة شديدة تَسلَّلت إلى أحشائه. وعندما أفاق من رعشته، رأى ذلك الجندي الياباني الشاب الوسيم وقد فُصِلت رقبته عن جسده. تأثر أبي ممَّا رأى حتى راح يتقيأ سائلًا أخضر. ثم استدار بجسده وفر هاربًا من أمام الجندي الياباني.

لم يستطع أبي أن ينظر إلى عيني الجندي الياباني المفتوحتين، وإلى مشهد فصل رقبته إلى نصفين بواسطة الخنجر، حيث إن خنجر جَدِّي قد استطاع أن يفصل جميع الأشياء إلى نصفين، حتى إن جَدِّي نفسه قد انقسم إلى نصفين. وشعر أبي فجأة أن هناك خنجرًا تمتلئ حافتاه بالدماء قد قسم جَدِّي وجدتي والجد لوو خان، والجندي الياباني وزوجته وابنه، والعم الأخرس، وليو دا خاو، والأخوين فانغ، والأبرص، ونائب القائد رن، قَسمهم جميعًا إلى نصفين تمامًا كما تقطع الخضراوات.

وهنا ألقى جَدِّي بالخنجر الذي بدَا ملطخًا بالدماء، وراح يجري وسط حقول الذُّرَة ليلاحق أبي الذي فر هاربًا من أمامه. وسمع صوت وقع أقدام الخيول اليابانية التي جاءت تدك الأرض مثل العاصفة. وسمع صوت المدافع من داخل حقول الذُّرَة، يبدو أنها كانت لا تتوقف عن قصف الأهالي الذين كانوا يَهبُّون لمواجهتها.

وأخيرًا نجح جَدِّي في القبض على ابنه، وأمسك برقبته وهزها هزًّا عنيفًا قائلًا: «يا دوو قوان، هل جُنِنتَ أيها الجبان؟ هل تريد أن تنهي حياتك بنفسك؟ هل سئمت الحياة؟»

وحاول أبي أن يفلت من قبضة جدي، وهو يصيح بصوت مرتفع: «أبي! أبي! أبي! أرجوك خذني من هذا المكان! خذني من هذا المكان! فإنني لا أرغب في القتال! لا أرغب في القتال! لقد رأيتُ أمي! ولقد رأيت أعمامي! ولقد رأيت الجد لوو خان!»

وهنا هَوَت يد جَدِّي لتصفع وجه أبي صفعة قوية تخلو من أي معاني الشفقة. نعم، لقد كانت صفعة قوية جدًّا، انهارت على إثرها رقبة أبي، وراحت رأسه تهتز بشدة، ثم سالت الدماء من فمه.

٢

انسحبت القوات اليابانية المُرابِضَة داخل حقول الذُّرَة، وبدأ القمر الذي كان يرتفع في سماء حقول الذُّرَة يتضاءل شيئًا فشيئًا. ولفَّ الصمت حقول الذُّرَة التي شهدت كوارث كثيرة؛ كان قد تساقط الكثير من أعواد الذُّرَة ذارفة الدموع الغزيرة خلال غارات القوات اليابانية المتلاحقة. وانتشرت رائحة الدم في أرجاء الجزء الجنوبي من القرية. وبدت ألسنة النيران تلف القرية مثل ذيل ثعلب لا يتوقف عن الحركة باستمرار، بينما لا تتوقف أصوات الانفجارات هنا وهناك، اختلَطتْ رائحة الدماء المنبعثة من داخل حقول الذُّرَة برائحة نيران المدافع والرشاشات، مكونة رائحة غريبة خانقة.

عاود جَدِّي شعور بالألم إثر ذلك الجرح القديم الذي أصاب ذراعه؛ بدأ الجرح ينزف بشدة، احتاج جَدِّي لمساعدة أبي في سد فوهة الجرح لمنع النزيف القوي. فمد أبي إصبعه الصغير البارد ليسد فوهة النزيف. واستطاع جَدِّي أن يعثر على ورقة ذابلة كانت ملقاة عند مقبرة على مسافة بعيدة عنهما، وطلب من أبي أن يساعده في الحصول على قليل من مسحوق أعواد الذُّرَة ليضعه فوق الورقة الذابلة، فمد أبي يده التي كانت تحمل الورقة الذابلة وقد وضع فوقها كمية من مسحوق أعواد الذُّرَة، وقدمها لجدي. فمال جَدِّي بأسنانه وفتح إحدى الطلقات النارية، وأفرغ ما بداخلها من بارود، وخلط البارود بمسحوق أعواد الذُّرَة، وخلطهما جيدًا ثم همَّ أن ينثر المسحوق المخلوط على فوهة الجرح، فسأله أبي بصوت خفيض: «أبي، ألا ترغب في إضافة قليل من التراب؟»

فكر جَدِّي قليلًا ثم قال: «حسنًا، فلنضع قليلًا من التراب.»

فمد أبي يده وأتى بكمية من التراب من أسفل عود من أعواد الذُّرَة، وقلَّب التراب جيدًا، ثم نثره أعلى الورقة الذابلة، وخلط جدي المساحيق الثلاثة جيدًا، ثم وضع الورقة بما عليها من مساحيق على فوهة الجرح، ثم ساعده أبي في إحكام وضع هذه اللفافة غير النظيفة على فوهة الجرح.

سأل أبي: «أبي، هل زال الألم بعض الشيء؟»

فحرك جَدِّي ذراعه قليلًا ثم قال: «تَحسَّن كثيرًا، صغيري دوو قوان، إن هذه الوصفة الفعالة قادرة على علاج أخطر الجروح.»

فسأله أبي ثانيةً: «لو حصلَتْ أمي على مثل هذه اللفافة وقتها لم تكن قد تَعرَّضَت للموت، أليس كذلك؟»

فأجابه جَدِّي بصوت يملؤه الحزن قائلًا: «نعم يا صغيري، لم تكن لتموت.»

«أبي، لو كنت قد أخبرتني من قبل عن هذه الوصفة الطبية، لكنتُ استطعت أن أستخدمها في سد فوهة جرح أمي، ولو أنني قمتُ بخلط مسحوق الذُّرَة مع البارود لكانت النتيجة أفضل بكثير.»

ووسط همسات أبي، راح جَدِّي يضغط بيده المصابة على مسدسه ليطلق بعض الطلقات النارية ردًّا على صوت مدافع اليابانيين التي تهز أرجاء القرية.

كان مسدس أبي الفرنسي برونينج لا يزال مُلقًى أسفل بطن الحصان الياباني، كان أبي قد استطاع خلال آخر معركة حدثت بعد ظُهر ذلك اليوم، الحصول على بندقية يابانية يصل طولها إلى أصغر من طوله بقليل، وكان جَدِّي لا يزال يستخدم مسدسه الألماني الصنع. إن كثرة الهجمات اليابانية المتلاحقة وكثرة استخدام جَدِّي لهذا المسدس الألماني الحديث إلى حد ما، جعلته يتحول بسرعة إلى قطعة خردة. وشعر أبي أن ماسورة مسدس جَدِّي الألماني الصنع بدت ملتوية بعض الشيء. وعلى الرغم من أن سماء القرية كانت ممتلئة بالنيران، فإن حقول الذُّرَة كانت لا تزال تبدو هادئة وسط ظلمة الليل. كما بدَا الهلال يعلو سماء حقول الذُّرَة. حمل أبي بندقيته وسار خلف جدي، وراحا يلفان حول موقع المذبحة وقد غاصت أقدامهما في الوحل الممتلئ بالدماء، كانت الجثث الملقاة على الأرض مختلطة بأعواد الذُّرَة المتساقطة في كل مكان. وبدت الدماء تبرق تحت ضوء الهلال الذي ينير سماء الحقول. وهكذا لفت هذه المناظر الدميمة الوحشية آخر مراحل صبا أبي. وأحسَّ كما لو كانت أعواد الذُّرَة تتوجع من هول ما أصابها، وكما لو كانت هناك حركة لأحياء وسط هذه الكومة من الجثث، وفكر أبي أن يُنبِّه جَدِّي لكي ينظرَا إلى هؤلاء الأهالي الذين لم يلفظوا أنفاسهم الأخيرة بعد. وما إن رفع وجهه بعض الشيء، حتى اصطدم بوجه جَدِّي المكفهر القاسي الخالي من أية مشاعر إنسانية، فعدل أبي عن رغبته في الحال.

وفي اللحظات الحاسمة، كان أبي دائمًا أكثر يقظة من جدي، كانت أفكاره دائمًا تُركِّز على ظاهر الظواهر المختلفة، ليست عميقة إلى حدٍّ كبيرٍ، ومِن ثَمَّ فقد انساق بسهولة وراء فرقة العصابات! بينما كانت أفكار جَدِّي تُركِّز على نقطة مُعيَّنة ببلادة تامة، وكانت هذه النقطة ربما تتمثل في وجه مُعيَّن أو بندقية مُعيَّنة أو طلقات نارية مُعيَّنة. لم يكن يحسن التركيز في رؤية أشياء أخرى أو سماع أصوات أخرى. هذا العيب أو هذه السمة التي كان يتمتع بها جدي، كانت قد شهدت تطورًا كبيرًا بعد ما يزيد على عشر سنوات، فبعد عودته إلى الصين قادمًا من المُرابَضة عند قمم مدينة هوكايدو اليابانية، كانت عيناه تحملقان في الشيء وكأنها نيران مسلطة عليه سوف تحرقه حرقًا، غير أن أبي لم يستطع أبدًا أن يصل إلى هذا العمق الفكري الفلسفي، ففي عام ١٩٥٧م، وعندما استطاع أبي أن يخرج من ذلك الكهف العميق الذي وضعَتْه داخله جدتي بعد مروره بالكثير من المتاعب والصعاب، كانت عيناه لا تزالان كما كانتَا في عهد الصبا مفعمتين بالحياة محتارتين لا يهدأ لهما بال، كما أنه لم يستطع طيلة حياته أن يستوضح تلك العلاقة التي تربط بين الإنسان والسياسة والإنسان والمجتمع والإنسان والحروب، وعلى الرغم من أنه قد دار كثيرًا مع عجلة الحروب، وعلى الرغم من أن حياته كانت رحلة دائمة للتَّحرُّر من الدروع الحديدية، وعلى الرغم من تَمكُّنه في التحرر بعض الأحيان، فإن حياته كانت حياة فاترة تحمل الكثير من الصفات الحيوانية.

وعندما قام جَدِّي وأبي بالدوران حول موقع المذبحة التي وقعت داخل حقول الذُّرَة، إذا بأبي يخاطب أباه بصوتٍ حزينٍ: «أبي … لم أعد أقوى على السير.»

أفاق جَدِّي من حركاته الآلية، وسحب أبي وتراجعَا عشرات الخطوات إلى الخلف، حتى جلسَا على بقعة من تراب لم تصل إليه دماء الجثث، وزاد صوت النيران الذي يلف القرية وحدة وكآبة حقول الذُّرَة، وبدَت ألسنة اللهب الذهبية وكأنها في صراع مع ضوء القمر الأبيض، وبعد أن استراح جَدِّي قليلًا، سقط إلى الخلف محدثًا صوتًا مسموعًا مثل السور لحظة انهياره، وأسند أبي رأسه إلى بطن جدي، وراح في نومٍ عميقٍ، وأحس بأن يد جَدِّي الكبيرة تمسح على رأسه، وعندها راح يتذكر ذلك المشهد قبل ما يزيد على عشرة أعوام، عندما كان ينام على صدر جدتي للرضاعة.

كان قد بلغ الرابعة من عمره، وشعر بعد ارتياح بثدي جدتي في فمه. كان لا يشعر بالرضا أثناء الرضاعة من ثديها. حتى إنه كان ينظر إلى وجهها بينما هو ينام على صدرها ثم يعض ثديها بقوة. كان يشعر حينها بانقباض ثديها وجسدها الذي يتأثر من قوة عضته. وقتها كان يحس بسائل ذي مذاق حلو ينعش فمه. كانت جدتي حينها تهم بضربه ضربةً قويةً على مؤخرته ثم تبعده عن ثديها. وبعد أن يسقط من على حجرها، يجلس على قدميه، ويروح يتأمل قطرات الدم التي تتساقط من ثديها، ثم يصدر بعض الأصوات دون أن تذرف عيناه الدموع. وعندها كانت جدتي تشعر ببعض الألم الذي كان يبدو على وجهها. وكان يسمع صوتها وهي تَسبُّه بأنه مجرد جرو شرير، وأنه حيوان شرير من نفس فصيلة أبيه. كان أبي قد عرف فيما بعد أن جَدِّي كان على علاقة عاطفية بالفتاة ليان إر التي كانت تُساعِد جدتي في أعمال المنزل. وفي الوقت الذي كان أبي يعض ثدي جدتي، كان جَدِّي قد هرب من قسوة جدتي واشترى لفتاته منزلًا جديدًا في القرية المجاورة. وقد قيل إن تلك الفتاة، التي تعتبر جدتي الثانية لم تكن هي أيضًا امرأة سهلة. وإن جدتي كانت تخشاها كثيرًا — وسوف نتحدث عن ذلك بالتفصيل فيما بعد — وكانت هذه الجدَّة الشابة قد وضعَت لي فيما بعد عمَّة أصغر مني. وفي عام ١٩٣٨م، كان الجنود اليابانيون قد كَشَفوا عن هذه العمة الصغيرة بعد أن تناوبوا اغتصاب جدتي الثانية، وسوف نتحدث عن ذلك أيضًا بشيء من التفصيل فيما بعد.

كان جَدِّي وأبي قد غلبهما النعاس الشديد، وأحسَّ جَدِّي بألمٍ شديدٍ في ذراعه المصابة، وأحسَّا أن راحة قدميهما تستند إلى حذاء من القماش، غير أنهما لا يستطيعان خلعه من شدة الإرهاق والتعب.

واضطجعَا على الأرض بين النوم واليقظة. واستدار أبي بجسده قليلًا، ليجد رقبته تستند إلى بطن جدي، وهو غارق في تأملاته نحو السماء، سمع صوت أمواج نهر موا شوى، الهادئة، ورأى بعض السحب السوداء في المجرة في السماء. وتذكر أبي ما قاله له الجد لوو خان من أن المجرة طائشة، وأن أمطار الخريف لا تنقطع. كان أبي قد رأى نوبة واحدة من أمطار الخريف الحقيقية، وقتها كان قد اقترب موعد حصاد الذُّرَة، فاضت مياه نهر موا شوى، وتَصدَّع السد الذي يعلو النهر، ووصلت مياه الفيضان إلى الحقول والقرى. ووسط كل هذا التيار الجارف، كانت أعواد الذُّرَة قد جاهدت في التصدي للفيضان، وجاهدت الفئران والأفاعي في التَّخفِّي وسط الذُّرَة. وكان أبي قد سار خلف الجد لوو خان إلى أعلى تَبَّة وسط حقول الذُّرَة، وراحَا يتأملان المياه العاتية وهما في غاية القلق. وبما أنَّ أمطار الخريف كانت تستمر لفترة طويلة، كان الأهالي قد قاموا بعمل بعض الدعامات الخشبية وحملوها إلى حقول الذُّرَة، وراحوا يقطعون سنابل الذُّرَة التي كانت تبدو ممتلئة بالبراعم الخضراء. بدت مجموعات من سنابل الذُّرَة الممتلئة بالحب، وقد أثقلت الدعامات الخشبية. وظهر مجموعة من الرجال سمر اللون نَحيفون عراة الظهر حفاة الأقدام يرتدون قُبَّعات بالية من البامبو، ظهروا واقفين على المجاديف الخشبية وهم يلوحون بعصي خشبية، كما امتلأت شوارع القرية بالمياه، وظهرت جماعات البغال والخيل والأبقار والأغنام تسبح داخل المياه، وقد طفا على السطح نفايات تلك الحيوانات. لو سطعت شمس الخريف على هذه البقعة، فسوف تنصهر صفحة المياه، وسوف تظهر أعلاها صفحة حمراء من تلك السنابل التي لم تُحْصَد بعد. راحت جماعات البط البري تحلق فوق أعواد الذُّرَة، وهي تهز بأجنحتها مُحدِثة لفحة من الهواء البارد الذي انعكس على المياه المنسابة وسط حقول الذُّرَة. ورأى أبي كمية كبيرة من المياه الصافية تنساب وسط حقول الذُّرَة، مختلفة تمامًا عن تلك المياه الصفراء خارج الحقول، فعرف على الفور أنها مياه نهر موا شوى. وهنا تَنفَّس الرجال الذين كانوا يمسكون بالمجاديف الخشبية الصُّعداء، وراحوا يتساءلون فيما بينهم، وبدَءُوا يقتربون من السور المُكوَّن من الطَّمْي ومن جَدِّي المرابض عنده. وظهرت سمكة من أسماك مبروك الحشائش تنام على مجداف أحد الفلاحين الشباب، وقد اخترق بطنها عود من أعواد الذُّرَة. ورفع الشاب السمكة، وراح يلوح بها أمام الجمع المحتشدين عند السور الترابي، وكانت السمكة كبيرة يصل طولها إلى نصف طول قامة الإنسان، كان الدم يسيل من وجنتها، وكانت تفتح فمها، وتنظر في حزن إلى أبي.

مضى أبي يُفكِّر كيف استطاع الجد لوو خان أن يشتري مثل هذه السمكة، وكيف استطاعت جدتي أن تقطعها بيديها، وتطهوها لتصنع منها قِدرًا كبيرًا من الحساء، وأثار التفكير في هذا القِدْر من الحساء شهوة أبي في تناوله. فجلس أمام جَدِّي وسأله: «أبي، ألم تشعر بالجوع بعد؟ أبي، إنني أشعر بجوع شديد، فلتصنع لي شيئًا من الطعام، وإلا سأموت جوعًا.»

جلس جَدِّي أعلى السور الترابي، وراح يتحسس خصره، وأخرج عددًا من الطلقات النارية. ثم مد يده وجاء بمسدسه وفتح خزنته، ووضع داخلها مجموعة من الطلقات النارية، وأحكم غلق الخزنة ثم ضغط على الزناد ليُحدث صوتًا مسموعًا، خرجت طلقة من داخل الخزنة. قال جَدِّي مخاطبًا أبي: «يا دوو قوان، هيا بنا … هيا بنا نبحث عن أمك.»

فذهل أبي من كلامه وسأله بلهجة حادة: «لا، لا يا أبي، لقد ماتت أمي، ونحن لا نزال على قيد الحياة، أشعر بالجوع الشديد، فلتأخذني إلى أي مكان أجد فيه بعض الطعام لسدِّ جوعي.»

وهنا حث أبي جَدِّي على النهوض. فراح جَدِّي يتمتم قائلًا: «وإلى أين سنذهب؟ إلى أين سنذهب؟» فأخذ أبي يسحب يد جَدِّي وهما يمضيان وسط حقول الذُّرَة وكأنهما يسيران في خط متعرج بمحاذاة القمر.

وبينما يسيران في طريقهما، سمعَا صوت حيوان بري يزأر بين كومة الجثث. فاستدار جَدِّي وأبي على الفور ونظرَا إلى مصدر الصوت، فإذا بهما يريان ما يزيد على عشرة أزواج من العفاريت ذوي أعين خضراء مثل أعين اللهب وأشباحًا زرقاء. فأخرج جَدِّي مسدسه ولوَّح به نحو العينين الخضراوين، وما إن انطلقت النيران حتى اختفت تلك العينان، ثم سمع صوت نباح الكلاب القادم من أعماق حقول الذُّرَة. فاستمر جَدِّي في إطلاق النيران حتى أطلق سبع رصاصات، لتصيب جماعة من الكلاب كانت تحوم حول الجثث. وبعد أن انتهى جَدِّي من إطلاق جميع الأعيرة التي كانت بمسدسه، إذا بعدَد من الكلاب التي لم تصبها تلك الطلقات النارية تقفز بعيدًا عن الجثث، ثم راحت تنظر إلى جَدِّي وأبي نظرات مخيفة وفي غاية الغضب.

كانت آخِر الطلقات النارية التي أطلقها جَدِّي من مسدسه الألماني قد سقطت على بُعد يزيد على ثلاثين خطوة. وكان أبي قد راقب الطلقات النارية وهي تطير في الجو، وكان بإمكانه لو مد يده أن يقبض عيها قبل أن تنزل على الأرض. كانت الطلقات النارية قد فقدت صوتها القوي وبدَا صوتها ضعيفًا مثل صَوتِ سُعال، وبَصْق شيخ عجوز. فرفع جَدِّي مسدسه يتفحصه، وإذا به يعلو وجهه تعبير ينم عن الحزن والأسف.

سأله أبي: «أبي، هل فرغت جميع الطلقات النارية؟»

انتهت خلال ما يزيد على عشر ساعات خمسمائة وخمسون طلقة نارية كانَا قد جاءَا بها من المدينة داخل بطن الخروف الصغير. وهكذا أصبح المسدس بين ليلة وضحاها عجوزًا متهالكًا مثل الشيخ الطاعن في السن. وأحسَّ جَدِّي بأن هذا المسدس بدأ يخالف رغبته شيئًا فشيئًا، وأنه قد حان وقت التَّخلِّي عنه.

مدى جَدِّي ذراعه وراح يتأمل ضوء القمر المنعكس على جسم المسدس، ثم أرخى يده قليلًا ليسقط المسدس على الأرض.

عادت الكلاب ذات العيون الخضراء تتجمع حول الجثث، في البداية كانت الكلاب تبدو خائفة، وقد لاح في عيونها شعاع الخوف والتَّرقُّب. وبسرعة اختفت الأعين الخضراء، وانعكس ضوء القمر على أجساد الكلاب الزرقاء، وسمع جَدِّي وأبي صوت أسنان الكلاب وهي تنهش في الجثث المُكوَّمة داخل الذُّرَة.

قال أبي: «أبي، هيا بنا إلى القرية.»

فتردد جَدِّي قليلًا قبل أن يستجيب لأبي الذي سحبه من يده ومضيَا نحو القرية.

كانت كمية كبيرة من ألسنة اللهب المشتعلة في القرية قد انطفأت، وملأ الدخان سماء القرية ليشعر المارة بحرارة الجو في كل مكان، لف الحر جميع الشوارع، وبدا الجو خانقًا، واختلطت ألسنة اللهب البيضاء والسوداء المنبعثة، وراحت تنبعث وسط أعواد الأشجار المحترقة. وكانت تصدر بعض الأصوات عن احتراق الأخشاب، كما سقط بعض من أسقف المساكن التي فقدت توازنها أمام غزو ألسنة اللهب، مخلِّفَةً وراءها كميات كبيرة من الغبار والدخان ملأ سماء القرية. وامتلأ أعلى السور الترابي وجميع الطُّرقات بالجثث الملقاة في كل مكان. وهكذا فتحت صفحة جديدة في تاريخ قريتنا. كانت هذه القرية من قبل عبارة عن منطقة برية مقفرة، تملؤها الأعشاب والأدغال، كانت جَنَّة للثعالب والأرانب البرية، ظهر فيها فيما بعد عدد من أكواخ الرعاة، ثم فر إليها عدد من المجرمين والصعاليك بَنوْا لهم بعض المساكن بالقرية وبدَءُوا في استصلاح أراضيها المقفرة، حتى كشفوا عن وجه جديد لهذه القرية، فقد هجرتها الثعالب والأرانب البرية، وكنت تستمع في بعض الأحايين إلى أصواتها عندما كانت تأتي لزيارة القرية شاكية مما فعله الإنسان بها. أما الآن فقد أصبحت هذه القرية عبارة عن منطقة أطلال، قرية أسسها الإنسان ودمرها بيده. أصبحت عبارة عن فردوس حزين يجمع بين الأفراح والأتراح تم تأسيسه على الأطلال القديمة فحسب. وعندما حلت تلك المجاعة الكبيرة بمقاطعة شان دونغ في عام ١٩٦٠م، وعلى الرغم من أنَّني كنت آنذاك في الرابعة من عمري، كنت أشعر أن أهل ريف دونغ بيي بمدينة قاو مي يعيشون على الدوام وسط هذه الأطلال، وأنهم لم يَتخلَّصوا يومًا من هذا التاريخ الأسود ويعيشوا في مساكن جديدة تليق بكونهم بشرًا.

في مساء ذلك اليوم وبعد أن خمدت ألسنة اللهب التي كانت تغطي جميع منازل القرية، كانت حجرات منزلنا التي تزيد على عشر حجرات لا تزال مشتعلة لم تخمد نيرانها بعد. كان يصدر عن اشتعالها ألسنة لهب خضراء ورائحة نبيذ نفاذة، كانت رائحة النبيذ المعتق تنفذ وسط ألسنة اللهب. أما أحجار المنزل الزرقاء، فقد كان يتغير لونها شيئًا فشيئًا إلى اللون الأحمر الداكن تحت تأثير ألسنة اللهب، ثم كانت تتطاير مثل شذرات القنابل المتفجرة. وانعكس اللهب على شعر رأس جدي، الذي كان ابيضَّ شعره الأسود الكثيف خلال سبعة أيام. وبدأت تتساقط أسقف غرفات منزلنا، بينما كانت ألسنة اللهب تنحسر بعض الوقت، ثم تعاود اشتعالها من جديد. أصيب جَدِّي وأبي آنذاك بذعرٍ شديدٍ من أصوات التدمير التي كانت تعصف بالمنزل الكبير. كانَا في غاية الحزن على هذه الغرف المتجاورة التي تنهي الآن «مهمتها التاريخية» بعد أن آوت عائلة السيد دان وابنه الأبرص حتى أصبحَا من أثرياء المنطقة، وآوت من بعدهم جَدِّي هذا المجرم قاطع الطريق، ثم آوت جَدِّي وجدتي وأبي والجد لوو خان وعمال فرن النبيذ. أعلن أنني أكره هذا الملجأ كرهًا شديدًا؛ لأنه في الوقت الذي كان يأوي ويحمي الخير ومشاعر اللذة بشرب النبيذ المعتق، فإنه كان يحمي أيضًا الشر والجريمة. أبي، في عام ١٩٥٧م وعندما كنتَ تختبئ داخل السرداب الداخلي في منزل العائلة الكبير، كنتَ تفكر طوال يومك في تلك الأعوام الماضية، كنتَ تفكر فيما حل بهذا المنزل من دمار وخراب. كنت تفكر في أبيك وجدي وما كان يشغله في ذلك الحين، تخيلاتي تلاحق تخيلاتك، وتخيلاتك تلاحق أفكار جدي.

إحساس جَدِّي وهو يرى أمام عينيه هذا الدمار الذي يصيب منزل العائلة، يشبه ذلك الإحساس الذي شعر به بعد ارتباطه بالفتاة ليان إر، عندما قرَّر أن يصحب فتاته إلى القرية المجاورة تاركًا جدتي تُعانِي آلام الوحدة، كنت قد سمعت فيما بعد أنها أعلنَت بعد الحرب وارتبطَت بأحد الرجال داخل الفرن، ولكنني لا أستطيع أن أجزم إن كان ارتباطها نتَج عن عاطفة أم عن حقدٍ وثأرٍ مما لحق بها. كان جَدِّي قد عاد فيما بعد إلى أحضان جدتي مرة ثانية، ولكن مشاعره تجاهها كانت قد تَغيَّر لونها وطعمها كثيرًا. وحيث إن معاركنا الفدائية في الناحية العاطفية تُركِّز أولًا على تحطيم قلب الواحد منا قبل أن يصل إلى تحطيم قلب خصمه. لم يشعر جَدِّي بمدى قسوة العقوبة التي أَعدَّتْها له الحياة إلا عندما رأى تلك الابتسامة التي واجهته بها جدتي وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. كان قد بدا آنذاك في حرصه وتَعلُّقه وحبه لأبي تمامًا مثل طائر العقعق الذي يحرص أشد الحرص على آخِر بيضة في عشه، ولكن حرصه كان جاء متأخرًا، فلقد أعَدَّ له القَدَر نهايةً مأساويةً، وهذه النهاية تنتظره عند مفرق الطريق الأمامي.

خاطبه أبي قائلًا: «أبي، لقد ضاع منزلنا.»

فمسح جَدِّي على رأس ابنه، وألقى نظرة على المنزل الذي أصابه الدمار والخراب، ثم سحب ابنه من يده ومضيَا في طريقهما إلى غير هدف محدد.

وعند ناصية القرية، استوقفه صوت عجوز وهو يسأله: «هل أنت شياو سان؟ كيف لم تأتِ بالعربة التي تجرها البقرة؟»

فما إن سمع جَدِّي وأبي هذا الصوت حتى شعرَا بشيء من الألفة ونسيَا ما كانَا يشعران به من تعب وإرهاق، ومضيَا مُسرعَين إلى مصدر الصوت.

وهناك استقبلهما عجوز قد انحنى ظهره، وركز بصره على وجه جدي يَتفحَّصه تفحصًا دقيقًا. كان جَدِّي غير مطمئن لنظرات العجوز، وشعر بامتعاض شديد من تلك الرائحة الكريهة المنبعثة من فمه.

عاد العجوز يجلس إلى حيث كان، وقد شعر بخيبة الأمل وهو يقول: «إنه ليس ابننا شياو سان.» وكان يجلس على كومة من الأغراض المختلفة، كان من بينها صندوق كبير ودولاب ومنضدة طعام وأدوات تستخدم في الزراعة وأدوات تستخدمها البهائم وسترة قطنية بالية وقِدر معدني وغيرها من الأشياء … بدا العجوز وهو يجلس فوق هذا التل من الأغراض وكأنه ذئب مرابض لحماية فريسته. أما شجرة الصفصاف التي كانت خلفه فقد كان مربوطًا بها عجلان من الأبقار وثلاثة رءوس من الأغنام وأتان صغير.

أعلن جَدِّي عن غضبه من العجوز وراح يسبه في غضب شديد: «أيها الكلب العجوز! اغرب عن وجهي!»

فانتفض العجوز عن الكومة التي يجلس أعلاها، وراح يتودد إليه قائلًا: «أي أخي الفاضل، لا داعي لهذا الغضب الشديد، هذه الأغراض هي كل ما استطعنا أن نتحصل عليه من وسط ألسنة النيران التي أصابت القرية.»

فسَبَّه جَدِّي في غضبٍ شديدٍ: «انزل عن هذه الأغراض أيها العجوز اللعين.»

فراح العجوز يلوم جَدِّي بلهجة مؤدبة قائلًا: «أيها الأخ الفاضل، لماذا تتكلم بهذا الأسلوب الفج، وأنا بدايةً لم أتهجم عليك ولم أُثِر غضبك، فكيف تسبني بهذا الكلام القبيح؟»

– «أسبك؟ إنني سوف أذبحك ذبحًا! إننا قاومنا الغزاة اليابانيين وتَصدَّيْنا لهم وأنقذنا البلاد من شرهم، وها أنتم تستغلون الفرصة وتَخرجُون لسرقتنا! أيها الحيوان، أيها الحيوان العجوز! يا دوو قوان، أين سلاحك؟»

فأجابه أبي: «لقد تركته أسفل بطن الحصان الياباني.»

قفز جَدِّي بسرعة إلى أعلى كومة أغراض العجوز، وركل العجوز ركلة أسقطته من أعلى الكومة.

فسجد العجوز على ركبتيه وراح يتوسل إلى جَدِّي قائلًا: «العفو والسماح أيها القائد من الجيش الثامن،٢ العفو والسماح أيها القائد.»

فقال جدي: «إنني لستُ من أفراد الجيش الثامن أو التاسع. إنني قاطع الطريق الأشهر يو جان آو.»

– «العفو والسماح أيها القائد يو، أيها القائد يو هذه الأغراض كانت ستحترق تمامًا إذا أصابتها ألسنة اللهب … ولستُ الوحيد من أهل قريتي الذي قام بجمع مثل هذه الأغراض، قام هؤلاء اللصوص بالسيطرة على كل الأشياء الثمينة، أنا العجوز الضعيف تمكنت فقط من الحصول على هذه الأشياء البالية.»

أمسك جَدِّي منضدة خشبية صغيرة وألقى بها في وجه العجوز، فتألم الرجل ألمًا شديدًا وراح يمسك رأسه التي بدأت تسيل منها الدماء بغزارة، وراح يتلوَّى على الأرض من شدة الألم، فأمسك به جَدِّي من ياقته وجذبه إليه حتى انتفض واقفًا، وخاطبه قائلًا: «أيها اللص الشجاع!» ثم أجهز عليه بلكمة قوية، فأحدثت صوتًا قويًّا على وجه ذلك العجوز الضعيف، فارتمى على الأرض لا حول له ولا قوة، ثم تَقدَّم جَدِّي نحوه ثانيةً وركل وجهه ركلة قوية.

٣

كانت أمي قد اصطحبَت خالي الصغير البالغ من العمر ثلاثة أعوام ومكثت إلى جوار بئر المياه يومًا كاملًا. صباح يوم أمس، كانت أمي قد حملت جرتين فارغتين قاصدة البئر، وما إن انحنت بظهرها لملء الجرة الأولى، رأت وجهها على صفحة مياه البئر الساكنة، ثم سَمعَت صوتًا قادمًا من عند السور الترابي، كان صوت العم شينغ وو أحد الحمَّالين يصيح بأعلى صوته: «لقد حاصر الشياطين اليابانيون القرية! لقد حاصر الشياطين القرية.» ذُهِلت أمي ذهولًا شديدًا، حتى سقطت من يدها الجرة إلى بطن البئر، واستدارت بسرعة فارَّة إلى منزلها، وقبل أن تصل إلى المنزل صادفت في طريقها أباها وأمها التي كانت تحتضن خالي الصغير، فمنذ أن أعلنَت فرقة جَدِّي القتال عند جسر نهر موا شوى، بدأ أهل القرية يشعرون بأن هناك مصيبة كبرى ستحل بهم عمَّا قريب، وكان من بينهم ثلاث أو خمس عائلات فقط اختفت عن المشهد تمامًا، بينما بقيت عائلات القرية الأخرى على الساحة في انتظار الدمار والخراب الذي سيصيب القرية. وخلال تلك الأيام السبعة، كان جَدِّي قد اصطحب أبي ونزلا إلى المدينة لشراء كمية من الطلقات النارية، كان جَدِّي حينها يرغب في شراء كمية كافية من الطلقات النارية تكفي لتصفية حسابه مع القائد لينغ ماتزه، ولم يكن يتوقع قط أن يأتي الشياطين اليابانيون لغزو القرية وتحويلها إلى بركة من الدماء. وفي مساء اليوم التاسع من شهر أغسطس، كان السيد جانغ روا لو — ذلك الرجل المثقف الذي لعب دورًا محوريًّا في دفن الجثث التي امتلأت بها طرقات القرية — الرجل الطموح الذي كانت إحدى عينيه كبيرة والأخرى صغيرة، كان قد جمع الأهالي في اجتماع طارئ ليلة التاسع من أغسطس، وعبَّأهم بضرورة تدعيم السور الترابي الذي يلف القرية وصيانة الباب الكبير، وضرورة أن يكون هناك مَن يسهر في نوبات ليلية للحذر وإيقاظ الأهالي عند ملاحظة أي هجوم على القرية. كان الأهالي ما إن يستمعوا إلى الصوت الذي يصدر من باب القرية الكبير، حتى يَهبُّوا رجالًا ونساءً أطفالًا وشيوخًا إلى السور الترابي للاستعداد لملاقاة العدو، كانت أمي قد ذكرت أن صوت السيد جانغ في ذلك الحين كان يبدو صوتًا جهوريًّا خشنًا، كان يقف ويصبح قائلًا: «أيها الأهالي، إذا تَوحَّدْنا معًا فسيكون بإمكاننا تحريكُ جبل تاي شان الشامخ، ولن نتمكن من حماية قريتنا من هجوم الشياطين اليابانيين، إلا إذا تَوحَّدْنا معًا وقاتلنا بقلب رجل واحد.»

كانت أصوات الطلقات النارية قد بدأت تُدَوِّي في الحقول الواقعة خارج حدود القرية، وتَدافَع على إثرها رجال القرية نحو السور الترابي ليُرابضوا عنده. وبدأ الهرج والمرج يسيطر على جميع ما في القرية من بشر وحيوانات. أما السيد جانغ روا لو فقد وقف في منتصف الطريق وراح يصيح في الأهالي قائلًا: «أيها الأهالي، احذروا الفوضى! وتَحرَّكوا وفق الخطة التي رسمناها معًا، واندفعوا بسرعة إلى السور الترابي! أيها الأهالي، لا تخشوا الموت، فإن من يخشاه سيلاقيه، ومن يواجهه بشجاعة سينجو منه! ولن تتركوا الفرصة أمام الشياطين اليابانيين حتى لو تعرضتم للموت.»

رأتْ أمي رجال القرية وهم يتدافعون نحو السور الذي أشار إليه المنادي، ورأت أُمَّها التي كانت واقفة أمامها وقد أصابها الرعب الشديد من هول الموقف، وقفَت في مكانها ثابتة لا تقوى على أن تخطو خطوة إلى الأمام. فراحت تصيح باكية: «أبتاه، يا أبتاه، ماذا ستفعل صغيرتك؟» فجاءها أبوها وهو يحمل بندقيته، وراح يوبخ زوجته بلهجةٍ قاسيةٍ: «ما الذي يبكيكن؟ بوصولنا إلى هذا المكان أصبح الموت والحياة سيان بالنسبة لنا جميعًا!»، لم تَقْوَ الزوجة على أن تَنبِس ببنت شفة، وراحت الدموع تتساقط من عينيها. فراح أبوها ينظر خلفه إلى السور الترابي الذي لم تصل إليه ألسنة اللهب بعد، ثم مد يديه ليجذب أمي بيده وزوجته باليد الأخرى، وسحبهما خلفه حتى وصلوا إلى الحقل المزروع بالفجل والخس خلف مسكن العائلة. كان في وسط ذلك الحقل بئر قديمة، لا يزال أعلاها بكرة قديمة لجلب المياه من بطن البئر. فراح الرجل ينظر إلى داخل البئر، ثم خاطب زوجته قائلًا: «البئر خالية من المياه، فلنضع ابنتنا داخل البئر، ولنعد لالتقاطها فور مغادرة الشياطين للقرية.» فوقَفَت الزوجة جامدة في مكانها مستسلمة استسلامًا تامًّا لأوامر زوجها.

وهكذا بدأ جَدِّي لأمي في فكِّ الحبل من الرافعة التي كانت موجودة أعلى فوهة البئر، وربط به خصر أمي، ثم سمع صوتًا عاليًا يرن إلى جواره، فإذا شيء أسود اللون يسقط داخل حظيرة حيوانات الجيران، كان الصوت مدويًا وكأن المنزل قد سقط بأكمله، فإذا به يرى ألسنة اللهب تمتد إلى شجرة داخل الحظيرة، وقد تطايرت إليه بعض من بقايا نفايات الحيوانات وأشلاء الأغنام، ثم سقط خروف أمام أمي، أحدث سقوطه صوتًا مدوِّيًا، كانت أول مرة تسمع أمي البالغة من العمر خمسة عشر عامًا صوت قذيفة. أما الحيوانات التي لم تتعرض للموت، فقد راحت تقفز إلى خارج الحظيرة وكأنها قد أصيبت بالجنون. فغرقت أمي وخالي الصغير في نوبة بكاء شديد. قال جَدِّي لأمي موضحًا: «لقد أطلق الشياطين اليابانيون مدافعهم! يا صغيرتي تشينغ إر، لقد بلغْتِ الخامسة عشرة من عمركِ وأصبحتِ كبيرة تفهمين كل شيء حولك، فلتهتمي بأخيك الصغير في بطن البئر، وبمجرَّد أن ينسحب الشياطين، سآتي لأصحبكما إلى المنزل.» استمرت قذائف الشياطين تُدوِّي في سماء القرية، وأمسك جَدِّي لأمي بالرافعة وأنزل أمي إلى داخل البئر. فراحت قدمها تصطدم بحواف البئر وهي تنزلق إلى الأسفل حتى استقرت ببطن البئر، ثم سمعت أباها يناديها بصوت عالٍ: «فكي الحبل عن خصرك.» فقامت أمي على الفور بفك الحبل الذي كان مربوطًا حول خصرها، ثم راحت تراقب الحبل بينما يسحبه أبوها إلى أعلى. ثم سمعت بعد ذلك صوت شجار بين أبيها وأمها هناك عند فوهة البئر، وسمعَتْ صوت القذائف اليابانية وصوت بكاء أمها، ثم رأتْ وجه أبيها وسط الضوء المشع حول فوهة البئر، كان الأب يصيح قائلًا: «يا صغيرتي تشينغ إر، فَلتستعِدِّي جيدًا لاستقبال أخيكِ الصغير.» نظرت أمي إلى أعلى فإذا بها ترى خالي الصغير البالغ من العمر ثلاثة أعوام وهو ينزل إليها مربوطًا بالحبل، لا يتوقف عن البكاء بصوت مسموع، بينما كان الحبل يهتز بشدة. وأصدَرَت الرافعة صوتًا مسموعًا، فإذا بجدي لأمي يقترب من فوهة البئر وينظر إلى أسفل، ثم راح يصيح باسم خالي الصغير قائلًا: «يا آن تزه، يا صغيري آن تزه.» ورأت أمي جيدًا قطرات الدمع التي كانت تنزل من عيني جدي لأمي. وأخيرًا وصل الحبل إلى قاع البئر، وسقطت قدمَا خالي إلى أرض البئر، وراح يبكي بصوت عالٍ مناديًا على أمه وأبيه قائلًا: «أماه، أريد الصعود ثانيةً، لا أريد الهبوط إلى هذا المكان، أريد الصعود يا أماه.»

ثم رأتْ أمي أمها وهي تسحب الحبل بشدة، وسمعَت صوت بكائها وهي تقول: «يا صغيري آن تزه … يا قلبي … يا ابني الحبيب.»

رأت أمي يدَي أبيها الكبيرتين وهما تسحبان أمها بعيدًا، بينما كانت الأم لا تزال تتشبث بالحبل رافضة أن تفلته من بين يديها، فدفعها الأب دفعة قوية، حتى سقطت على الأرض وتَخلَّت عن الحبل، وهنا سقط خالي الصغير في حضن أمي.

ثم سمعتْ أمي صوت أبيها وهو يصيح بصوت عالٍ موبخًا أمها: «أيها السفيهة! هل تريدين أن يصعدوا إلينا لانتظار الموت معنا؟ فلتسرعي إلى السور الترابي، فإذا دخل الشياطين القرية، فإنه لن يبقى أحياء بين أهل هذه القرية.»

سمعت أمي صوت نَحِيب أمها وهي تنادي على طفليها قائلةً: «يا صغيرتي تشينغ إر، يا صغيري آن تزه، يا تشينغ إر، يا آن تزه.» ثم عاد صوت القذائف من جديد، كان هذه المرة صوتًا قويًّا تساقطت على إثره كتل من التراب المتجمع على حواف البئر. وبمجرَّد أن سكَت صوت القذائف غاب صوت جدتي لأمي، وغاب كل شيء عن أمي وخالي الصغير فيما عدا صفحة السماء الكبيرة والرافعة القديمة أعلى سطح البئر.

كان خالي لا يزال يبكي أمه وأباه، فراحت أمي تفك الحبل الملفوف حول خصره، وتداعبه قائلةً: «أخي وحبيبي آن تزه، لا تبكِ هكذا، فإن بكاءَك هذا قد يأتي إلينا بالشياطين، فما أقسى قلوبهم، وإنهم سيخرجون علينا من معاقلهم إذا ما سمعوا بكاءك.»

سكت خالي عن البكاء، وراح ينظر إلى وجه أمي بعينيه السوداوين. بينما لم تكن حنجرته قد توقفت عن إصدار الصوت بعد، ثم مد يديه الصغيرتين ولفهما حول أخته متشبثًا بها. واستمر دَوِي القذائف والرشاشات في كل مكان، كانت تنطلق على دفعات. فرفعتْ أمي وجهها تنظر إلى السماء البعيدة، وراحت تجهد نفسها لتستمع إلى الحركات المحيطة بسطح البئر، حتى استطاعت أن تستمع إلى صياح الجد جانغ روا لو وأصوات الأهالي من حوله. كان قاع البئر جافًّا تمامًا مظلمًا باردًا، تهدَّمتْ قطعة من حوافه لتكشف عن الجدار الترابي الأبيض وبعض من جذوع الأشجار المستخدمة في جدرانه. كانت هناك بعض الطحالب الخضراء تنمو بين كتل الأحجار التي لم تتساقط بعد. وقد راح خالي يهتز في حضن أمي ثم عاود البكاء قائلًا: «أختي الحبيبة … أريد العودة إلى أمي … أريد الصعود من هنا.»

راحت أمي تهدِّئ من رَوع أخيها الصغير قائلةً: «أخي الحبيب آن تزه … لقد ذهبت أمك بصحبة أبيك لمُقاتَلة الشياطين اليابانيين، وبمجرَّد أن يتمكن الجميع من طرد الشياطين فسوف يأتون إلينا ويصحبوننا إلى المنزل.» وهنا لم تتمالك أمي نفسها وراحت تبكي وهي تحتضن أخاها بشدة.

وعرفت أمي من خلال فتحة البئر المؤدية إلى السماء أن الصبح قد تنفَّس، والليل قد أدبر، كان البئر حينها ساكنًا إلى درجة الخوف الشديد من سكونه وظلمته، ثم رأت شعاعًا أحمر ينعكس على سطح البئر البعيد عنها كثيرًا، وهنا عرفت أن الشمس قد طلعت. وراحت تستمع إلى أي صوت قريب منها، كانت القرية آنذاك ساكنة تمامًا مثل البئر الذي تحتمي فيه، فقط كانت تتخيل صوت الرعد الذي كان يضرب في السماء بين الحين والآخر، ولم تكن تعرف هل سيأتي أبوها وأمها إلى هنا في هذا اليوم الجديد، ليصحباها وأخاها الصغير إلى المنزل وينقذاهما من هذه الوحدة، يأخذانهما إلى ذلك العالم المضيء الذي تملؤه أشعة الشمس المبهرة، إلى ذلك العالم الخالي من الأفاعي المخيفة والضفادع السوداء النحيفة. بدَا لها أن ما حدث صباح الأمس قد حدث منذ زمن بعيد جدًّا، وشعرت أنها قد مكثت في هذا البئر زمنًا طويلًا، ومضت تُفكِّر في صمتٍ وهي تتحدث إلى نفسها قائلةً: «والديَّ إنكما إذَا لم تأتِيَا لإنقاذنا، سنموت في بطن هذا البئر المخيف.» كانت أمي تشعر بالكُرْه الشديد تجاه والديها اللَّذَين ألقَيَا بطفليهما في هذا البئر ثم اختفَيَا عنهما تمامًا، ولم يشغلهما إذا ما كانَا على قيد الحياة أم فارقَا الحياة في بطن البئر. ومضَت تُفكِّر أنها إذا ما قابلتهما فإنها حتمًا ستنفجر في البكاء الشديد، حتى تُفرِغ ما بداخلها من شعور بَتعرُّضها وأخيها الصغير للظلم. وكيف كان بإمكان أمي أن تعرف أنها في الوقت الذي كانت تُفكِّر فيه في كره والديها وشعورها بأنهما ظلماها وأخاها الصغير، لم تكن تعرف أن أمها كانت في تلك الأثناء قد أصابتها إحدى القذائف اليابانية وقسمتها إلى أشلاء، ولم تكن تعرف أيضًا أن أباها كان قد تعرض عندما ظهر جسده خارج السور الترابي لطلقة من أحد الشياطين اليابانيين أصابت رأسه (كانت أمي قد أخبرتني أن الجنود اليابانيين كانوا رماة بارعين قبل عام ١٩٤٠م).

راحت أمي تَتضرَّع في صمت قائلة: «أبي! أمي! فلتأتيا في أسرع وقت، إنني أشعر بالجوع والعطش الشديد، مرض أخي الصغير، إذا لم تأتيا لإنقاذنا فإننا حتمًا سنهلك!»

وسمعتْ أمي صوت بوق ضعيف أعلى السور وربما بعيد عن السور، وبعد أن سكت الصوت، سمعت رجلًا يصيح قائلًا: «هل لا يزال هناك أناس آخرون، هل لا يزال هناك أناس آخرون، لقد انسحب اليابانيون، ولقد جاء القائد يو.»

وهنا احتضنت أمي أخاها الصغير ووقفت منتفضة، وراحت تصيح في صوت مبحوح: «نعم يوجد، يوجد أحياء في هذا المكان، إننا في بطن البئر، فلتسرعوا لإنقاذنا»، كانت أمي تصيح بصوتها المبحوح وهي تحاول هز بكرة البئر بإحدى يديها، وبعد أن شعرت بالتعب أفلتت يدها الأخرى من حول أخيها الصغير ليسقط على الأرض، ثم راح الطفل يتنهد بشدة حتى انقطع صوته تمامًا. فاستندت أمي إلى سور البئر، وسقط جسدها كاملًا إلى جانب السور حتى أصبحت وكأنها جثة هامدة ملقاة أعلى كومة من الطوب، وعندها شعرت بيأسٍ شديدٍ.

وراح أخوها الصغير يتسلق على ركبتها، ثم خاطبها بصوتٍ خالٍ من المشاعر قائلًا: «أختاه … أريد أمي.»

شعرت أمي بحزن شديد، ثم مدت يديها وضمت أخاها في حضنها وقالت له: «يا آن تزه … إن أبانا وأمنا تَخلَّيَا عنَّا … وسوف نموت معًا في بطن هذا البئر.»

فارتجَف الطفل وسَرَت سخونة شديدة في جسده، حتى أَحسَّت أمي وهي تحتضنه وكأنها تحتضن موقدًا من الفحم.

«أختي الكبرى … أشعر بالعطش.»

نظرت أمي إلى أحد أركان البئر، وانتبهت إلى بركة صغيرة من الماء المتسخ، ولاحظت أن ذلك المكان كان أعلى وأشد ظلمة من المكان الذي تجلس فيه. ورأت ضفدعًا نحيفًا يرقد وسط الماء، ثم انتبهتْ إلى أن الضفدع ينظر إليها غاضبًا. فراحت أمي تجمع كل قوتها، وأغلقت عينيها. كانت هي الأخرى تشعر بالعطش الشديد، ولكنها كانت ترى أنها لن تقبل الشرب من هذه المياه القذرة حتى لو ماتت من العطش.

وكانت حرارة جسم خالي الصغير قد بدأت في الارتفاع من بعد ظهر الأمس؛ لم يكن قد توقف عن البكاء منذ أن وطأت قدمُه بَطْن البئر، وقد بكى بكاءً شديدًا حتى راح صوته، وبدَا مثل القط الصغير الذي شارَف على لَفْظ أنفاسه الأخيرة.

في صباح يوم أمس، عاشت أمي في ذعرٍ واضطرابٍ شديد، وكان مصدر الذُّعر أصوات القذائف القادمة من القرية القريبة، أما سبب اضطرابها فقد كان خوفًا على حالة أخيها الصغير التي بدأت تسوء كثيرًا، كانت أمي ذات الخمسة عشر عامًا تتمتع ببنية جسدية ضعيفة، مما جعلها تتألم كثيرًا من حمل أخيها الصغير في الأوقات العادية، فما بالها الآن وهي تسعى جاهدة للصعود به إلى سطح البئر، وكانت قد ضربته ضربةً خفيفةً على مؤخرته، فردها لها خالي النذل عضَّة قوية تخلو من أدنى عاطفة تجاهها.

وبعد أن ارتفعت حرارة خالي، وبدأ يشعر بالإغماء المتواصِل، احتضنته أمي وجلسَت إلى جدار البئر، جلست وقد صارت مُنهكَة القوى شاردة الذهن. كان صوت القذائف لا ينقطع. وبدأ ضوء الشمس ينحسر شيئًا فشيئًا عن الجدار الغربي للبئر ويسطع على الجدار الشرقي، حتى بدأ الظلام يملأ بطن البئر. وكانت أمي تعرف جيدًا أنها قد مكثت في بطن البئر طيلة يوم كامل، وأنه لا بد أن يكون حان الوقت ليأتي والداها لإنقاذها وأخيها من هذه المحنة. فمدت يدها وراحت تمسح على وجه أخيها الصغير، وأحسَّت بأن حرارته قد ارتفعت كثيرًا، ثم وضعت يدها على قلبه لتستمع إلى دقات قلبه المضطربة. مضت تفكر لبعض الوقت أن أخاها قد شارَف على الموت، وعندما سرت في جسدها رعشة شديدة، فراحت تبعد هذه الفكرة عن بالها قدر استطاعتها، ثم راحت تواسي نفسها قائلةً: «لقد حان الوقت، لقد حان الوقت، لقد أوَت العصافير إلى أعشاشها، واقترب موعد مجيء أبي وأمي.»

تحوَّل الضوء المنعكس على جدران البئر إلى اللون البرتقالي ثم إلى اللون الأحمر الغامق، وسُمع صوت صرصار هنالك بين جدران البئر، وبدأت تتحرَّك جماعة من البعوض المُنْدَس داخل شقوق الجدران. وفي تلك الأثناء، كانت أمي قد سمعت صوت القذائف تدوي بالقرب من السور الترابي، وسمعت هرجًا كبيرًا في الناحية الشمالية من القرية، أعقبه صوت الرشاشات يدوي في الناحية الجنوبية. وهنا عمَّت الفوضى جميع أرجاء القرية، وسَمعَت صوت جماعات غفيرة من الخيول والبشر تَدكُّ الأرض حول البئر، سمعت أمي أيضًا صوت صياح اليابانيين. وهنا لم يتمالك خالي الصغير نفسه من شدة الألم، فراح يتنهد بصوت مسموع، فسارعت أمي ووضعت يدها على فمه ليسكت عن إصدار الصوت، حاولَتْ هي أن تكتم أنفاسها قدر استطاعتها. وأحست أن وجه أخيها يتحرك تحت قبضتها، وسمعت صوت نبضات قلبها التي كانت تدق دقات سريعة. وتلاشى بعد ذلك الضوء الذي كان ينعكس على بطن البئر، فراحت تنظر من فوهة البئر إلى صفحة السماء العالية. وسَمعتْ صوت القذائف ورأت الأتربة تتطاير إلى داخل البئر، وسمعَت أصوات الأطفال والنساء الذين أرعبهم صوت القذائف فراحوا يبكون بصوت مُرتَفِع، كما سَمعَت أصوات أغنام وأبقار تشاركهم البكاء والإحساس بالرعب الشديد الذي سيطر على المكان. وعلى الرغم من أنها كانت تقبع في بطن البئر، فإنها شمت رائحة تلك الحيوانات الكريهة.

لا تذكر أمي المدة التي قضتها وهي ترتجف تحت دوي القذائف حولها، كان مفهوم الزمن قد اختفى من قاموسها، ولكنها كانت تعي جيدًا كل ما حدث لها خلال الساعات الماضية. عرفت من خلال تلك الفتحة أن النيران المشتعلة قد بدأت تخمد تدريجيًّا. بدأ ضوء النيران ينعكس على جدران البئر، كانت قد سَمعَت في البداية أصوات القذائف تُدوِّي في القرية وأصوات سقوط المنازل، حتى هدأت تلك الأصوات وعمَّ السكون. ثم لاحت في سمائها المظلمة عدد من النجوم.

كانت أمي تنام وتستيقظ وسط ذلك الجو البارد في بطن البئر، كانت عيناها قد تكيفت مع ظلمة البئر، شعرت بالدوار الشديد عندما رفعت عينيها ونظرت إلى صفحة السماء أعلى سطح البئر. كانت رطوبة البئر قد بَلَّلتْ ملابسها، حتى أصيبت بالبرد الشديد، وراحت تحتضن أخاها بشدة، كانت حرارته قد بدأتْ تنخفض منذ منتصف الليل، ولكنها كانت على أي حال أعلى من حرارة جسمها بكثير. راحت أمي تحصل على الدفء من جسد خالي، بينما كان هو يحصل على البرودة من جسدها، وهكذا ارتبطت حياتُهما معًا خلال تلك المدة الطويلة التي قضياها معًا في بطن البئر، وفي ذلك الحين لم تكن أمي تعرف أن والديها قد تُوفِّيَا منذ وقت طويل، كانت ما تزال تتطلع لرؤيتهما وسماع صوتهما يرن داخل البئر. وإلا فإنها حقًّا لا تعرف إذا ما كانت تستطيع الصمود داخل البئر ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ أخرى.

عندما أُعيدُ النَّظر إلى تاريخ عائلتي، أكتشف أن جميع الشخصيات المحورية في هذا التاريخ كانت تربطها علاقة متشابكة بالأماكن المُظلِمة. كانت البداية من أمي، ووصلت إلى ذروتها عند جَدِّي لأبي، الذي حطَّم الرقم القياسي في ذلك، إلى أن كانت النهاية عند أبي. الذي كان بإمكانه أن يُلوِّح في الظلام بذراعه الوحيد ويخطو نحو أمي وأخي الأكبر وأختي الكبرى ونحوي شخصيًّا.

سَرَت البرودة في أطراف أمي، بينما كانت تشعر بسخونة شديدة من داخلها، ولم تقدم على أي طعام أو شراب منذ صباح يوم أمس، بدأتْ تتألم من الشعور بالعطش الشديد منذ امتداد النيران إلى القرية في مساء أمس. ووصلتْ ذروة الشعور بالعطش في منتصف الليل. وقُبَيل طلوع الصباح، كانت قد بدأت تشعر بألم شديد في معدتها. والآن بمجرد أن تفكر في الإقدام على الطعام، يغالبها الشعور بالغثيان. أصبح الشعور بالعطش الشديد أخطر شعور تعجز عن تحمله، أصبحتْ تشعر بأن رئتها تحوَّلت من شدة العطش إلى ورقة من أوراق أعواد الذُّرَة الجافة الذابلة، وأصبحت تشعر بألمٍ شديدٍ في حنجرتها. كان أخوها الصغير يحرك شفتيه المتشققتين من شدة العطش قائلًا: «أختاه … إنني عطشان.» ولم تَعُد أُمِّي قادرة على مُجرَّد النظر لوجه خالي الصغير الذي بدت عليه ملامح الذبول الشديد، ولم يَعُد لديها أية كلمات تُواسِيه بها. وفي مساء أحد الأيام، كانت قد ضاعت جميع الآمال التي وعدتْ أمي بها أخاها الصغير، حيث إن تأخُّر والديهما وعدم مجيئهما حتى الآن جعلها تكذب على أخيها المسكين وعلى نفسها. وكانت قد اختفَت أصوات الأبواق التي كانت تسمعها تدق في القرية، وسكتت الكلاب عن النباح. ووسط ذلك السكون مضت أمي تفكر في أن والديها ربما يكونان قد تَعرَّضَا للموت، وربما يكونان قد تَعرَّضَا للأسر من قِبَل القوات اليابانية. وشعرت بحرقة شديدة في مقلتيها، إلا أنها لم تذرف الدموع، وهكذا بدأت أمي تنضج وهي ترى أخاها المسكين يتوجع أمام عينيها. فراحت تتناسى بشكلٍ مؤقتٍ الآلام الجسدية، ورفعت أخاها ووضعته أعلى قطعة من الطوب ووقفت تدقق النظر في جدران البئر. كانت جدران البئر جافة تمامًا، إلا أن الطحالب التي كانت تنمو بين الجدران بدت خضراء، ولكنها لا يمكن أن تروي عطشهما أو أن تكون طعامًا يسد جوعهما. جلست أمي القرفصاء، وراحت تسحب قطعة وراء قطعة من الطوب، بدا الطوب ثقيلًا جدًّا وكأنه كان مشبعًا بالماء، وهنا أطلَّت عليها حشرة أم أربعة وأربعين حمراء من بين جدران البئر، فراحت أمي تراقبها وهي تصعد إلى أعلى حيث كانت ترقد الضفادع باحثة عن أي فتحة تحتويها. لم تَعُد أمي تجرؤ على تحريك الطوب كما لم تعد تجرؤ على الجلوس؛ حيث إن الموقف المخزي الذي كانت قد تَعرَّضَت له صباح الأمس قد جعلها تنتبه لأنوثتها.

بعد زواجي، كانت أمي قد تَحدَّثتْ مع زوجتي عن الموقف الذي تَعرَّضَت له آنذاك في بطن البئر، كانت أول دورة شهرية تتعرض لها. وكانت زوجتي قد أخبرتني عن مدى التعاطف الذي أظهره الجميع تجاه أمي التي كانت تبلغ آنذاك الخامسة عشرة من عمرها.

وهكذا اضطرت أمي أن تُعلِّق آخِر آمالها على تلك المياه القذرة التي كانت ترقد بها الضفادع. وعلى الرغم من أن صورة تلك الكائنات كانت تَجعلُها تشعر بالخوف والاشمئزاز، فإنها كانت تدرك جيدًا أن تلك الكائنات تحتل مساحة ممتلئة بالمياه. إن الشعور بالعطش الشديد والذبول الذي أصاب أخاها المسكين من نقص المياه، قد جعلها تضطر للتفكير ثانيةً في هذه البقعة من المياه القذرة. كان كل شيء كما كان عليه بالأمس تمامًا، كانت الضفادع لا تزال قابعة في مكانها لا تَتحرَّك، محافظة على هيئتها التي كانت عليها بالأمس، لا تزال تقترب من أمي وتنظر إليها تلك النظرات الغريبة التي جعلت أمي تشعر بالخوف الشديد من تلك الكائنات. وفجأة اختفت الشجاعة التي كانت تتمسك بها أمي في محنتها، شعرت فجأة أن نظرات الضفادع تكاد تكون سهامًا حادَّة تخترق جسدها النحيف. فأشاحت عنها بوجهها، وأحسَّت أنه من الصعب عليها التغاضي عن التفكير في صورة هذا الكائن المخيف الذي يكاد يحملها على الصراخ بأعلى صوت علَّها تجد من ينقذها منه.

وأدارت أمي وجهها ثانيةً، ومضت تنظر إلى أخيها الصغير الملقى إلى جوارها بين الحياة والموت، وأحسَّت بحرارة شديدة تخترق صدرها وحرارة أشد تكتم على حنجرتها. وفجأة اكتشفَت بعضًا من نبات عيش الغراب الأبيض ينمو داخل الفجوات التي تَتخلَّل جانبًا من سور البئر. فأحسَّت أن قلبها يدق دقات سريعة من شدة الفرح، فمدَّت يدها بحذر شديد إلى داخل تلك الفجوات والتقطت نباتات عيش الغراب، وما إن رأت بعينيها هذا الشيء الصالح للأكل حتى شعرت بألم في معدتها، وأخذَت بأول نبتة من عيش الغراب وألقت بها في فمها حتى ابتلعتها بسرعة شديدة، وأحسَّت بأنها حلوة المذاق، وأنها كانت مُغرِية لها كثيرًا. فأخذَت بالنبتة الثانية وألقَت بها داخل فمها. وهنا سمعت صوت أخيها المسكين. فراحت تواسي نفسها: «من المفروض أن أبدأ بإطعامك بهاتين النبتتين من عيش الغراب، ولكنني خشيت أن تكون هذه النباتات مسمومة، فَقرَّرتُ أن أجربها بنفسي، أليس كذلك؟ نعم إنه كذلك.» فأخذت نبتة وألقت بها في جوف أخيها، فراح الصغير المسكين يمضغها بشدة وهو ينظر إلى أمي بعينيه المتعبتين. فراحت تشجعه قائلةً: «يا أخي آن تزه، فَلتأكلْ هذا الطعام الجيد الذي استطاعت أختك أن توفره لك.» وراحت تمسك ببعض عيش الغراب وتلوح به أمام عينيه. بينما كان خالي يحرك وجنتيه وكأنه يستمر في مضغ الطعام الذي ألقت به داخل فمه. وهنا تَشجَّعت أمي وألقت بنبتة جديدة في فمه، فسمعت صوت سعاله، ثم إذا به يقذف الطعام إلى خارج فمه ثانيةً. ورأت شفتيه وقد تشققتا، ثم ألقى بنفسه أعلى بعض قطع الطوب غير المستوية جثة هامدة لا تكاد تكون قادرة على التقاط الأنفاس.

وهكذا انتهت أمي في عجالة من أكل ما يزيد على عشر نبتات من عيش الغراب، حتى عادت إليها الروح ثانيةً بعد أن كانت منهكة تمامًا من شدة الجوع والعطش، ثم بدأت بطنها تصدر بعض الأصوات التي غابت عنها منذ دخول البئر. ونزل من جسمها أكبر كمية وآخر كمية من العرق منذ النزول إلى بطن البئر، وأحست بأن ملابسها الخفيفة مبللة. ثم أحست بأن ركبتيها أصبحتا مخدرتين لا تقويان على الحركة، وبدأتْ جميع أطرافها ترتعش، وقد سرت برودة البئر في جسدها كاملًا. وهنا سقطت أمي إلى جوار أخيها الصغير، وأصيبت بالإغماء للمرة الأولى في ظهر اليوم الثاني لنزولها البئر.

أفاقَت أمي عند غروب شمس اليوم الثاني. رأت حمرة شمس الغروب من خلال جدار البئر من الناحية الشرقية. حيث حجبت الرافعة القديمة ضوء الشمس، لتكشف عن شعور متناقض. وكانت تسمع باستمرار أصوات طنين النحل يرن في أذنيها، يخالطه صوت وقع أقدام بشرية أعلى سطح البئر، كانت لا تعرف إذا ما كان هذا الصوت صوتًا حقيقيًّا أم من وحي خيالها، وقد أصبحت الآن منهكة القوى غير قادرة على الصراخ والصياح، أرهقها الشعور بالعطش الشديد، حتى إنها كانت عاجزة عن أن تأخذ نفسًا عميقًا، وكانت تتألم كثيرًا من ذلك. بينما كان خالي الصغير مُلقًى هنالك أعلى كومة الطوب، حتى كاد أن يتحول تدريجيًّا إلى ورقة من أوراق أعواد الذُّرَة الذابلة، وما إن رأت أمي هيئته وعينيه الغائرتين، عرفت أن شبح الموت قد بدأ يقترب من بطن البئر.

مَضتِ الليلة الثانية في بطن البئر بسرعة شديدة، قَضتْ أمي الليلة في حالة غير مستقرة. كانت قد حلمت أكثر من مرة أن لها جناحين وراحت تطير عالية تَحُوم حول فُوَّهة البئر، كان البئر عميقًا جدًّا. وفي منتصف الليل، كانت قد تَيقَّظَت فترة قصيرة، فراحت تتلمس جسد أخيها البارد جدًّا، ولم تَعُد تجرؤ على التفكير في إمكانية أن يكون أخوها المسكين قد فارَق الحياة، ومضَت تُفكِّر في أنها قد أصابتها حرارة عالية. وانعكس شعاع من الضوء على بطن البئر، ليضيء بقعة المياه الخضراء، وهنا بدا الضفدع وكأنه مثل قطعة من الجواهر الثمينة، لاحظَتْ عينيه وجلده يلمعان بشدة تحت أشعة الضوء، بينما بدت المياه المحيطة به جميلة مثل أحجار اليشم الأخضر الجميل. وأحسَّت أمي حينها أنها قد غَيَّرت رأيها في تلك الكائنات، ورأت أنه يمكن أن تتوصل معها إلى اتفاق، فمدت يدها وأخذت حفنة ماء من أسفل الضفدع. ومضتْ تُفكِّر في أنها لو سمعت غدًا وقع أقدام أعلى سطح البئر، فإنها بالتأكيد ستقوم بإلقاء قطعة حجر إلى أعلى سطح البئر، حتى ولو كان هذا الصوت صوت وقع أقدام جنود يابانيين أو من الجنود التابعين للإمبراطور، فإنها بالتأكيد ستقدم على ذلك لكي تلفت انتباههم إليها داخل بطن البئر.

وطلعت شمس صباح اليوم التالي، كانت أمي قادرة على تمييز جميع الكائنات والأشياء الدقيقة في بطن البئر، وقد تحول هذا المكان جليًّا أمام عينيها. واستغلت تلك الحيوية التي كانت تَتمتَّع بها في فترة الصباح، واقتلعتْ بعض الطحالب ووضعتها في فمها، كانت رائحة الطحالب غريبة بعض الشيء إلا أنها كانت لذيذة. ولكنها لم تتمكن من بلعها حيث كان حلقها قد جفَّ تمامًا من شدة العطش، فوجَّهَت نظرها إلى بركة المياه القذرة في بطن البئر، وهنا عاد الضفدع إلى هيئته الأولى وراح يرمقها بنظراته الشريرة. فلم تستطع أن تتحمل نظراته الشريرة المخيفة، فأشاحت عنه بوجهها وانخرطت في البكاء.

وفي وقت الظهيرة استمَعتْ إلى وقع أقدام حقيقية أعلى سطح البئر، بل استمعت إلى صوت حوار بين أشخاص قريبين منها، عندها شعرت بسعادة بَالِغة حتى كادت تطير من شدة الفرحة، وحاولت أن تصيح بأعلى صوتها، ولكن يبدو أن أحدًا كتم صوتها فلم تستطع تنفيذ رغبتها في الصياح والتعبير عن سعادتها. وأمسكت بقطعة طوب لكي تقذف بها إلى أعلى سطح البئر، ولكن ما إن رفعتها إلى أعلى حتى سقطت قطعة الطوب من يدها. لقد ضاعت الفرصة، انتبهت إلى أن الصوت الذي سمعته أعلى سطح البئر قد ابتعد عنها كثيرًا. فجلست إلى جوار أخيها المسكين وقد لفها حزنٌ شديدٌ من ضياع هذه الفرصة، وراحت تنظر إلى وجهه الشاحب، حتى عرفت أنه قد فارَق الحياة. فوضعَتْ يدها على وجهه البارد، فأحسَّت على الفور بشيء من الاشمئزاز، نعم لقد باعد الموت بينها وبين أخيها الوحيد، والضوء الذي ينعكس من عينيه شبه المُغلَقة قد أصبح يُعبِّر عن عالَم آخَر غير هذا العالم الذي تنتمي إليه.

وهكذا قضت تلك الليلة في رعبٍ شديدٍ. شعرَت بأنها ترى أفعى سوداء كبيرة الحجم مثل المعول، انعكست ظلمة البئر وبرودته على تلك الحية، شعرت أكثر من مرة أن الحية تتسلق جسدها النحيف وترمي إليها من فمها برسالة حمراء، وتنفث تجاهها نسمات باردة.

كانت أمي قد شعرت بعد ذلك أن الحية بدأت تتسلق جدران البئر، وراحت تُحدِّق فيها. أغمضت أمي عينيها وراحت تتراجع إلى الخلف مُبتعِدَة عن الحية، ولم تَعُد بعدها تفكر أدنى تفكير في الشراب من تلك المياه القذرة.

٤

أما الأشخاص السِّتَّة الذين كانوا قد نجوا من تلك الكارثة الكبيرة بمن فيهم أبي والعم وانغ قوانغ (كان حينها شابًّا في الخامسة عشرة من عمره، ذا قامة قصيرة ووجه أسمر)، والعم ده جه (شاب في الرابعة عشرة من عمره، طويل نحيف ذو بشرة صفراء وعينين صفراوين)، والجد قوو يانغ (رجل فوق الأربعين، أعرج يستند على عكازين خشبيين)، والرجل الضرير (شخص مجهول الاسم والعمر، كان يحتضن عودًا قديمًا متهالكًا)، والجد ليو (رجل فوق الأربعين ذو بنية قوية وقامة عالية، وكان يظهر ورم ما في قدميه)، نقول إن هؤلاء الأشخاص الستة فيما عدا الرجل الضرير راحوا ينظرون إلى جَدِّي نظرات حمقاء. كانوا قد وقفوا أعلى السور الترابي وقد انعكستْ على وجوههم شمس الصباح. وكانت المنطقة المحيطة بالسور قد بدت ممتلئة بجثث المُقاوِمين الشجعان والمهاجِمين من أبناء القرية الذين كانوا قد انقضوا لمهاجمة العدو بطريقة جنونية. أما الخندق الممتلئ بالمياه خارج السور الترابي، فقد ظهرت به عشرات الجثث وبعض من الخيول اليابانية التي سقطت خلال المعركة. كانت القرية قد امتلأت بآثار الدمار والخراب في جميع أرجائها، أما خارج حدود القرية فقد كانت تمتد حقول الذُّرَة التي تم تدميرها بشكل فوضوي خلال المعركة، كانت الرائحة الأساسية التي ملأت جميع الأرجاء في ذلك اليوم هي رائحة الدم والأشياء المحترقة، بينما كان اللون الأسود والأحمر هما اللونان الأكثر انتشارًا في ذلك اليوم، وقد عمَّ الجميع شعور بالحزن والأسى.

بدتْ عينَا جَدِّي محمَرَّة، وشَعْر رأسه بدا وكأنه قد شاب عن آخره، يسير مُنحنِي الظَّهْر واضعًا يديه المتورمتين على ركبتيه.

وراح جَدِّي ينادي في الجمع بصوت مُتَحشْرِج: «أيها الأهالي … لقد تَسبَّبتُ لجميع أهل القرية في هذه الكارثة.»

فتنهد الأهالي في صوت واحد، حتى الجد الضرير بدت عيناه وكأنها توشك أن تذرف الدموع.

تقدم الأعرج مرتكزًا على عكازيه كاشفًا عن أسنانه السوداء وسأل جدي: «ما العمل أيها القائد يو؟»

وسأل العم وانغ قوانغ: «أيها القائد يو، هل سيأتي الشياطين اليابانِيُّون؟» قال الجد ليو بصوت يخالجه البكاء: «أيها القائد يو، فلتقودنا للفرار والنجاة من هذه الكارثة.»

فقال الضرير: «الفرار؟ وإلى أين ستفرون؟ فلتفروا أنتم، أما أنا فسأبقى في هذا المكان حيًّا أو ميتًا.»

وجلس الرجل الضرير على الأرض وهو يحتضن العود القديم، وراح يعزف عليه، بينما كان فمه يبدو ملتويًا ورأسه لا تتوقف عن الحركة مثل طبلة البائع المتجول.

قال جدي: «أيها الإخوة، لا يمكننا الفرار، فكيف نفر الآن وقد مات هذا العدد الكبير من الرفاق، اليابانيون سيأتون مرة ثانية، ولنستغل هذه الفرصة قبل مجيئهم ونتقدم للحصول على الأسلحة التي هي في حوزة القتلى، ولنخض أمام الشياطين اليابانِيِّين معركة حياة أو موت.»

فتفرق أبي ومن معه من الرجال إلى الحقول المجاورة، وراحوا يفكون الأسلحة التي كانت بحوزة الجثث الملقاة في عرض حقول الذُّرَة، ثم عادوا إلى السور الترابي، كما كان الأعرج قوو يانغ والجد ليو الذي يظهر التورم على قدميه يبحثان عن الأسلحة في المنطقة القريبة من جدي، وكان الرجل الضرير يجلس إلى جوار البنادق يتحسس الأصوات المحيطة وكأنه من أفراد جنود الإشارة.

وهكذا تجمع الأهالي بعد ذلك أعلى السور الترابي وراحوا ينظرون إلى جَدِّي وهو يحصي الأسلحة التي نجحوا في جمعها، كانت معركة الأمس قد استمرَّت حتى المساء، ومِن ثَمَّ فلم يتمكن الشياطين من تنظيف ساحة المعركة، وكان هذا بلا شك في صالح جدي.

نجح جَدِّي ومن معه من الرجال في جمع سبعة عشر مسدسًا من طراز سانباتي الياباني الصنع، وأربع وثلاثين قنبلة من القنابل المُغلَّفة بالجلد، وألف وسبع طلقات نارية، ونجحوا أيضًا في جمع أربعة وعشرين رشاشًا صينية الصنع تقليد ماركة رشاشات ٧٩ التشيكية، وأربع وعشرين خزنة طلقات نارية، وأربعمائة واثنتي عشرة طلقة من طلقات رشاشات ٧٩ التشيكي، كما تَمكَّنوا من الحصول على سبع وخمسين قذيفة يدوية يابانية الصنع، وثلاث وأربعين قذيفة يدوية صينية الصنع. مدفع مربع صنع ياباني وتسع وثلاثين طلقة نارية، وبندقية طراز FN M1910 7.65mm الآلية وسبع طلقات نارية، وتسعة من الخناجر اليابانية؛ وسبع من البنادق القصيرة اليابانية وما يزيد على مائتي طلقة نارية.

وبعد أن انتهى جَدِّي من حصر الغنائم من الأسلحة، كان هو والجد قوو يانغ قد طَلبَا بعض التبغ، وراحَا يشربان لفافات التبغ وهما جالسان أعلى السور الترابي.

قال أبي: «أبتاه، هل بإمكاننا أن نقود جيشًا جديدًا؟!»

نظر جَدِّي إلى ذلك التل من الأسلحة والذخيرة، والتزم الصمت التام، وبعد أن انتهى من سيجارته، ردَّ على أبي قائلًا: «ابني العزيز، فلتختر، وليختر كلٌّ منَّا سلاحًا من بين هذه الكمية التي جمعناها.» ثم قام هو نفسه بحمل المدفع المربع ذي الغلاف المصنوع من الجلد، ومسدس من طراز سانباتي الياباني الصنع، أما أبي فقد استطاع أن يخطف بندقية طراز FN M1910 7.65mm، بينما حصل كل من العم وانغ قوانغ والعم ده جه على بندقية من البنادق اليابانية القصيرة.
قال جدي: «فلتسلم البندقية طراز FN M1910 7.65mm للعم قوو يانغ، هذا النوع من السلاح ليس من السهل استخدامه أثناء المعركة، ولتحمل بندقية من البنادق اليابانية القصيرة.»
فقال العم قوو يانغ: «فلنستخدم بندقية كبيرة، ولنترك البندقية طراز FN M1910 7.65mm للضرير.»

فقال جدي: «وأنتِ أيتها الأخت، فلتساعدينا في تجهيز شيء من الطعام، فلقد اقترب موعد عودة الشياطين.»

فتقدم أبي واختار بندقية يابانية الصنع وراح يتدرَّب على استخدامها.

خاطبه جَدِّي محذرًا إيَّاه: «احترس من أن تخرج الطلقات النارية عن غير قصد.»

فقال أبي: «لا عليك يا أبي، فأنا أتقن استخدامها جيدًا.»

وقال الرجل الضرير بصوت خفيض: «أيها القائد يو، لقد جاءوا، لقد جاء الشياطين.»

فقال جدي: «فلتنزلوا سريعًا إلى أسفل السور.»

انبطح الجميع أسفل السور الترابي، وراحوا يُحدِّقون النظر في حقول الذُّرَة الممتدة خارج الخندق، بينما جلس الضرير إلى جانب كومة الأسلحة يعزف على عوده.

فصاح جَدِّي مخاطبًا الضرير: «ولتنزل أنت أيضًا إلى أسفل السور.»

بدا الحزن الشديد على وجه الضرير، ولاحَظ الجميع فمه يَتحرَّك بسرعة وكأنه يَمضغ شيئًا ما، وسمعوا صوت لحن متكرر يصدر عن عوده القديم المتهالك.

ولم يكن هناك ظل أي إنسان خارج الخندق، رأوا مئات الكلاب خرجت من عدة اتجاهات تنقض على الجثث الملقاة داخل حقول الذُّرَة، كانت الكلاب تفر مسرعة إلى مكان الجثث، رأوا كلابًا ذات ألوان مختلفة تفر في جماعات، وكانت كلاب عائلتي الثلاثة هي التي تَصدَّرتْ جماعة الكلاب الفارَّة نحو حقول الذُّرَة.

لم يستطع أبي المتحمس الصبر، فأطلق طلقة من بندقيته نحو جماعة الكلاب طارت الرصاصة عالية في السماء حتى سقطت بعيدًا داخل حقول الذُّرَة الممتدة أمامه.

نظر كل من العم وانغ قوانغ وده جه اللذان كانت هذه أول مرة يحملان فيها السلاح إلى أعواد الذُّرَة التي تتحرك أمام أعينهما، ثم قاما بإطلاق الرصاص من سلاحهما، كانت الطلقات التي خرجت طلقات عشوائية منها ما طار بعيدًا في عنان السماء، ومنها ما سقط على الأرض على بضع خطوات منهما.

فقال جَدِّي غاضبًا: «لا تطلقوا الرصاص! فهل لدينا القدر الكافي لكي نعبث به هكذا؟!»، ثم رفع جَدِّي إحدى قدميه وركل بها أبي.

بدأت الحركة داخل حقول الذُّرَة تهدأ شيئًا فشيئًا. وسمع الجميع صوتًا جهوريًّا يصيح: «لا تطلقوا النيران، لا تسيئوا الفهم، إلى أي فصيلة تنتمون.»

فصاح جدي: «إننا من فصيلة أجدادك، أيتها الكلاب الصفراء.»

ثم صوَّب جَدِّي بندقيته تجاه مصدر الصوت، وأطلق طلقة مدوية.

فسمع ذلك الصوت الجهوري يصيح ثانيةً: «أيها الرفيق، لا تُسِئ فهمي، إننا من فريق جياو قاو التابع للجيش الثامن، إحدى الفرق المقاوَمة للشياطين اليابانيين، أرجو أن تتفضلوا بالرد، إلى أي فصيلة تنتمون؟!»

قال جدي: «تبًّا لكم من جيش، تبًّا لكم من جماعة تعرف الخداع!»

ثم قام جَدِّي بقيادة بعض من جنوده ووقفوا أعلى السور الترابي.

وعندها خرجت جماعة تزيد على ثمانين فردًا من فريق جياو قاو التابع للجيش الثامن، خرجوا من داخل حقول الذُّرَة الممتدة حول السور الترابي، وقد بدَوْا في ثياب بالية وذوي وجوه شاحبة، وكأنهم مثل الحيوانات البرية المخيفة، وظهر معظمهم عُزلًا من أي سلاح، كانوا يلفون حولهم بعض القذائف اليدوية، بينما كانت المجموعة التي تَتصدَّرُهم يحمل كل منهم بندقية ماركة ماوزر الألمانية، وكان هناك أيضًا من يحمل بنادق محلية الصنع.

كان أبي قد رأى هذه الجماعة من الجيش الثامن بعد ظهر أمس، حيث كانوا مُستخْفِين داخل حقول الذُّرَة، وأطلقوا النيران تجاه القوات اليابانية التي كانت تجتاح القرية.

وتَقدَّمَت قوات الجيش الثامن حتى أعلى السور الترابي، وراح يصيح رجل طويل القامة كان في مقدمة الفريق قائلًا: «فليتقدم أحد أعضاء الفريق لتولِّي مهام المراقبة، وليمكث الآخرون في أماكنهم للراحة.»

جلست قوات الجيش الثامن أعلى السور الترابي، وتَقدَّم شاب وسيم ووقف في المقدمة، ثم أخرج من حقيبة معلقة على ظهره قصاصة ورقية صفراء اللون، وراح ينفضها على ذراعه، وبدأ يشدو بهذا اللحن: الرياح تصفر، والشاب الوسيم يَتغنَّى، الرياح الرياح الرياح الرياح تصفر، أيها الرِّفَاق انتبِهوا إلى إشارة يدي وغَنُّوا معًا – الخيول تصهل – الخيول تصهل – والنهر الأصفر، يزأر النهر الأصفر يزأر – النهر الأصفر يزأر النهر الأصفر يزأر – نضجت الذُّرَة الرفيعة على ضفتي النهر الأصفر الجنوبية والشمالية – نضجت الذُّرَة الرفيعة على ضفتي النهر الأصفر – وارتفعت معنويات الأبطال لمقاومة المعتدي الياباني – ارتفعت معنويات الأبطال لمقاومة المعتدي الياباني – وحملوا البنادق والمدافع محلية الصنع – حملوا البنادق والمدافع محلية الصنع – ولَوَّحوا بالخناجر الكبيرة – لوحوا بالخناجر – لحماية بلدتهم وحماية منطقة شمال الصين وحماية الصين قاطبة.

فراح أبي ينظر بإعجاب شديد إلى تعبيرات وجه ذلك الشاب من الجيش الثامن وقد بدَا وجهه شاحبًا، وراح يستمع إلى نشيد الجيش الثامن، حتى بدأت حنجرته تُحاكي النشيد، ومضى يتذكر الشاب الوسيم الذي يَتولَّى مهام نائب القائد في فرقة جدي، والذي كان يستطيع أيضًا أن يُلوِّح بيده ويتغنى بالأناشيد الحماسية.

تقدَّم أبي وكل من العم وانغ قوانغ والعم ده جه حاملين أسلحتهم، ووقفوا ينظرون إلى قوات الجيش الثامن وهم يتغنون بالأناشيد الحماسية، بينما وقفت قوات الجيش الثامن تنظر إليهم وهم يغبطونهم على البنادق اليابانية حديثة الصنع، التي يمسكون بها في أيديهم.

وكان قائد فرقة جياو قاو التابعة للجيش الثامن يُلقَّب بالقائد جيانغ، كان رجلًا ذا قامة كبيرة وقدمين صغيرتين، يُلقِّبونه فيما بينهم «جيانج صاحب القدمين الصغيرتين»، وقد جاء القائد جيانغ أمام جَدِّي وهو يقود شابًّا في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره.

كان القائد يو يُعلِّق حول خصره مسدس ماوزر، ويرتدي قبعة من القماش رمادية، يظهر أعلاها زوج من العَراوي السوداء، وكان يَتمتَّع بأسنان ناصعة البياض، يتحدث بلهجة بكينية جيدة إلى حد ما، قال مخاطبًا جدي: «أيها القائد يو، يا لكَ من بطل! لقد شاهدْنَا المعركة البطولية التي خُضْتَها أمس أمام القوات اليابانية والقوات الموالية للإمبراطور.»

ومد القائد جيانغ يده إلى جدي، بينما اكتفى جَدِّي بالنظر إليه ببرود، ثم أصدر صوتًا من أنفه.

فسحب القائد يو يده ثانيةً وقد شعر بشيء من الحَرَج، وقال مبتسمًا: «لقد قَدِمتُ للتفاوض معكم بتفويض من المبعوث الخاص للحزب الشيوعي الصيني لمنطقة بين خاي؛ حيث عَبَّر السيد المبعوث الخاص للحزب الشيوعي الصيني لمنطقة بين خاي عن عميق إعجابه بالروح البطولية والتضحية، التي قدمتموها خلال المعركة الطاحنة التي خُضْتُموها أمام المعتدي الياباني من أجل تحرير البلاد، أعطى السيد المبعوث الخاص للحزب توجيهاته لفرقتنا ببدء التعاون معكم أيها القائد يو، وذلك حتى نتمكن معًا من مقاومة المعتدي الياباني، ونؤسس حكومة ديموقراطية متحدة.»

رد جَدِّي قائلًا: «اللعنة عليكم جميعًا، إنني لا أثق فيكم أبدًا، تقولون الاتحاد الاتحاد، فلماذا لم تتحدوا معنا خلال ضرب سيارات القُوَّات اليابانية؟ ولماذا لم تَظهَروا وتتحدوا معنا عندما حاصر الشياطين اليابانيون قريتنا؟ لقد انهارت قواتي خلال هاتين المعركتين، وسالت دماء جماهير العامة من أهل هذه البلدة، وتأتون الآن لتحدثوني عن الاتحاد!»

ركل جَدِّي غاضبًا رشاشًا بقدمه ناحية الخندق، بينما كان الرجل الضرير لا يزال هنالك يعبث بعوده مصدرًا صوتًا أشبه ما يكون بتساقُط قطرات المياه من أعلى المساكن عقب انتهاء نزول الأمطار داخل برميل مياه معدني.

وهكذا تعرض القائد جيانغ من قوات الجيش الثامن التابع للحزب الشيوعي الصيني للسب المقذع من قبل جدي، غير أنه ظل يخاطبه بكل احترام قائلًا: «أيها القائد يو لا تخب الآمال التي وضعها حزبنا عليكم، ولا تقلل من شأن قوة الجيش الثامن، فمنطقة بين خاي كانت على الدوام تحت حكم الحزب الوطني، وقد بدأ حزبنا العمل منذ وقت قريب، ولم تتعرف جماهير الشعب العريضة على حزبنا جيدًا حتى الآن، غير أننا نرى أن هذا الوضع لن يستمر طويلًا؛ حيث حدد لنا زعيمنا السيد ماو تسي تونغ الاتجاه الذي سنسير فيه منذ بداية العمل تحت راية الحزب الشيوعي، أيها القائد يو، دعني أنصحك نصيحة صديق، إن المستقبل في الصين سيكون للحزب الشيوعي الصيني، وإن جَيشَنا هو خير من يُقدِّر الشُّجْعان ويُقدِّر مَن يتعاون معه، وإننا لن نخدع أحدًا أبدًا، وإن حزبنا على دراية تامَّة بالخلاف الذي نشأ بين قواتكم وقوات القائد لينغ، وإننا نعتقد أن القائد لينغ مخطئ تمامًا، وأن تَصرُّفه تَصرُّف غير أخلاقي تمامًا، وأن توزيع الغنائم التي تحصلتم عليها معًا لم يكن توزيعًا عادلًا، وثِقْ تمامًا أن الجيش الثامن لن يتسبب أبدًا في الضرر لأصدقائه الذي سيتعاونون معه، وبالطبع فإن تسليحنا في الوقت الراهن ليس على ما يرام، ولكن قوتنا سوف تتعاظم بالتأكيد خلال الفترة المقبلة، وإننا نعمل بكل إخلاص من أجل مصلحة جماهير الشعب، ونقاتل الشياطين اليابانيين قتالًا حقيقيًّا من أجل هذا الوطن، أيها القائد يو، لقد رأيتَ بنفسك أننا وقفنا أمام المعتدي الياباني طوال يوم أمس معتمدين على تلك المجموعة من الأسلحة المتهالكة، ولقد استُشهِد من قواتنا ستة رفاق فقط، أما تلك القوات التي كانت تمتلك كمية كبيرة من الأسلحة والذخيرة خلال معركة نهر موا شوى، والتي كانت في موقف المتفرجين، فإنهم هم المسئول الأول عن تلك المذبحة الكبرى التي تعرض لها الأهالي، وهل تخفى عليكم حقيقة المقارنة بين الفصيلين؟»

رد جَدِّي قائلًا: «فلتدخل في الأمر مباشرة، ولتُفصح عن قصدك، وماذا تريدون أن أقدِّم لكم؟»

أجاب القائد جيانغ: «إننا نأمل أن ينضم القائد يو للجيش الثامن، وأن نَتوحَّد معًا لمقاوَمة العدو تحت قيادة الحزب الشيوعي.»

ضحك جَدِّي ببرود قائلًا: «تريدني أن أعمل تحت قيادتكم؟!»

فقال القائد يو: «يمكنك أن تشارك في قيادة فريق جياو قاو.»

– «وما المنصب الذي سأتقلده في هذا الفريق؟»

– «نائب القائد العام.»

– «تقصد أنني سأعمل تحت قيادتك؟»

– «إننا جميعًا نعمل تحت قيادة المبعوث الخاص للحزب الشيوعي لمنطقة بين خاي، وجميعنا يعمل تحت قيادة الزعيم الرفيق ماو تسي تونغ.»

– «ماو تسي تونغ؟ إنني لا أعرفه! وإنني لن أعمل تحت قيادة أي إنسان على ظهر الأرض.»

– «أيها القائد يو، هناك مقولة تقول: «إن البطل الحقيقي هو من يكون على دراية بالأوضاع المحيطة به، وأن الإنسان النبيه هو من يُحسِن اختيار القائد الذي يساعده في الكشف عن مواهبه وقدراته»، والرفيق ماو تسي تونغ هو البطل الأكبر على الساحة حاليًا، وعليك ألا تضيع هذه الفرصة!»

رد جَدِّي قائلًا: «هل انتهيتَ من حديثك؟»

فابتسم القائد جيانغ ابتسامة صريحة ثم قال: «أيها القائد يو، هكذا لم أُخْفِ عليك أي شيء. ولتنظر إلى فرقتنا التي لا يزال لديها الرجال، ولكن ينقصنا العتاد، والأسلحة والذخيرة.»

فقال جدي: «مستحيل ذلك الذي تفكر فيه!»

– «فلنستعرها مؤقتًا، وسنعيدها لك كاملة عندما تجهز فريقك الجديد.»

– «تبًّا لك، تحسبني أنا القائد الشجاع يو جان آو طفلًا في الثالثة من عمره؟»

– «لقد أخطأتَ فهمي أيها القائد يو. إننا جميعًا مسئولون عن ازدهار البلاد وانهيارها، ويجب أن يقدم كل منا ما بحوزته لأجل الوقوف أمام المعتدي الياباني وإنقاذ البلاد من شروره، سواء أفرادًا أو سلاحًا، وإذا جعلت هذه الأسلحة تبقى هنا إلى جوارك دون أن يستخدمها أحد لصد الغزو الياباني عن البلاد، فإنك ستكون قد أجرمت في حق هذه الأمة.»

– «فلتسكت عن هذا الهراء، إذ إنني لن أسمع لهذا الهراء. وإذا كانت لديكم القوة فلتذهب للحصول على السلاح من أيدي اليابانيين.»

– «لقد شاركَت فرقتنا في المعركة التي دارت بالأمس.»

فضحك جَدِّي ببرود قائلًا: «وكم عدد المدافع التي أطلقتموها؟»

– «لقد أطلقنا الطلقات النارية والقذائف اليدوية، ولقد ضحينا بستة رفاق من قواتنا! ويجب أن نحصل على الأقل على نصف الأسلحة التي جمعتموها.»

– «لقد تم إبادة جميع أفراد فرقتي عند مدخل جسر نهر موا شوى، ولم أحصل إلا على رشاش قديم متهالك!»

– «إنك تقصد قوات الحزب الوطني.»

– «ألن تفعل قوات حزبكم الشيوعي الأمر نفسه، إذا ما رأت الأسلحة؟ من الآن فصاعدًا لن يقدر أحد على خداعي ثانيةً.»

– «أيها القائد يو، يجب أن تفكر جيدًا! لقد قدمنا كل ما يمكن تقديمه!»

«ماذا تقصد؟ وهل تنوي أن تقاتلني؟» ثم وضع جَدِّي يده على مسدسه الماوزر.

فحوَّل القائد جيانغ غضبه إلى ابتسامة رقيقة قائلًا: «أيها القائد يو، لا تسئ فهمي، إن الجيش الثامن لن يقدم أبدًا على خطف اللقمة من فم أصدقائه، فإذا لم نتوصل إلى اتفاق بيننا، فستبقى الصداقة قائمة.»

ثم تقدم القائد جيانغ أمام الفريق وقال: «نظفوا ساحة المعركة، وادفنوا جثث الأهالي، وانتبهوا إلى جمع فوارغ الطلقات النارية.»

تفرَّق أفراد فرقة القائد جيانغ إلى داخل حقول الذُّرَة لتنفيذ أوامره. وخلال قيامهم بدفن جثث القتلى، وقعت معركة حامية بين جماعة الكلاب وبين الأفراد الأحياء، الذين كانوا يقومون بدفن الجثث، مِمَّا أدى إلى تمزيق عدد كبير من الجثث.

فقال القائد جيانغ: «أيها القائد يو، إننا نواجه مأزقًا صعبًا للغاية، إننا لا نملك السلاح ولا الذخيرة، ولقد قمنا بجمع فوارغ الطلقات النارية وسنرسلها لمصنع حربي لاستبدالها برصاص حي، وإن هناك خمسًا من بين كل عشر طلقات هي عبارة عن طلقات غير صالحة للاستخدام. ولقد خَدَعنا الحزب الوطني، وهكذا فعلَت القوات المُعاوِنة للإمبراطور، أيها القائد يو، مَهمَا يكن فإن عليك أن تجعل لنا جزءًا من هذه الكمية من الأسلحة والذخيرة، ويجب ألا تحتقر قوة الجيش الثامن وقدرته.»

فراح جَدِّي ينظر إلى أفراد الجيش الثامن الذين كانوا منشغلين بحمل الجثث داخل حقول الذُّرَة، ثم قال: «سنجعل لكم الخناجر والبنادق قطر ٩٫٧ والقذائف اليدوية.»

فأمسك القائد جيانغ بيدي جَدِّي وقال بصوت مرتفع: «أيها القائد يو، ما أحسنك من صديق حميم! … أما القذائف اليدوية فإننا يمكننا أن نصنعها بأيدينا، وأرى أننا لسنا في حاجة لهذه القذائف اليدوية، ولتعطنا بعضًا من بنادق سانباتي اليابانية.»

فرد عليه جَدِّي قائلًا: «لا يمكن.»

– «نريد خمس بنادق فقط.»

– «لا يمكن!»

– «فلتعطنا ثلاث بنادق فقط، ثلاثًا فقط.»

– «لا يمكن!»

– «إذًا فلتعطنا اثنتين فقط، أرى أن هذا العدد ممكن.»

فقال جدي: «اللعنة، اللعنة عليك أيها القائد من الجيش الثامن، إنك تبدو مثل باعة البهائم المولعين بالمساومة.»

– «فلتتقدم مجموعة من السرية رقم ١ لحمل بعض البنادق.»

فقال جدي: «مهلًا، تَوقَّفوا بعيدًا!»

وهنا قام جَدِّي بعزل ٢٤ بندقية صينية الصنع، تقليد البنادق التشيكية، وعدد من الطلقات النارية، وبعد تَردُّد قليل، قام بإضافة بندقية طراز سانباتي اليابانية.

قال جدي: «يكفيكم هذا، ولن أعطيكم أي عدد من الخناجر.»

فرد القائد جيانغ: «أيها القائد يو، لقد قلتَ بنفسك إنك ستعطينا بندقيتين من بنادق سانباتي اليابانية.»

فرماه جَدِّي بنظرة حادَّة ثم قال: «إذا واصلت استفزازي هكذا فلن تنالوا شيئًا من هذه البنادق.»

فلوح القائد جيانغ بيديه قائلًا: «حسنًا حسنًا حسنًا، لا تغضب، لا تغضب أيها القائد.»

وهنا سمع جَدِّي صوت ضحك هؤلاء الجنود من الجيش الثامن، الذين تَقدَّموا لحمل البنادق. كان أفراد فريق «جياو قاو» التابع للجيش الثامن قد عَثروا خلال عملية تمشيط أرض المعركة على عدد من الرشاشات، بالإضافة إلى المسدس الماوزر الذي رماه جَدِّي والمسدس البرونينج الذي رماه أبي. بينما كانت جيوب هؤلاء الجنود خالية إلا من بعض الرصاصات الفارغة. وقد تقدم شاب قصير القامة أسمر اللون يحمل بين يديه زوجًا من المدافع وراح يتمتم أمامهم قائلًا: «أيها القائد جيانغ، لقد عثرت على زوج من المدافع.»

فقال القائد جيانغ: «أيها الرفاق، فلتعجلوا بدفن الجثث، واستعدوا للانسحاب من هذا المكان، فإن الشياطين اليابانيين من الممكن أن يعودوا لنقل جثث قتلاهم، وإذا تمكنا من قتالهم فعلينا أن نبادر بذلك. وأنت أيها الأرنب الأسمر احمل هذين المدفعين إلى المصنع الحربي للصيانة.»

وعندما تجمع أفراد فريق جياو قاو التابع للجيش الثامن أعلى السور الترابي واستعدوا للانسحاب تنفيذًا لتوجيهات القائد جيانغ، رأوا ما يزيد على عشرين دراجة قادمة من الطريق الترابي الواقعة في الناحية الشرقية للقرية، كانت الدراجات تضيء أنوارها لتكشف الطريق أمامها. وهنا أصدر القائد جيانغ أوامره بأن يتفرق أعضاء الفريق وينصبوا كمينًا على جانبي السور الترابي. وتقدم هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يقودون الدراجات إلى السور الترابي حتى بلغوا مكان جدي. كانوا يرتدون زيًّا عسكريًّا رمادي اللون، ويلبسون أحذية من القماش، ويضعون فوق رءوسهم قبعات مربعة الشكل مرصعة في مقدمتها علامة شمس بيضاء اللون مثل الترس.

كانت هذه المجموعة من أفراد فريق القائد لينغ، كان جميع الأفراد الذين أتوا على ظهر تلك الدراجات يحملون البنادق القصيرة، من الماهرين في استخدامها. ويقال إن القائد لينغ ماتزه يَتمتَّع بمهارة عالية جدًّا في ركوب الدراجات، حتى إنه يمكنه أن يسير بالدراجة لمسافة طويلة على قضيب حديدي.

وهنا صاح القائد جيانغ صيحة خرج على إثرها جميع أفراد فريق جياو قاو من مخبئهم، واصطفوا واقفين خلف جدي.

فانشغل أفراد فريق القائد لينغ ماتزه بالنزول عن دراجاتهم، وتَقدَّموا يدفعون دراجاتهم حتى وقفوا أعلى السور الترابي. ثم تقدم القائد لينغ ماتزه وحوله عدد من الأفراد الذين يحملون البنادق القصيرة.

وما إن رأى جَدِّي القائد لينغ ماتزه حتى مد يده بسرعة ليستل مسدسه.

فصاح القائد جيانغ من الخلف منبهًا جدي: «أيها القائد يو، الهدوء، الهدوء.»

فابتسم القائد لينغ ماتزه ابتسامة عريضة ثم مد يده ليصافح القائد جيانغ، حتى إنه لم يخلع عن يده القفاز الذي كان يرتديه. وابتسم أيضًا القائد جيانغ ابتسامة عريضة. وبعد أن مد يده وصافح القائد لينغ ماتزه، مد يده إلى وسطه وأخرج حشرة صغيرة وألقى بها داخل الخندق.

قال القائد لينغ ماتزه: «إن جيشكم المُوقَّر يتمتع بمصادر ممتازة وواسعة.»

فرد القائد جيانغ: «إن أعضاء فرقتي يُرابِضون هنا من بعد ظهر الأمس لمراقبة جيش العدو.»

فسأله القائد لينغ ماتزه: «وهل أنتم متأكدون من أنكم ستحققون نتائج مبهرة في هذه المعركة؟»

فقال القائد جيانغ: «لقد استطعنا بالتعاون مع القائد يو قَتْل ستة وعشرين جنديًّا من الجنود اليابانيين، وستة وعشرين جنديًّا آخرين من الخونة، وتسعة من الخيول. ولا نعرف أين كان أفراد فريقكم المُوقَّر بالأمس؟»

– «لقد أشعلنا التوتر الكبير أمس في مدينة بينغ دو، وأجْبَرْنا قوات الشياطين على الانسحاب بسرعة، وأرى أننا قد أنقذناكم أيها القائد جيانغ؟»

هنا تدخَّل جَدِّي وأخذ يسب القائد لينغ ماتزه قائلًا: «اللعنة على أمك يا لينغ ماتزه، انظر جيدًا إليَّ: مَن الذي أنقذ الآخر! اسأل جميع أهالي القرية والموجودين جميعهم في هذا المكان!»

وأشار جَدِّي إلى الضرير والأعرج اللَّذَين كانَا واقفَين أعلى السور الترابي.

فاحمر وجه القائد لينغ ماتزه، ثم قال: «إننا قدَّمْنا تضحيات عظيمة بالأمس خلال المعركة الحامية التي دارت في مدينة بينغ دو، وإننا نشعر براحة الضمير تجاه ما قدَّمْنا من تضحيات.»

فقال القائد جيانغ: «طالما أن جيشكم الموقَّر كان قد عرف أن قوات العدو قد بدأت تهاجم القرية، فلماذا لم تتقدموا لإنقاذ البلدة؟ ولماذا تتخلون عن القريب لصالح البعيد، وتذهبون إلى مدينة بينغ دو البعيدة لإظهار قوتكم؟ وقواتكم قد انسحبت من أرض مدينة بينغ دو، ولا أعرف كيف تصرفتم أيها القائد لينغ في هذه المعركة؟»

فاحمر وجه القائد لينغ ماتزه وأذنه، ثم قال: «إنني لا أنوي أن أخوض معركة كلامية أمامك يا جيانغ! إذ إنني أعرف الغرض من قدومك إلى هنا، وأنت أيضًا تعرف الغرض الذي جئتُ أنا من أجله.»

قال القائد جيانغ: «أيها القائد لينغ ماتزه، أعتقد أن قيامكم بمهاجمة المدينة أمس كان قرارًا خاطئًا. ولو كنتُ أملك حق توجيه قواتكم الموقَّرة، فإنني حتى إذا لم أتقدم لإنقاذ القرية، كنت سآمر بأن ينصب الأفراد كمينًا داخل المقابر القديمة الممتدة على جانبي الطريق العام. وأن يستعينوا بالرشاشات الثمانية التي حصلتَ عليها خلال معركة نهر موا شوى، ويتقدموا لقتال الشياطين. فلو اشترك اليابانيون معكم في معركة لمدة يوم كامل، كان ذلك سيؤثر على أفرادهم وخيولهم وذخيرتهم، كما أنهم ليسوا على دراية واسعة بجغرافية المكان، والجو يبدو ملبدًا بالغيوم، وكان باستطاعتكم أن تنقضُّوا عليهم برشاشاتكم الثمانية، وعندئذٍ فلن يكون أمامهم أي مخرج للنجاة من قبضتكم. وهكذا فإنكم ستكونون أولًا قد قدمتم إنجازًا عظيمًا لصالح هذه الأمة، ثانيًا كنتم ستتمكنون من تحقيق أكبر فائدة لجيشكم الموقَّر، ويزداد الشرف الذي حققته أيها القائد لينغ خلال معركة نهر موا شوى، فما أجمله من انتصار عظيم! ولكن للأسف، لقد ضاعت هذه الفرصة منك أيها القائد لينغ! ولم تَسعَ لتحقيق الإنجاز العظيم، ولم تَسعَ لتحقيق الفائدة الكبيرة لفريقك، ومكثْتَ هنا مع اليتامى والأرامل تبحث عن أبخس الأشياء، وإنني أشعر بالخزي من أجلك أيها القائد لينغ!»

احمرَّ وجه القائد لينغ ماتزه، وقال بصوت يملؤه الخوف: «أنت يا جيانغ … لقد قَلَّلتَ من شأني … ولتنتظر حتى أخوض معركة حامية، لترى من أكون.»

فرد القائد جيانغ قائلًا: «ولكني أعتقد أنك ستكون آنذاك تصارع الموت وتطلب المساعدة يا أخي الفاضل.»

فقال القائد لينغ ماتزه: «لن أحتاج لمساعدتك، وسأقاتل بمفردي.»

فقال القائد جيانغ: «عظيم، عظيم!»

وركب القائد لينغ ماتزه دراجته وهمَّ أن يتحرك للأمام، وهنا تقدَّم جَدِّي وأمسكه من صدره وقال بغضبٍ شديدٍ: «أنت يا لينغ ماتزه، انتظِرْ بعد أن أنتهي من قتال اليابانيين، وسأفرغ لتصفية حسابي معك أيها الوغد!»

فقال القائد لينغ ماتزه: «إنني لا أخشاك!»

وصعد لينغ ماتزه دراجته وفرَّ مسرعًا، وتبعه ما يزيد على عشرين فردًا من فريقه، كانوا جميعًا ماهرين جدًّا في ركوب الدراجات بسرعة فائقة.

وقال القائد جيانغ: «أيها القائد يو، إن الجيش الثامن سيكون صديقك المخلص إلى الأبد.»

ومد القائد جيانغ يده لجدي، فمد جَدِّي يده على مضض وصافحه بسرعة. وشعر جَدِّي أن يد القائد جيانغ الكبيرة كانت صلبة ودافئة.

٥

وبعد مُضِي ستة وأربعين عامًا، كان ذلك المكان الذي شهد المعركة البطولية التي شارك فيها كل من جَدِّي وأبي وأمي والكلاب الثلاثة: الأسود والأحمر والأخضر، التي كانت ملك عائلتي، المكان الذي أصبح «مقبرة أَلْفِيَّة» تضم ما يزيد على ألف جثة من جثث رجال الحزب الشيوعي، والحزب الوطني، وعامة الأهالي، والجنود اليابانيين، وجنود القوات الموالية للإمبراطور، كان ذلك المكان قد تعرَّض لموجة أمطار كبيرة في ليلة رعدية شديدة، حتى تَصدَّعت أسقف المقابر، وتناثَرت بعض عظام الجثث التي غَسلَتْها مياه الأمطار ونظَّفَتْها تنظيفًا. كنتُ في ذلك الحين قد عدتُ إلى بلدتنا لقضاء العطلة الصيفية، وما إن سمعتُ خبر فتح «المقبرة الألفية» حتى سارعتُ لكي أشاهد ما يحدث بأم عينيَّ، وتبعني الكلب الأزرق الصغير الذي كانت تربيه العائلة. كانت السماء لا تزال تمطر مطرًا خفيفًا، وقد راح الكلب الأزرق يجري أمامي، وهو يركض بسرعة وسط مياه الأمطار. اصطدمنا بسرعة بتلك العظام التي كانت قد تطايرت من داخل المقابر، حيث راح الكلب يتتبعها بأنفه، ثم راح يُلوِّح برأسه مُعبِّرًا عن عدم شعوره باللذة تجاه تلك العظام.

وكانت قد وقفَتْ جماعة من الناس حول تلك المقبرة الكبيرة، علا وجوههم شعور بالرعب الشديد مما يرون. زاحمتُ حتى وقفتُ وسط الجمع، ورأيتُ تلك العظام التي رأت سطح الأرض مرة ثانية. ولم يكن أحد يستطيع أن يميز أيًّا من هذه العظام تخص أفراد الحزب الشيوعي، وأيًّا منها تخص أفراد الحزب الوطني، وأيًّا منها تخص الجنود اليابانيين، وأيًّا منها تخص عامة الأهالي؛ حيث كانت جميع الرءوس تبدو ذات شكل واحد، تَجمَّعتْ داخل حفرة واحدة، وغمرَتْها مياه الأمطار بكميات متساوية. فقد كانت تصدر بعض الأصوات الحزينة إثر اصطدام مياه الأمطار بتلك العظام. كما كانت الجماجم قد امتلأت بمياه الأمطار، حتى بدت المياه بداخلها صافية باردة مثل نبيذ الذُّرَة المُعتَّق لفترة طويلة.

قام الأهالي آنذاك بجمع العظام التي تطايرت في جميع الأرجاء، وراحوا يُلقون بها ثانيةً إلى داخل المقبرة. وعندما دققت النظر إلى داخل الحفرة، رأيتُ عظام رءوس عشرات الكلاب المختلفة، اكتشفتُ عقب ذلك أنه لا يوجد اختلاف بين جماجم البشر وجماجم الكلاب، كان في الحفرة شعاع أبيض باهِت، بدَا لي كإشارة مُعبِّرة عن الرُّعب والفزع، وأن تاريخ الإنسان العظيم يرتبط بالأحاديث والذكريات الخاصة بالكلاب، وأن هناك علاقة متشابكة بين تاريخ الإنسان وتاريخ الكلاب. شاركتُ في أعمال جمع العظام المتطايرة في كل مكان، وارتديت قفازًا أبيض في يدي بدعوى المحافظة على الصحة، مما جعل جميع الأهالي الحاضرين ينظرون إليَّ نظرات غاضبة، فخلعت القفاز بسرعة ودسسته في جيبي. سرتُ لأبعد حدٍّ في الطريق الذي كنا نجمع منه العظام المتطايرة، سرت إلى حافة زراعات الذُّرَة الرفيعة التي كانت تقع على بُعد مائة متر من المقبرة الكبرى، كانت ترقد هنالك رأس مُحطَمَّة شبه مستديرة وسط أعشاب خضراء غمرَتْها مياه الأمطار، وكانت جبهة تلك الرأس تشير أن صاحبها ليس شخصًا عاديًّا. ومددت ثلاثة أصابع ورحت أحرك تلك الرأس، ثم سحبتُ أصابعي ثانيةً. انعكس شعاع ضوء أبيض على تلك الحشائش المحيطة بالرأس، مما جعلني أدرك أنه ليس هناك ضرورة لأن ألتقط تلك الرأس، حيث كانت من نفس نوع رأس ذلك الكلب الأزرق الصغير الذي كان يجري خلفي. وربما تكون رأس ذئب أو رأس حيوان هجين بين الكلب والذئب. ومن المؤكَّد أنها كانت قد تطايرت إلى هنا على إثر الانفجار الذي هز المكان؛ فالأتربة العالقة بها ولونها يشيران إلى أنها قد مكثت في بطن المقبرة الكبرى لمدة عشرات السنين. وأخيرًا تمكَّنتُ من رفعها لأعلى. راح الأهالي يلقون بعظام الجثث التي قاموا بجمعها إلى داخل المقبرة دون أدنى حرص، كانت العظام تصطدم ببعضها البعض حتى تحطم معظمها إلى قطع صغيرة. قمت بإلقاء جمجمة الإنسان التي كانت في يدي، بينما رفعت جمجمة الكلب الكبيرة لأعلى وترددت لبعض الوقت. فقال شيخ كبير: فلُتلقِ بها إلى داخل المقبرة، فالكلاب لم تكن أدنى قيمة من البشر آنذاك. فقمتُ بإلقاء جمجمة الكلب إلى داخل المقبرة. حتى تم إعادة «المقبرة الألفية» إلى ما كانت عليه قبل تَصدُّعها وتطاير العظام من داخلها في كل مكان. ولمواساة أرواح تلك الأشباح التي قمنا بإزعاجها آنذاك، كانت أمي قد قامت بحرق ورقة صفراء أمام المقبرة.

وهكذا كنتُ قد شاركتُ في أعمال إعادة تكوين المقبرة الكبرى، ورافقتُ أمي ووقفنا أمام عظام ما يزيد على ألف جثة وسجَدْنا أمامها.

قالت أمي: «لقد مضى ستة وأربعون عامًا، وكانت آنذاك لا تزال شابة في الخامسة عشرة من عمرها.»

٦

عندما حاصرَت القوات اليابانية القرية كنتُ في الخامسة عشرة من العمر، وكان جدُّك وجدتك لأمك قد أودعاني وخالك الصغير في بطن البئر، ولم نرهما بعد تلك اللحظة إلى الأبد. كنتُ قد عرفتُ بعد ذلك أنهما قُتِلا في صباح ذلك اليوم الذي تركانَا فيه في بطن البئر.

لا أعرف طول المدة التي مكثتها داخل البئر، ومات خالُك داخله حتى انبعثَت رائحة جثته. وكان الضفدع والحية لا يتوقفان عن النظر إليَّ طوال اليوم، حتى كدتُ أموت من شدة الرعب. وكنتُ أفكر آنذاك أنني بالتأكيد سأفارق الحياة في بطن هذا البئر، حتى جاء أبوك وجدك وأنقذاني من تلك الكارثة.

كان جدك قد لفَّ خمس عشرة بندقية طراز سانباتي الياباني جيدًا في ورق مشمع، ثم ربطها بحبل وعلقها على حافة البئر. وقال مخاطبًا ابنه: «يا دوو قوان، انظر حولك جيدًا وتأكَّد هل يوجد أحد قريب منا؟»

كان جدك يعرف جيدًا أن كلًّا من القائد لينغ ماتزه وفريق جياو قاو يرغبان في الاستيلاء على هذه الأسلحة. وفي مساء يوم أمس، كان جدك ورفاقه نائمين في الخيمة المؤقتة التي نصبوها أسفل السور الترابي، جلس الرجل الضرير عند مدخل الخيمة يستمع إلى أي صوت يدنو منهم. وفي منتصف الليل، سمع صوت انهيار السور، وارتطام الأشجار المحيطة به محدثةً صوتًا مسموعًا. ثم أعقبها بعد ذلك صوت وقع أقدام خفيفة تقترب من الخيمة، استطاع الضرير أن يميز ذلك الصوت على أنه صوت وقع أقدام شخصين، أحدهما جريء والآخر جبان. سمع صوت تنهد الرَّجُلين، فأمسك بسلاحه جيدًا، ثم قال: «توقَّفَا!» وسمع بعد ذلك صوت الرجلين وقد انبطحَا على الأرض في خوف شديد، وراحَا يتهربان إلى الخلف، فراح الضرير يتحسس مكان الزناد حتى توصل إليه وأطلق طلقة في الهواء. وسمع صوت الرجلين ينسحبان إلى حافة السور ويختفيان وسط الأشجار. فقارن الصوت الذي يسمعه ثم أطلق طلقة جديدة، حتى سمع صوت إنسان يناديه، كانت هاتان الطلقتان قد أيقظتا جَدِّي ورفاقه، فحملوا أسلحتهم وهموا بمطاردة الرَّجُلين، حتى رأوا صورة شبحين يفران إلى أعماق حقول الذُّرَة المجاورة.

قال أبي: «أبي، لا يوجد أحد هنا.»

فردَّ جَدِّي قائلًا: «تَذكَّر هذا البئر جيدًا.»

فقال أبي: «تَذكَّرتُه، إنه بئر عائلة تشينغ إر.»

فقال جدي: «إذا ما تعرضتُ للموت، فعليك أن تأتي إلى هذا البئر وتخرج هذه الأسلحة وتقدمها هدية وتستسلم للجيش الثامن، فإن هؤلاء النفر أفضل بعض الشيء من فريق لينغ ماتزه.»

قال أبي: «أبي، لن نستسلم أبدًا، وسنقود فريقًا خاصًّا بنا! ولدينا أيضًا عدد من الرشاشات.»

فابتسم جَدِّي ابتسامة مصطنعة، ثم قال: «ابني الحبيب، ليس الأمر سهلًا! ولقد تعب أبوك.»

فأمسك أبي بالحبل المشدود على الرافعة، وقام جَدِّي بربط البنادق جيدًا.

سأل جدي: «هل هذا البئر جاف؟»

فرد أبي: «نعم، وقد نزلت إلى بطنه أنا ووانغ قوانغ من قبل للعب الاستغماية.» ثم مد أبي جسده إلى فوهة البئر وراح ينظر إلى أسفل حتى رأى شبحًا أسود لكتلتين منزويتين إلى جانب سور البئر.

فصاح أبي: «أبتاه، إن هناك بشرًا داخل البئر!»

جثيَا عند فوهة البئر وراحَا يُدقِّقان النظر في ذلك الشبح.

وقال أبي متعجبًا: «إنها تشينغ إر!»

فسأله جدي: «انظر جيدًا هل ما زالتْ على قيد الحياة؟»

فرد أبي قائلًا: «يبدو أنها لم تقطع النفس بعد، وهناك حشرة كبيرة ترقد إلى جوارها، وهناك أيضًا أخوها الصغير آن تزه.» كان صوت أبي يرن داخل البئر.

فسأله جَدِّي ثانيةً: «هل تجرؤ على النزول إلى بطن البئر؟»

فأجاب أبي: «سأنزل يا أبي، فإن علاقتي بتشينغ إر علاقة طيبة للغاية!»

– «احترس جيدًا من تلك الحية.»

– «إنني لا أخاف من الحية.»

فك جَدِّي حبل الرافعة من البنادق وربطه حول خصر أبي، وساعده على النزول إلى بطن البئر، حيث أمسك جَدِّي برأس الرافعة، وترك الحبل يتدلَّى ببطء شديد.

وسمع أبي صوت جَدِّي ينادي عليه بصوت مرتفع «احترس، احترس.» وبحث أبي عن قطعة حجر عالية بعض الشيء ووقف عليها. فرفعت تلك الحية رأسها عالية، وراحت تلعق بلسانها وأطلقت هواءً باردًا تجاه أبي. وكان أبي قد تدرَّب جيدًا على كيفية التعامل مع الأفاعي عندما كان يصيد الأسماك الصغيرة في نهر موا شوى. كان قد أكل لحم الأفاعي، كان يطهوه بمساعدة الجد لوو خان، كان الجد لوو خان قد أخبره أن لحم الحية مفيد لعلاج مرض البَرَص. وكان أبي والجد لوو خان يشعران بسخونة شديدة تسري في جسدهما بعد أكل لحم الأفاعي. وتسمَّر أبي مكانه وانتظر تَحرُّك الحية، وما إن نزلت الحية برأسها إلى أسفل، حتى مد يده وأمسك بذيلها وهزه هزًّا شديدًا، حتى سمع صوت مفاصلها. ثم أمسك برقبتها وضغط عليها ضغطًا شديدًا، ثم صاح بصوت عالٍ: «أبي، سألقي بها إليك.»

فمال جَدِّي إلى جانب البئر، حتى صعدت الحية التي كانت شبه ميتة إلى سطح الأرض، سقطت على الأرض إلى جانب فوهة البئر وكأنها قطعة لحم جامدة. وقف شعر رأس جَدِّي لرؤية هذا المنظر المرعب، وراح يسب أبي: «أنت أيها الذئب الجريء جرأة اللصوص المتمرسين!»

وسند أبي أمي وهو يصيح: «يا تشينغ إر! تشينغ إر! إنني أنا دوو قوان، جئت لإنقاذك!»

فقام جَدِّي بإدارة الرافعة بحذرٍ شديدٍ، حتى استطاع أن يسحب أمي وجثة خالي من داخل البئر.

ثم سمع صوت أبي يناديه: «أبي، أرسل البنادق إلى أسفل!»

فرد عليه جَدِّي قائلًا: «يا دوو قوان، ابتعد إلى جانِب سور البئر.»

وأدار جَدِّي الرافعة حتى استطاع أن ينزل البنادق اليابانية إلى بطن البئر. وقام أبي بفك حبل الرافعة وربطه حول خصره.

وصاح أبي: «أدر الرافعة يا أبي.»

فسأله جدي: «هل ربطت الحبل جيدًا؟»

– «نعم.»

– «اربِطْه جيدًا، وحذار أن تتهاون في ذلك.»

– «فَلْتُدِر الرافعة يا أبي.»

– «هل ربطتها ربطة سهلة الفك أم أحكمتَ ربطها؟»

– «أبي، ماذا بك؟ ألستُ أنا الذي ربطت تشينغ إر حتى صعدَت لأعلى؟»

راح أبي وجدي ينظران إلى تشينغ إر الملقاة على الأرض، وقد بدَا على وجهها التعب والإرهاق الشديدان، بدَت عيناها غائرتين وأسنانها بارزة للأمام وشعرها وقد ابيضَّ بعض الشيء. بينما بدت أظافر أخيها زرقاء.

٧

استطاعت أمي أن تسترد عافيتها تدريجيًّا تحت عناية المرأة ليو. كانت أمي وأبي صديقين قديمين، بالإضافة إلى قيام أبي بإنقاذها من بطن البئر، وهكذا كانت تربطهما علاقة حميمة مثل الإخوة. وكان جدي قد أصيبَ بنزلة برد شديدة، حتى أصبحت حياته في خطر. وبينما هو في سرير المرض، شم رائحة ذرة مطبوخة، كان أبي ورفاقه قد قاموا بجمع الذُّرَة من الحقول المجاوِرة، وقامت المرأة ليو بطهيها أمام جدي. وبمجرَّد أن أكل جَدِّي سلطانية من هذا الطعام، شعر بتحسن ملحوظ واستعاد شهيته وصحته. وحتى منتصف شهر أكتوبر، كان لا يزال يتوكَّأ على عصا لكي يستطيع الصعود إلى أعلى السور الترابي، ويتشمس بعض الوقت.

وخلال هذه المدة التي مرض فيها جدي، جاءت أخبار بحدوث اشتباك بين فريق القائد لينغ ماتزه والقائد جيانغ من الجيش الثامن بالقرب من سد وانغ با. وقد حدثَت خسائر كبيرة في قوات الفريقين، وكان جدي آنذاك يعاني من مرضه الشديد، حتى إنه لم يهتم بأمر هذا الاشتباك.

قام أبي ورفاقه بنَصْب عدد من الخيم المؤقَّتة داخل حدود القرية، وبحثوا بين الأطلال عن بعض الأثاث والأدوات اليومية، كما كانوا قد خرجوا إلى الحقول الفسيحة وقاموا بجمع كمية من الذُّرَة تكفي لفصلي الشتاء والربيع. كانت أمطار الخريف قد اشتدت منذ نهاية شهر أغسطس، حتى تحوَّل تراب حقول الذُّرَة إلى وحل وسقطت كمية كبيرة من أعواد الذُّرَة. وأنبتت سنابل الذُّرَة التي أصابتها الأمطار. وبدت سنابل الذُّرَة مُنحنِية مثل ذيل الثعلب. وكانت الغيوم السوداء تُخيِّم على حقول الذُّرَة. وكانت مياه الأمطار الباردة الصُّلبة تنزل على أوراق الذُّرَة مُحدِثة صوتًا مسموعًا. بينما كانت مجموعة من الغربان تُرفرِف بأجنحتها وتحوم فوق الوادي الواقع عند مدخل القرية، وكان ظهور الشمس في ذلك الحين نادرًا جدًّا وكأنها مثل الكنوز الدَّفِينة، وكان الضباب يظهر طوال اليوم أعلى ذلك الوادي ما بين ضباب خفيف وضباب كثيف.

وبعد مَرَض جدي، كان أبي قد نصَّب نفسه قائدًا، قاد كلًّا من: وانغ قوانغ، ده جه، الأعرج، الضرير وتشينغ إر، وحملوا الأسلحة واشتبَكوا في معركة حامية مع الكلاب التي جاءت لتأكل الجثث الملقاة وسط حقول الذُّرَة، وكان أبي قد تدرَّب جيدًا على إطلاق الرصاص خلال تلك المعركة التي وقعت بين فريقه والكلاب.

كان جَدِّي يتحامَل على نفسه في بعض الأحيان ويسأل ابنه: «ما خطتك يا بني خلال المرحلة القادمة؟»

يجيبه أبي بلهجة تملؤها القسوة قائلًا: «خطط لقتال الكلاب يا أبي!»

فيجيبه جدي: «ويمكنك أيضًا أن تتراجع عن قتالها.»

فيعترضه أبي «مستحيل، لا يمكن أن ندع هذه الكلاب تأكل جثث البشر.»

تجمَّعَت في ذلك الوادي نحو ألف جثة، كان رجال الجيش الثامن قد قاموا في ذلك اليوم بتكويمها، ولم يتمكنوا من دفنها دفنًا جيدًا، كانت قد ظهرت بعض الجثث مُتأثِّرة بمياه الأمطار التي أذابت التراب الذي كان يغطيها أو بسبب نهش الكلاب. وهكذا فقد استطاعت أمطار الخريف الشديدة أن تعبث بالجثث حتى فاحت رائحتها لتملأ أرجاء الوادي، واستغَلَّت الغربان والكلاب الفرصة فانقَضَّت على الجثث وراحتْ تنهش فيها نهشًا، حتى اشتدَّت رائحة الجثث وانتشرت انتشارًا واسعًا.

كان عدد الكلاب التي شاركت في تلك المعركة يتراوح بين خمسمائة وسبعمائة كلب. وتَزعَّم هذا العدد الكبير كلاب عائلتي الثلاثة الأحمر والأخضر والأسود. وكانت القوة الرئيسية لهذا العدد من الكلاب تعتمد على كلاب قريتنا، كان أصحاب تلك الكلاب على وشك أن يكونوا جميعًا بين هذه الجثث التي تفوح رائحتها في كل مكان. وكانت الكلاب، التي تجري هنا وهناك، في حالة جنونية، فقد فقدت المأوى الذي كانت تأوي إليه.

وكان أبي قد قسَّم فريقه إلى ثلاث مجموعات، المجموعة الأولى تَكوَّنَت من أبي وأمي، المجموعة الثانية، من العم وانغ قوانغ والعم ده جه، والمجموعة الثالثة من الأعرج والضرير، كانت المجموعات الثلاثة قد تَفرَّقت في ثلاثة اتجاهات مختلفة داخل الوادي. وكانوا يرابضون عند الطُّرق الثلاثة الصغيرة التي خرجت من خلالها الكلاب من داخل الذُّرَة. كان أبي يحمل بندقية طراز سانباتي اليابانية، بينما كانت أمي تحمل بندقية قصيرة. وسألت أمي أبي قائلةً: «دوو قوان، لماذا أخطئ دائمًا في التصويب؟» فأجابها أبي «لأنك دائمًا تكونين في غاية الاستعجال، فيجب أن تحددي هدفك جيدًا ثم تحركي الزناد ببطء، وعندها لن يخيب تصويبك أبدًا.»

أما الطريق الذي كان أبي وأمي يقومان بمراقبته فقد كان يمتد من ناحية الجنوب الشرقي، وكان طريقًا ضيقًا يصل عرضه إلى أقل من متر واحد، طريق متعرج تطل عليه من الجانبين أعواد الذُّرَة التي كانت تمثل ستارة تحجب الرؤية، فما إن كانت تدخل إليه الكلاب حتى تختفي تمامًا. أما الكلب الذي كان يظهر في مقدمة الكلاب التي تسير في هذا الطريق، فهو الكلب الأحمر الذي يخص عائلتي، والذي كان يبدو كلبًا ثمينًا بفضل ما تَمكَّن من أكله من تلك الجثث، كان كلبًا قويًّا حكيمًا استفاد من خبرته الطويلة في الصراع مع البشر.

وما إن صارت الشمس في كبد السماء، حتى بدت الطرق الثلاثة التي صنعتها الكلاب ساكنة وهادئة تمامًا وقد لفها الضباب الكثيف. كانت أعداد الكلاب قد تضاءلت تدريجيًّا خلال تلك المعركة التي طالت لأكثر من شهر، كان هناك نحو مائة كلب قتلت إلى جوار الجثث التي كانت ملقاة وسط حقول الذُّرَة، وأصيب ما يزيد على مائتي كلب. كانت مهارة أبي ورفاقه في التصويب قد ارتفعت خلال تلك المعركة الحامية، وكانت الكلاب خلال كل هجمة تلقي بعشرات الجثث من بين أسنانها. خلال ذلك الصراع القوي الذي دار بين الكلاب والبشر، أظهرت الكلاب بوضوح عيوبها من الناحيتين الذهنية والفنية. وكان أبي ورفاقه في ذلك اليوم في انتظار أول هجوم من قِبَل الكلاب؛ لأن الكلاب من الصعب أن تُغيِّر النظام الذي تَعوَّدت عليه خلال صراعها مع الإنسان، كانوا يهاجمون مرة في الصباح ومرة في منتصف النهار ومرة عند الغروب، وكأنهم كانوا يضبطون أوقات هجماتهم مع موعد تناوُل الطعام عند البشر.

رأى أبي أعواد الذُّرَة تهتز من بعيد، فهمس إلى أمي قائلًا: «استعدِّي؛ لقد جاءوا.» فاستعدت أمي ووضعتْ يدها على الزناد ولصقتْ خدها على البندقية. وكان صوت اهتزام أعواد الذُّرَة قويًّا، سمع أبي صوت لُهاث الكلاب، فعرف على الفور أن تلك الكلاب جاءت تقصد الأشلاء المتبقية في الوادي، سمع أيضًا صوت مَعِدَة الكلاب.

خرج ما يزيد على مائتي كلب من داخل حقول الذُّرَة بصورة جنونية وكأنهم قد انقضوا فور سماعهم أمرًا من إحدى القيادات. وراحت الكلاب تنبح غاضبة، بينما كان شعرها يلمع تحت الضباب الأبيض والشمس المحمرة، وبدأتْ تنهش في الجثث. وهكذا كانت الأهداف تَتحرَّك أمام بنادق أبي ورفاقه. وكان العم وانغ قوانغ والأعرج قد أطلقَا الرصاص على الكلاب، فراحت الكلاب التي أصابتها الطلقات النارية تنبح بصوت حزين، أما الكلاب التي لم تصبها طلقاتهم فراحت تستغل الفرصة وتحاول أن تنهش أكبر قدر قبل أن تلوذ بالفرار.

وضع أبي رأس كلب أسود هدفًا لطلقته الأولى، فأصابت أذن أحد الكلاب، فراح ينبح ثم فرَّ مسرعًا إلى داخل حقول الذُّرَة. ورأى أبي رأس كلب أبيض وقد ظهرت بها علامة ما، كان معلقًا بفمه معدة سوداء، وكان يسير في صمت تام. فصاح أبي بصوت مرتفع «يا تشينغ إر، لقد أصبتُ الهدف!» فسألَتْه أمي منفعلة: «هل أنا الذي أصبته؟» وأمسك أبي بندقيته وحدَّد هدفه نحو كلب عائلتي الأحمر، فجرى الكلب على مسافة منخفضة من الأرض، فارًّا من بين مجموعة من أعواد الذُّرَة إلى مجموعة أخرى. فأطلق أبي طلقة مرت من فوق ظهر الكلب الأحمر، ففر الكلب وهو يحمل في فمه قدم سيدة بيضاء ممتلئة، كانت أسنانه تمسك بقدم المرأة وتمضغها مُحدِثة صوتًا مسموعًا. ثم أطلقت أمي طلقة أخرى أصابت الطين الذي كان يقع أمام الكلب، فتناثر الطين ليملأ وجه الكلب، فراح ينفض رأسه ثم عاود حمل فريسته وانسحب من أمام أمي. استطاع كل من العم وانغ قوانغ والعم ده جه إصابة عدد من الكلاب بجروح، حتى سالت دماء الكلاب على الجثث البشرية الملقاة على الأرض، بينما راحت الكلاب المصابة تنبح بصوت حزين ومخيف.

وهكذا انسحَبَت الكلاب، وتجمَّع أبي ورفاقه وراحوا يقومون بتنظيف أسلحتهم. ولم يَعُد لديهم كمية كبيرة من الطلقات النارية. فراح أبي ينبه عليهم بضرورة أن يتوخوا الدقة في التصويب، ويجب أن يركزوا جيدًا على قتل الكلاب الثلاثة التي تَتولَّى أمر قيادة ذلك العدد الكبير من الكلاب. فقال العم وانغ قوانغ: «إن ذلك الكلب يتمكن من الفرار قبل أن تصل إليه عين البندقية.»

وحرك العم ده جه مُقْلَته الصفراء قائلًا: «يا دوو قوان، ما رأيك أن نقوم هذه المرة بمباغتتهم؟»

فقال أبي: «كيف ذلك؟»

قال العم ده جه: «هذه الكلاب لديها بالتأكيد مكان ما للراحة، وأتوقَّع أن هذا المكان هو ضفة نهر موا شوى، هذه الكلاب التي تأكل لحم البشر ستذهب بالتأكيد إلى هناك لشرب المياه.»

قال أبي: «هيا بنا!»

فاعترضه العم ده جه قائلًا: «مهلًا، فلنرجع الآن ونأتِ بعدد من القذائف اليدوية، ولنقم بتفجيرهم بهذه القذائف.»

وانقسم كل من أبي وأمي والعم وانغ قوانغ والعم ده جه إلى مجموعتين، وسلكتْ كل مجموعة طريقًا من الطُّرق التي صنعتها الكلاب وسط زراعات الذُّرَة التي كانت ممتلئة بالوحل. وكانت تلك الطرق تؤدي بطبيعة الحال إلى نهر موا شوى، سمع أبي وأمي صوت مياه نهر موا شوى ونباح الكلاب عنده. وعندما اقتربَا من حافة النهر، إذا بالكلاب تتجمع مع بعضها حتى بدا الطريق واسعًا ضعف مساحته الأولى. وهنا التقى أبي وأمي بكل من العم وانغ قوانغ والعم ده جه.

وعندما اقترب أبي ورفاقه من حافة النهر، رأى أبي ما يزيد على مائتي كلب متفرقة على ضفة النهر الممتلئة بالعشب، كما رأى عددًا كبيرًا من تلك الكلاب منبطحة على الأرض، ومنها ما كان يأكل في أطرافه، ومنها ما كان يبول في مياه النهر، ومنها ما كان يقف على حافة النهر ويمد لسانه يلعق مياه النهر. وشم رائحة ريح تلك الكلاب التي كانت قد شبعت من أكل جثث البشر. وقد امتلأت الأعشاب التي كانت تنمو على حافة النهر بفضلات الكلاب ذات الرائحة الكريهة. وبدت الكلاب التي كانت منبطحة هادئة في أماكنها. أما كلاب عائلتي الثلاثة التي كانت تتزعم جماعة الكلاب، فكانت قد اختلطت وسط الكلاب الأخرى، إلا أنه كان من السهل جدًّا تمييزها من بين هذا العدد الكبير من الكلاب.

وقال العم وانغ قوانغ: «دوو قوان، هل أرمي الآن؟»

فرد أبي: «استعدوا جيدًا، ولْنَرْم معًا.»

كان كل فرد منهم يمسك بزوج من القذائف اليدوية وانبطحوا في انتظار إشارة البدء، حتى صاح فيهم أبي قائلًا: «ارموا!» فسقطت ثماني قذائف يدوية وسط جماعة الكلاب، فراحت الكلاب تنظر بفضول إلى تلك الأشياء السوداء التي تنزل عليهم من السماء، ثم جلسوا صاغِرين. وكان أبي قد اكتشف آنذاك مدى ذكاء كلاب عائلتي الثلاثة ومكرها، كانوا قد لصقوا أجسادهم بالأرض جيدًا. وكانت القذائف الثمانية اليدوية اليابانية ذات الجودة العالية، قد انفجرت في توقيتٍ واحدٍ، وامتلأت المنطقة المحيطة بشذرات انتشرت في كل مكان، تمزقت على الأقل أجساد ما يزيد على عشرة كلاب، بينما أصيب على الأقل ما يزيد على عشرين كلبًا آخرين. وتطايرت دماء الكلاب وأشلاؤها فوق صفحة مياه نهر موا شوى ثم امتزجت بالمياه الباردة، وتجمَّعت أسماك النهر العاشقة للدماء وراحت تتصارع للحصول على لحم الكلاب القتيلة ودمائها، بينما كانت الكلاب المصابة تقف متجمعة وهي تبكي قتلاها في مشهد مرعب. في حين لاذت الكلاب التي لم تُصَب خلال المعركة بالفرار في جميع الأرجاء، فمنها ما جرى مسرعًا بمحاذاة النهر، ومنها ما سارع بالقفز داخل نهر موا شوى، وراح يقاتل للعبور إلى الضفة المقابلة للنهر. ولسوء الحظ لم يكن أبي يحمل آنذاك بندقيته، رأى عددًا من الكلاب التي أصيب في عيونها تحوم على ضفة النهر، امتلأت وجوهها بالدماء، في مشهد مؤثر جدًّا. تَمكَّنَت كلاب عائلتي الثلاثة من العبور إلى الضفة المقابلة للنهر، وتبعهم ما يزيد على ثلاثين كلبًا آخرين، صعدَتْ معًا إلى حافة النهر ووقفت هنالك وهي في مأزق خطير. وراحَت الكلاب تهز جسمها بشدة وتنفض المياه التي امتلأت بها جميع أجزاء جسمها. وهنا راح كلب عائلتي الأحمر ينبح تجاه أبي في غضبٍ شديدٍ، وكأنه يلومه على نقض العهد معها، حيث إنه أولًا اقتحم معسكر راحتهم، ثانيًا استخدم في معركته معها أشْرَس الأسلحة الحديثة وأَبْشَعها.

فقال أبي: «استمِرُّوا في رمي القذائف إلى الأمام!»

أخذ كل واحد من رفاقه بقذيفة في يده وراح يرمي بها بكل ما أُوتِي من قوة إلى الضفة المقابلة للنهر، وما إن رأت الكلاب تلك الأشياء السوداء تَعْبُر النهر في اتجاهها، حتى راحت تنبح بصوت حزين جدًّا، ثم بدأت تلوذ بالفرار، فنزلت من على حافة النهر قاصدة حقول الذُّرَة الواقعة جنوب النهر. وهكذا استطاعت فرقة أبي قليلة العدد وضعيفة القوة أن ترمي بالقذائف في عرض النهر، حتى فجرت القذائف مقاييس المياه البيضاء الأربعة، فأحدث تفجيرها صوتًا مدويًا، وتدافعت على إثره أعداد من أسماك النهر.

أما مجموعة الكلاب التي كانت قد تعرضت للهجوم المباغت من قِبَل أبي ورفاقه، فلم تظهر في أرض المعركة خلال اليومين التاليين للهجوم. وخلال تلك الفترة لم تكن الكلاب أو فرقة أبي قد أخذوا قسطًا كافيًا من الراحة واستعدوا لمواصلة القتال.

وعندما أدرك أبي ورفاقه خطورة القذائف اليدوية، اجتمعوا معًا ليتناقشوا في مسألة كيفية استخدامها استخدامًا جيدًا. وسارعوا بإرسال العم وانغ قوانغ إلى حافة النهر لاستطلاع الأحوال قبل قيامهم بالهجوم، فعاد العم وانغ قوانغ يقول إن هناك بعض الكلاب الميتة وشعر وفضلات كلاب، وتنتشر هنالك الروائح الكريهة، ولا يوجد أي أثر لكلاب أحياء، والكلاب قامت بنقل معسكرها إلى مكانٍ جديدٍ.

واستنتج العم ده جه من كلام وانغ قوانغ أن الكلاب قد تَفرَّقَت لفترة مُؤقَّتة، ولكنَّ زعماءها لا يزالون موجودين ويؤدون دورهم، وأن مجموعة الكلاب ستُعاوِد تَجمُّعها خلال فترة قصيرة، وستستمر في صراعها للحصول على هذه الجثث. وأن الجولة التالية من المعركة مع الكلاب ستكون جولة حامية جدًّا؛ وذلك لأن الكلاب المتبقية الآن جميعها من الكلاب التي تتمتع بخبرة قتالية جيدة.

وفي نهاية الأمر، اقترحَت أمي أن يقوم أعضاء الفريق بفتح القذائف ونصبها على الطُّرق التي تمر منها الكلاب. وقد حصلت خطة أمي على تأييد الجميع، وقام أعضاء الفريق على الفور بتقسيم أنفسهم إلى مجموعات، قاموا بنصب ثلاث وأربعين قذيفة يدوية على الطُّرق الثلاثة التي تمر من خلالها الكلاب إلى مكان الجثث. كان أبي ورفاقه يملكون سبعًا وخمسين قذيفة، استخدموا منها اثنتي عشرة قذيفة خلال الهجوم المباغت الذي شَنُّوه على الكلاب عند نهر موا شوى، وتبقَّى منها خمس وأربعون قذيفة. وقد قام أبي بتوزيع القذائف المتبقية بالتساوي بين المجموعات الثلاث التي يضمها فريقه، حيث حصلت كل مجموعة على خمس عشرة قذيفة.

شهد اليومان الأخيران انقسامًا كبيرًا بين صفوف الكلاب، حدث نقص كبير في عدد الكلاب، فقد قُتِل وأُصِيب عدد كبير منهم خلال الجولة الأولى من المعركة، كما فَرَّ عدد آخر، ممَّا أدَّى إلى تناقُص العدد الإجمالي إلى حوالي مائة وعشرين كلبًا فقط. كانت فرقة الكلاب في حاجة مُلِحَّة إلى إعادة التنظيم، ومن ثمَّ تم دمج المجموعات الثلاث في مجموعة قتالية واحدة، وتم نقل المعسكر الأول الذي تم تدميره بواسطة ذلك الشيء الأسود، تم نقله على بعد كيلو ونصف الكيلومتر شرق حافة النهر، وتجمَّعت الكلاب في فرقة واحدة على الضفة الجنوبية شرق الجسر الكبير الواقع أعلى نهر موا شوى.

كان صباح ذلك اليوم صباحًا مصيريًّا، كانت الكلاب في حيرة شديدة من أمرها وفي عجالة شديدة لأن تنفذ خطتها هذه المرة، فمضَت تشق طريقها بصورة تُعبِّر عن تحدٍّ كبير. وكانت كل مجموعة منها تراقب جيدًا حركات قائدها. في حين ظلت كلاب عائلتي الثلاثة: الأحمر والأسود والأخضر، هادئة مُتَّزِنة كعادتها فيما مضى، واكتفت بابتسامة ماكرة.

تَجمَّعَت الكلاب معًا عند الناحية الشرقية من الجسر، وجلسَتْ على أقدامها الخلفية ورفعت رقبتها لأعلى، وراحت تتأمل في السماء الغائمة وهي تنبح بصوت مسموع. وقد ظهرَتْ أعراض تَشنُّج على كلبي عائلتي الأسود والأخضر، بدت أعين جميع الكلاب محمرة بسبب التهامها كميات كبيرة من جثث البشر. أصبحَت الآن تضمر عداءً شديدًا للبشر. فعندما كانت تَنقَضُّ لالتهام الجثث البشرية، لم يكن ذلك فقط بدافع الجوع والمجاعة التي تعرضت لها، فالأهم من ذلك كله أن تشعر خلال قيامها بهذا العمل أنها تعلن عن تحديها للعالم الإنساني، وأنها كانت تنتقم انتقامًا جنونيًّا من هؤلاء الحكام المُستبدِّين الذين استعبدوها لأزمنة طويلة. وبالطبع فإن كلاب عائلتي الثلاثة هي التي كانت تنظر إلى هذا التَّصرُّف الهمجي نظرة عقلانية تعلي من قيمتها وأهميتها بالنسبة لجنس الكلاب وثورتها على البشر. كان هذا هو السبب الرئيسي الذي جعل هذه الكلاب الثلاثة تحظى بتأييد جميع الكلاب الأخرى. وبالطبع فإن البنية القوية والذكاء والمهارة الحركية والروح القتالية العالية التي كانت تتمتع بها الكلاب الثلاثة، نقول كان ذلك سببًا لا غِنى عنه من الأسباب التي جعلتها تتزعم الكلاب الأخرى.

وهكذا استطاعت دماء البشر ولحومهم أن تُغَيِّر من شكل الكلاب، بدت الكلاب التي تَغذَّت على دماء الجثث البشرية ولحومها، ذات شعر جميل وقوية البنية، وكأن البروتينات في أجسامها قد ارتفَعَت بِنِسَب عالية، كما ازدادت رغبتها الجنسية وأصبحت أكثر شراسة وتحملًا للقتال، وعندما تَتذكَّر تلك الحياة الكئيبة حين كانت عبيدًا للبشر تتغذَّى على فضلات الأطعمة التي تَتبقَّى منهم، فإنها تشعر بالخزي الشديد تجاه تلك الحياة الوضيعة. وهكذا أصبح الهجوم على البشر رغبة جماعية تصدر عن جميع الكلاب. وقد زاد هجوم أبي ورفاقه عليهم من نزعة الانتقام التي تَولَّدت لديهم تجاه البشر.

ومنذ ما يزيد على عشرة أيام مضت، ظهر عدم توافُق بين مجموعات الكلاب الثلاثة، ولم يكن السبب في ذلك أمرًا جللًا؛ تعود الواقعة إلى قيام أحد الكلاب من مجموعة الكلب الأسود خلسةً بالتهام ذراع إنسان كان يخص كلبًا أبيض من مجموعة الكلب الأخضر، فراح الكلب الأبيض ليتناقش مع ذلك الكلب الذي التهم الذراع سرًّا، فكانت النتيجة أن قام هذا الكلب اللص بِعَضِّ الكلب الأبيض في قدمه الخلفية. وقد أثار تَصرُّف الكلب اللص غضب جميع الكلاب في مجموعة الكلب الأبيض، فاتَّفَقوا معًا وانقَضُّوا عليه وأحدَثُوا به إصابات خطيرة، ولم تستطع كلاب مجموعة الكلب الأسود التي ينتمي لها الكلب اللص تَقبُّل هذا التصرف الانتقامي، فاشتبك حوالي عشرين كلبًا من الفريقين في معركة حامية بمحاذاة النهر. واستغل كلاب مجموعة الكلب الأحمر الفرصة، واشتَبَكوا في المعركة للانتقام من بعض التصرفات السابقة مع أعضاء الفريقين. كان كلاب عائلتي الثلاثة يجلسون كعادتهم يراقبون الموقف في هدوءٍ تامٍّ، وقد امتلأت عيونهم بغضب شديد.

استمرت هذه المعركة الحامية ما يزيد على ساعتين، وأدت إلى إصابة سبعة كلاب بالشلل التام، وأصيب ما يزيد على عشرة كلاب أخرى بجروح خطيرة، وسقطت في أرض المعركة تتألم من هول ما أصابها. وبعد انتهاء المعركة، وقفت جميع الكلاب تقريبًا على حافة النهر وراحت تلعق جروحها.

كانت الجولة الثانية من صراع الكلاب مع بعضها بعضًا قد وقعت في منتصف نهار الأمس. كان كلب ذَكَر ذو شفتين سميكتين وعينين صغيرتين وشعر يخلط بين اللونين الأزرق والأصفر من مجموعة الكلب الأخضر، قد قام بكل جرأة بمعاكسة تلك الكلبة الجميلة التي كانت على علاقة بقائد مجموعة الكلب الأحمر، مما أثار غضبه، فقام بإلقاء ذلك الكلب المُتَّهَم في عُرْض النهر. خرج الكلب المُتَّهَم من النهر وراح ينفض المياه التي علقت به، ثم راح يسب الكلب الأحمر غاضبًا. سَخِرَت مجموعة الكلب الأحمر من ذلك التَّصرُّف الوقح الذي قام به هذا الكلب النَّذْل.

وقام قائد مجموعة الكلب الأخضر بالنُّباح أمام الكلب الأحمر، لم يُعِرْه الكلب الأحمر أدنى اهتمام، ثم قام بإلقاء الكلب المُتَّهَم في النهر مرة ثانية، فاكتفى الكلب المُتَّهَم بفتح منخاريه في المياه وراح يسبح إلى الضفة مثل الفأر الجبان. وفي تلك الأثناء كانت الكلبة الجميلة تقف خلف الكلب الأحمر وهي تهز ذيلها.

صاح الكلب الأخضر في وجه الكلب الأحمر، وكأنه يبتسم له ابتسامة مُصطَنَعة.

فرد عليه الكلب الأحمر بابتسامة مصطنعة.

ووقف الكلب الأسود بين صديقيه وراح يصيح فيهما وكأنه يسعى للتوسُّط بينهما.

وتجمَّعَت الكلاب جميعها في الاستراحة الجديدة، فكان من بينها من يلعق المياه ومن يلعق جرحه، وقد سطعت الشمس أعلى صفحة نهر موا شوى، وظهر على حافة النهر أرنب بري كبير إلى حد ما، وما إن رأى الكلاب المتجمعة حتى فرَّ هاربًا.

ظهرت الكلاب متكاسلة تحت شمس الخريف. وجلست كلاب عائلتي الثلاثة إلى جوار بعضها مكوِّنة دائرة، وأغمضَتْ عيونها وراحت تَتذكَّر ماضيها.

استغرَق الكلب الأحمر مفكرًا في الحياة الهادئة عندما كان يقوم بحراسة فناء منزل العائلة للسيد صاحب فرن النبيذ، وكان الكلبان الأصفران لا يزالان آنذاك على قيد الحياة، وعلى الرغم من وجود بعض الخلافات بين كلاب العائلة الخمسة، فإنها كانت يدًا واحدة. ويذكر أنه كان هناك كلب نحيف ضعيف، جسمه ممتلئ بالقروح الجلدية، حتى تم طرده من حظيرة الكلاب. وكان قد تم علاجه فيما بعد في فرن النبيذ بالفناء الشرقي، ولكنه بعد عودته إلى الحظيرة، كان لا يزال يَشعُر بعدم الوفاق مع الكلاب الأربعة الأخرى. وكان يكره ظُلْم الكلبين الأسود والأخضر وطمَعهما، وكان يعلم جيدًا أنه لا بد أن تَحْدُث معركة بينها للتَّنافُس على الزعامة. وهكذا فقد تَحوَّل الصراع بين مجموعات الكلاب الثلاثة إلى سلام، ولكن الكلب الهجين المُتَّهَم أبى ألَّا يُغيِّر طبعه، فراح يُروِّج للإشاعات بين جميع الكلاب.

وحدثت بعد ذلك نقطة تَحوُّل مهمة في هذا الصراع بين الكلاب بعضها بعضًا، رأتِ الكلاب مشهدًا عاطفيًّا يجمع بين الكلب الأسود وكلبة عجوز، وراحت جميع الكلاب تُراقِب ذلك المشهد دون أي تَدخُّل يفسد الجو العاطفي الذي جمع بينهما. وهكذا حتى استطاعت معًا أن تنهي ذلك الصراع الجنوني الذي نشب بينها، وقد انتهى ذلك المشهد بانتحار الكلب الأسود غرقًا.

تَسبَّب الاختفاء المفاجئ للكلاب في توتُّر وفوضى كبيرة في ترتيبات أبي ورفاقه، نزلت آنذاك أمطار خريفية شديدة، وفَقَد أبي ورفاقه حماسهم بانتهاء تلك المعركة الحامية التي خاضوها ضد الكلاب، وأصبحوا في حالة تراخٍ وكسل شديد، مثل المدمن الذي اشتد به الإدمان.

وفي صباح اليوم الرابع من اختفاء الكلاب، تَجمَّع أبي ورفاقه عند حافة الوادي وراحوا يشاهدون الضباب والرائحة الكريهة التي عبقت المكان، وهم يتناقشون حول أصل هذه الرائحة.

وكان العم الأعرج قد سلم بندقيته وانسحب من الفريق المُكلَّف بصيد الكلاب، وعاد إلى قريته البعيدة للعمل مع ابن عمه الصغير في المطعم الذي كان يديره. أما الأعمى فلم يكن بإمكانه العمل بمفرده، لكنه كان قد جلس في الخيمة لمرافقة جَدِّي المريض في وحدته. وتبقى من أعضاء الفريق كل من أبي وأمي والعم وانغ قوانغ والعم ده جه.

قالت أمي مُخاطِبة أبي: «يا دوو قوان، إن الكلاب لن تأتي ثانيةً، إنها تخشى القذائف اليدوية.» وراحت أمي تنظر إلى الطُّرق الثلاثة التي كانت تأتي منها الكلاب، وفي حقيقة الأمر أنها كانت أكثرهم شوقًا لأن تأتي الكلابُ مرة ثانية، كانت القذائف الثلاث والأربعون التي نُصِبَت على الطرق الثلاثة، تُعبِّر جيدًا عن ذكائها وحكمتها.

فقال أبي: «يا وانغ قوانغ، فلتذهب ثانيةً لتقصِّي الوضع!»

فرد العم وانغ قوانغ قائلًا: «لقد ذهبتُ بالأمس، وأخبرتُكم بأن الكلاب كانت قد اشتركت في معركة مع بعضها بعضًا شرق الجسر، ومات الكلب الأخضر. وأنها بالتأكيد قد تَفرَّقَت. وإنني أرى أنه لا فائدة من ضياع جهدنا في هذا المكان، وعلينا أن نسارع بالاستسلام للجيش الثامن.»

فقاطعه أبي قائلًا: «لا، إن الكلاب حتمًا ستأتي مرة ثانية، إنه يعز عليها كثيرًا أن تتخلَّى عن هذه الغنائم الشهية.»

قال العم وانغ قوانغ: «وأي الأماكن تخلو حاليًا من جثث القتلى؟ والكلاب ليست بتلك الحماقة، وهل يعقل أن تعود لملاقاة القذائف اليدوية مرة ثانية؟»

فأجابه أبي: «إن عدد القتلى هنا كبير جدًّا، ويعز على الكلاب أن تترك هذا المكان بهذه البساطة.»

وقال العم ده جه: «إذا نَويْنَا أن نستسلم فيجب أن نستسلم للقائد لينغ ماتزه، فإن فرقته فرقة قوية مُسلَّحة جيدًا.»

قاطعتهم أمي قائلة: «انظروا إلى هناك!»

فانحنَى الجميع وراحوا ينظرون إلى الاتجاه الذي أشارت إليه أمي، إلى طريق الكلاب. وتحركت أعواد الذُّرَة الكثيفة التي كانت تحفُّ بالطريق من جانبيه، كانت أوراق الذُّرَة تتلقَّى قطرات الأمطار الفضية. وامتلأ الطريق ببراعم الذُّرَة المتساقطة التي اختلطَت بمياه الأمطار وتراب الطريق. كما اختلطت رائحة براعم الذُّرَة برائحة تعفُّن سنابل الذُّرَة وكذلك برائحة الجثث الكريهة وفضلات الكلاب وبولها. وهكذا واجه أبي ورفاقه عالمًا مرعبًا قذرًا مليئًا بالشرور.

هنا صاح أبي منفعلًا: «لقد عادت الكلاب!»

كانت أعواد الذُّرَة المطلة على الطُّرق الثلاثة تَهتزُّ، بينما لم يصدر أي صوت عن تلك القذائف اليدوية المنصوبة على جانب الطريق.

وسألتْ أمي وهي في قلق شديد: «ماذا حدث يا دوو قوان؟»

فأجابها أبي: «لا تتعجلي، ستنفجر بمجرد أن تلمسها الكلاب.»

وقال العم ده جه: «فلنطلق رصاصة لإرهابهم.»

فأطلقت أمي على الفور رصاصة من بندقيتها. فعم الهرج والمرج وسط حقول الذُّرَة، وانفجر عدد من القذائف في توقيتٍ واحدٍ، وتطايرت أعواد الذُّرَة وأشلاء الكلاب إلى السماء، بينما سمعوا بكاء عدد من الكلاب المصابة داخل الذُّرَة. وانفجر عدد أكبر من القذائف، وتطايرت كميات كبيرة من أجزاء القذائف والأشياء الأخرى فوق أبي ورفاقه.

وأخيرًا خرج ما يزيد على عشرين كلبًا من خلال الطرق الثلاثة، فأطلق أبي ورفاقه بضع طلقات، ففرَّت الكلاب هاربة وانفجر عدد من القذائف.

راحت أمي ترقص فرحًا.

ولم يكن أبي ورفاقه يعلمون ذلك التغيير الكبير الذي طرأ على صفوف الكلاب. فبعد أن تسلَّم الكلب الأحمر صاحب الحيل المتعددة قيادة الكلاب، سحب الكلاب إلى مكان يقع على بعد عشرات الكيلومترات، وأجرى لهم تدريبات صارمة. كانت خطته التي وضعها للهجوم خطةً مُحكَمةً يعجز الإنسان الحكيم عن تَخيُّلها، فقد كان الكلب الأحمر يعلم جيدًا أن خصومهم مجرد بشر وضيعين، وأن من بينهم شخصًا يشك أنه يعرفه. إذا لم نقْضِ تمامًا على هؤلاء الحيوانات، فإن الكلاب لن تَتمتَّع بهذه الوجبة الشهية. كان الكلب الأحمر قد أمر كلبًا هجينًا ذا أذن حادَّة، أن يخرج على رأس نصف الكلاب الموجودة وتهاجم خصمهما من خلال نفس الطَّريق القديم، وأن عليها أن تقاتل قتالًا مستميتًا ولا تفكر في الانسحاب مَهمَا حدث. قام الكلب الأحمر بقيادة ستين كلبًا بنفسه، وعادت إلى خلف الوادي، واستعدَّت لشن هجوم مُباغِت على خصومها، ولكي تتمكن من القضاء على هؤلاء الحيوانات الأنذال المدينين لهم بالدم. وقُبَيل تَحرُّكه على رأس مجموعة الكلاب، قام الكلب الأحمر بهز ذيله وراح يلمس بأنفه أنوف جميع الكلاب، ثم قام بعد ذلك برفس قطعة طين صلبة أسفل قدمه، وقلده في ذلك جميع الكلاب التي كانت تقف وراءه.

وعندما وصل إلى خلف الوادي، رأى هؤلاء الأنذال الذين كانوا في فرحة غامرة، وعندها سمع صوت انفجار القذائف على الطُّرق الثلاثة التي سلكَتْها الكلاب، شعر بقلق شديد، وكذلك شعرت الكلاب الأخرى التي كانت تقف خلفه. لقد استطاعتْ تلك الأشياء السوداء الفتاكة أن تُبِيد جميع الكلاب. وكان يعلم جيدًا أنه إذا ظهر أمامهم جبانًا يخشى المواجهة، فإن الخطة التي وضعها ستفشل تمامًا. فحرك أسنانه الحادة وراح يصيح تجاه الكلاب التي كانت تقف خلفه وهي في حيرة شديدة، ثم تَقدَّم بعدها أحد الكلاب وتبعته الكلاب الأخرى، وانقضوا جميعًا بقلب كلب واحد وتجمَّعوا خلف أبي ورفاقه.

صاح أبي بصوت يملؤه الخوف: «لقد حاصَرتْنا الكلاب مِن خلفنا.» ثم أدار بندقِيَّته وأطلق رصاصة عشوائية، فأصابت الرصاصة كلبًا ذا شعر أحمر داكن، فتقدَّمَت الكلاب إلى الأمام لمسافة مترين وأحاطت بالكلب المُصاب.

قام العم وانغ قوانغ والعم ده جه وأمي بإطلاق الرصاص، فاندفعت أعداد أكبر من الكلاب صوبهم، حيث وصل كُرْه الكلاب للإنسان إلى ذروته. ألقى وانغ قوانغ ببندقيته وفرَّ هاربًا، فحاصره ما يزيد على عشرة كلاب. وهكذا اختفى هؤلاء البشر الوضيعون خلال لحظات قصيرة. كانَت الكلاب آكلة لحوم البشر قد أصبحت منذ زمن طويل هي الحيوان البري الحقيقي، وكانت تتمتع بحركات سريعة ومهارة فائقة، وانقضَّت الكلاب على العم وانغ قوانغ حتى أتت عليه تمامًا.

ووقف أبي وأمي والعم ده جه وهم في رعبٍ شديدٍ من هول الموقف الذي تَعرَّضوا له، حتى إن أمي بالت على نفسها من شدة الخوف، وقد اختفت تمامًا تلك الشجاعة التي كانوا يَتحَلَّون بها أثناء مواجَهة الكلاب. وتقدَّمَت الكلاب وحاصَرتْهم من جميع الاتجاهات. كانوا لا يتوقفون عن الدفاع عن أنفسهم بإطلاق الرصاص حتى أصابوا بعض الكلاب بجروح، انتهت الذخيرة التي كانت بحوزتهم. كانت بندقية أبي السانباتي اليابانية مزودة بخنجر لامع، كان مصدر تهديد وتخويف كبير للكلاب، كانت أمي والعم ده جه يستخدمان بندقية قصيرة غير مزودة بمثل هذا الخنجر، ومِن ثَمَّ فقد حاصرهم أكبر عدد من الكلاب. وهكذا تم حصار ثلاثتهم، فكانوا يرتعشون من شدة الخوف، فراحت أمي تنادي بصوت خفيض قائلة: «دوو قوان، يا دوو قوان!»

فأجابها أبي: «لا تخافي، ولتنادي بصوت مرتفع، لتنادي أبي ليأتي لإنقاذنا.»

فانتبه الكلب الأحمر إلى ذكاء أبي، فمال بعينيه وراح ينظر بازدراء إلى خنجر أبي.

ونادى أبي بصوت مرتفع: «أبي، أَنقِذْنا أَنْقِذْنا!»

وراحت أمي تنادي جَدِّي باكية: «يا عمي، أسرِعْ لإنقاذنا!»

شنَّت الكلاب هجومًا جديدًا، تصدَّى له أبي ورفاقه باستماته، حتى إن أمي استطاعت أن تَغرِز مقدمة بندقيتها في فم أحد الكلاب حتى كسرت له نابين. كما استطاع أبي أن يغرز خنجره في وجه كلب آخر. وعندما شنَّت الكلاب هجومها، كان الكلب الأحمر القائد، يقف خارج جماعة الكلاب التي شَنَّت الهجوم يراقب أبي.

وبعد أن تماسك أبي لبضع دقائق قليلة، شعر بانهيار قُوَّته أمام هجوم الكلاب الشرس، فراح ينادي أباه من جديد بصوت مرتفع. وأحس أن جسد أمي كان مثل جدار سور ملتصق بجسده.

فقال العم ده جه بصوت خفيض: «يا دوو قوان … سأحاول سحب الكلاب في اتجاه آخر لِتتمَكَّنا من الفرار.»

فرد عليه أبي قائلًا: «مستحيل!»

فقال العم ده جه: «سأهرب أنا!»

فانفصل العم ده جه عن أبي وأمي ثم فرَّ هاربًا إلى داخل حقول الذُّرَة، فلاحقته عشرات الكلاب. ولم يكن أبي يستطيع النظر إلى العم ده جه، حيث كان الكلب الأحمر لا يزال يراقبه بكل دقة.

جاء صوت انفجار قذيفتين يدويتين من الاتجاه نفسه الذي فر منه العم ده جه، وقد أحدث صوت الانفجار جلبة في أعواد الذُّرَة، وهز صوت الانفجار أبي وكذلك تلك الكلاب المصابة. أما الكلاب التي كانت تحاصر أبي وأمي، فقد أرعبها صوت الانفجار فتراجَعتْ بضع خطوات بعيدًا عنهما، فاستغلَّت أمي هذه الفرصة وأخرجَت قذيفة وألْقَت بها على مجموعة الكلاب التي كانت تحاصرهما. وما إن رأت الكلاب ذلك الشيء الأسود يتطاير في اتجاهها، حتى راحت تنبح بصوت مرتفع، راحت تنبح وتصيح بصوت غير مفهوم. وعندما همَّ أبي أن ينسحب من أرض المعركة، راحت الكلاب تضربه حول وجهه، وقد فشل الكلب الأحمر في إصابة وجه أبي. تعرَّض خده لإحدى تلك الهجمات، فراحت الدماء تسيل من خده بغزارة. وانقضَّ عليه الكلب الأحمر ثانيةً، فرفع أبي بندقيته يتقي شر الكلب، فأمسك الكلب الأحمر بالبندقية بمخلبيه، وطأطأ رأسه أسفل الخنجر حتى استطاع النفوذ إلى حضن أبي. وما إن رأى أبي خصلات الشعر البيضاء في بطن الكلب الأحمر، حتى راح يرفسه بقدميه. وأخيرًا نجح الكلب الأحمر في الوصول إلى بنطال أبي، ولكن أمي تَمكَّنَت من ضرب الكلب بالبندقية على رأسه الصلبة. فتراجع بضع خطوات، ثم همَّ بالهجوم ثانيةً، ولكنه تعرض لخبطة بندقية جديدة حطمت إحدى عينيه. ونظر أبي وأمي إلى جَدِّي الذي كان يمسك في يده اليسرى عصا خشبية، وتقبض يده اليمنى على بندقية يابانية الصنع، وقد بدا شيخًا ضعيفًا مُنْحَني الظَّهر اشتعل رأسه شيبًا.

أطلق جَدِّي بضع طلقات في اتجاه تلك الكلاب، فما إن أحسَّت بالخطر فَرَّت إلى داخل حقول الذُّرَة تلتمس النجاة.

ثم تقدَّم جَدِّي إلى الأمام وهو يرتعد، وراح يضرب بعصاه على رأس الكلب الأحمر، ثم راح يلعنه قائلًا: «أيها الحيوان المتمرد!» ولم يكن الكلب الأحمر قد فارق الحياة بعد، كان لا يزال يتنفس، وقدماه الخلفيتان تضربان على الأرض، وبدَا شعره الأحمر الجميل مثل قطع اللهب المشتعلة.

٨

لم تَكُن العضة التي تلقَّاها أبي من الكلب الأحمر قوية جدًّا، ولكنها أصابته في مكان خطير جدًّا، تمكَّن الكلب الأحمر اللعين من عضِّ أبي في الطرف السفلي من جسمه وتحديدًا في منطقة الفخذ بل أصاب الخصيتين، الأمر الذي جعل جَدِّي يشتاط غضبًا من ذلك الكلب اللعين.

راح جَدِّي يُتابِع جرح أبي المصاب في هذا المكان الخطير من جسده وهو في غاية القلق على مصير ابنه. فسألَتْه أمي: «ما الذي حدث يا عماه؟»

كانت أمي قد لاحظَتِ الحزن الشديد الذي بدَا على وجه جَدِّي وهو ينظر إلى ابنه الجريح.

فسمَعِت جَدِّي يتحسر بلهجة حزينة وهو يقول: «لقد انتهيت … نعم لقد انتهيت هذه المرة.»

أخرج جَدِّي سلاحه وراح يسب الكلب الأحمر بصوت مرتفع: «أيها الكلب اللعين! لقد دمَّرتَني تدميرًا!»

ثم رمى الكلب الأحمر المُتَّهَم بعدة طلقات أردته قتيلًا.

كان أبي يحاول النهوض والدم يسيل من بين فخذيه، ولكنه لم يكن يشعر بتعب شديد، وقال مخاطبًا جدي: «أبتاه، لقد انتصرنا.»

وصاحت أمي: «عماه، أسرع بعلاج جرح دوو قوان!»

وعندما انتَبَه أبي إلى حقيقة إصابته في خصيتيه، شعر بتقزز ودُوار شديدين حتى سقط مغشيًّا عليه.

ألقى جَدِّي بالعصا الخشبية التي كان يتوكأ عليها، وانشغل بجرح ابنه انشغالًا كاملًا، ونادى على أمي قائلًا: «يا تشينغ إر، اهتَمِّي به جيدًا، وهيا بنا نذهب إلى السيد جانغ شين إي.» جلس جَدِّي على الأرض وساعد أبي حتى وقف على قدميه وسارَا يقصدان السيد الطبيب جانغ شين إي. بينما كانوا لا يزالون يسمعون صوت انفجار القذائف اليدوية القادم من الطُّرق الثلاثة التي تمر من خلالها الكلاب.

وكان السيد جانغ شين إي رجلًا فوق الخمسين، ذا شعر طويل مرسَل، يرتدي جلبابًا أزرق طويلًا، ذا وجه أصفر، نحيفًا جدًّا.

وهكذا استطاع جَدِّي أن يصل بأبي الجريح إلى مكان السيد الطبيب جانغ شين إي، وقد بدَا على جَدِّي التعب والإرهاق الشديدان.

قال السيد جانغ شين إي: «أليس هذا القائد يو؟ لقد تَغيَّرتْ كثيرًا أيها القائد يو.»

فرد جدي: «سيدي الفاضل، لك كل ما تريد من المال.»

كان جَدِّي قد سارع بوضع أبي على سرير خشبي في حجرة الطبيب جانغ. فقال الطبيب: «أليس هذا ابنك أيها القائد يو؟»

هزَّ جَدِّي رأسه.

فسأله الطبيب: «أليس هو ابنك الذي تمكَّن من قتل الضابط الياباني عند جسر نهر موا شوى؟»

فأجابه جدي: «نعم، إنه ابني الوحيد.»

فقال الطبيب: «سيدي الفاضل، اعلم أنني سأبذل قصارى جهدي لإنقاذه!» ثم مد يده إلى حقيبته وأخرج ملقاطًا ومقصًّا وزجاجة ميكروكروم. وانحنى قليلًا وبدأ في فحص حالة أبي.

دنَا منه جَدِّي وقال بلهجة حازمة: «أيها السيد، فلتفحص أولًا الجزء السفلي من جسمه.»

فاستجاب السيد جانغ لطلب جدي، وراح يتفحص الإصابة الخطيرة في خصيتي أبي. ثم قال: «أيها القائد يو، لست معترضًا على علاج ابنكم، ولكن إصابته هذه ليست من صميم تخصصي، كما أنني لا أملك الدواء المناسب لهذه الإصابة … أيها القائد يو، أرى أنه من الأفضل أن تقصد حكيمًا آخر بارعًا في مثل هذه الإصابات.»

أمال جَدِّي ظهره قليلًا وراح ينظر إلى السيد جانغ بعينين يتطاير منهما الغضب، ثم قال بصوت أجش: «وأين سأبحث عن هذا الحكيم؟ فلتخبرني أين يوجد هذا الحكيم؟ أتريد أن تجعلني أقصد حكيمًا يابانيًّا؟»

فقال السيد جانغ شين إي: «أيها القائد يو، لم يكن هذا قصدي إطلاقًا … إن الجرح أصاب منطقة خطيرة جدًّا من جسم ابنكم، وأي خطأ في التعامل معه ستكون عاقبته القضاء على نسل أسرتكم الكريمة إلى الأبد.»

فقال جدي: «طالما أننا قصدناك، فإن هذا يعني ثقتنا فيك، فلتبدأ في علاجه وإنقاذه.»

فراح السيد جانغ يعض على أسنانه، ثم قال: «طالما أن هذا رأيكم أيها القائد يو، فإنني سأبدأ على الفور.»

أخذ السيد جانغ قطعة من القطن ونظف الجرح جيدًا، حتى أفاق أبي من إغماءته. وراح أبي يحاول النزول عن المصطبة، لكن جَدِّي منعه من ذلك، فراح أبي يضرب بقدميه معترضًا على منعه من النزول.

فقال السيد جانغ شين إي: «أيها القائد يو، اربطه جيدًا كي لا يتحرك.»

راح أبي يتوجَّع وهو يصيح: «أبتاه، إنني أتألم كثيرًا!»

فصاح فيه جَدِّي غاضبًا، «تحمَّل يا بني، وتذكَّر جرح الجد لوو خان!»

فسكت أبي على الفور، وراح يتماسك قدر استطاعته، بينما كان العرق يسيل بكثرة من جبهته.

أتى السيد جانغ بإبرة، وبدأ في خياطة الجرح الغائر. وطلب منه جدي أن يخيط الخصيتين جيدًا.

فقال السيد جانغ وهو يشعر بحرج شديد: «أيها القائد يو، إنه لا سبيل لذلك.»

رد عليه جَدِّي وقد بدَا وجهه عابسًا: «أتريد أن تقضي على نسلي إلى الأبد؟»

فأجاب السيد جانغ والذي كان وجهه يتصبب عرقًا: «أيها القائد يو … فلتشاركني الرأي، إن الإصابة خطيرة للغاية، ولا سبيل لأن تستعيد هاتان الخصيتان وظيفتهما الطبيعية ثانيةً.»

– «فلتجتهد لوصلهما معًا.»

– «أيها القائد يو، لم أسمع بأي طبيب قام بذلك على مستوى العالم أجمع.»

– «أتظن أنني سأنتهي بهذه البساطة؟»

– «من الصعب القول بذلك أيها القائد، وربما يكون الأمر عكس ذلك، وقد يكون بإمكاننا الإبقاء على واحدة فقط.»

– «وهل ينفع ذلك؟»

– «نعم، من الممكن.»

– راح جَدِّي يلعن أبي وقد بدا عليه الحزن الشديد: «اللعنة عليك، لقد جعلتني أتعرض لكل المصائب.»

وبعد أن انتهى السيد جانغ من علاج الجزء السفلي من جسم أبي، قام بعلاج وجهه، كان السيد جانغ قد أصيب بإرهاق شديد. فسأله جدي: «كم أتعابك أيها السيد جانغ؟»

فرد السيد جانغ بصوت متعب: «لا تتحدث معي في أية أموال أيها القائد يو، إن كل ما أتمناه أن أرى ابنكم يتعافى من إصابته.»

«أيها السيد جانغ، إنني يو جان آو أمرُّ الآن بفترة عصيبة في حياتي، وثِقْ تمامًا أنه سيأتي اليوم الذي أكافئك أعظم مكافأة على صنيعك هذا.»

سنَد جَدِّي ابنه وغادرَا منزل السيد جانغ شين إي.

راح جَدِّي ينظر بقلب مفعم بالأسى إلى ابنه المُلقى مغشيًّا عليه داخل الخيمة، كان وجه أبي مربوطًا بالشاش تمامًا إلا من فتحتين صغيرتين عند عينيه. وكان السيد جانغ شين إي قد زار أبي مرة ليطمئن عليه وقام بتغيير الدواء الذي وصفه له من قبل، وأخبر السيد جانغ شين إي قائلًا: «أيها القائد يو، من حسن حظنا أن الجرح لم يلتهب.» فسأله جدي: «وهل ترى أنه لا يزال هناك أمل في هذا الابن الوحيد؟» فقال السيد جانغ: «أيها القائد يو، دعنا الآن من التفكير في ذلك الأمر، إن ابنكم تعرَّض لعضة خطيرة من قِبَل كلب مصاب بالجنون، ولنحمد السماء على أنه لا يزال على قيد الحياة.» فقال جدي: «وماذا يجدي بقاؤه حيًّا إذا كان يعجز عن الحفاظ على نسل العائلة؟» وما إن رأى السيد جانغ جَدِّي على هذه الحالة، حتى حاول الانسحاب آمنًا.

وهكذا كان جَدِّي مضطربًا للغاية، فحمل بندقيته وخرج ليختلي بنفسه بالقرب من الوادي، كان الجو خريفيًّا. فمضى جَدِّي يفكر أنهم الآن في نهاية شهر أكتوبر، وقد اقترب دخول الشتاء، وأنه لا يزال عليلًا ضعيفًا، وها هو ابنه الوحيد يرقد بين الحياة والموت، وقد تَشتَّت شمل أسرته، وأصبح في مأزق شديد، مات وانغ قوانغ وده جه، وهجره الأعرج قوو يانغ إلى بلدته، ولا زالت قدم المرأة ليو تنزف حتى الآن، وها هو الرجل الضرير يجلس إلى جواره طوال اليوم، وها هي الفتاة تشينغ إر فتاة صغيرة لا تفهم هذه الحياة الكبيرة، وها هو الجيش الثامن يسعى لضمه إليهم، وها هو لينغ ماتزه يسعى للقضاء عليه، وها هو قد أصبح الآن عدوًّا لدودًا لليابانيين … استند جَدِّي على عصاه وراح ينظر إلى الذُّرَة الرفيعة الممتدة أمامه والممتلئة ببقايا الجثث، وراوده شعور بالقلق والحزن الشديدين. ومضى يتذكر الأحداث الماضية التي مر بها، ما بين الثراء والنعيم الذي عاشه، والزوجة والعشيقة، والعدة والعتاد، وحياة المجون التي عاشها بالأمس البعيد، ضاع كل هذا في لمح البصر. ضاع صراعه وكفاحه وبقي على هذه الحالة التي يُرثَى لها. كان جَدِّي قد وضع يده على زناد بندقيته أكثر من مرة، ولكنه كان في كل مرة يتردد رافعًا يده بسرعة.

لقد كان خريف وشتاء عام ١٩٣٩م هُما أصعب فترة في تاريخ حياة جدي المليئة بالأحداث الكبرى، شهدت تلك الفترة انهيار فِرقَته، وقَتْل زوجته المحبوبة، وإصابة ابنه الوحيد إصابة خطيرة، وتَدمر منزله تدميرًا، وأصابه مَرَض عُضال، وهكذا دَمَّرت الحرب كل شيء في حياته. ووقف جَدِّي هنالك أمام جثث البشر وجثث الكلاب، وراح يتأمل ذلك المشهد وهو في غاية الاضطراب. عاوَد وضْع إصبعه على زناد بندقيته من جديد راغبًا في أن يودع هذا العالم الوغد، إلا أن الرغبة القوية في الثأر سيطرت عليه. إنه يكره اليابانيين ويكره لينغ ماتزه وفرقته، ويكره فريق جياو قاو التابع للجيش الثامن كرهًا شديدًا. لقد استولى فريق جياو قاو على ما يزيد على عشرين قطعة سلاح من عنده، واختفوا تمامًا، حتى إنه لم يسمع أنهم اشتبكوا مع القوات اليابانية أي اشتباك، بل سمع فقط أنهم اشتبكوا ذات مرة مع فرقة لينغ ماتزه، بل إن جَدِّي كان يشك في أنهم هم الذين سرقوا الخمس عشرة قطعة سلاح التي أخفاها هو وأبي في بطن البئر.

جاءت المرأة ليو التي يزيد عمرها على الأربعين بقليل، والتي كان وجهها لا يزال يبدو جميلًا نضرًا، جاءت إلى الوادي تبحث عن جدي. وراحت تنظر إليه نظرات يملؤها الود والشفقة، ومدَّت يديها الغليظتين وراحت تمسك بذراعه قائلةً: «أخي العزيز، لا تجلس هنا وتفكر بعيدًا … هيا بنا نرجع معًا. لقد قال أجدادنا: «كل قضية ولها حل.» ولتهتم الآن بطعامك وشرابك وراحتك حتى تتعافى من مرضك ثم نفكر بعد ذلك في الخطوة التالية.»

راح جَدِّي ينظر متأثرًا إلى وجه تلك المرأة الطيبة، ثم قال: «زوجة أخي العزيزة.» ثم كادت عيناه تذرفان الدموع.

فراحت المرأة ليو تمسح على ظهره قائلةً: «انظر إلى نفسك، كيف تبدو على هذه الحالة وأنت لا تزال فوق الأربعين بقليل.»

سحبت المرأة ليو جَدِّي لتعود به إلى الخيمة، فنظر إلى قدميها اللتين كانت بهما آثار عرَج وسألها: «هل تَحسَّنت قدماكِ؟»

فأجابته المرأة ليو قائلةً: «لقد اختفت القروح تمامًا، ولكن هذه القَدم أصبحت أكثر نحافة من أختها.»

فقال جدي: «ستتحسن فيما بعد.»

قالت المرأة ليو: «وأرى أنه ليست هناك خطورة كبيرة بشأن جرح دوو قوان.»

فسألها جدي: «زوجة أخي العزيزة، هل تعتقدين أن هناك أملًا في هذا الابن الوحيد؟»

قالت المرأة ليو: «نعم هناك أمل كبير، فكل ذي عاهة جبار.»

فقال جدي: «أحقًّا كذلك؟»

قالت المرأة ليو: «ولقد وُلِد ابنك غلامًا، ولم يكن غير ذلك.»

فقال جدي: «أليس كذلك!»

وفي المساء، أراح جَدِّي رأسه المتعب في حضن المرأة ليو، وراحت المرأة ليو تمسح على رأسه وعظامه النحيفة بيديها الغليظتين، ثم همست إليه: «أخي العزيز … هل لا تزال بخير؟ وهل لديك من القوة لتنسى كل همومك إلى جواري؟»

وهكذا راح جَدِّي يتقرب إليها حتى غطَّ في نومٍ عميقٍ.

ولم تستطع أمي أن تنسى المشهد عندما كان السيد الطبيب جانغ شين إي يُعالِج جرح أبي، وقد بدأ في خياطة ذلك الجرح الخطير في الجزء السفلي من جسمه، فشعرت أمي حينها بخجلٍ شديدٍ.

ثم اكتشفَتْ بعد ذلك أن جَدِّي كان ينام جنبًا إلى جنب إلى جوار المرأة ليو.

وقد صارحَتْها المرأة ليو قائلةً: «يا تشينغ إر، إنك الآن قد بلغْتِ الخامسة عشرة من عمرك ولم تعودي فتاة صغيرة، فاهتمي جيدًا بجرح دوو قوان، فإذا شُفِي من جرحه هذا، فستكونين زوجةً له.»

عندها كادت أمي أن تبكي من شدة الخجل.

وأخيرًا التأم جرح أبي.

وبينما كان أبي يرقد داخل الخيمة، كانت أمي تعمل جاهدة على خدمته. وذات مرة مدت يدها وراحت تلمس قضيبه كما كلَّفتها السيدة ليو، فانتبه إليها أبي وسألها متعجبًا: «ماذا تفعلين يا تشينغ إر؟»

صرخت أمي في وجهه وفرَّت من أمامه حتى اصطدمت بجدي الذي كان قد أوشك على دخول الخيمة.

فأمسك جَدِّي برأسها وراح يسألها: «ما الذي حدث يا تشينغ إر؟»

فراحت أمي تنشج بالبكاء. وخلَّصَت رأسها من يدي جَدِّي وفَرَّت إلى خارج الخيمة.

ودخل جَدِّي الخيمة ليطمئن على ابنه.

ثم خرج جَدِّي بعدها مسرعًا وكأنه قد أصابه الجنون، راح يبحث عن السيدة ليو، حتى وجدها وأمسك بنهديها وراح يصرخ في وجهها قائلًا: «لقد صدقتِ يا ليو، إنها رأس ثوم مفردة، رأس ثوم مفردة!»

ورفع جَدِّي بندقيته وأطلق ثلاث طلقات في عنان السماء. ثم رفع يديه ومضى يشكر السماء على شفاء ابنه الوحيد.

٩

راح جَدِّي يَطرُق بيده على جدار منزل العائلة، وقد انعكس شعاع الشمس إلى داخل فناء المنزل، حتى أضاء ذلك التمثال المصنوع من الصلصال والموضوع أعلى منضدة المدفأة. وظهرت النافذة التي كانت ممتلئة بالقصاصات الورقية ذات الألوان الجميلة المتعددة، والتي كانت جدتي قد قصتها بيديها من قبل. وبعد خمسة أيام من هذه الزيارة لمنزل العائلة، كان كل شيء هنا قد تحوَّل إلى رماد بفعل تلك الحرب الطاحنة. وفي ذات يوم من الأيام العشرة الأولى من شهر أغسطس عام ١٩٣٩م، عاد جَدِّي ثانيةً إلى المنزل قادمًا من الطريق العام، وقد أُصيبَت ذراعه ويفوح جسده برائحة الزيت. وقام بمساعدة أبي بدفن الرَّشَّاش الذي عادَا به أسفل شجرة الكاتالبا وسط فناء المنزل، ثم دخلَا إلى غرفة جدتي ليبحثَا عن العملات الفضية التي كانت جدتي قد أخفتها داخل الغرفة.

وطرق جَدِّي على جدار الغرفة فسمع صوت فراغ داخل الجدار، فسحب بندقيته وراح يضرب على الجدار، حتى أحدث فتحة في جدار الغرفة. فمد يده إلى داخل الفتحة، ليخرج كيسًا قماشيًّا أحمر، وراح يهزه حتى أفرغ ما بداخله من عملات على الأرض، ثم بدأ في عدها حتى بلغت خمسين عملة فضية.

أعاد جَدِّي العملات الفضية إلى داخل الكيس، وقال: «هيا بنا يا بني.»

فسأله أبي: «إلى أين يا أبتاه؟»

فأجابه جدي: «إلى المدينة لشراء ذخيرة، ولنستعد لتصفية حسابنا مع لينغ ماتزه.»

وعندما وصلَا إلى شمال المدينة، كانت الشمس قد مالت إلى الغروب، وبدا شريط السكة الحديد في مدينة جياو جي وسط أعواد الذُّرَة مثل التنين الطويل، وكانت القطارات السوداء تروح وتجيء على شريط السكة الحديد محدثةً صوتًا عاليًا. وقد غطَّى غبار القطارات سماء الذُّرَة، وبدأ أبي يشعر بالفزع من صوت القطارات، فراح يَتشبَّث بيد جدي.

سحَب جَدِّي ابنه حتى وصلَا إلى أمام قبر عالٍ وكبير، أمامه شاهد يبلغ ارتفاعه طول شخصين، والكلمات المكتوبة عليه تبدو غامضة جدًّا ويصعب التَّعرُّف عليها، وكان القبر محاطًا من الجهات الأربع ببعض أشجار السرو الضخمة، والظلام يخيم على تلك الأشجار التي كان يصدر عنها صوت مسموع حتى مع توقف الرياح. وكان القبر محاطًا بالذُّرَة الحمراء حتى بدَا كأنه جزيرة سوداء معزولة.

وقام جَدِّي بحفر حفرة أمام القبر، وأنزل داخلها مسدسه الماوزر، كما أنزل أبي أيضًا مسدسه الرونينج.

عَبَر أبي وجدي شريط السكة الحديد وراحَا ينظران إلى باب المدينة. وقد عُلِّق أعلى المدخل عَلم اليابان، وبدت الشمس التي تظهر على العلم جلية. وكان يقف عند فتحة الباب اثنان من جنود الحراسة، كان الجندي الذي يقف ناحية الشمال يابانيًّا، بينما كان الجندي الواقف ناحية اليمين صينيًّا. وكان الجندي الصيني مسئولًا عن سؤال العامة وتفتيش الذين يمرون عَبْر المدخل، وكان الجندي الياباني يقف في مكانه ممسكًا بسلاحه ومكتفيًا بالنظر إلى عمل الجندي الصيني وقيامه بتفتيش الصينيين.

كان جَدِّي قد حمل أبي على ظهره بمجرد أن عبرَا شريط السكة الحديد، ثم خاطبه قائلًا: «تظاهَرْ أن ألمًا يصيبك في بطنك، وابدأ في الصراخ بصوت مرتفع.»

فأصدر أبي صوتًا مسموعًا ثم سأل جدي: «أليس هكذا يا أبتاه؟»

فأجاب الوالد: «يجب أن تصرخ بصوت أعلى.»

ووصلَا مع بقية العامة إلى المدخل. فسألهم الجندي الياباني: «من أي قرية جئتم؟ وما الذي جاء بكم إلى المدينة؟»

فأجاب جَدِّي بصوت مكتوم: «جئنا من قرية يو تان بشمال المدينة، وقد مرض ابني وجئنَا إلى المدينة نقصد السيد الطبيب وللعلاج.»

اهتم أبي بسماع حوار جَدِّي مع الحارس ونسي ما أمره به أبوه من التظاهر بالألم. فقرصَه جَدِّي قرصة مميتة في قدمه، فصاح أبي بصوت مرتفع.

وأشار الحارس إيذانًا منه بالسماح لجدي وابنه المريض بعبور المدخل.

وعندما وصلَا إلى منطقة هادئة داخل حدود المدينة، راح جَدِّي يسب ابنه غاضبًا: «أيها الوغد، لماذا لم تتأوَّه كما أمرتُك؟»

فرد أبي قائلًا: «أبتاه، ما أوجع قرصتك!»

اصطحب جَدِّي ابنه وسارَا عَبْر طريق ضيق ممتلئ بالحصى في اتجاه محطة القطار. بدَا الطريق مظلمًا والهواء محملًا بالأتربة. وانتبه أبي إلى وجود دشمتين عاليتين إلى جوار مبنى محطة القطار المتهالك. ورأى هالة حمراء لون الدم تتوسط علم اليابان المُعلَّق أعلى الدشمتين، كما انتبه إلى اثنين من الجنود اليابانيين على رصيف المحطة يسحبان زوجًا من الكلاب، بينما كان هناك عشرات من الرُّكاب يصطفون خارج سياج حديدي ما بين جلوس ووقوف. ورأى رجلًا صينيًّا في زي أسود يمسك بمصباح أحمر ويقف على الرصيف، بينما سمع صوت صافرة القطار القادم من ناحية الشرق. كان أبي في رعب شديد، ثم انتبه فجأة إلى نباح الكلبين في اتجاه القطار القادم من بعيد. ورأى عجوزًا تبيع ورق التبغ تقف حائرة بين المسافرين. وأخيرًا دخل القطار المحطة ووقف على الرصيف القريب منهم. ورأى أبي أن القطار يسحب خلفه ما يزيد على عشرين صندوقًا طويلًا، كانت الصناديق الأمامية مربعة لها باب ونافذة، بينما كانت الصناديق الخلفية خالية من السقف والأغطية، كان بداخلها كميات من الأشياء مُغطاة بغطاء كبير من القماش الأخضر في لون العشب. وكان يقف داخل القطار عدد من الشياطين اليابانيين راحوا يُتمتِمون ليحيوا الشياطين الواقفين على الرصيف.

سمع أبي صوت طَلْق ناري مدوٍّ قادمًا من حقول الذُّرَة الواقعة إلى شمال شريط السكة الحديد، ثم انتبه إلى مشهد تمايل جندي ياباني ضخم الجثة، ظل يتمايل حتى هوى من فوق سطح قطار البضائع. دوَّى صوت صافرات الإنذار من أعلى الدُّشم العالية، بينما تَفرَّقَت جموع الركاب الذين نزلوا للتو من القطار وهؤلاء الذين يستعدون لاستقلاله وراحوا يفرون في جميع الاتجاهات، وارتفع صوت نباح الكلاب بشكل مستمر، تم تصويب الرشاشات المثبتة أعلى الدشم العالية صوب الشمال. ووسط هذا الصخب والفوضى العارمة تحرك القطار مسرعًا وتَناثَر الدخان الأسود ليملأ سماء المحطة. وسحب جَدِّي ابنه وفرَّا مسرعين داخل زقاق صغير مُظلِم.

دفع جَدِّي بابًا شبه مُغلَق ودَلفَا إلى داخل فناء صغير. ورأى جدي فانوسًا أحمر صغيرًا معلقًا أسفل أحد المنازل، ينعكس منه ضوء أحمر باهت بعض الشيء. ورأى سيدة كبيرة في السن إلى حدٍّ ما وقد امتلأ وجهُها بالمساحيق تقف عند باب المنزل، تكشف شفتاها عن صفين من الأسنان البيضاء، ترتسم على وجهها ابتسامة مشرقة، ذات شعر أسود لامِع مُرسَل.

نادت تلك المرأة عليه بصوت فيه دلال «أيها الأخ، أهكذا نسيتَ أختك الصغيرة بمجرد أن أصبحت قائدًا.» ثم اقتربَتْ من جَدِّي والتصقَتْ به.

رد عليها قائلًا: «فلتلتزمي الوقار أمام ابني.»

انصرفَت المرأة من أمامه، ودفعَت الباب الكبير ليسقط ذلك الفانوس الأحمر. ودخلت إلى المنزل وضمَّت شفتيها وقالت: «لقد أصاب مكتب الحرس أخي الخامس!»

فقال جدي: «أليس أن سونغ شون من مكتب الحرس هو الأخ الأكبر لهذا الأخ الخامس الذي تقصدينه؟»

فقالت المرأة: «وهل تعتقد أنه يمكن الاعتماد على مثل هذه الإخوة التي تَكوَّنَت على مائدة شراب؟ بمجرد أن حدثت الحادثة هناك في تشينغ داو، أصبحتُ هنا في مأزق صعب للغاية.»

قال جدي: «إن الأخ الخامس لن يضحي بك، إنه رجل شديد الحمية، وقد أبدى ذلك خلال عهد رئيس المدينة تساو مينغ جيو.»

– «وما الذي جاء بك إلى هنا: وقد سمعت أنك قاتلتَ اليابانيين؟»

– «لقد مُنِيتُ بخسارة فادحة! اللعنة كل اللعنة على لينغ ماتزه.»

– «ابتَعِد عن هؤلاء الشياطين، فإنهم آية في المكر والدهاء، وأنت لست ندًّا لهم.»

أخرج جَدِّي صرة العملات الفضية من جيبه وألقى بها على المنضدة، ثم قال: «لك هذا أيتها العاهرة.»

– «أي عاهرة تقصد، لقد انتهيتُ تمامًا منذ رحيل الأخ الخامس، كما أنني كما ترى لا أتقن استخدام السلاح.»

– «كفاكِ من اللَّف والدوران! ولتأخذي هذا المبلغ لتصريف شئون حياتك، ولتتذكري جيدًا أنني لم أُسئ معاملتك من قبل.»

قالت المرأة: «أخي الفاضل، ما هذا الذي تقوله، أنا لست غريبة عنك.»

رد جَدِّي ببرود: «لا تثيري غضبي!»

فقالت المرأة: «لن تتمكَّنَا من الخروج من المدينة.»

– «لا شأن لك بهذا الأمر. عليك فقط أن تعطيني خمسمائة طلقة كبيرة وخمسين طلقة صغيرة.»

خرجت المرأة إلى الفناء وراحت تَتحسَّس الوضع هناك، عادت ثانيةً إلى الغرفة، ثم دفعتْ بابًا مظلمًا داخل جدار الغرفة، ومدَّت يدها لتأخذ من صندوق أصفر لامع الطلقات النارية التي تستخدم في المسدسات والطبنجات.

وجاء جَدِّي بجوال وعبَّأه بالطلقات النارية وربطه حول خصره ثم قال: «هيا بنا يا بني!»

اعترضت المرأة طريقه قائلةً: «ما خطتكم في الخروج من المدينة؟»

فقال جدي: «سنخرج من خلال محطة القطار، سنقفز فوق شريط السكة الحديد.»

قالت المرأة: «مستحيل، يوجد هناك دشم عالية مزودة بكشافات إضاءة كبيرة. وهناك أيضًا كِلاب وجنود حراسة.»

فابتسم جَدِّي ثم قال: «فلنحاول، وإذا فشلنا سنعود ثانيةً.»

وسار جَدِّي وأبي بمحاذاة الزقاق الصغير المظلم حتى قريبًا من محطة القطار، لا يوجد هنا سور يلف المدينة. اختبآ أسفل جدار كشك عامِل السكة الحديد، وراحا ينظران إلى الرصيف المضاء بالمصابيح الكبيرة، وإلى جنود الحراسة الواقفين على الرصيف. فهمس جَدِّي لأبي همسة ثم سحبَه واستدارَا عائدَيْن ناحية الغرب، كان يوجد هنا غرب مبنى المحطة سوق بضائع كبير مكشوف، يمتد حول شبكة أسلاك من مبنى المحطة حتى أعلى السور المحيط بالمدينة. وكانت الكشافات الكبيرة أعلى الدشم تضيء المنطقة لمسافات بعيدة. كما كان هناك عدد من المصابيح الكبيرة؛ مصابيح النيون مثبتة أعلى أعمدة عالية وسط السوق، أضاءت كل شبر داخل السوق إضاءة تامَّة.

وانبطح أبي إلى جوار جَدِّي وراحَا ينظران إلى جنود الحراسة الذين كانوا يَذْرَعون السوق جِيئةً وذهابًا.

ثم دخلَت من الناحية الغربية سيارة بضائع كبيرة، وأضاءت مصابيحها المكان ثم سلط السائق يده على بوق السيارة.

ونجح جَدِّي وأبي في الزحف إلى جانب السلك الشائك، وراحَا يستخدمان أيديهما في محاولة لفتح فتحة في السلك يمكن الخروج من خلالها إلى خارج المدينة. ولكن السلك كان معقدًا جدًّا، لدرجة أن قطعة منه أصابت كف يد أبي، فراح يتأوه بصوتٍ ضعيفٍ.

وسأله جَدِّي بصوت خفيض: «ماذا بك؟»

فأجابه أبي بنفس الصوت: «لقد جرحت يدي يا أبتاه.»

فقال الأب: «إذا لم نستطع العبور من خلال هذا السلك فعلينا العودة ثانية!»

قال أبي: «ليتنا نستخدم السلاح في هذا الموقف.»

فقال جدي: «لن ننجح في الخروج من هنا حتى ولو كنا نمتلك سلاحًا.»

قال أبي: «إذا كان لدينا سلاح فسنضرب به ذلك المصباح الكبير!»

تراجع جَدِّي وأبي إلى منطقة مظلمة، وتحسس جَدِّي قطعة طوب ثم رماها بما أوتي من قوة على شريط السكة الحديد. فصاحت صافرات الإنذار بطريقة جنونية، وسُمِع دَوِي طلقة نارية، تم تسليط الكشافات على جميع أرجاء المنطقة، ثم سمعوا صوت طلقات نارية بشكل متواصل، كادت تُصاب أذن أبي بالطرش من شدة الصوت الذي زلزل المكان.

وفي الخامس عشر من شهر أغسطس الذي يوافق عيد منتصف الخريف،٣ ازدحمت مدينة قاو مي بالأهالي احتفالًا بالعيد. وعلى الرغم من الحرب الدائرة آنذاك فإن الأهالي كانوا يجب أن يعيشوا حياتهم، وبالتالي فهم في حاجة للمأكل والملبس والتَّردُّد على الأسواق ليبتاعوا ما يلزمهم من ضرورات الحياة. وهكذا كان الطريق يَعج بالعائدِين من المدينة والغادِين إليها. وفي الثامنة صباح ذلك اليوم الموافق عيد منتصف الخريف، كان هناك شاب يُدعَى قاو رونغ استلم نوبة حراسته عند المدخل الشمالي لمدينة قاو مي، وكان يقوم بتفتيش الأهالي الغادين إلى المدينة تفتيشًا دقيقًا صارمًا، كان الشاب الصيني قاو رونغ قد انتبه إلى أن الجندي الياباني الواقف أمامه يراقبه وينظر إليه نظرات مرتابة.

مر من أمامه شيخ فوق الخمسين معه صبي فوق العاشرة، وكانَا في طريق عودتهما من المدينة يجران خروفًا صغيرًا. وقد بدَا وجه الشيخ متشحًا بالسواد ويبدو على عينيه التعب والإرهاق الشديد، بينما كانت عينَا الصبي محمرة وقد امتلأ وجهه بالعرق من شدة التوتُّر.

وقف عدد كبير من الأهالي عند المدخل في انتظار التفتيش، حيث بدأ الشاب قاو رونغ في مزاولة عمله بصرامةٍ شديدةٍ.

– «ما وجهتك؟»

فأجاب الشيخ الكبير: «في طريق العودة إلى منزلي.»

– «وهل ستتخلف عن السوق؟»

– «لقد انتهيت من شراء ما أحتاج إليه، لقد اشتريت هذا الخروف الذي شارف على الموت من شدة المرض، إنه رخيص جدًّا.»

– «ومتى دخلت المدينة؟»

«دخلتها بعد ظهر يوم أمس، وكنت أقيم في منزل أحد أقربائي، وقد اشتريتُ هذا الخروف في وقت مبكر جدًّا.»

– «وإلى أين ستذهب الآن؟»

– «سأغادر المدينة عائدًا إلى منزلي.»

– «مع السلامة!»

وهكذا استطاع جَدِّي وأبي أن يَخرجَا من المدينة بهذا الخروف المريض. الذي كانت بطنه ممتلئة جدًّا حتى كان يسير بصعوبة شديدة. كان جدي يمسك بورقة من أوراق الذُّرَة ويضرب بها على مؤخرته ليحثه على السير. بينما كان الخروف يَثْغُو بصوت مبحوح ويهز ذيله بصعوبة وهو يجري صوب الطريق الترابي الواصل لقرية دونغ بي التابعة لمدينة قاو مي.

أخرج جَدِّي وأبي الأسلحة التي كانَا قد دفناهَا أمام القبر.

وسأل أبي: «أبتاه، هل سنطلق هذا الخروف؟»

فرد جدي: «لا، سنأخذه معنا ونقتله فور عودتنا إلى القرية ونقضي به عيد منتصف الخريف.»

ووصل جَدِّي وأبي إلى القرية في وقت الظهيرة، وعندما نظرَا من بعيد إلى السور الترابي العالي الذي تم تشييده مؤخرًا والذي يحيط بالقرية، سمعَا صوت طلقات نارية تدوي داخل حدود القرية وخارجها، فتذكر جَدِّي على الفور قلق السيد جانغ روا لو قُبَيل توجهه وأبي إلى المدينة، وتذكَّر أيضًا ما كان يدور برأسه خلال الأيام الأخيرة، وعرف على الفور أن المصيبة قد نزلت بهذه القرية. وعلى الرغم من المُخاطرة الشديدة في الخروج من المدينة، فإنه قد استطاع أن يخرج منها بهذا الخروف، وسيفعل ما يمكنه أن يفعله تجاه هذه القرية.

قام جَدِّي وأبي بحمل الخروف شبه الميت إلى داخل حقول الذُّرَة. ثم قام جَدِّي بفك الحبل الذي يربط مؤخرة الخروف. وعندما قام جَدِّي بفك الحبل تذكر مشهد قيام تلك المرأة بوضع الطلقات النارية داخل مؤخرة الخروف، وقد نجحت في وضع خمسمائة وخمسين طلقة داخل مؤخرته حتى تَقوَّسَت مؤخرة الخروف من شدة ثقلها. وكان أبي في غاية القلق طوال الطريق، فكان أحيانًا يساوره القلق لأن تنفجر الطلقات النارية داخل بطن الخروف، وأحيانًا أخرى يخشى أن يقوم الخروف المسكين بابتلاع هذا العدد الكبير من الطلقات النارية.

قام أبي بفتح مؤخرة الخروف لتنزل منها كمية كبيرة من الفضلات التي تخزنت لفترة طويلة، حتى شعر أبي باشمئزاز شديد من تلك الرائحة الكريهة التي ملأت المكان.

وساعد جَدِّي الخروف على النهوض، ثم راح ينظر في جميع الاتجاهات من حوله، ثم بدأت تتساقط الطلقات النارية من بطن الخروف.

وبدأ جَدِّي وأبي في جَمْع الطلقات النارية من على الأرض ووضعها داخل جوال وقد انشغلَا انشغالًا تامًّا بجمع الطلقات النارية دون أن يَهتمَّا بأمر الخروف المسكين، ثم خرجَا من حقول الذُّرَة قاصدين القرية.

كان الشياطين اليابانيون قد نجحُوا في محاصرة القرية حصارًا تامًّا وامتلأتْ سماء القرية بدخان الطلقات النارية، وكانت هناك كُرات من اللهب تبدو مشتعلة في سماء القرية. وبدأ جَدِّي وأبي بالنظر إلى المدافع الصغيرة التي كانت مدسوسة داخل حقول الذُّرَة. والتي كان يبلغ عددها ثمانية مدافع، يصل طول ماسورة المدفع إلى نصف طول الإنسان، تتقدم الماسورة فتحة دقيقة. كان هناك ما يزيد على عشرين جنديًّا يابانيًّا في زي عسكري أصفر يقومون بإطلاق المدافع صوب القرية، وكان هناك أيضًا شيطان ياباني نحيف جدًّا يقف هناك ويلوح بعلمٍ صغيرٍ. وكان يقف خلف كل مدافع شيطان ياباني ممسكًا بدانة المدفع في انتظار إشارة ذلك الشيطان النحيف الممسك بالعلم. وبمجرد أن أطلق الشياطين المدافع تزلزلت الأرض من حولهم وامتلأت سماء المنطقة بالدخان الكثيف، كانت هناك أشياء سوداء صغيرة تطير إلى السماء محدثةً صوتًا قويًّا قبل أن تسقط على السور الترابي. ثم قام الشياطين بإطلاق كمية جديدة من المدافع، وعندها أصيب جَدِّي بذعر شديد وكأنه قد أفاق من حلم طويل وأخذ بمسدسه وأردى ذلك الشيطان الياباني النحيف قتيلًا. وبمجرد أن انتبه أبي إلى تساقط ذلك الياباني النحيف مثل الفجلة الجافة عرف على الفور أنه قد دقت طبول الحرب. فأمسك بسلاحه وأطلق طلقة نحو قاعدة المدافع اليابانية. قام الشياطين بإطلاق النار تجاه جَدِّي وأبي، حتى قام جَدِّي بسحب أبي إلى داخل حقول الذُّرَة.

وهنا بدأ هجوم الشياطين اليابانيين والقوات التابعة للإمبراطور، كانت القوات التابعة للإمبراطور في المقدمة، بينما كان الشياطين من خلفهم.

وهكذا تم إطلاق عدد من القذائف داخل حقول الذُّرَة. بينما كان السور الترابي ساكنًا تمامًا. وعندما تقدَّمَت القوات التابعة للإمبراطور إلى السور الترابي، بدأت تدوي عشرات القذائف اليدوية على السور الترابي — ولم يكن جَدِّي يعلم أن هذه قذائف غير جيدة اشتراها السيد جانغ روا لو من مصنع فريق لينغ ماتزه للأسلحة — وبمجرد أن انفجرت القذائف دفعة واحدة، سقط عشرات من جنود القوات التابعة للإمبراطور، بينما لاذ البعض الآخر منهم بالفرار، وقد تبعهم الشياطين اليابانيون. وظهر على السور الترابي عشرات الأشخاص يحملون أسلحة ومدافع محلية الصنع، وراحوا يطلقون النيران بسرعة ثم اختفوا ثانيةً. ليعم السكون فوق السور الترابي من جديد.

وقد عرف أبي وجدي فيما بعد، أن هذه المعركة الحامية كانت قد وقعت أيضًا في شمال القرية وشرقها وغربها.

ثم بدأ الشياطين في إطلاق المدافع من جديد، وقد حدَّدُوا هدفهم هذه المرة صوب مَدخَلَي القرية، حتى استطاعوا تحطيمهما وأحدثَا بهما فتحة كبيرة.

قام جَدِّي وأبي بقصف الجنود اليابانيين. أطلق جَدِّي أربع طلقات أسقطت اثنين من الشياطين. بينما أطلق أبي طلقة واحدة، وقد حدَّد أبي هدفه صوب جندي ياباني كان يقف فوق المدفع ممسكًا بدانته. ولمزيد من الأمان، كان أبي قد أمسك بمسدسه البرونينج بكلتا يديه وصوَّب نحو الجندي الياباني طلقة أصابت مؤخرته. فراح الجندي الياباني يتهاوى حتى وقع على المدفع الذي انفجرت دانته وكادت أن تفتك بأبي.

وبعد عدة سنوات من ذلك اليوم، كان أبي قد نسي ذلك الانتصار العظيم الذي حقَّقَتْه تلك الطلقة.

وهكذا تم تدمير الباب الرئيسي للسور الترابي، ثم بدأ الجنود اليابانيون المُمْتَطون الخيول في الهجوم على القرية شاهِرِين سيوفهم. وقد راح أبي ينظر إلى تلك الخيول الأجنبية الجميلة وهو في غاية الإعجاب بها. وهكذا انطلقَت الخيول اليابانية وسط الذُّرَة حيث اعترضَتْها أعواد الذُّرَة حتى كانت لا تستطيع أن تجري بسرعتها المعهودة. وعندما هاجمت الخيول باب السور، كانت قد تجمعت هنالك وراحت تضرب بأقدامها وكأنها تقف أمام باب الإسطبل الخاص بها. وبينما هي كذلك، إذا بعدد كبير من المناجل الخشبية والأمشاط الحديدية وتقريبًا كميات كبيرة من الذُّرَة المطبوخة تسقط فوق رءوس الجنود اليابانيين، الذين راحوا يضعون أيديهم فوق رءوسهم لحمايتها من تلك الأشياء التي تنزل عليهم من جميع الاتجاهات، وقد راحت الخيول تضرب بأقدامها مذعورة، فمنها ما حاول اقتحام السور ودخل إلى القرية ومنها ما لاذ بالفرار.

وعندما رأى جَدِّي وأبي مشهد هجوم الخيول، ارتسمت على وجهيهما ابتسامة غريبة.

وهكذا أثارت مضايقات جَدِّي وأبي تحرك الأعداد الغفيرة من القوات التابعة للإمبراطور، ثم شاركت بعد ذلك جموع كبيرة من الخيول. وكانت السيوف اليابانية قد لمعت أكثر من مرة فوق رأس أبي، ولكن كانت تمنعها في كل مرة أوراق الذُّرَة وأعوادها التي كان أبي يحتمي بها. كما أصيبت صلعة جَدِّي بطلقة نارية أحدثت بها فتحة واضحة. استطاعت أعواد الذُّرَة الكثيفة أن تحمي حياة جَدِّي وأبي وتنقذهما، كانَا يَفرَّان من أمام القوات اليابانية مثل الأرانب ويلجآن إلى أعواد الذُّرَة لينزرِعَا أسفلها زرعًا. وأخيرًا عند الظهيرة، استطاع جَدِّي وأبي أن يَفرَّا إلى ضفة نهر موا شوى.

وقد قامَا هنالك بإحصاء ما تبقى معهم من طلقات نارية، ثم دَلفَا ثانيةً إلى داخل حقول الذُّرَة. وما إن سارَا مسافة حوالي نصف كيلومتر، حتى سمعَا أمامهمَا صوتًا ينادي قائلًا: «أيها الرفاق، انقَضُّوا، انقَضُّوا للقضاء على الإمبريالية اليابانية.»

وبعد أن سكت الصوت، سمعَا صوت صافرة إنذار عسكرية، كان صوتها قويًّا وكأنه صوت انفجار زوج من الرشاشات الثقيلة داخل حقول الذُّرَة.

شعر جَدِّي وأبي بإثارة وانقضَّا نحو مصدر الصوت. وما إن تقدَّمَا إلى الأمام، لاحظَا أنه لا يوجد أحد في هذا المكان، وشاهدَا فقط زوجًا من علب الزيت الحديدية مُعلَّقة على أعواد الذُّرَة، وهناك بداخلها زوج من عناقيد المفرقعات تنفجر بصوت مدوٍّ.

ثم سمعَا صوت الإنذار العسكري وصوت الصياح ثانيةً.

فابتسم جَدِّي ابتسامة ساخرة ثم قال: «تبًّا لكم أبناء الجيش الثامن، لقد تَعلَّمتُم هذه الحيل.»

وهكذا راحت العلب الحديدية تحدث صوتًا مدوِّيًا استطاع أن يرغم حبات الذُّرَة التي تعهدها جيدًا على التساقط.

كانت القوات اليابانية والقوات التابعة للإمبراطور تارةً تطلق النيران وتارةً أخرى تهاجم للأمام. وهنا سحب جَدِّي أبي وتراجعَا إلى الخلف. ثم تقدَّم عدد من أفراد الجيش الثامن إلى الأمام وهم يضعون القذائف اليدوية حول خصورهم. كان أبي قد رأى أحدهم يسجد على الأرض ممسكًا بمسدس، ثم أطلق طلقة تجاه أعواد الذُّرَة التي كانت تهتز بشدة بسبب اصطدام الخيول اليابانية بها، كان صوت الطلقة ضعيفًا. ثم راح ذلك الرجل من الجيش الثامن الذي أطلق الطلقة يجر كمية من أغلفة الطلقات النارية، ولكنه بدَا غير قادر على جَرِّها. تقدَّم حصان ياباني نحو الرجل، وقد رأى أبي الجندي الياباني الذي كان يركب الحصان يهوي على الرجل بخنجره، فألقى الرجل بمسدسه وفرَّ هاربًا، فلاحقه الجندي الياباني، وقد أصابه الخنجر في رأسه إصابة خطيرة شقت رأسه نصفين، وسالت منها كمية كبيرة من الدماء ملأت أوراق الذُّرَة المحيطة به. فأغمض أبي عينيه عن هذا المنظر البشع وانبطح على الأرض ليتفادى النظر إلى الرجل الجريح.

استطاعت الخيول اليابانية أن تفرق بين جَدِّي وأبي. وغطت الشمس أعواد الذُّرَة، ومرت ثلاثة ثعالب من أمام أبي، فمد أبي يده وأمسك بالذيل اللطيف لأحدهم، فسمع على الفور صوت صياح ثعالب داخل حقول الذُّرَة، وقفز نحوه ثعلب كبير ذو شعر أحمر وأعلن عن غضبه تجاه أبي، فهبَّ أبي للدفاع عن نفسه حتى استطاع طرد الثعلب الكبير والصغير.

ودَوت أصوات الطلقات النارية في شرق القرية وغربها وشمالها، في حين بدت المنطقة الجنوبية من القرية هادئة وساكنة تمامًا. وراح أبي بدايةً ينادي جَدِّي بصوت خفيض، ثم ارتفع صوت صياحه عاليًا. ولكنه لم يسمع صوت جدي. وظلَّلت الغيوم رأس أبي، فراح يجري قلقًا نحو مصدر الطلقات النارية. وقد بدت حقول الذُّرَة أكثر ظلامًا، وبدا المنظر داخلها مرعبًا جدًّا، وهنا أجهش أبي بالبكاء.

وخلال رحلة البحث عن أبيه، كان أبي قد صادف ثلاثة جثث لأفراد من الجيش الثامن التابع للحزب الشيوعي، ولقوا حتفهم بواسطة سيوف الشياطين اليابانيين، وبدت وجوه الجثث الثلاثة مرعبة جدًّا. واقتحم أبي جماعة من أهالي البلدة كانوا يمسكون بحبال وسلاسل، جالسين داخل حقول الذُّرَة وقد لفهم الخوف والرعب الشديدان.

سألهم أبي: «هل رأيتم أبي؟»

فسأله الأهالي: «أيها الابن الصغير، هل فتحت القرية بعد؟»

وقد عرف أبي لهجة مدينة جياو التي كانوا يتحدثون بها. وسمع صوت شيخ كبير يوصي ابنه قائلًا: «الأعمدة الفضية، الأعمدة الفضية، تذكر هذا جيدًا، وبالطبع فإنني أريد أيضًا الألحفة القطنية المتهالِكة، وابدأ بالحصول على قِدر صناعة الطعام فقد تهالك القِدر الذي نستخدمه منذ مدة طويلة.»

ولم يُعِرْهم أبي أدنى اهتمام، واستمر في طريقه صوب الشمال. وعندما اقترب من القرية، ظهرت أمامه تلك المشاهد التي كثيرًا ما راودت أمه وأباه وراودته هو شخصيًّا في أحلامه. ودوَّت أصوات الطلقات النارية في شرق وشمال وغرب القرية، وخرج جميع الأهالي، شيوخ وأطفال ورجال ونساء مذعورون، وراحوا يحتمون بحقول الذُّرَة الممتدة خارج حدود القرية.

دَوَّت الطلقات النارية بالقرب من أبي، رأى حينها عددًا كبيرًا من الطلقات النارية تطير أمامه وتُزَلْزِل حقول الذُّرَة. حتى أسقطَتْ تلك الطلقات النارية هؤلاء الأهالي الفارِّين وأعواد الذُّرَة التي كانوا يحتمون بها. وسالت دماؤهم لتغطي مساحة كبيرة جدًّا أمام مرمى بصره. أصيب أبي بذهول شديد، وجلس مكانه وراح ينظر إلى برك الدماء التي ملأت المكان من حوله.

وهكذا نجحت القوات اليابانية في دخول القرية.

وغربت شمس ذلك اليوم مخضبة بدماء الشهداء، واقترب موعد طلوع قمر يوم عيد منتصف الخريف من شهر أغسطس فوق حقول الذُّرَة الممتدة أمام القرية.

وهنا سمع أبي صوت جَدِّي يناديه بصوت مبحوح: «يا دوو قوان!»

١  مسدس تزه لاي ده أو كما يطلق عليه أيضًا مسدس بوا كه: هو اسم دَرَج على إطلاقه عامة الشعب الصيني على مسدس ماوزر C96 عياره: (٦٣٫٧ × ٢٥ملم)، (٩ × ١٩ملم بارابيليوم)، الذي كان قد انتشر استخدامه في مطلع عصر جمهورية الصين الوطنية (١٩١١–١٩٤٩م) بين القوات العسكرية المحلية غير الحكومية، غير أن معظم الكميات التي كانت تُباع داخل الصين من هذا النوع من المسدسات لم يكن من صنع شركة ماوزر الألمانية العريقة، وإنما كان يتم تصنيعه في إسبانيا، كما أن المهندسين الإسبان كانوا قد عدَّلوا فيه بعض التعديلات وجعلوه مسدسًا آليًّا ذا جودة عالية. (المترجم)
٢  الجيش الثامن: وهو الجيش الثامن من الجيش الثوري الوطني الصيني، الذي يعرف في اللغة الصينية بجيش با لو، وهو أصل جيش التحرير الشعبي الصيني أو الجيش الأحمر الحالي، وقد تكوَّن الجيش الثامن في ٢٢ من أغسطس عام ١٩٣٧م بتوحيد قوات الجيش الأول والثاني والرابع من قوات الجيش الأحمر للعمال والفلاحين الصينيين، الذي تولى قيادته آنذاك القائد والزعيم جو ده، وكان قد تغير اسمه في سبتمبر عام ١٩٣٧م إلى السرية الثامنة عشرة، إلا أنه قد اعتاد الجميع على تسميته الجيش الثامن، وخلال الحرب الأهلية التي نشأت بين الحزب الوطني والحزب الشيوعي فيما بين عام ١٩٤٥–١٩٤٩م، أُطلِق عليه جيش التحرير الشعبي الصيني. (المترجم)
٣  عيد منتصف الخريف: الذي يوافق الخامس عشر من شهر أغسطس حسب التقويم القمري الصيني من كل عام (الخامس عشر من سبتمبر حسب التقويم الميلادي)، هو أحد الأعياد الصينية التقليدية الأربعة الكبرى، التي تضم عيد الربيع، وعيد منتصف الخريف، وعيد الفوانيس، وعيد قوارب التنين. يتم الاحتفال بهذا العيد أيضًا في اليابان وفيتنام وشبه الجزيرة الكورية فهو أحد الأعياد التقليدية المهمة في منطقة شرق آسيا. ويعتبر من الأعياد التي تُعطَّل فيها المصالح الحكومية لمدة يوم كامل في الصين. ويتمتع هذا العيد ببعض العادات والتقاليد الخاصة مثل تناوُل الكعك وبعض الرقصات. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤