جنازة وسط الذُّرَة
١
سطعت شمس أبريل الحارقة على نهر موا شوى، وبدت مياهه دافئة مثل زيت الصويا الذي تم عَصْره للتَّوِّ. وبدأت تخرج من النهر جماعات من صغار الضفادع راحت تنتشر في كل مكان. وامتلأتْ ضفة النهر بفضلات الكلاب. وكان هذا اليوم يومًا سارًّا بالنسبة لجماعات الطيور المُحلِّقة فوق النهر. فراحت العصافير تشدو بأصواتها الجميلة. وراحت طيور السنونو تسبح وسط النهر. وبدت التربة السوداء بقرية دونغ بيي بمدينة قاو مي في حركة مستمرة تحت أجنحة الطيور المُحلِّقة فوق سمائها. وهبَّت الرياح الجنوبية الغربية الحارة. وتَناثَرت كميات كبيرة من الأتربة على طريق جياو بينغ العام.
في ربيع عام ١٩٤١م، وخلال الاشتباك الذي وقع بين فرقة لينغ ماتزه التابعة للحزب الوطني، وفرقة جياو قاو التابعة للحزب الشيوعي، وخلال الهجوم الذي خطَّط له جَدِّي زعيم التنظيمات الحديدية، وخلال الالتحام مع القوات الموالية لليابانيين، تَدهوَرَت حالة لينغ ماتزه كثيرًا. وقيل إنه فرَّ هاربًا إلى غابات منطقة سان خه الجبلية للراحة والاستشفاء، بينما اختبأت قوات جياو قاو التابعة للحزب الشيوعي في منطقة دا تزه الجبلية حتى تلتئم جراحهم. وعلى الرغم من التنظيمات الحديدية التي كوَّنها جَدِّي مع عدد من منافسيه القُدامى، واستطاعوا خلال فترة زمنية قصيرة تطويرها ليكونوا قوة عسكرية تَمتلِك ما يزيد على مائتي بندقية وما يزيد على خمسين حصانًا من الخيول الأصيلة المدربة على الحرب، نقول على الرغم من ذلك فإنه بسبب غرابة هجماتهم والطابع الديني الذي كان يغلب عليهم، لم يَتمكَّنُوا من جَذْب انتباه القوات اليابانية والقوات الصينية الموالية لليابانيين. ويُعْتَبر عام ١٩٤١م أكثر الأعوام التي شَهدَت فيها حرب المقاومة ضد اليابان وحشية وقسوة لم يَسبِق لها مثيل خلال سنوات هذه الحرب، ولكن على الرغم من ذلك، كانت قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي تبدو خلال هذا العام قرية هادئة يَعمُّها السلام والأمان؛ إذ قام الأهالي ببذر محصول الذُّرَة الجديد فوق الجثث الكثيرة التي امتلأت بها حقولُهم. وبعد بذر البذور، كانت قد نزلت نوبة أمطار متوسطة، خضبت الأراضي الخصبة بقرية دونغ بيي، وسَطعَت الشمس حتى ظهرت براعم الذُّرَة. وقبل موعد المرة الأولى لحرث الذُّرَة، حل موعد اليوم الثامن من الشهر الرابع، موعد جنازة جدتي، التي صادفت موسم الفراغ من العمل في مجال الزراعة.
وفي مغرب اليوم السابع وعشية يوم الجنازة، امتلأت القرية بالأهالي الذين خرجوا يُلَمْلِمون الأشياء الكثيرة التي دَمَّرتْها النيران التي أصابت القرية في الخامس عشر من الشهر الثامن عام ١٩٣٩م. وقفت عشرات العربات التي تَجرُّها الحيوانات في عُرْض الطُّرُقات التي امتلأت بالغبار الشديد، وقفت العربات الكبيرة لتفريغ حمولتها من البهائم: الحمير والأبقار والأشجار. وسطعت شمس الربيع على جلود تلك البهائم، واكْتَست أوراق الأشجار التي لم تنضج بعدُ بالحمرة، وبدَت أوراقها مثل الأوراق النَّقدية القديمة التي كانت تبدو مطبوعة على ظهور البهائم المحيطة بها.
وعند غروب شمس ذلك اليوم، دخل القرية طبيب مُتخصِّص في الطب التقليدي من خلال الطريق الواقع عند الناحية الغربية للقرية على ظهر بغل. وظهر رجل ذو أنف أسود كبير، يرمي جميع ما حوله بنظرات حادَّة. وما إن دخل الرجل القرية حتى نزل عن ظهر بغله النحيف، وراح يهز الجرس النحاسي اللامع المُعلَّق في رقبة البغل، ومضى يسحب البغل من الحبل الأزرق المربوط برقبته، ومضى إلى الأمام قاصدًا وسط القرية. وكانت قد بَدَت على البغل النحيف معالم الشيخوخة، فكان يسير بخطوات متباطئة وبدَا جسده ممتلئًا بالقروح.
مضى الطبيب وبغله النحيف يتقدمان جموع الأهالي، حتى أثارَا فضول تلك الجموع الكبيرة المحتشدة التي تَجمَّعَت لرؤية الطبيب عن قُرب. بدَا الرجل وبغله غريبين تمامًا، وبدَا صوت الجرس النحاسي صوتًا ساحرًا. وتَبِعَه عدد من الأهالي الذين كانوا في غاية الإثارة لمراقبة هذا الرجل، مَضَوا وراءه مُسرعِين حتى تطاير الغبار من تحت أقدامهم ليغطي الرجل. فراح الرجل يحرك عينيه ويمسح على أنفه التي بدت ملفتة للجميع. وعطس الرجل عطسة قوية، كما خرجت ريح كريهة من بطن البغل النحيف. فوقف الأهالي جامدين، ثم هموا بالضحك وتَفرَّقوا وراح كل منهم يبحث لنفسه عن مأوى.
اتَّشحَت القرية بالظلام، وهَبَّتْ عليها رياح باردة قادِمة من الخلاء الواسع خارج حدود القرية، وسمع الأهالي أصوات نقيق الضفادع القادم من اتجاه نهر موا شوى، وبدأت جموع القادمين إلى القرية للمشارَكة في جنازة جدتي في التجمع، لم تَسعهُم حدود القرية، فخرجوا إلى حقول الذُّرَة واتخذوها مأوى لهم حتى الصباح، تم تدمير مساحات شاسعة من حقول الذُّرَة خلال الجنازة، دمرتها جموع الأهالي التي افترشت هذه الحقول طوال فترة الجنازة، واستمر هذا التدهور والدَّمار الذي أصاب هذه المساحات الشاسعة من الذُّرَة حتى شهر مايو عندما نزلت الأمطار التي أعادت الحياة لهذه المساحات الكبيرة.
مضى الطبيب يتقدم إلى الأمام وهو يهز الجرس النحاسي. وبعد أن قطع الطريق الترابي الممتد وسط القرية، راح يلف حول الخيمة المُؤقَّتة التي نصَبَتْها عصابة جَدِّي الحديدية. وكانت أكبر خيمة تشهدها القرية. تم وضع الصندوق الخاص بروح جدتي وسط الخيمة، وامتلأت الخيمة بالشموع التي أضاءتها تمامًا. وكان يقف عند المدخل اثنان من أفراد التنظيمات الحديدية مُقلَّدَيْن بالسلاح، وانعكس الضوء على صلعتهما، كانت رءوس جميع أفراد التنظيمات الحديدية على هذه الشاكلة، والإنسان يراوده الشعور بالخوف بمجرد النظر إلى صلعة هؤلاء الأفراد. أحيطت الخيمة الكبيرة بما يزيد على مائتي رجل من أفراد التنظيمات الحديدية ذوي الرءوس الصلعاء، ورُبِط بالأشجار المحيطة بالخيمة ما يزيد على خمسين رأسًا من الخيل المدرَّبة على الحرب. وكانت الخيول آنذاك منهمكة في تَناوُل العلف الموضوع أمامها، تُصدِر أصواتًا وتهز ذيولها لإبعاد الذباب الذي كان يضايقها. وكان السايس منشغلًا بوضع المزيد من الأعشاب أمام الخيول، وقد انتشرت أسفل أشجار الصفصاف رائحة حبوب الذُّرَة الرفيعة الذكية.
وأغْرَت هذه الأعشاب الخضراء ذات الرائحة الذكية البغل النحيف، فراح يجتهد في التَّقرُّب من تلك الخيول المربوطة إلى أشجار الصفصاف، بينما راح الطبيب يتابع بغله بابتسامة مصطنعة، وأخذ يتمتم وكأنه يريد أن يتحدث إلى بغله: «هل اشتهيتَه أيها البغل؟ فلتسمع مني هذه الحكمة، فإنني قد تَعرَّضتُ لمواقف مشابهة لما تتعرض له الآن، فالإنسان قد يقدم حياته ثمنًا لسعيه وراء المال والجاه، والحيوان مثلك قد يُقدِّم حياته ثمنًا للسعي وراء الطعام، فلا يجب استعجال الأمور، فما أقصر عمر الزهور، وإذا كان بوسعك أن تصفح عن الآخَرِين فاصفح عنهم وامْنَحهم الفرص المناسبة، وثق تمامًا أن ذلك ليس بسبب ضعفك وحماقتك، وإنك ستجني فيما بعد ثمرة ما تقدمه من معروف …»
أثار كلام الطبيب وتَصرُّفاته انتباه أحد أعضاء التنظيمات الحديدية كان متخفيًا في زِي العامة لمراقبة جميع ما يحدث خلال ذلك اليوم المشهود. تبعه اثنان من أفراد التنظيم، وانتظروه وهو يهذي بكلامه هذا حتى وصل قريبًا من تَجمُّع الخيول، فوقف أحدهم أمامه والآخر خلفه وصوبوا نحوه مسدساتهم وقَبَضوا عليه.
ولم يَبدُ على الرجل أدنى خوف أو ارتباك، راح يضحك بلهجة صارمة، بينما انشغل أفراد التنظيمات الحديدية بالحديث إلى بعضهم بعضًا. انشغل ذلك الذي كان يقف أمام الطبيب بالنظر إلى عينيه اللتين بدَتَا مثل قطعة فحم مشتعلة، ونظر الآخر إلى رقبته السوداء التي كانت تبدو صلبة ومستقيمة. وهنا سقط البغل النحيف على الأرض محدثًا صوتًا مرتفعًا، ثم سمعوا صوت صراع زوج من الخيول على بعض من العُشْب.
وأضيئت داخل الخيمة الرئيسية أربع وعشرون شمعة حمراء، كان ضوء الشموع لا يَتوقَّف عن الحركة في جميع الاتجاهات، حتى بدَا كل شيء داخل الخيمة يَتحرَّك بصورة مريبة. وكان الصندوق الذي وُضِعَت فيه روح جدتي لا يزال وسط الخيمة، أحاطت به الشموع الحمراء التي اكتست بطبقة ذهبية وبدَا لونها ساحرًا. وضع حول الصندوق بعض الأزهار وقصاصات على هيئة صبي وفتاة. كانت هذه القصاصات من أعمال السيد «باو إن» فنان الورق المعروف وصنعها من سيقان الذُّرَة، فقد كانت الأشياء العادية البسيطة تَتحوَّل تحت يدي هذا الفنان إلى أعمال فنية حية، وُضِعَ خلف الصندوق شاهِدٌ لجدتي مكتوب عليه: المرحومة داي كانت سيدة مطيعة للآلهة وكانت زوجة صالحة مخلصة للسيد يو وأُمًّا حنونًا للطفل دوو قوان. ووُضِع أمام الشاهد مِبْخَرة ذات رائحة ذكية ممتلئة بأعواد البخور المشمشية اللون، كانت تستمر لفترة طويلة حتى تحترق تمامًا. وظهر أبي آنذاك برأسه الصلعاء تعبيرًا عن أنه ينتمي للعصابة الحديدية. كان جَدِّي قد رسم على صلعته شكل نصف قمر، وجلس هو والسيد أبو شامة رئيس التنظيم إلى جانب الخيمة، وراحَا ينظران إلى السيد الراهب سه شه العالم بأمور الجنازات، وجاء من مدينة جيا وشيان وكان منشغلًا بتدريب أبي على تقديم التحية لروح أمه. كان الراهب سه رجلًا في حوالي الستين من عمره، يطلق ذقنًا بيضاء تميل إلى اللون الفضي، وذا أسنان ناصعة البياض، ولسان حاذق، تعرف من الوهلة الأولى أنه إنسان عليم واسع المعرفة ماهر في أداء عمله؛ كان السيد سه قد انهمك في تدريب أبي غير عابئ بعدم اهتمامه، فقد كان لا يُحسن الانتباه إلى محاكاة حركات السيد الراهب سه.
كان جَدِّي يعنف أبي بلهجة صارمة قائلًا: «دوو قوان، لا يمكن التَّساهل في هذه الأمور، واعلم أنه يجب أن تفعل أي شيء لأجل أن تكون ابنًا بارًّا بروح أمك!»
فاستمع أبي إلى نصيحة جَدِّي واهتم بالتدريبات لبعض الوقت، وما إن ينتبه إلى انشغال جَدِّي بالحديث مع أبي شامة حتى يُعاوِد التدريب بصورة عشوائية. دخل نفر إلى داخل الخيمة للتفاوض مع الراهب حول بعض الحسابات الخاصة بالجنازة، وخرج معهم الراهب بعد أن أذن له جدي بالخروج، وكانت التنظيمات الحديدية قد أنفقَت مبلغًا كبيرًا من المال على هذه الجنازة المهيبة التي أقيمت لتأبين جدتي. ولكي يَتمكَّن جَدِّي من جمع هذا المبلغ الكبير بطريقته غير المشروعة، بعد أن انسحبت قوات لينغ ماتزه وقوات جياو قاو من البلدة، قام جَدِّي بِنَشْر عملة مالية ورقية مصنوعة من أوراق العشب داخل قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، استحدث ورقتين بفئة ألف يوان وعشرة آلاف يوان، كانت صورة هذه الأوراق النقدية بسيطة جدًّا (كان يظهر عليها صورة مخلوق غريب شبيه بالإنسان يَرْكَب فوق نَمِر)، وكانت الطباعة غير دقيقة تمامًا (كانت تستخدم الألواح الخشبية المستخدمة في طباعة ملصقات عيد الربيع). أيامها، كانت هناك على الأقل أربعة أنواع من الأوراق النقدية تنتشر في قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي. أما قيمة كل نوع من هذه الأوراق النقدية وصعودها وهبوطها في السوق، فقد كان يتوقف بشكل رئيسي على نفوذ الشخص الذي أصدرها. واعتماد الجهات المسلحة على السلاح لإصدار عُملة مُعيَّنة، كان نوعًا من الظلم الشديد للعامة. وقد اعتمد جَدِّي على هذه الطريقة لكي يتمكن من توفير المبالغ الطائلة التي تكلفتها الجنازة المهيبة التي أقامها لجدتي. وبعد انسحاب قوات لينغ ماتزه التابعة للحزب الوطني وقوات جياو قاو التابعة للحزب الشيوعي، كانت الأوراق المالية التي أَصدرَتْها فرقة جَدِّي هي أكثر الأوراق المالية ثباتًا في قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، غير أن هذا الوضع الجيد قد استمر لمدة بضعة شهور فقط، فبعد انتهاء المراسم الجنائزية المهيبة التي أُقِيمَت لجدتي، كانت هذه الأوراق قد تحوَّلت إلى أوراق مالية عديمة القيمة.
ودخل الطبيب الخيمة تحت قبضة اثنين من أفراد التنظيم، ضايقه ضوء الشموع التي كانت تمتلئ بها الخيمة.
وسألهم جَدِّي غاضبًا: «ماذا بكم!»
فسجد أحدهم على ركبة واحدة ووضع يديه على صلعته ثم قال: «جِئْنَا لِنُعلِمَكم أيها النائب أننا قبضنا على هذا الخائن!»
فضرب رئيس التنظيم السيد أبو شامة، ذلك الرجل الأسود الضخم، المنضدة الممدودة أمامه، ثم صاح بصوت مرتفع: «اسحبوه إلى خارج الخيمة وقطعوه إربًا إربًا، آتوني بقلبه!»
فتحدث جَدِّي إلى الرجلين قائلًا: «مهلًا مهلًا!» ثم تَوجَّه بحديث إلى السيد رئيس التنظيم قائلًا: «يا أخي الأكبر، ألا ترى أنه يجب علينا أن نستقصي حقيقة الأمر قبل أن نأمر بقتله؟»
فضرب أبو شامة إبريق الشاي الموضوع أعلى المنضدة والمصنوع من الصلصال ثم وقف وقال: «عمَّ نسأله ابن اللعينة؟!» ثم استَلَّ بندقيته المربوطة حول خصره وراح ينظر غاضبًا إلى ذلك الرجل الذي دخل وأذاع عليهم خبر هذا الخائن.
قال الرجل عضو التنظيم وهو في غاية الرعب: «أيها الرئيس!»
فراح أبو شامة يكيل له من السباب اللعين قائلًا: «اللعنة على أمك يا جو شيون، ألا تزال تعتبرني رئيسًا؟ يا ابن اللعينة، حَذارِ أن تجعلني أراك ثانيةً، إنني أكره رؤيتك أيها اللعين ابن اللعينة!» ثم ضرب أبو شامة الإبريق الذي سقط من أعلى المنضدة حتى تفتت إلى قطع صغيرة، تطايرت ودخلت في قلب الأزهار التي كانت تحيط بتابوت جدتي.
قام رجل في عمر جَدِّي تقريبًا وانحنى قليلًا وراح يجمع القطع الصغيرة التي ملأت المكان وتطايرت إلى الأزهار الموضوعة حول التابوت، وألقى بها إلى خارج الخيمة.
وخاطب جَدِّي ذلك الرجل الذي قام بجمع قطع الإبريق قائلًا: «يا فو لاي، ساعد السيد الرئيس واصطحبه ليأخذ قسطًا من الراحة، لقد شرب حتى الثمالة!»
فتقدم السيد فو لاي وسَنَد ذراعَي الرئيس أبو شامة، الذي أزاحه بعيدًا عنه. ثم قال: «تقول إنني سكرتُ، مَن هذا الذي شرب حتى الثمالة؟ أيها الكلب الناكر للجميل! أنا الذي اجتهدتُ في تكوين هذا التنظيم وبنيتُه بنفسي، هل تنوي أن تحصد ما زرعَتْ يداي بهذه البساطة؟ فالنمور تأكل أولًا ثم تطعم الكلاب والدببة! لم أخدعك من قبل، وأنا لستُ طمَّاعًا! كما أنني أعرف ما أفعل جيدًا! والأيام بيننا!»
فقال جدي: «أخي الفاضل، ألا تخشى أن تفقد شخصيتك أمام هذا الجمع الكبير من الإخوة؟»
ارتسمَتْ على وجه جَدِّي ابتسامة قاسية، وبدت تجاعيد وجهه المرعبة.
ومد أبو شامة يده إلى خصره وتَحسَّس زناد مسدسه، وبدت حنجرته متعبة فراح يسب جَدِّي بكلمات لاذعة: «اغرب عني أيها الكلب اللعين! اغرب عني أنت وكلبك الصغير أيها اللعين ابن اللعينة!»
فقال جدي: «دخول الحمام مش زي خروجه.»
فأخرج أبو شامة مسدسه وراح يلوح به في وجه جدي.
مد جَدِّي يده وأخذ كوبًا من النبيذ وشرب منه شربة، ثم تجشأ بصوت مسموع، ثم ألقى بما في جوفه من نبيذ في وجه أبي شامة. وما إن رفع جَدِّي يده قليلًا حتى سقط الكوب في حجم البيضة الكبيرة على مسدس أبي شامة، فتحطم الكوب إلى قطع صغيرة سقطت على الأرض. وانشغل أبو شامة بمسدسه.
فخاطبه جَدِّي بصوت قوي قائلًا: «اسحب سلاحك! فإن هناك حسابًا قديمًا لم أُصَفِّه معك، فلا تستعجل نهايتك.»
راح أبو شامة يتمتم بكلمات غير مفهومة، ثم أعاد المسدس إلى حيث كان، وعاد ليجلس على مقعده الذي كان جالسًا عليه منذ قليل.
فرماه جَدِّي بنظرة تمتلئ بالسخرية والازدراء الشديد، ورَدَّ هو على جَدِّي بنظرية أشد سخرية وازدراءً.
وفجأة سمعوا صوت ضحك ذلك الطبيب أو المُتَّهَم الخائن الذي كانت تعلو وجهه تعبيرات تسخر من جميع ما حوله، وقد استمر في الضحك المميت وراح يضرب بذراعه بشكل عشوائي وكأن أحدًا يجبره على ذلك. وشعر جميع من في الخيمة بالتوتر الشديد تجاه تَصرُّف هذا الرجل، وقد أصبحوا في حيرة من أمرهم. بينما كان الرجل لا يزال مستمرًّا في الضحك بشكلٍ مُلْفتٍ للنظر، وقد فاضت عيناه بالدموع من شدة الضحك.
فقال أبو العيون السود: «ما الذي يضحك يا ابن اللعينة؟»
وفجأة سكت الرجل عن الضحك، وقال بصوت صارم: «تسب أمي، فلتذهب إليها إذا كنتَ تشتهيها؟ لقد ماتت منذ زمن بعيد، وواراها التراب منذ عشر سنوات، فلتذهب إليها!»
فخرس لسان أبي شامة، ثم قفز أعلى المنضدة والمقاعد المصفوفة حولها وضرب الطبيب لكمة في وجهه. فسال الدم من وجهه مرورًا بأنفه ثم شفتيه حتى ذقنه.
سأله جدي: «ومَن الذي أرسلك إلى هنا؟»
فراح الطبيب يهز رقبته وكأنه قد ابتلع بعض الدماء التي أغرقت وجهه ثم قال: «أين بغلي؟ إلى أين أخذتم بغلي؟»
فقال أبو شامة: «إنه بالتأكيد أحد الخونة التابعين لليابانيين! آتوني بالسوط لكي أقوم بتأديب هذا الكلب!»
راح الطبيب يصيح بصوت مرتفع قائلًا: «بغلي! أعيدوا لي بغلي! أعيدوا لي بغلي.» ثم جرى مسرعًا نحو الخيمة، فاعترضه اثنان من أفراد التنظيمات الحديدية وأمسكوا بذراعيه، فراح يصارعهم بشكل جنوني. فرفع أحدهم يده عاليةً وضربه ضربة قوية على جبهته أحدثت صوتًا مسموعًا، حتى انحنت رقبته لأسفل مثل عود الذُّرَة المكسور، ثم سقط على الأرض.
قال جدي: «فَتِّشُوه!»
فقام أفراد التنظيم بتفتيشه تفتيشًا دقيقًا، وعثروا معه على زوج من الكرات الزجاجية التي يلعب بها الأطفال الصغار، كرة خضراء والأخرى حمراء زاهية. وهناك فتحتان صغيرتان في جانب كل كرة منهما. فأخذهما جَدِّي وراح يتفحصهما أمام ضوء الشموع، وقد بدت الكرتان لامعتَين جذَّابتَين. فهز جَدِّي رأسه بطريقة غير مفهومة، ووضع الكرتين فوق المنضدة. فتسلل أبي إلى جوار المنضدة حتى تَمكَّن من سرقتهما.
وقال جدي: «أعطوا أحدهما للأخ فو لاي.»
وهنا سارع جَدِّي بمد يده أمام وجه فو لاي خادم أبي شامة وقال: «أيهما تريد؟»
فقال فو لاي: «أريد الكرة الحمراء.»
قال أبي: «لا يمكن، سأعطيك الخضراء!»
فرد فو لاي: «إنني أريد الكرة الحمراء!»
أصرَّ أبي على موقفِه قائلًا: «سأعطيك الكرة الخضراء.»
فقال فو لاي مضطرًّا: «حسنًا فلتكن الكرة الخضراء.» ثم مد يده وأخذ الكرة الخضراء.
واستطاع الطبيب أن يرفع رقبته رويدًا رويدًا، ولم تتوقف عيناه عن إرسال تلك النظرات الحادَّة.
فسأله جدي: «فَلْتُجِب، هل أنت أحد الخونة التابعين لليابانيين؟»
فرح الطبيب يردد مثل الأطفال جملته المعهودة: «بغلي! بغلي! لن أتَفوَّه بكلمة واحدة حتى تعيدوا لي بغلي!»
ضحك جَدِّي ضحكة طفولية، وقال بصدر رحب: «فَلْتأْتوا له ببغله، وَلْنَرَ ماذا هو فاعِل.»
وجاءوا له بذلك البغل النحيف إلى الخيمة، وما إن نظر البغل إلى الشموع المضاءة والتابوت والأوراق التي تمتلئ بها الخيمة حتى شعر برعب شديد ولم يحتمل الوقوف أمام الخيمة. فتقدَّم إليه صاحبه ووَضَع يديه فوق عينيه وسحبه إلى داخل الخيمة. ووقف البغل أمام جَدِّي وأمام أبي شامة وغيرهما من رجال التنظيم وأرجله النحيفة لا تتوقف عن الارتعاش، وأخرج ريحًا تجاه الصندوق الذي يحتوي على روح جدتي.
احتضن الطبيب رقبة البغل، وراح يمسح على جبهته التي بدت جامدة مثل لوح الخشب، وراح يخاطبه بودٍّ: «أيها الرفيق، هل أنت خائف؟ لا تَخَفْ، نعم أقول لك لا تَخَفْ، لا تَخَفْ حتى إذا أصَرُّوا على تقطيعك إربًا إربًا وقدَّمُوك في القُدور!»
فقال أبو شامة: «ما أكبره من قدر!»
وقال الطبيب: «مَهْمَا يَكُن فلا تَخَفْ أيها البطل، فإنك ما زلتَ بطلًا بعد عشرين عامًا مَضتْ!»
فسأله جدي: «فَلْتُخبِرْنا إذًا! مَن الذي أرسلك إلى هنا؟ وما هدفك من هذه الزيارة؟»
وقف الجميع حائِرِين في أمْر هذا الرجل وراحوا ينظرون إلى وجهه وإلى فمه الذي لا يتوقف عن الغناء، وإلى ملامح وجهه وإلى يديه وإلى كيس الدواء الذي يُمسك به. وقد بدأ البغل النحيف يَتكيَّف تدريجيًّا مع الجو المحيط، حيث تَوقَّفَت أرجله عن الارتعاش، وراح يُحرِّك حوافره المتهالكة الشاحبة باطمئنان.
وسأل أبو شامة: «ما هذا الدواء؟»
فضحك الطبيب ضحكة ماكرة ثم قال: «إنه دواء فعَّال لسرعة الطَّلْق أثناء الولادة.» ثم قال: «إن هذا الدواء فعَّال للتعامل مع هذه الحالات مَهْمَا كانت صعوبتها، قُرْص واحد ثلاث مرات يوميًّا، وإذا لم تحصل على النتيجة المرجوة، فإنني سأكون ملزمًا أمامك برد المبلغ المدفوع!»
فراح أبو شامة يَسبُّه قائلًا: «اللعنة عليك أيها الكلب ابن الكلب!»
ثم مد الطبيب يده إلى الزكيبة وأخرج كيسًا من الدواء وقال: «ويوجد أيضًا أدوية أخرى!» ثم رفع الكيس لأعلى وراح يتغنى من جديد: «دواء فعَّال صالح لعلاج جميع الأمراض.»
فسأله أبو شامة: «وماذا يعالج هذا الدواء؟»
– «يعالج الضعف عند الرجال مهما كانت صعوبة الحالة، قرص واحد ثلاث مرات يوميًّا، وإذا لم تحصل على النتيجة المرجوة، فسأكون ملزمًا أمامك برد المبلغ المدفوع!»
فراح أبو شامة يعبث بصلعته، ثم انخرط في الضحك.
واصل أبو شامة سبابه قائلًا: «يا ابن اللعينة، أنت أيها السيد المحتال الذي لا شأن لك بما يفعله الرجال!» هكذا راح يُوبِّخ الطبيب لكي يحثه على إعطائه الدواء ليتعرف عليه.
فأخذ الطبيب الزكيبة وحملها إلى أمام جَدِّي وأبي شامة. ثم أخرج منها بعض الأدوية، وكان يمد يده ليخرج بعض الأدوية وهو لا يتوقف عن تعريفهم بأسماء تلك الأدوية الغريبة. وفتح أبو شامة كيسًا من الأدوية وأخرج منه شيئًا يشبه أعواد الأشجار الجافة ووضعه عند فمه لِيتذَوَّقه ثم قال: «اللعنة، إنه من فضلات الكلاب»
فقال الطبيب: «نعم إنه مُنتَج حقيقي وذو فعالية حقيقية مستخرج من فضلات الكلاب السوداء!»
ثم قدَّم أبو شامة ذلك الشيء إلى جَدِّي قائلًا: «أخي يو، فلتتعرف عليه، إنه بالتأكيد مستخرج من جذور الأشجار الجافة!» فأخذه جَدِّي منه وقربه إلى الشموع المضاءة وراح يتفحصه جيدًا.
وفجأة بدأ الطبيب يرتجف بشدة، وبدأت ذقنه تهتز ولمعَت أجزاء وجهه التي لم تلحقها الدماء التي كانت تسيل من أنفه. فتوقَّف أبي عن اللعب بالكرة الزجاجية وبدأ قلبه يقفز بشدة، وهو ينظر إلى حركات جسم الطبيب الغريبة. ورفع البغل الأسود العجوز رأسه عاليًا، وانعكس ضوء الشموع على رقبته الجامدة مثل قطعة الخشب، وبدت عليه معالم الحيرة وعدم الاطمئنان، وسال من أنفه سائل أخضر اللون، وهنا عرف أبي أن البغل قد أصيب بالتأكيد بداء الخيل الذي ذكره العم السايس من قبل.
وأثناء ارتجافه بشدة، مد الطبيب يده اليسرى إلى الزكيبة، ثم رفع يده اليمنى عاليةً فتناثرت كمية الدواء الصيني التي كانت في يده على وجه جدي. ثم لمع الضوء في يد الطبيب اليسرى. ورأى أبي أن ضوء الشموع قد انعكس على خنجر صغير. وهنا أصيب الجميع بالذهول وراحوا ينظرون في سكون إلى الطبيب وحركاته البهلوانية، وإلى الضوء الأخضر الذي سَلَّطه على حنجرة جدي. وبعد لحظات بسيطة من تَلقِّي جَدِّي للدواء الصيني الذي تناثر على وجهه، كان جَدِّي قد فكر في أن يقفز بعيدًا ليتجنب هذا الدواء العجيب، ولكنه تَمكَّن فقط من رفع ذراعه عاليًا ليحمي وجهه من هذا الدواء. فضرب الطبيب بكمه ليرسل هواءً شديدًا تجاه وجه جدي. استطاع جَدِّي أن يتقي الخنجر، إلا أن حد الخنجر أصابه بجرح كبير في ذراعه. فركل جَدِّي المنضدة بعيدًا، ثم أخرج مسدسه بمهارة فائقة وأطلق ثلاث طلقات. غير أن ذلك الدواء الذي تناثر على وجهه قد أجبره على أن يغمض عينيه بعض الوقت، بدأ ذلك الدواء الغريب بما فيه من فضلات الكلاب والأغنام في التجمع حول أنفه. ثم أطلق جدي طلقة أصابت الخيمة، وأخرى أصابت التابوت، غير أن التابوت المطلي بطبقات عديدة من الزيت كان قويًّا جدًّا، فسقطت الطلقة إلى جانبه وتفتت إلى ثلاث قطع صغيرة أو خمس تطايرت كلها إلى خارج الخيمة، وطلقة ثالثة أصابت قدم البغل الأمامية اليمنى، فانحنى البغل إلى الأمام حتى لامست رأسه الأرض، ثم قفز على الفور وراح يتوجع من قدمه، وبدأ يتساقط من ركبته سائل أبيض. ثم قفز ثانيةً صوب الأزهار التي كانت تحيط بالتابوت، تساقطت أوراق الأزهار، واصطدمت بالشموع التي كانت مثبتة فوق غطاء التابوت، فاشتعلت الشموع في أوراق الأزهار الورقية. وهكذا اشتعل شاهد جدتي الذي كان مظلمًا منذ قليل، وامتدت ألسنة اللهب للخيمة. فانتفض أفراد التنظيم وهبوا جميعًا مسرعين نحو الخيمة. وفي تلك الأثناء، انقض الطبيب الذي بدا جلده لامعًا مثل النحاس تمامًا على جدي. وقد رأى أبي ذلك الخنجر الذي كان يمسك به والذي كان يبدو ملتويًا مثل الأفعى، رأى الخنجر وهو يقترب من حنجرة جدي. وأمسك أبو شامة بمسدسه ولكنه لم يضغط على الزناد، وارتسمت على وجهه ابتسامة وكأنه يفرح في مصائب الآخَرِين. وهنا أخرج أبي مسدسه واستعد جيدًا قبل أن يطلق منه طلقة لتصيب كتف الطبيب. رفع الطبيب ذراعه عاليًا ليسقط الخنجر من يده على المنضدة القريبة منه. ثم مال هو أيضًا ليتكئ على المنضدة. أمسك أبي بالمسدس وأوشك أن يخرج الطلقة الثانية. وهنا خاطبه جَدِّي وقد بدت عيناه شديدتي الاحمرار قائلًا: «تَوقَّف!»
وقد سمعوا صوت مسدس «أبو العيون السود»، ثم رأوا رأس الطبيب وقد تَفتَّتْ تمامًا مثل البيضة التي تم وضعها على النار لمدة طويلة جدًّا.
فنظر إليه جَدِّي نظرة ممتلئة بحقدٍ دفينٍ.
وتوافد على الخيمة عدد من أفراد التنظيم. امتدت ألسنة اللهب في الخيمة، وعم الهرج والمرج داخلها. وقد ساعدت جثة البغل العجوز الملقاة داخل الخيمة في إخماد النيران، ولكن ما إن تحركت الجثة قليلًا حتى نشبت النار ثانيةً. وامتدت النيران إلى جلد البغل لتفوح رائحته الكريهة داخل المكان.
فسارع الجمع بالانصراف من داخل الخيمة.
ثم سمعوا صوت أبي شامة يصيح بصوت مرتفع: «النجدة! النجدة! النجدة! أنَقِذُوا التابوت، مكافأة قدرها خمسون مليون ورقة مالية لمن ينقذ التابوت!»
كانت الأمطار الربيعية قد انتهت منذ فترة قريبة، وبدا المصرف الواقع خارج القرية خاليًا من المياه، واجتمع أفراد التنظيم والأهالي الذين احتشدوا لحضور مراسم الجنازة، معًا لإنقاذ التابوت، حتى استطاعوا أن يخمدوا النيران المشتعلة داخل الخيمة.
حاصرت النيران تابوت جدتي حصارًا تامًّا، وأخيرًا استطاع الجمع إطفاءه بعد أن سكبوا عليه عشرات البراميل من المياه. بدا التابوت وسط تلك الظلمة التي لفت المكان مهيبًا. وبدت جثة البغل النحيف، ملقاة إلى جوار التابوت، وانتشرت رائحتها الكريهة في جميع الأرجاء، حاول الجميع اتِّقاء هذه الرائحة بأن وضعوا أكمامهم على أنوفهم، وراحوا يستمعون إلى صوت احتراق الزيوت التي كانت تغطي تابوت جدتي.
٢
على الرغم من الأحداث الخطيرة التي شهدتها ليلة البارحة، فإن موعد جنازة جدتي لم يَتغيَّر. كان السايس العجوز الذي لديه بعض الخبرة في مجال الطب، قد قام ليلة أمس بتضميد جرح جَدِّي وساعده في لف ذراعه، كان أبو شامة واقفًا إلى جانبهم، وراح يقترح على جَدِّي تأجيل موعد الجنازة، إلا أن جَدِّي لم يُعِره أدنى اهتمام وراح ينظر بعيدًا عنه، ثم أعرب عن عدم موافقته على رأي أبي شامة بشأن تأجيل موعد الجنازة.
ولم يَنَم جَدِّي طيلة هذه الليلة، وجلس على مقعد صغير داخل الخيمة وعيناه شديدتا الاحمرار شبه مفتوحتين، وكانت يده الباردة تضغط على زناد المسدس دون أن تتحرك وكأنها قد التصقَتْ بهذا الجزء من المسدس.
رقد أبي إلى جوار أبيه وراح يتابعه حتى غطَّ في نومٍ عميقٍ. أفاق مرة قُبَيْل الفجر، واختلس نظرة إلى جَدِّي الذي كان لا يزال يجلس شاردًا أمام ضوء الشموع، ونظر إلى آثار الدماء السوداء، التي كانت تسيل من الشاش المربوط حول ذراعه، ولم يجرؤ على أن يتفوه بكلمة واحدة، ثم أغمض عينيه ثانيةً. وكان الزَّمَّار المسئول عن جنازة جدتي، والذي كان قد حضر بعد ظهر ذلك اليوم، قد بدأ يستخدم البوق الكبير في إحداث صوت مرتفع ردًّا على زملاء المهنة الذين يحسدونه على المشارَكة في هذه الجنازة المهيبة، وتسبب هذا الصوت المرتفع في مضايقة أبي وإقلاقه. فنهض ومضى يفكر أنه قد بلغ هذا العام السادسة عشرة من عمره. وأنه لا يعرف متى ستنتهي هذه الحرب التي جعلته يعيش في قلقٍ مستمرٍ. وراح أبي يفكر في جرح جَدِّي والدماء التي تسيل منه، وفجأة سيطر عليه شعور غريب بالحزن الشديد، الذي هو أكبر كثيرًا من عمره. ثم سمع صوت صياح الديكة في جميع أرجاء القرية إيذانًا بطلوع صبح يوم جديد، وقُبَيل الفجر هَبَّت رياح شهر أبريل الخانقة على الخيمة، حتى استطاعت أن تطفئ الشموع المشتعلة داخلها. واضطر أبي أن ينزوي داخل خيمته بعد أن استمع إلى أحاديث أهالي القرية وأصوات خيول الحرب وإلى صوت رياح الصبح الساكنة. راح أبي يفكر في الفتاة تشينغ إر التي ستكون أمي في المستقبل، وفي السيدة ليو التي أصبحت فيما بعد زوجة جَدِّي الثالثة، واللتين كانتَا قد فُقدتا منذ ثلاثة شهور مَضَت. وقتها كان جَدِّي وأبي قد انتقلَا مع التنظيمات الحديدية إلى مكان ناءٍ جنوب شريط السكة الحديد للتدريب على القتال. وعندما عادَا إلى الخيمة اكتشفَا أنها كانت خالية تمامًا، كانت الخيمة التي نصبوها في شتاء عام ١٩٣٩م قد بدَتْ مهجورة تمامًا.
وعند غروب شمس ذلك اليوم، بدأت القرية تزدحم وعَلَت أصوات الباعة الذين كانوا ينادون على بضائعهم، وانتشرت رائحة الأطعمة في شوارع القرية. ونشب شجار بين أحد الباعة الذين يبيعون الفطائر، وأحد زبائنه، كان البائع قد رفض قبول العملة الورقية التي قدَّمها له الزبون الفلَّاح والصادرة عن الجيش الثامن، في حين أَصرَّ الفلاح على عدم قبول العملة الورقية التي أصدرتها عصابة جَدِّي المُسلَّحة. وكان الفلاح قد أكل بالفعل عشرين فطيرة من فطائر هذا التاجر. راح الفلاح يقول للبائع: «إذا أردت ثمن فطائرك فلك هذه الأوراق النقدية، وإذا لم تقبلها فلتحتسب أن الفطائر العشرين التي أكلتها قد ضاعت منك.» وراح الأهالي المحتشدون لمشاهدة الشِّجَار ينصحون البائع بأن يقبل الأوراق النقدية التي يقدمها له الفلاح، والصادرة عن الجيش الثامن التابع للحزب الشيوعي، ولتنتظر حتى تعود قوات الجيش الثامن إلى القرية ثانيةً، وعندها ستكون هذه الأوراق النقدية ذات قيمة كبيرة. وبعد هذا التدخل للوساطة بين التاجر والفلاح، تفرق الأهالي المحتشدون، وقَبِل التاجر هذه الأوراق النقدية ثم مضى يتمتم وينادي على بضاعته: «الفطائر! الفطائر، الفطائر المحشوة باللحم الساخنة جدًّا!» وتجمَّع الأهالي الذين انتهوا من تناوُل الطعام حول الخيمة في انتظار الجنازة، غير أنهم لم يجرءوا على الاقتراب من الخيمة أكثر من ذلك بسبب أفراد التنظيم المسلحين الذين كانوا يطوقونها، كانت الخيمة قد تَعرَّضت للدمار الشديد بسبب النيران التي امتدت إليها ليلة أمس، وقد تم إلقاء جثة الطبيب وبغله اللتين تَفحَّمتَا داخل الخيمة إلى المصرف الذي يبعد حوالي خمسين خطوة من الخيمة، وتجمَّعَت على الجثتين أعداد كبيرة من الغربان راحتْ تحوم حول الجثتين ثم انقضَّتْ عليهما، ووسط هذا الهجوم الشرس من الغربان، اختلطت جثة البغل بجثة الإنسان. ومضى الأهالي المحتشدون يفكرون في أمر ذلك الطبيب وبغله، كانَا حتى مغرب يوم أمس حَيَّيْن يملآن هذا المكان، والآن قد أصبحَا وجبة ثمينة لجماعة الغربان، وقد راودتهم أفكار ومشاعر مختلفة حول هذا الأمر، ولكنهم كانوا صامتِين تمامًا.
كان جَدِّي قد استخدم قطعة قماش سوداء وربط بها ذراعه المصابة إلى رقبته، وظهر على وجهه التعب والإرهاق الشديدان. ثم جاء إليه السيد رئيس فرقة الخيول ذو الحاجبين الطويلين قادمًا من إسطبل الخيول، وسأله جَدِّي عن أمر ما. كان أبي يقف آنذاك عند مدخل الخيمة التي يستريح فيها خلال الليل، وسمع جَدِّي يرد على الرجل قائلًا: «يا أخي وو لوان تزه، لا تنتظر ردي بشأن هذا الأمر، ولتذهب على الفور!»
انتبه أبي إلى أن جَدِّي قد أشار للسيد وو لوان تزه رئيس فرقة الخيول إشارة، فهز الرجل رأسه واستدار بجسده وتوجه صوب الإسطبل.
ثم خرج أبو شامة من خيمة مجاورة. ومد رجليه ووقف في طريق وو لوان تزه وقال بغضب شديد: «ماذا أنت فاعِل؟»
فرد عليه وو لوان تزه ببرودٍ شديدٍ: «إنني ذاهب لكي أمتطي جوادي وأخرج للحراسة.»
فقال أبو شامة: «ولكنني لم آمُرْك بذلك!»
فقال وو لوان تزه متعجبًا: «لم تأمرني بذلك!»
ثم تقدَّم إليهما جَدِّي وابتسم ابتسامة مصطنعة ثم قال: «أخي أبو شامة، هل تُصِرُّ على الاختلاف معي؟»
فقال أبو شامة: «ليس لي شأن بهذا الأمر، ولكنني أسأله سؤالًا اعتباطيًّا بغرض المعرفة فحسب.»
ضرب جَدِّي بيده السليمة على كتف أبي شامة ثم قال: «إن لك علاقة وثيقة جدًّا بجنازة زوجتي، فما رأيك أن نُصَفِّي حساباتنا بعد أن ننتهي من مراسم الجنازة؟»
فسكت أبو شامة ولم ينبس ببنت شفة، فقط اكتفى بأن هزَّ ذلك الكتف الذي ضرب عليه جَدِّي بيده السليمة، ونظر إلى جموع الأهالي المحتشدِين بعيدًا وراح يسبهم قائلًا: «ابعدوا أيها الأوغاد! اللعنة عليكم جميعًا! هل تطمحون إلى استغلال هذه الفرصة لإثبات بِرِّكم تجاه المرحومة؟»
وقف السيد وو لوان تزه أسفل شجرة الصفصاف المربوط عندها خيول التنظيم، ثم أخرج من صدره صافرة نحاسية صفراء، وأطلق ثلاث صافرات ليخرج إليه فور سماع صوت الصافرة خمسون فردًا من أفراد التنظيم من داخل خيمة بالقرب من شجرة الصفصاف، سارع كلٌّ منهم بسحب حصانه. بينما راحت الخيول تصهل وهي تضرب الأرض بأقدامها، حتى كادت الخيول أن تقتلع شجرة الصفصاف من شدة الضرب على الأرض. كان هؤلاء الأفراد الخمسون رجالًا نَشيطِين ماهرِين في استخدام السلاح، أمسَك كل منهم بسيف وعلَّق على ظهره بندقية يابانية الصنع. وكان السيد وو لوان تزه وأربعة من الرجال ذوو البنية القوية، لا يحملون البنادق اليابانية، ولكنهم كانوا يَتسلَّحون برشاشات روسية الصُّنع. وقفز الجميع كل على فرسه، وانطلقوا في مجموعتين، بدأت الخيول تضرب الأرض بأقدامها وهي تجري بسرعة معقولة، كانت تجري تجاه الطريق الترابي المؤدي إلى جسر نهر موا شوى. وقد بدَت حوافر الخيول تهتز خلال الرياح الصباحية، وانعكس عليها ضوء الشمس، ثم ظهر أفراد التنظيم وهم يتحركون حركات متماثلة على سروج الخيول. وكان السيد وو لوان تزه يمتطي حصانًا ملونًا قويًّا ويسير في مقدمة المجموعة، وبعد لحظات قليلة نظر أبي أمامه، فإذا بالخيول قد فرت مسرعة مبتعدة عن مرمى بصره.
كان السيد الراهب سه شه الذي يرتدي جلبابًا طويلًا ويتسم بروح فريدة وأخلاق يقف على مقعد عالٍ، وهو يصيح بصوت مرتفع: «فرقة الزَّمَّارين والطبالين.»
فخرجَت في لمح البصر مجموعة من الزَّمَّارِين والطَّبَّالِين في زي أسود وقُبَّعة حمراء وكأنهم قد خرجوا من باطن الأرض، وتَجمَّعوا بسرعة أعلى مسرح الزَّمَّارِين والطَّبَّالِين على جانِب الطريق. صُنِع المسرح من عدد من الألواح الخشبية وحصير من القصب، ويبلغ ارتفاعه نحو ستة أمتار أو سبعة. امتلأتِ الشوارع عن آخِرها بالمحتشدين، فراح الزَّمَّارون والطَّبَّالون يَشقُّون طريقهم وسط الصفوف، ويصعدون على الألواح الخشبية حتى اعتلوا أماكنهم على المسرح.
فصاح الراهب سه شه: «ابدءوا»
فبدأت تعلو أصوات الأبواق. وبدأت الجموع المُحتشدَة تتزاحم لمشاهدة العرض، مد الجميع رقابهم إلى الأمام ليفوزوا بنظرة عن قُرْب. بينما جاءت تتدفق جماعات أخرى من الخلف، حتى عم الهرج والمرج بالقرب من المسرح وبدأ الزَّمَّارون والطَّبَّالون يصيحون كالمجانين، ووصل هذا الصَّخَب إلى الأبقار والحمير المربوطة تحت الأشجار على جانِبَي الطريق والتي راحت تُشارِكهم الصخب.
قال جَدِّي بتواضعٍ شديدٍ: «ما العمل يا أخي أبو شامة؟»
فصاح أبو شامة بصوت مرتفع: «أنت يا لاو سان، مُر بسحب فرقة الزَّمَّارين والطَّبَّالين!»
ثم ظهر بين جموع الأهالي المحتشدين ما يزيد على خمسين فردًا من أفراد التنظيم المُسلَّحِين وكأنهم قد خرجوا أيضًا من بطن الأرض، وراحوا يَرفَعون بنادقهم ويَشقُّون طريقهم وسط الأهالي المتزاحمين، كان قد احتشد في ذلك اليوم عشرات الآلاف من الأهالي لمشاهَدة هذه الجنازة المهيبة، حتى إن خمسين فردًا من أفراد التنظيم المُسلَّحِين، قد عجزوا عن التعامل مع هذا العدد الضخم من الأهالي.
أخرج أبو شامة مُسدَّسه وأطْلَق طلقة في الهواء لتفريق جموع المحتشدين، ثم أعقبها بطلقة ثانية فوق الرءوس. كما تبعه أفراد التنظيم وراحوا يطلقون عدة طلقات نارية في الهواء. وما إن دوَّت أصوات الطلقات النارية في المكان، حتى عادت جموع المحتشدين الذين كانوا في المُقدِّمة إلى الخلف، بينما راح الذين كانوا في الخلف يتزاحمون إلى الأمام، وارتفعت الجماعة التي كانت تقف في الوسط، وكأنها طَلعَت فوق ظهور المحتشدِين. وامتلأ المكان بصياح الأطفال الذين داسَهم الأهالي المحتشدون تحت أقدامهم. ووسط هذا الصخب الكبير، سقط جزء من المسرح الذي يعتليه الزَّمَّارون والطَّبَّالون، فراح الزَّمَّارون والطَّبَّالون يَتدافعون إلى أسفل المسرح وهم يَصيحون مُسرِعِين للتَّخفِّي داخل جموع الأهالي. وعمَّت أصوات صياح الزَّمَّارِين والطَّبَّالِين وأصوات صياح الأهالي الذين داستهم الأقدام وسط الزحام، وفجأة ارتفع فوق الأهالي المُحتشدِين حمار وكأنه قد غرس أقدامه داخِل وَحْل المُستَنْقَعات، وراح يُتابِع الموقف بعينيه الجاحظتين. ووسط هذه الفوضى العارمة، لَقِيَ ما يزيد على عشرة أشخاص من كبار السِّنِّ والمَرضى والضعفاء، مَصْرَعهم تحت أقدام الجموع المحتشدة. كما اكْتُشِفَت بعد مُضِي عِدَّة شهور رائحةُ جثث بعض الحمير والأبقار التي لقيت مصرعها في ذلك اليوم.
وأخيرًا هدأت جموع المحتشدين تحت سيطرة أفراد التنظيم المسلحين. واختلطت أصوات بعض النساء اللائي كُنَّ يَصِحْن خلال معركة التهدئة، مع صوت الموسيقى التي عاوَد الزَّمَّارون والطَّبَّالون إصدارها من أعلى المسرح. كما فَرَّ عدد من الأهالي خارج القرية خشية هذه الفوضى العارمة، وانتظروا هنالك على جانبي الطريق المُؤدِّي إلى قبر جدتي لحضور مراسم الجنازة المهيبة ومتابعتها بعيدًا عن الصَّخَب، حيث كان القائد الشاب الوسيم وو لوان تزه يعسكر بقواته في ذلك المكان.
ووقَف الراهب سه شه والذي قد بدأ يُعاوِد هدوءه أعلى المقعد العالي وراح يصيح: «أعطوني الغطاء.»
فحمل إليه اثنان من أفراد التنظيم غطاءً صغيرًا أزرق اللون. بلغ ارتفاع هذا الغطاء ما يزيد على متر، وكان غطاءً مربعًا، به فتحة مثل الصنبور، ويظهر أعلاه دُرَّة زجاجية حمراء داكنة.
صاح الرَّاهب سه شه: «فلتَتفضَّلُوا بتقديم الشاهد.»
تم لف شاهد جدتي بقطعة جذابة من الحرير الأبيض طولها حوالي متر، وقام رجلان من أفراد التنظيم بوضع الشاهد بحرص شديد داخل الغطاء الصغير، ثم تَراجعَا إلى مكانهما ووقفَا ينتظران الأوامر من الراهب.
وهنا صاح الراهب سه شه: «الغطاء الكبير.»
ووسط أصوات الزَّمْر والطَّبْل، تَقدَّمَت مجموعة من أفراد التنظيم يبلغ عددها أربعة وستين فردًا حامِلِين الغطاء الكبير الأحمر والمُرصَّع بجزء في أعلاه يشبه ثمرة البطيخ. كان يَتقدَّم الغطاء أحد أفراد التنظيم وكان يَرفَع صاجه من النحاس على إصبعه، وكان يُصْدِر لحنًا واضحًا، التزم أفراد التنظيم الأربعة والستون في خطواتهم صوت هذا اللحن. وتوقَّفَت جميع الأصوات التي كان يعج بها المكان منذ قليل، وبقي فقط صوت الآلات التي يستخدمها الزَّمَّارون والطَّبَّالون، بينما كانت بعض النساء اللائي مات أطفالهن تحت أقدام الجموع المُحتَشِدة لا يَزَلْن يبكين بكاءً شديدًا، وراح الجمع ينظر إلى الغطاء الكبير الذي بدَا لهم مثل فضاء كبير يهتز ببطء، ثم خيم على المحتشدين جو صارم ولفَّتْ الجميع دوامة واحدة خلطَت بين جميع الأفكار التي تراودهم في تلك اللحظة.
كانت ذبابة كبيرة مُقْلِقة تَلفُّ حول ذراع جَدِّي المصاب، كانت لا تريد أن تبتعد عن الدم الأسود الذي كان يسيل من جرح جدي. وعندما كان جدي يرفع ذراعه السليم لإبعادها عنه، كانت تطير قليلًا مُرغَمة ثم تُحلِّق فوق رأسه غاضبة، وتُصدِر صوتًا مزعجًا جدًّا. وود جَدِّي آنذاك لو ينزل عليها بقبضة واحدة فيقطعها إربًا إربًا، ولكنه كان في كل مرة يفشل في الإمساك بها، وفي كل مرة تنزل قبضته على ذراعه المصابة فيتألم ألمًا شديدًا.
وتم وضْع الغطاء الكبير أمام شاهد جدتي، وأثار منظر الغطاء والموسيقى والأصوات التي صاحبت تلك اللحظات ذكريات جَدِّي حول عمله في مطلع حياته.
كان جَدِّي قد بلغ الثامنة عشرة من عمره عندما قام بقتل الراهب، ثم فرَّ بعدها من مسقط رأسه وتَشرَّد في مختلف الأماكن حتى الحادية والعشرين من عمره، عاد بعدها ليعمل في «شركة خدمات الأفراح والجنائز» بقرية دونغ بيي بمدينة قاو مي. كان جَدِّي قد مر وتَمرَّس على جميع الصعاب، وتَعرَّض لشتى أنواع الإهانة والذُّل في الشارع، فأصبح قَلبُه جامدًا وبِنْيتُه قوية، وهكذا أصبح يَتمتَّع بالصفات الرئيسية لقُطَّاع الطُّرُق وأفراد العصابات المُسلَّحة، وكان يعرف جيدًا أن العمل في شركات خدمات الأفراح والجنائز وحَمْل هودج العرس وتوابيت الموتى، ليس أمرًا يسيرًا، ولكنه لم يَخْشَ ذلك أبدًا. ولا يستطيع جَدِّي أن ينسى أبدًا ذلك الذُّل الذي تعرَّض له حين صُفِعَ على وجهه في منزل عائلة لين بقرية تشي خان بمدينة جياو شيان عام ١٩٢٠م. وهنا نسي جَدِّي تلك الذبابة التي كانت تضايقه منذ قليل، والتي استغلت الفرصة وراحت تقف على الشاش الأبيض الممتلئ بالدم، وانشغلَتْ بفريستها التي توصَّلَت إليها بعد عناءٍ شديدٍ. واستمر الزَّمَّارون والطَّبَّالون في عملهم حتى بدت عليهم مَعالم التعب ونزل العرق من جباههم إلى رقابهم، وسال لعابهم ليملأ الأبواق التي كانوا يستخدمونها. وراح الأهالي المحتشدون لمشاهدة الجنازة يرفعون قاماتهم لأعلى لاختلاس النظر إلى ما يحدث في المُقدِّمة، وهم يُحدِّقون فيما يحدث أمامهم بنظرات حادَّة، وأثارت هذه النظرات الحاقدة غضب أبي. كان أبي يرتدي آنذاك ثوبَ الحِدَاد، وهو قميص من القماش الأبيض يُغطِّي الرُّكبة، كما يلفُّ حول خصره ضفيرة من الكتان الرمادي والأبيض، ويرتدي قُبَّعة الحداد الكبيرة التي كانت تُغطِّي رأسه الصلعاء. شعر أبي بضيق شديد من رائحة العرق المنبعثة من أجساد جموع الأهالي المحتشدين ورائحة الزيت المدهون به تابوت جدتي. كما شعر بالضيق الشديد من جمع الأهالي الكبير والعيون التي كانت تُلاحِقُه وأصوات الطَّبْل والزَّمْر التي ملأت المكان. وقد بدا تابوت جدتي من الوهلة الأولى دميم الشَّكْل، بدَا قبيحًا بتلك الهيئة التي ظهر عليها حتى جَعلَتْه تلك الهيئة يبدو وكأنه حيوان ضخم، كان أبي يشعر دائمًا أن هذا التابوت الضخم قبيح الشكل سيقف فجأة، ويَنقضُّ على جموع المُحتشدِين من حوله. وبدت أصوات هذا التابوت الأسود في وعي أبي تَتضخَّم وتتعاظَم شيئًا فشيئًا، وجُثمان جدتي المُسجَّى بين ألواح الخشب السميكة ومسحوق الطوب الأحمر يظهر أمام عينيه. وفي صباح ذلك اليوم وعلى ضفة نهر موا شوى، كان جَدِّي قد أخذ بالفأس وراح يُجهِّز قبر جدتي، وقد نظف القبر تمامًا من كثير من سيقان الذُّرَة التي كانت تملأ المكان، حتى مشهد جثمان جدتي الذي رآه آنذاك كان يبدو حيًّا لا يزال يتراءى أمام عينيه. وكما لا يستطيع أبي أن ينسى مشهد وقوف جدتي وهي تراقب زراعات الذُّرَة الحمراء الممتدة أمامها، فإنه لا يستطيع أن ينسى أبدًا وجهها وهي تخرج من قبرها، وقد احتضنَتْها رياح الربيع الدافئة. وهكذا كان أبي يتذكر هذه التفاصيل من ذكرياته مع جدتي بينما يَنفِّذ تعاليم الراهب مرتديًا ثياب الحِداد. وهنا سه شه الذي تأثَّر وجْهُه بالشمس فأصبح مثل وجه ذئب، راح الراهب يصيح قائلًا: «ارفعوا التابوت» فتجمَّع أربعة وستون رجلًا من أفراد التنظيم أمام التابوت، ثم صاحُوا في صوتٍ واحدٍ، غير أن التابوت كان مسمَّرًا في مكانه لا يَتحرَّك، ثم الْتَفُّوا حول التابوت، وكأنهم جماعة من النمل أحاطت بجثة حيوان ميت. وأخيرًا تَمكَّن جَدِّي من طَرْد تلك الذبابة، وراح ينظر بازدراء إلى هؤلاء الأفراد الذين كانوا يحملون التابوت بطريقة عشوائية، فأشار بيده إلى زعيم هؤلاء الأفراد وقال له: «اذهب وأحْضِر قطعة من القماش القطني، وإلا ستعانون حتى طلوع الصبح ولن تتمكنوا من إنجاز مهمتكم، كما أنك لن تستطيع إدخال التابوت داخل الغطاء!» فراح الرجل ينظر بحيرة شديدة إلى عَيْنَي جَدِّي، غير أن جَدِّي وجَّه عينيه بعيدًا عنه، وكأنه وجَّهَها لينظر إلى حاجز نهر موا شوى الممتد في السهول الفسيحة.
وضع أمام منزل عائلة تشي بمدينة جياو شيان سَارِيتَا أعلام حمراء اللون، كان هذا يَرمُز إلى شرف عائلة تشي وحَسَبِها ونَسَبِها، كان السيد خان ليان من أواخر عصر أسرة تشينغ قد تُوفِّي، وأقام له أبناؤه وأحفاده الذين تمتعوا بالخير الكبير أثناء حياته جنازة مهيبة. وجَهَّزوا له كل الترتيبات اللازمة على خير وجه، غير أنهم كانوا يُؤجِّلون يوم تشييع الجنازة ولا يُعلِنُونه على الملأ. وكانت العائلة تسكن فناءً كبيرًا، وقد وضعوا التابوت داخل غرفة في الجزء الداخلي من الدار الواسعة. وكان عليهم أن يمروا بسبعة مداخل ضيقة حتى يستطيعوا حمل التابوت إلى الشارع. وعلى الرغم من المبلغ الكبير الذي رصدته عائلة تشي لحمل التابوت، فإن أكثر من مدير من مديري شركات خدمات الأفراح والجنائز قد رفضوا حمله بمجرد رؤيتهم حجمه والمكان الذي وُضِعَ فيه.
وصل الخبر إلى «شركة خدمات الأفراح والجنائز» بقرية دونغ بيي بمدينة قاو مي. وأغْرى مبلغ خمسمائة جنيه فضة، والذي رَصدَتْه عائلة تشي لحمل هذا التابوت؛ جَدِّي والفرقة التي يعمل معها، وجعلتهم يفكرون في هذا الأمر ليل نهار، وأصبحوا وكأنهم مثل الصبية الصغيرة التي صادفت أميرًا وسيمًا وأعرب لها عن حُبِّه وأهداها أَسْوِرة ذهبية نفيسة. وهكذا ذهب جَدِّي ورفاقه لمقابلة السيد المسئول تساو إر، وأقسموا له أنهم سيسحقون مهابة قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي ويكسبون هذا المَبْلَغ الكبير البالغ خمسمائة جنيه من الفضة. فجلس السيد تساو إر على كرسيه وقد بدَا عليه الجمود تمامًا. ولم يسمع جَدِّي ورفاقه أي رد منه حول سؤالهم إيَّاه، واكتفوا فقط بالنظر إلى مُقْلَته الصارمة. واستمعوا إلى صوت اضطراب مياه النرجيلة التي أمسك بها بكلتا يديه. فتحمَّس جَدِّي ورفاقه وبدَءُوا يخاطبونه من جديد: أيها السيد تساو إر، إننا لا ننظر فقط إلى المبلغ الذي رصدوه! فالإنسان خلال حياته يجب أن يثبت ذاته! وإننا نأمل ألا يستخفوا بنا، وأن يعتقدوا أن أهل قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي عاجزون! وهنا تحرك السيد تساو إر فوق كرسيه، وأصدر ريحًا ثم قال فلتعودوا الآن إلى أماكن راحتكم، فإنكم إذا فشلتم أو حدث لكم مكروه ستجلبون الخزي والعار لقرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، وستدمرون تجارتي، وإذا كنتم بحاجة للمال، فإنني سأمْنَحُكم مكافأة وحسبكم من الحديث في هذا الأمر. وبمجرد أن انتهى السيد تساو إر من حديثه أغمض عينيه، بينما زاد حماس جَدِّي ورفاقه الحَمَّالِين، فقالوا في صوت واحد، أيها السيد تساو، لا تَقضِ على طموحنا! فقال السيد تساو لا تفكروا في أشياء هي أكبر بكثير من إمكاناتكم، وهل تعتقدون أن الحصول على مبلغ خمسمائة جنيه من الفضة بالأمر اليسير! إن هناك سبعة أبواب داخل فناء عائلة تشي، كما أن التابوت ثقيل جدًّا، كذلك فإن داخله ممتلئ بالزئبق! الزئبق! الزئبق! وَلْتَستخْدِموا عقولكم هذه التي هي مثل عقول الكلاب، ولْتُفكِّروا في وزن هذا التابوت الممتلئ بالزئبق، وهكذا بعد أن انتهى السيد تساو من توجيه السباب لهم، راح يرميهم بنظرات ازدراء واضحة. فتبادَل الرفاق النظرات فيما بينهم، ولسان حالهم يقول إنهم لن يتراجعوا عن هذا الأمر، ولكنهم كانوا يخشون أيضًا الفشل في مهمتهم. وما إن رآهم السيد تساو هكذا حتى ضحك ضحكة ساخرة ثم قال: «فلتعودوا إلى أماكنكم، انتظروا هؤلاء الأبطال الذين سيقومُون بهذا العمل والذين سيربحون هذا المبلغ الكبير! أما أنتم، فمجرد صغار ليسوا مُؤهَّلِين لكسب هذا المبلغ الكبير ويكفيكم ثلاثون أو عشرون جنيهًا، ويكفيكم فخرًا أن تستطيعوا حمل توابيت العائلات الفقيرة الخفيفة!»
بدا كلام السيد تساو إر مثل السُّم اللاذع الذي أصاب قلوب هؤلاء الحمَّالين الطموحين. فتقدم جَدِّي خطوة إلى الأمام ثم صاح في وجه السيد تساو قائلًا: «أنت أيها السيد تساو إر، إننا سئمنا العمل معك أيها الإنسان التافه الحقير، وستقضي على طموحاتنا وشجاعتنا واحدًا واحدًا، وإنني لن أعمل معك بعد اليوم!»
وهنا صاح جميع الحَمَّالِين الشباب في صوتٍ واحدٍ مؤيدين لكلام جدي، فوقف السيد تساو إر بينهم وتَقدَّم إلى أمام جَدِّي بخطوات متثاقلة، وراح يضرب على كتف جَدِّي بشيء من القوة، ثم خاطبه بلهجة يملؤها الإخلاص والحنان قائلًا: «ما أشجَعَك يا جان آو! إنك حقًّا من رجال قرية دونغ بيي الشجعان! وإن المكافأة الكبيرة التي رصدتها عائلة تشي ستكون بالتأكيد من نصيبنا، وإذا استطعتم أيها الرفاق القيام بهذا العمل الكبير، فإنه سيكون شرفًا لقريتنا وفرصة لإعلاء اسمها بين القرى، فالشَّرَف والمجد لا يمكن شراؤهما بالمال والكنوز. ولكنني أريد أن ألفِتَ انتباهكم إلى أن عائلة تشي هذه من نسل أسرة تشينغ المَلَكية، وأنهم يلتزمون بالقوانين الصارمة، وأن القيام بحمل هذا التابوت ليس بالأمر اليسير، وأرى أيها الرفاق أن تفكروا في هذا الأمر جيدًا طوال هذه الليلة، وكيف ستتمكنون من عبور الأبواب السبعة وأنتم تحملون ذلك التابوت الثقيل.»
راح الرفاق يتناقشون فيما بينهم وكأنهم كانوا قد اتَّفَقوا على أمر ما، وهنا دخل إليهم رجلان في زِي مَهيب أنيق، وعرَّفَا نفسيهما بأنهما مُوظَّفان مسئولان لدى عائلة تشي خان الكبيرة، وأنهما جاءَا لدعوة الرِّفَاق الحمَّالين من قرية دونغ بيي ليَربَحوا مبلغًا كبيرًا من المال.
وأفصح الرجلان عن الغرض الذي جاءَا من أجْلِه، فَراح السيد تساو إر يسألهما بتكاسُل واضح: «وكم المبلغ الذي ستقدمونه لنا؟»
فقال أحدهم: «خمسمائة دا يانغ! أيها المعلم، إنها فرصة نادرة جدًّا لأن تَرصُد عائلة هذا المبلغ الكبير!»
فألقى السيد تساو إر بخرطوم النرجيلة على المنضدة، وضحك ضحكة صفراء، ثم قال: «أولًا نحن هنا لسنا عاطِلِين عن العمل وتَنقُصنا هذه الصفقة، ثانيًا لسنا بحاجة للمال، فلتذهبوا وتبحثوا عن جماعة أخرى تساعدكم في هذا الأمر!»
فضحك ذلك الرجل مندوب أسرة تشي خان ضحكة تنم عن ذكائه الشديد، ثم قال: «أيها المدير، إننا أيضًا قد عملنا بالتجارة لمدة طويلة!»
فقال السيد تساو إر: «نعم نعم. إنكم بالتأكيد ستعثرون على مَن يقبل هذا المبلغ الكبير للقيام بهذا العمل.»
وهنا أغمض السيد تساو إر عينيه وسرح بعيدًا.
فتبادَل الرجلان النظرات فيما بينهما. وقال أحدهما: «أيها المدير، كفانَا من اللف والدوران، ولتفصح عن المبلغ الذي تريده!»
فقال السيد تساو إر: «إنني لن أرتكب هذا الجرم الكبير بأن أضحي بحياة عدد من رجالي مقابل حفنة من جنيهات الفضة!»
فقال الرجل المسئول: «سنقدم ستمائة جنيه من الفضة! نعم ستمائة جنيه!»
فجلس السيد تساو إر مكانه دون أن ينبس ببنت شفة.
– «سبعمائة جنيه من الفضة! سبعمائة جنيه! أيها المعلم، التجارة تحتاج أيضًا إلى شيء من الضمير في طلب الأجر!»
فزم السيد تساو شفتيه قليلًا.
– «ثمانمائة جنيه من الفضة! ولن نزيد على ذلك جنيهًا واحدًا!»
وهنا فتح السيد تساو عينيه وتحدث بجملة واحدة معلنًا: «ألف جنيه من الفضة!»
فذُهِل الرجلان ذهولًا شديدًا وراحَا ينظران إلى وجه السيد تساو الصارم. «أيها المعلم … إذًا فإن الأمر خرج من أيدينا تمامًا.»
– «إذًا فلترجعوا إلى أصحاب الأمر، وأخبروهم أننا نريد ألف جنيه من الفضة، ولن نقبل أقل من ذلك ولو بجنيه واحد.»
– «حسنًا، ولتنتظر منا الرد.»
في صباح اليوم التالي حضر الرجل المسئول من عائلة تشي من مدينة جياو شيان يَمتطِي حصانًا أورجواني اللون، وأخبر السيد تساو بأنه قد تم تحديد موعد رفع التابوت، وأنه سيدفع له خمسمائة جنيه مقدمًا، وسيدفعون له المبلغ المتبقي وقدره خمسمائة جنيه بعد رفع التابوت. وكان الحصان يجري بسرعة شديدة وقد تَصبَّب جسده عرقًا، وامتلأت المنطقة المحيطة بفمه بسائل أبيض.
وفي يوم الجنازة، تَحرَّك أربعة وستون رجلًا من الحمَّالين ليلًا، وأوقدوا النيران وأعدوا طعامهم بنفسهم، وجهزوا عدتهم وساروا تحت ضوء النُّجوم قاصدِين مدينة جياو شيان. وقد ركب السيد تساو إر حمارًا أسود اللون وسار خلف الحمَّالين.
لا يزال جَدِّي يذكر جيدًا أنه في صباح ذلك اليوم كان هناك عدد قليل من النجوم في السماء، وأن الجو كان باردًا، كما كان الخُطَّاف الثقيل الذي يخفيه حول خصره، قد آلمه كثيرًا. وصلوا إلى مدينة جياو شيان، وما إن انبلج الصباح، امتلأت الشوارع بالأهالي الذين احتشدوا ليشهدوا هذه الجنازة المهيبة، وقد سُدَّت الطرقات من كثرة الجموع المحتشدة. وراح جَدِّي ورفاقه يسيرون وسط الشوارع يستمعون إلى همسات الجموع المحتشدة، وقد نفخوا صدورهم وودوا لو أعلنوا للجميع عن شجاعتهم وبطولتهم، غير أنهم شعروا بشيءٍ من عدم الاطمئنان وساورهم قلقٌ شديدٌ.
كانت دار عائلة تشي كبيرة جدًّا وقد احتلَّت جزءًا كبيرًا من الشارع. وتبع جَدِّي ورفاقه بعضًا من خدم عائلة تشي وعبروا ثلاثة أبواب داخل الدار الواسعة، وتوقفوا داخل ركن من فناء صغير. امتلأ هذا الفناء بالأزهار والورود، وامتلأت الأرض بالأوراق النقدية الورقية، وفاحَت رائحة الدخان الذكية، وبدت الحالة اليسيرة جدًّا التي تتميز بها هذه العائلة الشريفة.
دعا المسئول من عائلة تشي أحد أسياده من العائلة لمقابلة السيد تساو إر. وكان عُمْر ذلك الرجل من عائلة تشي حوالي خمسين عامًا، وقد بدَا نحيفًا، تبعد أنفه الصغيرة كثيرًا عن فمه الكبير. وعندما نظر الرجل بعينه إلى الحمَّالين الذين جاء بهم السيد تساو إر لحمل التابوت، انتبه جَدِّي إلى أن عيني الرجل كانتا تدوران في كل مكان، تَحرِقَان كل مَن تُسلَّطَان عليه.
فهز الرجل رأسه تجاه السيد تساو إر، ثم قال: «إن طلبكم ألف جنيه يتطلب منكم الالتزام بما يفرضه هذا المبلغ.»
فهز السيد تساو رأسه، ثم تبع الخادمَ إلى الباب الأخير داخل الدار الواسعة.
وعندما خرج السيد تساو من الغرفة الداخلية، إذا بوجهه قد تَغيَّر كثيرًا عمَّا عهده جَدِّي ورفاقه من قبل، وإذا به يرفع إصبعه ذا الظفر الطويل ويحك به رأسه، ثم جمع الحمالين الذين جاءوا معه إلى مكان بجانب سور الغرفة، وراح يخاطبهم وهو يعض على أسنانه قائلًا: «أيها الرفاق، لقد هلكنا جميعًا!»
فسأله جدي: «ماذا حدث يا سيد تساو؟»
فرد السيد تساو إر قائلًا: «أيها الرفاق، إن عرض ذلك التابوت يكاد يكون مثل عرض المدخل، كما يوجد أعلى غطاء التابوت قدر كبير من النبيذ. وقد أخبرني ذلك السيد من عائلة تشي أنه إذا انسكبت قطرة من النبيذ فسيتم تغريمنا مائة جنيه!»
فشعر الجميع بحيرة شديدة. لَفَّهُم الصمت. بينما بدا صوت النحيب القادم من قاعة الحداد مثل صوت الغناء الجميل.
وسأل السيد تساو إر جَدِّي قائلًا: «ما قولك يا جان آو في هذه المشكلة العويصة؟»
فرد جَدِّي قائلًا: «طالما أننا وصلنا إلى هذه اللحظة فلا يُجْدِي الخوف والتراجع، وسنقوم بحمل هذا التابوت مهما كان وزنه ومهما كانت خطورته!»
فقال السيد تساو إر بصوت خفيض: «إذًا فلتتقدموا أيها الرفاق، ولكم جميع ما تجنونه من هذه المهمة، وإنني المعلم تساو لن أطلب لنفسي جنيهًا واحدًا من الألف جنيه التي ستحصلون عليها!»
فرماه جَدِّي بنظرة ثم قال: «إذًا كفاك من هذه الثرثرة!»
فقال السيد تساو إر: «إذًا فلتبدءوا مهمتكم، أما أنتم يا جان آو ويا سه كوى، فليقف أحدكما في الأمام والآخر في الخلف، لتتحكموا جيدًا في هذا الحمل الثقيل. وأما الرِّفاق الآخرون، فيدخل عشرون منكم الغرفة، وليدفعوا التابوت فور رفعه من على الأرض، وليستخدموا الدعامات للسيطرة على التابوت. أما العدد المتبقي فلينتظر عند المدخل وينتظر سماع صوت الصَّاجة التي بيدي. أيها الرفاق، إن السيد تساو إر يشكركم كثيرًا على شجاعتكم!»
في الأيام العادية كان السيد تساو إر — هذا الظالم المستبد! — ما إن ينحني بجسده المُترَهِّل قليلًا يذرف الكثير من الدموع وينهض ثانيةً.
واصطحب ذلك السيد من عائلة تشي بعضًا من الخدم وتَقدَّم إلى جماعة الحمالين، ثم ابتسم إليهم ابتسامة مصطنعة وقال: «مهلًا مهلًا، يجب أن تخضعوا للتفتيش!»
فرد عليه السيد تساو إر غاضبًا: «ما هذه القواعد الغريبة؟»
فقال السيد من عائلة تشي ببرودٍ شديدٍ: «إنها القواعد الخاصة بمبلغ ألف جنيه من الذهب.»
فقام خدم عائلة تشي بتفتيش جَدِّي ورفاقه تفتيشًا دقيقًا حتى أخرجوا منهم تلك الخطافات التي يستخدمونها في رفع الأشياء وحملها، وألقوا بها على الأرض فأحدثت صوتًا عاليًا إثر اصطدامها بالأرض، بينما بدَا الوجوم الشديد على الحمَّالين.
وراح ذلك السيد من عائلة تشي يحملق في تلك الخطافات وهو يبتسم ابتسامته المصطنعة.
فمضى جَدِّي يفكر ويقول لنفسه حسنًا! إننا لن نكون رجالًا شجعانًا إذا اعتمدنا على هذه الخطافات الحديدية في رفع التابوت وحمله، وهنا شعر بشيء من الحزن يخيم على قلبه وكأنه يتقدم نحو ساحة الإعدام. فربط لفافة حول ساقه جيدًا، جمَّع نفسه ثم أحكم لف قطعة من القماش حول مَعِدَته.
وما إن دخل الحمالون قاعة الحداد، حتى توقَّف الرجال والنساء من عائلة تشي المحيطون بالتابوت عن البكاء والنحيب. وراحوا يُحدِّقُون في هؤلاء الحمَّالين وفي قدر النبيذ الموضوع أعلى التابوت. وقد بدَا الوجوم والحزن الشديد على جميع من كانوا في قاعة الحداد، بينما كانوا يُحَمْلِقون في السماء.
بدا التابوت الأسود الضخم الخاص بالسيد تشي خان لين مثل السفينة الكبيرة التي ترسو على أربع قواعد قصيرة، وما إنْ رآه الحمَّالون حتى شعروا برهبة شديدة.
وتقدَّم جَدِّي وأنزل من على ظهره حبلًا دقيقًا مصنوعًا من الخيش، ومرره من أسفل التابوت. بينما قام رفاقه بربط عشرات القطع القطنية الدقيقة في الحبل الذي مرَّرَه جدي، ووزعوا تلك القطع القطنية من جانبي التابوت وأحكموا قبضتهم عليها.
وأخذ السيد تساو إر بالصاجة، وراح يضرب عليها مُحدِثًا صوتًا مسموعًا. وجلس جَدِّي عند مقدمة التابوت، أصعب وأهم وأخطر منطقة في رفع التابوت. وقد أعاقه التابوت الذي بدا مثل السفينة الضخمة عن الوقوف، أحكم الحزام القطني حول رقبته وكتفه، فشعر بثقل التابوت قبل أن يهم بالوقوف.
ضرب السيد تساو إر على صاجته ثلاث ضربات جديدة، ثم راح يصيح في رجاله أن: «ابدءوا!»
وما إن سمع جَدِّي صوت صاجة السيد تساو، حتى حبس أنفاسه جيدًا، وتَركَّزَت قُوَّته وعزيمته في ركبتيه، كان قد سمع إشارة السيد تساو بتشوش، ركز قوته جيدًا في ركبتيه مستعدًّا للخطوة القادمة. وراح جَدِّي يَتخيَّل أن التابوت الضخم الذي يحتوي على جثمان السيد خان لين قد بدأ يتحرك من على الأرض، وأنه قد بدأ في رحلة إبحاره من هذا المكان، ولكنه تَوقَّف فجأة عن الاستمرار في حلمه هذا عندما شعر بألمٍ شديدٍ في مُؤخِّرَته، حيث اصطدمت بقطعة من الطوب.
وكان السيد تساو إر حتى ذلك الحين لا يزال واقفًا على قدميه، فنظر إلى التابوت الضخم، فإذا به يبدو مثل الشجرة الضخمة التي لا تزال تضرب بجذورها في بطن الأرض، بينما بدَا رجاله الشجعان مثل العصفور الضعيف الذي يضرب بمنقاره على الزجاج، وقد سقطوا جميعًا على الأرض من شدة التعب، وبَدَت معالم وجوههم وقد تَغيَّرت من اللون الأحمر إلى الأرجواني ثم إلى الأبيض الشاحب. وعندها عرف أنه قد هلك وهلكوا جميعًا! وأنه قد آن لهذه المسرحية أن تنتهي! وعندما نظر إلى جان آو بدَا مُلقًى على الأرض.
وبدَا لجدي أنه يستمع إلى صوت ضحكة السيد خان لين الباردة المصطنعة من داخل تابوته الممتلئ بالزئبق، وعندها مضى يفكر أن أهل عائلة تشي سواء كانوا أمواتًا أم أحياءً، فهم فقط يعرفون الضحك البارد المُصطَنع ولا يعرفون الابتسام والضحك البريء مثل بني البشر. وعندها شعر جَدِّي ببعض الذُّل والغضب تجاه الأشياء الكبيرة الضخمة والرُّعب الشديد من الموت.
صاح السيد تساو إر: «أيها الرفاق … أيها الرفاق … انهضوا لرفع التابوت … انهضوا … ليس من أجلي أنا … انهضوا من أجل قريتكم قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي.»
صاح السيد تساو بصوت مرتفع جدًّا كاد أن يَفتِك مَعِدَته، وقد امتلأ وجهه بالعَرَق الشديد، ثم مضى في صياحه وتشجيعه لهم وهو يقول: «أيها الرِّفاق، نعم إنه من أجل قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي!»
سمع الحمالون صوت صاجة السيد تساو، وعندها شعر جَدِّي بألم شديد في قلبه، وكأن هذا الصوت لم يكن بسبب الضرب على الصاجة، وإنما كان على قلبه هو وقلب رفاقه.
وعندئذٍ أغمض جَدِّي عينيه، ومضى يتقدم إلى الأمام بجنون وكأنَّه مُقْدِم على الانتحار (وفي بداية تَحرُّك الحمالين لرفع التابوت، كان السيد تساو إر قد انتبه إلى ذلك الحَمَّال المُلقَّب ﺑ «الديك الصغير» وقد ألصق فمه بِقِدْر النبيذ الموضوع أعلى التابوت وشرب منه شربة كبيرة). وهنا استطاعوا أن يزحزحوا التابوت عن المقاعد الأربعة التي كان يرقد عليها، ولف الغرفة سكون مميت، وسمعوا صوت طقطقة مفاصل هؤلاء الحمالين، التي أحدثت صوتًا عاليًا مثل المفرقعات لحظة انفجارها.
ولا يعرف جَدِّي أن وجهه لحظة تزحزح التابوت عن المقاعد كان قد بدَا شاحبًا مثل وجه الأموات، وأنه كان قد شعر فقط آنذاك أن ظهره قد تألَّم ألمًا شديدًا، وأن فقراته قد تكسرت إلى قطع صغيرة. حتى إنه لم يستطع أن يرفع ظهره مستقيمًا، وقد سيطر عليه شعور بالإحباط الشديد دام برهة قصيرة، وبدت قدماه مقوستين مثل قطعة حديد.
وهكذا فإن ضعف حيلة جَدِّي قد جعلت الزئبق يتحرك داخل التابوت، مالت مقدمة التابوت على ظهر جدي. كما مال قدر النبيذ الكبير الموضوع أعلى غطاء التابوت، وراح النبيذ يتحرك داخل القدر دون أن ينسكب شيء، وراح أفراد عائلة تشي يُحدِّقون إلى إناء النبيذ.
وهنا صفع السيد تساو وجه جَدِّي صفعة قوية.
ولا يزال يذكر جَدِّي أن تلك الصفعة قد دوَّى رَنِينها وجَلْجلَت رأسه، وأنه فقد الشعور تمامًا بقدميه وظهره وكتفه ورقبته، وبقي مذهولًا بضع لحظات عقب تلك الصفعة المميتة، وغَطَّت عينيه سحابة سوداء.
وعندما تمكن جَدِّي من رفع ظهره مستقيمًا، كان التابوت الضخم قد ارتفع عن سطح الأرض أكثر من متر، حيث رأى ستة من رفاقه الحمالين أسفل التابوت وأربعة آخرين منبطحين على الأرض يرفعون التابوت على ظهورهم. عندها أخذ جَدِّي نفَسًا عميقًا، وشعر ببعض الدفء يسري في جميع أعضاء جسده.
وأخيرًا خرج التابوت من الأبواب السبعة، وتم نَقلُه إلى غطاء كبير أزرق اللون.
وهكذا راح جَدِّي — الذي كان قد قام بأعظم مُهمَّة شاقة — ينظر بازدراء إلى أفراد التنظيم الذين كانوا يحيطون بتابوت جدتي، وقد بدَوا له غير مُتْقِنِين لهذا العمل الذي يُعَدُّ هو ضليعًا فيه، ولكنه لم يرغب في أن يدخل معهم في حوار جديد، وانتظر حتى أتى أحدُهم بقطعة قماش مُبلَّلة بمياه الخليج، ثم تَقدَّم جَدِّي وراح يلفها بنفسه حول التابوت، اختار ستَّة عشر فردًا من أفراد التنظيم ووزع عليهم العمل، وصاح فيهم أن ابدءُوا، حتى تَمكَّنُوا من رفع التابوت من على سطح الأرض … وقاموا بوَضْع تابوت جدتي في غطاء كبير مكوَّن من اثنتين وثلاثين عقلة. ثم مضى جَدِّي يتذكر ذلك المشهد أثناء جنازة السيد خان لين، حيث بدت جنازته المهيبة مثل تِنِّين أبيض ضخم، وقد مرت الجنازة من خلال الطريق المرصوف بالحجارة بمدينة جياو شيان، وانشغل المارَّة بمشاهدة ذلك المنظر المهيب، ومشاهدة وجوه هؤلاء الحمالين الأربعة والستين، بدت وجوههم شاحبة تمامًا، ومشاهدة الدماء التي كانت تسيل من أنوف سبعة أو ثمانية من هؤلاء الحمالين. كان جَدِّي قد انتقل آنذاك إلى مؤخرة التابوت، وراح يمسك بأخف جزء من أحمال التابوت، شعر بِسخُونة سَرَت في جسده، وراح يجري بسرعة على ذلك الطريق المرصوف بالحجارة.
٣
أمسك أبي ببندقيته ولبس ثوب الحِداد من الكتان الأبيض، ووقف أعلى مقعد عالٍ ووجه بصره صوب الجنوب الغربي، وراح يعبث بماسورة البندقية في الأرض أسفل المقعد، ثم راح يصيح بصوت مرتفع: «أمي، أمي، وداعًا إلى الجنوب الغربي، إلى الطريق الفسيح، على ظهر السفينة الكبيرة، على ظهر الحصان السريع، أمي لقد استرحْتِ بعد رحلة معاناة طويلة.»
وأوصى الراهب سه شه أبي أن يتلو هذا النشيد ثلاث مرات متتالية، وهكذا تم تشييع روح جدتي وسط دعوات الأهل والأقرباء إلى الجنوب الغربي إلى عالم الراحة والسعادة. ولكن أبي تلا ذلك النشيد مرة واحدة ولم يستطع أن يستمر بسبب الدموع الغزيرة التي سدَّت حلقه، فأمسك ببندقيته وبقي ساكنًا في مكانه. وفجأة انخرط في الصياح والنداء على أمه بصوت مرتعش، وراح يتابع الفراشات التي تَركَت لأجنحتها العنان وحلَّقَت صوب الجنوب الغربي، حيث البرية الواسعة والهواء العليل، وحيث سطعت شمس الثامن من أبريل غير المستقرة على صفحة مياه نهر موا شوى حتى خَلقَت على سطحها حاجزًا أبيض، كان من الصعب على جدتي أن تَتخطَّى هذا الحاجز، تردَّدَت قليلًا ثم عادت ثانيةً صوب الشرق، فعلى الرغم من أن أبي كان قد ودَّعَها إلى الجنوب الغربي لتنعم هنالك بالمتعة الأبدية، فإن جدتي لم ترغب في الذهاب إلى هناك، حيث راحت تسير بمحاذاة حافة النهر التي كانت تسير عليها من قَبْل وهي تذهب بالطعام لجدي وفرقته، تنظر بعينيها الذهبيتين إلى الخلف لتنادي على أبي. ولو لم يكن أبي آنذاك يستند على بندقيته، فإنه كان بالتأكيد قد سقط من فترة طويلة على الأرض. هنا جاء إليه ذلك الشخص الغريب أبو شامة واحتضنه وأنزله من أعلى المقعد العالي الذي كان يقف عليه منذ وقت طويل. وهنا لف صوت الزَّمْر والطَّبْل الجميل ورائحة الجموع المحتشدة وروعة المراسم الجنائزية، لَفَّت هذه المشاعر مجتمعة أبي بجسده ورُوحه وكأنها طبقة بلاستيكية عالية الجودة أَطبقَت عليه تمامًا.
قبل عشرين يومًا مضت، كان جَدِّي قد اصطحب أبي وذهبَا معًا لحفر قبر جدتي. ولم يكن ذلك اليوم يومًا سعيدًا بالنسبة لطيور السنونو، حيث تَغطَّت السماء في ذلك اليوم باثنتي عشرة سحابة مُتقطِّعة، وفاحت بين السحب رائحة بعض الأسماك المُتعفِّنة، وهبَّت على نهر موا شوى ريح شريرة، وطفَتْ على سطحه أرواح الأشباح، وتناثرَت بين الأعشاب الذابلة على ضفتي النهر أشلاء جثث الكلاب التي لقيت حتفها انفجارًا بالقذائف اليدوية، خلال المعركة التي وقَعتْ بين البشر والكلاب في شتاء العام الماضي، بينما راحت تُحلِّق جماعات السنونو التي جاءت مهاجرة منذ وقت قريب من جزيرة خاي نان وهي في رعبٍ شديدٍ، وكانت الضفادع في تلك الأثناء قد بدأت في التعانق مع بعضها بعضًا، كانت الضفادع تقفز في كل مكان منتشية بنشوة الحب الجميلة التي لَفَّت تلك الضفادع السوداء النحيفة.
وراح أبي ينظر إلى جماعات السنونو والضفادع، وإلى جسر نهر موا شوى الذي لا تزال تظهر عليه آثار جراح عام ١٩٣٩م، شَعَر أبي بشعور أشبه ما يكون بالوحدة والحيرة. وخرجت جموع الأهالي التي استراحت طيلة الشتاء، خرجوا إلى الحقول لزراعة الذُّرَة، وبدَا صوت الآلات الزراعية القادم من بعيد واضحًا جدًّا. وسار أبي خلف جَدِّي ومعهم ما يزيد على عشرة من أفراد التنظيم حتى وقفوا أمام قبر جدتي. وبدَا قبرها مع قبور أعضاء فرقتها في شكل أفعى كبيرة، وبدَا الطين الذي يُغطِّي القبر باهتًا، ونبت داخله عدد من زهور القرنبيط البَرِّي.
لفَّ الصمت الجميع لمدة ثلاث دقائق.
وسأل جدي: «يا دوو قوان، هل أنت متأكِّد من هذا القبر؟»
فقال أبي: «نعم، إنني لن أنساه أبدًا.»
قال جدي: «إذًا فابدءوا الحفر!»
أمسك أفراد التنظيم بالآلات التي جاءوا بها، إلا أنهم وقفوا مُتردِّدين ولم يجرءوا على البدء في الحفر. وأخذ جَدِّي بمِعْوَل على شكل الصليب وراح يضرب به على فتحة قبر مكتنز يبدو مثل ثدي الأنثى، أحدثَتْ ضربات المِعْوَل صوتًا مسموعًا وهي تَتعمَّق إلى بطن الأرض، ثم سحبه بقوة، فخرج المعول بقطعة طمي كبيرة، فرماها جَدِّي إلى جانب القبر، وهنا برزت كومة التراب أعلى القبر.
وعندما ضرب جَدِّي بمعوله كومة التراب أعلى القبر، شعر أبي أن قلبه ينقبض، ولَفَّه شعور بالخوف والكُرْه الشديد تجاه جَدِّي ذلك الرجل قاسي القلب.
ألقى جَدِّي بالمعول جانبًا، وقال بصوت ضعيف: «احفروا، احفروا.»
فأحاط أفراد التنظيم بقبر جدتي، وانشغلوا بعملهم حتى استطاعوا خلال وقت قصير تسوية كومة التراب المكومة أعلى القبر بسطح الأرض، وألقوا بالتراب في كل مكان، حتى تمكنوا من توضيح مَعالم القبر المربَّع الشكل، كان التراب ناعمًا جدًّا، وبدا القبر مثل حفرة كبيرة، فراح أفراد التنظيم يستخدمون المِجْرَفات في نزع التراب من القبر. فقال جدي: «احفروا بكل جرأة، فإنه لا يزال أمامنا مُتَّسَع من الوقت.»
ومضى أبي يَتذكَّر مشهد دفن جثة جدتي ليلة اليوم التاسع من الشهر الثامن عام ١٩٣٩م، حيث سطعت مشاعل اللَّهب التي كانت مرفوعة أعلى سطح الجسر وما يزيد على عشرة مشاعل كانت تحيط بالقبر على وجه جدتي الميتة حتى بدَا وجهُها ينبض بالحياة، ثم قضى التراب بعد ذلك على هذا الانطباع تمامًا. والآن فإن هذه الآلات المعدنية تكشف عن هذا الانطباع من جديد، وكلما أصبحت طبقة التراب رقيقة ازداد توتُّر أبي، وكأن هذه الطبقة الرقيقة من التراب تفصله عن ابتسامة جدتي التي أخفاها الموت.
أخذ العم أبو شامة أبي إلى مكان ظليل بارد، وراح يمسح على وجنته براحة يده، ثم نادى عليه قائلًا: «استيقظ يا دوو قوان!»
فأفاق أبي على الفور، ولكنه لم يكن يرغب في أن يفتح عينيه، وقد بدَا جسده ينضَح بالعَرَق الساخن، إلا أنه كان يبدو باردًا، وكأن الهواء البارد الذي كان يخرج من قبر جدتي قد تسرَّب إلى أعماق قلبه … وقد برَز القبر واضحًا الآن، واصطدمت المعاول وآلات الحفر بأعواد الذُّرَة وأحدثت صوتًا مسموعًا، بينما بدت أيدي أفراد التنظيم ترتجف. وبعد أن انتهى الأفراد من تنظيف أعواد الذُّرَة من التراب الذي علق بها، توقَّفُوا عن العمل، وراحوا ينظرون إلى جَدِّي وأبي بتوسُّل، ورأى أبي وجوههم الحزينة وأنوفهم المُتشنِّجة. ثم سَرَت في تلك الأثناء رائحة عَفِنَة قوية. وراح أبي يتابع تلك الرائحة وكأنه يشمها، كانت تنبعث عن صدر جدتي، بينما هو يرقد على صدرها للرضاعة.
«واصِلوا الحفر، واصِلوا الحفر» هكذا راح جَدِّي يصيح غاضبًا في وجوه هؤلاء الرجال المُتعبِين دون أدنى إحساس بالشفقة والعطف تجاههم.
وهكذا اضطر هؤلاء الأفراد إلى مواصلة العمل وراحوا يستلون أعواد الذُّرَة ويلقون بها إلى خارج القبر، وقد لمعت قطرات المياه على الأعواد الخالية من الأوراق، وبدت تلك الأعواد محمرة وملساء وكأنها قطع من اليشم المبلل بالمياه.
واشتدت تدريجيًّا تلك الرائحة المنبعثة من داخل القبر، فسارَع العمال بوضع أكمامهم على أنوفهم وأفواههم ليتقوا تلك الرائحة القوية، بينما دمعت أعينهم وكأنها قد تَعرَّضَت للحك الشديد بالثوم. وتَحوَّلَت تلك الرائحة في أنف أبي إلى رائحة نبيذ الذُّرَة ذي الرائحة الذكية القوية، حتى كاد يشعر بالسُّكْر مِن شَمِّها. رأى أبي أعواد الذُّرَة تزداد ألوانها حمرةً كلما ازدادت قطرات المياه المتساقطة عليها. ومضى يفكر في أنه ربما تكون تلك السترة الحمراء التي ترتديها جدتي مشبعة بنبيذ الذُّرَة، يعرف جيدًا أن جسدها قبيل وفاتها كان لامعًا وشفافًا مثل الحرير، وأن لون تلك السترة الحمراء هو بالتأكيد الذي طفح على أعواد الذُّرَة الخضراء لتبدو مُحمرة. وعندما مضى العمال في رفع تلك الأكوام من أعلى الذُّرَة ووصلوا إلى آخر طبقة منها، كان أبي يتمنى أن ينظر إلى وجه أمه التي ترقد تحت هذه الكومة من أعواد الذُّرَة، ولكنه في الوقت ذاته كان يخشى أن يرى وجهها. وكلما قلَّت كمية أعواد الذُّرَة المتبقية داخل القبر فوق جثة جدتي، كان أبي يشعر بأنها أضحت بعيدة عنه تمامًا، حيث زالت الحواجز المرئية بين عالَم الأحياء وعالَم الأموات، في حين ازدادت سماكة الحواجز غير المرئية بين العالَمَين. وفجأة سمع الجميع صوت وشوشة خرج من بين آخر مجموعة أعواد ذرة في القبر، فذُهِل أفراد التنظيم ذهولًا شديدًا ومنهم من راح يصيح بصوت مرتفع، ومنهم من وقف مذهولًا من هول ما سمع، وكأنهم قد تعرضوا جميعًا لموجة عاتية خرجت عليهم فجأة من بطن القبر وألقت بهم إلى خارجه. بدت وجوههم شاحبة لمدة طويلة بعد خروجهم من داخل القبر، حتى عادوا إليه ثانيةً بعد أن تقدَّم أبي وراح يحثهم على مواصلة عملهم، وما إن نظر أبي إلى القبر حتى رأى أربعة فئران من الفئران البرية تتسلق جدار القبر، وكان هناك فأر أبيض اللون يجلس هنالك أعلى عود من أعواد الذُّرَة الجميلة جدًّا الملقاة داخل القبر وكأنه يقوم بالتنجيم. انتبه الجميع إلى الفئران الأربعة، التي ما إن صعدت إلى أعلى سطح القبر حتى لاذت بالفرار، بينما كان ذلك الفأر الأبيض لا يزال يجلس في مكانه وهو ينظر إليهم بعينيه الصغيرتين السوداوين. أمسك أبي بحفنة من التراب وألقاها على الفأر الأبيض، فقفز لأعلى حوالي أقل من متر ولكنه لم يستطع أن يصل إلى سطح القبر، فسقط ثانيةً وراح يجري بجنون داخله. وسلط أفراد التنظيم جُلَّ بغضهم على ذلك الفأر الأبيض، وراحوا يهيلون عليه كميات كبيرة من التراب المشبع بمياه الأمطار، حتى تمكنوا أخيرًا من قتله داخل القبر. وعندما وصل التراب إلى آخر مجموعة أعواد ذرة داخل القبر، شعر أبي عندها بالندم الشديد لأنه بدأ بنفسه هذه الحملة من إهالة التراب على الفأر الذي كان يرقد داخل القبر، الأمر الذي تبعه فيه باقي الأفراد، ومعظم تلك الكمية الكبيرة من التراب لم تسقط على الفأر مباشرةً، ولكنها كانت تسقط على جثة جدتي.
كان أبي يعتقد على الدوام أن أمه فور خروجها من بطن القبر ستبدو جميلة نضرة، وأن قبرها سيبدو مشرقًا ومبهرًا تفوح منه رائحة ذكية، وسيكون ذلك المشهد مثل المشاهد الجميلة التي تتكرر في الحكايات والأساطير. غير أن أفراد التنظيم كانوا ينفون هذه المقولة التي يؤكد أبي على صحتها، وكانوا كلما ذكروا هذا الأمر شعروا بامتعاض شديد، وراحوا يصفون صورة جثة جدتي المتعفنة والرائحة الخانقة التي تنبعث عنها. في حين أن أبي كان على ثقة بأن كلامهم هذا مجرد هراء، حيث إنه كان لا يزال يذكر جيدًا أنه عندما تم رفع آخر عود من أعواد الذُّرَة من أعلى جثة جدتي، كان قد رأى بأم عينيه وجهها الجميل الباسم. كما أنه لا يزال يذكر تلك الرائحة الذكية التي انبعثت من جسدها، ولكن تلك اللحظة كانت للأسف لحظة قصيرة جدًّا. وبمجرد أن خرجت جثة أمه من داخل القبر، تلاشت صورتها الجميلة الباسمة، وتبعثرت تلك الرائحة الذكية، ولم يبقَ فقط سوى هيكلها الأبيض الناصع، ويقر أبي أنه كان قد شمَّ آنذاك رائحة كريهة جدًّا، ولكنه كان ينفي من أعماق قلبه أن يكون هذا هو هيكل أمه، ومن ثم فإن تلك الرائحة الكريهة ليست رائحتها.
بدَا الحزن الشديد على جدي. وفر الأفراد السبعة الذين قاموا بإخراج جثة جدتي المتعفنة من داخل القبر مسرعين إلى نهر موا شوى، وراحوا يَتقيَّئُون مما شعروا به خلال إخراج الجثة. وتقدم جَدِّي وفرد قطعة قماش بيضاء كبيرة، وطلب من أبي أن يساعده في نقل جثة جدتي على قطعة القماش الكبيرة. وشعر أبي بأنه قد وصلت إليه عدوى التقيؤ من هؤلاء الأفراد الواقفين على حافة النهر، وراح يرفع رقبته لأعلى وهو يشعر بمرارة كبيرة. كان لا يرغب أبدًا أن يتقدم بتحريك تلك العظام الملقاة أمامه، وقد شعر تجاهها آنذاك بالامتعاض والكره الشديد.
فخاطبه جَدِّي قائلًا: «ما بالك يا دوو قوان تُعْرِض هكذا عن عظام أمك وتَتعلَّل بأنها عظام قذرة؟ هل تشارك الآخَرِين كُرْه عظام أمك؟»
وهنا تأثَّر أبي كثيرًا بمعالم الحزن الشديد التي رآها على وجه جدي، وقليلًا ما ترتسم على وجهه مثل هذه المشاعر، فأمال أبي ظهره وراح محاولًا الإمساك برأس جدتي. وقد أحس ببرودة جثتها الشاحبة، وقد شعر ببرودة تسري في جميع أوصاله. وأمسك جَدِّي بكتفي جدتي، وراح يحركها بخفة، ولكن هيكل جدتي تفتت في تلك اللحظات إلى قطع صغيرة ملأت الأرض المحيطة بالغطاء الأبيض الكبير. وغطى شعر جثة جدتي قدمي جدي، ثم رأى زوجًا من النمل الأحمر الكبير يتسلق الجثة. وهنا ألقى أبي بقدم جدتي والتفت إلى الوراء وفرَّ بعيدًا وقد انخرط في البكاء بصوت مرتفع.
٤
انتهت جميع مراسم الجنازة في تمام الساعة الثانية عشرة ظهرًا، وصاح الراهب سه شه بصوت مرتفع: «فلتتحركوا الآن!» وهنا تَدفَّقَت جموع المُحتشدِين المشارِكِين في تشييع الجنازة نحو الحقول. ورأت جموع الأهالي المشيعين الذين كانوا ينتظرون منذ وقتٍ طويلٍ على مَشارف القرية، الجموع الغفيرة القادمة من داخل القرية، كما رأوا جنازة عائلتنا، عائلة يو المهيبة، والتي بدت مثل التنين الضخم. وقد انتشرت على جانبي الطريق مجموعة كبيرة من الخيام الكبيرة، وكانت المسافة بينها حوالي مائتي متر، وقد امتلأت الخيام بالموائد الفخمة التي تحتوي على شتى أنواع الأطعمة التي يسيل لها لُعاب الأهالي المحتشدين لتشييع هذه الجنازة المهيبة. بينما كانت تجري فرقة الخيول التي يقودها وو لوان تزه داخل حقول الذُّرَة الممتدة على جانبي الطريق. واشتَدَّت حرارة الظهيرة، وتناثرت كميات كبيرة من التراب، وتَصبَّبتْ أجساد الخيول بالعَرَق الشديد، وامتلأت حواف أفواهها بسائل امتزج بالتراب الذي ملأ المكان. وانعكست شمس الظهيرة الحارَّة على أرداف الخيول اللامعة، بينما عَلَت كميات التراب الكبيرة المنبعثة عن رَكْض الخيول.
وكان يَتقدَّم الجنازة راهب ممتلئ الجسم يرتدي عباءة صفراء، ممسكًا بِحَربَة حديدية تُحدِث صوتًا مسموعًا، يُدوِّي حوله وفي عنان السماء، ثم يدوي بين جموع المحتشدين. وكأن تلك الحربة الصغيرة كانت مربوطة بيد الراهب، فكانت تبدو ملتصقة بيده مَهْما اشتدت الرياح. وكان نصف عدد الجموع المحتشدة لتشييع الجنازة يعرفون ذلك الراهب ممتلئ الجسم، يعرفون أنه رجل فقير من معبد تيان تشي، وأنه راهب فقير لا يقوم بحرق البخور وتلاوة كتاب بوذا، وأنه كان يدمن شراب النبيذ وأكل الأسماك، وكان يأوي معه في المعبد امرأة شابة وَلدتْ له مجموعة كبيرة من الرُّهْبان الصغار. فراح الراهب الفقير يضرب بحَرْبته ليُفسح لنفسه الطريق بين صفوف الأهالي، وما إن رفع الحربة تجاه رءوسهم امتثلوا له وتراجعوا عن التَّقدُّم للأمام. وهنا بدَت على وجهه علامات السرور.
وكان هناك رجل من أفراد التنظيم يسير خلف الراهب مباشرةً، وهو يرفَع عصا طويلة، علَّق أعلاها علمًا جنائزيًّا، وبدت العصا ممتلئة باثنتين وثلاثين قصاصة وَرقِيَّة بعدد السنوات التي عاشتها جدتي. راح العَلم الجنائزي يرفرف في السماء الساكنة. وكان يقف خلف رجل آخر من أفراد التنظيم قوي البنية يرفع راية بيضاء ارتفاعها حوالي عشرة أمتار، وقد امتلأت الراية بهذه الكلمات المكتوبة بالحبر الأسود: نعش السيدة داي زوجة القائد يو جان آو قائد فرقة العصابات بقرية دونغ بيي بمدينة قاو مي بالصين الوطنية، والبالغة من العمر اثنين وثلاثين عامًا. ظهر خلف الراية ذلك الغطاء الصغير الذي كان يلف شاهد جدتي، وخلف الشاهد ظهر الغطاء الكبير الذي كان يحمل نعشها. ووسط الأصوات الحزينة التي هزت المكان، تَقدَّم أربعة وستون رجلًا من أفراد التنظيم في خطوة واحدة. وقد غطى التابوتَ عددٌ كبيرة من المظلات والقصاصات الورقية على شكل فَرَس وعدد كبير من الأزهار ذات الألوان المختلفة. وظهر أبي مرتديًا ثوب الحِداد وممسكًا في يده بعصا الأحزان المصنوعة من خشب الصفصاف، حمله اثنان من أفراد التنظيم ذوي الرءوس الصلعاء كانوا يتقدمون إلى الأمام خطوة خطوة وفق صوت أبي. وكان أبي يولول ولولة ممتازة، وقد بدَت عيناه ذاهِلَتَين، وصوت وَلْوَلته مُلفِت للنظر حتى تأثَّرَت به قلوب عدد كبير جدًّا من جموع الأهالي المحتشدين لتشييع الجنازة.
كان جَدِّي والسيد أبو شامة يسيران جنبًا إلى جنب خلف أبي، وقد بدَت عليهم معالم الحزن الشديد، ولم يكن أحد يستطيع في تلك اللحظات أن يُخمِّن ما كان يدور داخل رأس كل منهما.
وأحاط بكلٍّ من جَدِّي وأبي شامة ما يزيد على عشرين من أفراد التنظيم المُسلَّحِين بالبنادق، بدَا عليهم التوتر الشديد وكأنهم مُقْدِمون على ملاقاة عدو قوي. وكان يسير خلفهم ما يزيد على عشر من فرق الطَّبَّالين والزَّمَّارين بقرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، كانوا يعزفون موسيقى غاية في الجمال، تجعل الإنسان يسبح معها بعيدًا في عالَم الأساطير.
وهكذا بلغ طول جنازة جدتي المهيبة حوالي كيلومتر، وامتلأ الطريق الضَّيِّق بالأعداد الغفيرة من المشيعين، وكانوا يتقدمون للأمام بصعوبة بَالِغة وسط ذلك الطريق الضيق، كانت الجنازة تعرج خلال ذلك الطريق الطويل على خيام المآدب المنتشرة على طول الطريق لشكرها، وكانت كُلَّما مرَّت بخيمة تقف عندها لإحراق قليل من البخور على روح الميت، وكان الراهب سه شه يمسك عندها بوعاء من النحاس ويقوم بعمل بعض الطقوس القديمة المتبعة في المراسم الجنائزية، ومِن ثَمَّ فقد كان موكب الجنازة يسير بخطوات بطيئة جدًّا. وكان الراهب قد شعر بالتعب الشديد من كثرة اللعب بالحربة، وتَصبَّب جسمه عرقًا، وتَبلَّلتْ عباءته الصفراء وخَمَد صوت الحَرْبة كثيرًا، ولم يَعُد يدوِّي بعيدًا عن مكان تَمركُز الراهب. شعر جميع الأهالي المشاركون في الجنازة بالإرهاق الجسدي والمعنوي الشديد، وراحوا يتمنون من أعماق قلوبهم أن تنتهي هذه الجنازة الشاقَّة. وراح أفراد التنظيم الذين يحملون الغطاء الكبير ينظرون غاضبين إلى الراهب سه شه، الذي كان لا يزال ممسكًا بالوعاء منهمكًا في القيام ببعض الطقوس، ومَعالم الحزن التي ترتسم على وجهه، وودُّوا لو انْقَضُّوا عليه دفعةً واحدة وأخرسوا لسانه الثرثار. كانت فرقة الخيول التي يقودها وو لوان تزه هي أكثر المجموعات التي تَحمَّلَت التعب والعناء الشديد خلال مراسم الجنازة، كانوا قد انطلقوا في رحلة مكوكية من القرية إلى منطقة المقابر، ثم من المقابر إلى القرية مرة أخرى، وقد بدَا التعب على الخيول التي راحت تلهث وقد بدت أقدامها وبطونها ملطخة بالتراب الكثيف.
وبعد أن ابتعد موكب الجنازة عن القرية نحو كيلو ونصف الكيلومتر، وقف ثانيةً عند إحدى الخيام لشكرها على المأدبة العامرة التي أقامتها، حيث كان الراهب سه شه لا يزال يتقدم الموكب بروح معنوية عالية وصرامة واضحة، وفجأة سمعوا صوت طلق ناري يدوي قريبًا منهم، وما إن نظروا إليهم حتى رأوا ذلك الرجل من أفراد التنظيم الذي كان يمسك بالراية جالسًا على الأرض، وقد مالت الراية على جانب الطريق، ثم سقطت على رءوس الأهالي المشاركين في تشييع الجنازة. وقد عمَّ المكان فوضى عارمة فور سماع صوت الطَّلْق الناري، وتَجمَّع الأهالي في مجموعة واحدة مثل سربٍ كبيرٍ من النمل حول فريسة كبيرة، كنتَ ترى فقط أقدامهم وهي تتحرك ورءوسهم وهي تهتز وسط ذلك التكتل الكبير، وامتزجت أصوات البكاء والصياح والفزع لتعم أرجاء المكان.
وفور سكون صوت الطلق الناري، تطاير عدد من القذائف اليدوية فوق رءوس الأهالي المُتجمِّعِين على جانبي الطريق، وقد سقطت بعض القذائف تحت أقدام أفراد التنظيم، فامتلأ المكان بالدخان الأبيض الكثيف.
ثم سمعوا صوت أحد الأشخاص على جانب الطريق وهو يصيح بصوت مرتفع: «انبطحوا أيها الأهالي!»
فراح جموع الأهالي المحتشدين ينظرون إلى أفراد التنظيم ثم انبطحوا بسرعة وقد بدَا عليهم القلق والفزع، وتَمكَّنُوا فقط من رؤية القذائف التي تهتز في السماء والأصوات المُدوِّيَة التي تَصدُر عن انفجارها، وانتشر بينهم شعور كبير بالفزع والرعب الشديد من شبح الموت الذي يقترب منهم.
توالى انفجار القذائف اليدوية، ولَفَّت المكان صورة مأساوية؛ حيث أسفرت الانفجارات عن مصرع وإصابة ما يزيد على عشرة من أفراد التنظيم، كما أُصِيب العم أبو شامة إصابة بالِغة في مُؤَخِّرَته ونزف كمية كبيرة من الدم. فراح يمسك بمكان الجرح ويصيح بصوت مرتفع: «يا فو لاي! يا فو لاي!» ولم يستمع لرد خادمه فو لاي، الذي كان عمره من عمر أبي تقريبًا، وبالتالي لم يتمكن فو لاي من مساعدته وإنقاذه في تلك اللحظات الحرجة. كان أبي قد أهدى للخادم فو لاي إحدى الكرتين الزجاجيتين اللتين عثر عليهما ليلة أمس مع الطبيب التقليدي، حيث كان أبي قد احتفظ لنفسه بالكرة الحمراء وأهدى الكرة الخضراء للخادم فو لاي، وقد فرح بها فو لاي كثيرًا وكأنه قد وقع على كنز ثمين، وكان دائمًا ما يظهر وهو يلعب بها في فمه. كان أبي ينظر إلى الكرة الخضراء في فم فو لاي وقد بدت مخضبة بالدماء التي سالت من فمه، ولمع لونها الأخضر الجميل وكأنها مثل إكسير الحياة في الحكايات والأساطير. وأصابت إحدى الشظايا رقبة الراهب سه شه الذي كان منشغلًا بطقوسه، فقطعت شرايينه وانفجر منها بحر من الدماء، ثم سقطت رقبته على الأرض وامتزج دمه بتراب الأرض. وبدَا دم الراهب سه شه مثل قطرات الأمطار الشديدة التي كانت تسقط على التراب لتخلق فيه بعض الحفر، وسقط جزء من الغطاء الكبير ليكشف عن تابوت جدتي الأسود.
ثم سمعوا صوت شخص آخر يصيح بين جموع المحتشدين على جانب الطريق: «أيها الأهالي انبطحوا أرضًا!» وفي تلك الأثناء سقطت عليهم مجموعة جديدة من القذائف. فاحتضن جَدِّي ابنه وراح يحبو على الأرض حتى وصل إلى أخدود ضحل على جانب الطريق، داست عشرات الأقدام على ذراع جدي المصاب، حتى أحس بثقل شديد يجثم على ذراعه، ولكنه لم يتألم كثيرًا من تلك الأقدام. أما أفراد التنظيم الذين كانوا يقفون على جانبي الطريق، فقد ألقى ما يزيد على نصفهم البنادق التي كانوا يمسكون بها وفروا كالجرذان، وأما الأفراد الباقون الذين لم يلقوا ببنادقهم بعد، فقد ظَلُّوا شاردِين في أماكنهم على جانبي الطريق، في انتظار انفجار قذائف جديدة. وأخيرًا تَمكَّن جَدِّي من رؤية أحد هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يلقون بالقذائف. وأحس للوهلة الأولى أن وجه ذلك الرجل كان يبدو مثل الطريق الممتلئ عن آخره بالتراب الكثيف، والذي انبعثت منه رائحة الثعالب الماكرة. بدت على ذلك الوجه علامات رجال الجيش الثامن، إنه من فريق جياو قاو! إنه من رجال القائد جيانغ! إنه من رجال الجيش الثامن!
ثم دوَّى صوت انفجار القذائف من جديد، وامتلأ الطريق الترابي بالغبار الكثيف الذي تَطايَر بكميات كبيرة إلى عنان السماء، وتطايرت الشظايا إلى جانبي الطريق، فراح جموع الأهالي المشاركون في تشييع الجنازة يتساقطون على الأرض مثل أعواد الأرز. تواثب عدد كبير من أفراد التنظيم على جانبي الطريق بفعل تلك الشظايا، التي أصابت أيدِيَهم وأقدامهم، وأجسادهم لتسيل منها كميات كبيرة من الدماء، والتي راحت تتناثر فوق رءوس الأهالي مثل مشاعر الحب الرقيقة.
وهنا مد جَدِّي يده ليخرج بندقيته وقد بدَا عليه الاضطراب والارتباك، وحدَّد هدفه جيدًا نحو ذلك الرجل من الجيش الثامن، ثم داس على زناد بندقيته برفق، لتخرج الرصاصة من داخل البندقية ويتابعها بنظراته الدقيقة.
وراح رجال الجيش الثامن يصيحون بين جموع الأهالي قائلين: «أيها الرفاق! انقضوا عليهم واستولوا على أسلحتهم!»
وهنا توجه أبو شامة وبعض أفراد التنظيم الذين أفاقوا من هول صدمة القذائف، تَوجَّهوا نحو ذلك الجمع من الناس وراحوا يطلقون النيران بصورة عشوائية، كانت الطلقات التي خرجت من أسلحتهم فتَّاكة جدًّا، كانت تخترق عددًا من الأجساد قبل أن تستقر داخل جسد أحد الأشخاص أو قبل أن تسقط داخل التراب.
وهنا تَمكَّن جَدِّي من التعرف على الملامح الرئيسية لرجال الجيش الثامن وسط ذلك الجمع الكبير من الناس، والذين بَدَوْا يقاتلون بِاسْتِماتة وسط جموع الناس، وقد راح جَدِّي يتأمَّل تعابير وجوههم القاسية وهو يشعر وكأن سكينًا حادًّا يَخز قلبه الضعيف. والآن تَحوَّلت المشاعر الطَّيِّبة التي كانت قد تَكوَّنَت لديه تدريجيًّا تجاه رجال الجيش الثامن، تحوَّلت تلك المشاعر الآن إلى حقدٍ وبُغضٍ دفين، صوَّب جَدِّي بندقيته نحو الكثير من تلك الوجوه المتوحشة، وكان يثق تمامًا أنه لم يَقْتل أحدًا منهم، كان قد عرف بعد ذلك أن هؤلاء الذين أصابتهم الطلقات العشوائية التي أطلقها أبو شامة وأفراد التنظيم، كانوا جميعًا من الأهالي الأبرياء.
تَمكَّن أبي أن يخرج من تحت إبط جدي، ثم أخرج مسدسه البرونينج، كان قد شعر بالضيق والأذى الشديد من شدة صوت الطلقات النارية التي دوَّت من حوله. فخرجت من مسدسه طلقة عن غير قصد منه. وراح يتبع عادته المعهودة عندما يطلق الطلقات النارية من سلاحه الخاص، فراح يلاحق تلك الرصاصة التي خرجت من مسدسه. وقد اكتشف أنها سارت في طريق مستقيم حتى استقرَّت داخل فم كان مفتوحًا. كان ذلك الفم يخص امرأة شابة فوق العشرين من عمرها، امرأة جميلة ذات شفتين حمراوين نضرتين، وأسنان ناصعة البياض، وذقن ممتلئ. وقد سمع أبي صوتًا مبحوحًا يخرج من ذلك الفم المصاب، وخرجت منه كتل من الدماء التي امتزجت ببعض الأسنان البيضاء الجميلة التي تكسرت بفعل الرصاصة، ففتحت المرأة الشابة الجميلة عينيها الخضراوين الرماديتين وراحت تنظر إلى أبي، ثم سقطت بعدها على الأرض، وقام بعض الناس الحاضرين على الفور بإخفائها عن أعين الجميع.
دَوَّت صافرة الإنذار داخل القرية، واستطاع جَدِّي أن يرى ما يزيد على مائة رجل من قوات فريق جياو قاو وهم يُلَوِّحون ببنادقهم وهَراوِيهم، ويَتقدَّمون تحت قياد القائد جيانغ ويصيحون بكلمة الهجوم. وكان وو لوان تزه قد قطع مؤخرة فرسه الملون داخل حقول الذُّرَة الممتدة جنوب القرية، ثم تَقدَّم فرقة الخيول وفر ناحية الشمال. تألَّم الحصان الملون كثيرًا مما أصابه، وتصببت رقبته بالعرق الشديد. وسَدَّت جموع الأهالي المنهزمة الفَارَّة الطريق أمام فرقة وو لوان تزه ورجاله، فراح وو لوان تزه يضرب حصانه ويحثه على التقدم بين جموع الأهالي المعترضين طريقه، ثم تبعه في ذلك رجاله، وعندها لم يتمكن الأهالي من اعتراض طريق الخيول، فانقضوا إلى أعلى ظهور الخيول، فسقطت الخيول داخل إحدى المستنقعات، ورفعت رقابها وراحت تصهل بصوت يُعبِّر عن إحباطها. وإلى جانب وو لوان تزه، كان هناك حصانان أسقطتهما جموع الأهالي الذين انقضوا عليهما بشكلٍ جنونيٍّ، كما سقط الرجلان اللذان كانَا يمتطيان هذين الحصانين، وراح عدد كبير من الأقدام يَعبُر فوق الحصانين المقتولين وصاحبيهما، وصدر صوت ممتلئ بالحزن والأسى عن الحصانين وصاحبيهما. تَمكَّن الأهالي من القبض على أحد رجال فرقة جياو قاو كان بحوزته مسدس ماوزر — ربما يكون هو الذي قامَ بقتل ذلك الرجل من أفراد التنظيم الذي كان يرفع راية الجنازة — وقدَّموه إلى وو لوان تزه، وما إن رآه وو لوان تزه حتى غضب غضبًا شديدًا، وقد أطلق ذلك الرجل من فرقة جياو قاو طلقة، إلا أنها لم تُصِب وو لوان تزه وطارت في عنان السماء، فانتزع وو لوان تزه سيفه الياباني اللامع، وقطع به رأس الأسير من فرقة جياو قاو. فطارت تلك الرأس فوق رءوس الأهالي، وتناثرت دماؤها فوق وجوه بعضهم.
وتَجمَّع أفراد التنظيم المُرابِضُون على جانبي الطريق إثر سماعهم صوت توبيخ جَدِّي لهم، واحتموا بأعلام ورايات الجنازة والخيام المنتصبة على جانبي الطريق، وراحوا يواجهون فرقة جياو قاو التابعة للجيش الثامن.
وهكذا تَمكَّن جَدِّي من خطف رجال فرقة جياو قاو والتي كانت قد ضَعُفت كثيرًا، فلم يكن لديهم عدد من الأسلحة الجيدة، وكانوا فقط يمتلكون روح التضحية العالية. فعلى الرغم من عدم توقُّف الطلقات النارية التي يُوجِّهها نحوهم أفراد عصابة جَدِّي حتى أسقطوا منهم عددًا كبيرًا، فإنهم لم يتراجعوا عن التَّقدُّم بكل شجاعة ولم يتوقَّف صياحهم: الهجوم الهجوم، هذا بالإضافة إلى أن الأسلحة البدائية التي كانوا يمسكون بها، كانت فقط تفيدهم في حالة حدوث احتكاك مباشر وجهًا لوجه مع خصمهم. وقد شكَّلَت هذه الروح القتالية وروح التضحية الكبيرة التي يتمتعون بها، خطورة كبيرة على عدوهم، حتى تمكنوا من تفكيك معسكرات عصابة جدي ورفاقه. وطارت الطلقات النارية التي أطلقها أفراد التنظيم بعيدًا عنهم. في حين تَمكَّن رجال فرقة جياو قاو المُنقَضُّون عليهم ببسالة كبيرة، من رميهم بعدد من القذائف اليدوية، نجحت في تخويف أفراد التنظيم الذين فَرُّوا من أمامهم وهم يجرون أسلحتهم دون مواجهتهم بها، في حين لاحقَتْهم تلك الشظايا المنبعثة عن القذائف والتي تَمكَّنَت من إصابة عدد كبير منهم. وقد جعلت هذه القذائف الفتاكة جماعة الزمارين والطبالين والأسد والطوالة، يشعرون بخيبة الأمل. تطايرت تلك الآلات التي كان يستخدمها الطبالون والزمارون متأثرة بصوت انفجار القذائف، في حين تَعثَّر هؤلاء الرجال الذين كانوا يسيرون على الطوالات، ومالوا على جانبي الطريق، وغَرَست أقدامهم في الوحل، وبَدَوا مثل الأشجار الجافَّة التي انزرعت وسط حقول الذُّرَة. وصَدرَت عنهم أصوات في غاية الحزن والقسوة، وبدَا على وجوههم الخوف والرعب الشديد.
وما إن رأى وو لوان تزه أفراد التنظيم الفارِّين من أمام رجال فرقة جياو قاو، بدَا عليه القلق الشديد، فراح يرمي رجاله غاضبًا بالسيف الذي يمسك به، كما بدَا حصانه مثل الكلب تمامًا وقد كان لا يتوقف عن عضِّ الرجال القريبين منه، وقد سمع وو لوان تزه من أمامه ومن خلفه أصوات الأجساد التي يصيبها السيف وضحكات الأهالي الذين ارتجفت قلوبهم من هول الموت المُحْدِق بهم.
قاد وو لوان تزه فرقته نحو الطريق العام، حيث صادفوا مجموعة من القذائف التي رمتها فرقة جياو قاو. وبعد سنوات عديدة من تلك الحادثة، كان جَدِّي وأبي قد تَذكَّرَا تلك المهارة الفائقة التي أظهرَها رجال فرقة جياو قاو في استخدام القذائف اليدوية، لقد بدوا آنذاك مثل ملك الشطرنج الذي مُنِي بهزيمة نكراء على يد لاعب شطرنج لا يملك أدنى خبرة في هذه اللعبة، والذي يكون فمه مضطرًّا لتقبُّل الهزيمة، في حين يشعر من داخله بأنه لقي هذه الهزيمة بسبب ضعفه وجُبْنه. وفي ذلك اليوم الذي كان جَدِّي وأبي يَنسحِبان صوب نهر موا شوى، كان أبي قد أصيب بطلقة نارية من بنادق جياو قاو الماوزر في ردفه. ولم يكن جَدِّي قد رأى مثل ذلك الجرح الذي أصيب به أبي من قَبْل، سالَت منه كمية كبيرة جدًّا من الدماء وكأنه قد تَعرَّض لعضة قوية من كلب مسعور. وكلما نقصت الذخيرة من أيدي رجال فرقة جياو قاو، كانوا يسارعون بجمع الرصاصات الفارغة وإرسالها لمصنعهم الحربي لإعادة تصنيعها مرة أخرى، ولم يكن جَدِّي يعلم كيفية صناعتهم لرءوس الطلقات النارية، التي ما إن تخرج من بنادقهم حتى تذوب مثل سائل الأنف وتلاحق من يقف أمامها. وهكذا كان أبي قد أصيب بطلقة من هذه الطلقات الغريبة. وقد استطاعت هذه المجموعة من القذائف اليدوية أن تنهي تمامًا على فرقة وو لوان تزه برجالها وخيولها. كان حصان وو لوان تزه الملون قد انهار تمامًا مثل الجدار المائل بعد أن راح يقفز عدة قفزات، ليصاب إصابة خطيرة في بطنه سالت منها كمية كبيرة من الدماء. وبعد أن تمكن وو لوان تزه من الفرار والاختفاء داخل أخدود على جانب الطريق، وتسلق حافة الأخدود، رأى أحد رجال الجيش الثامن ينقض عليه بخنجر لامع. فرفع على الفور الرشاش الذي كان معلقًا في رقبته وأطلق دفعة من الطلقات النارية، فتساقط أمامه ما يزيد على عشرة أفراد من رجالها، وتمكن ما يزيد على عشرة أفراد من أفراد عصابة جَدِّي الذين لم يصابوا خلال تلك المعركة، تمكنوا من الهجوم على فرقة الجيش الثامن، وراحوا يقتلون رجالها، في حين احتمى رجال الجيش الثامن بخناجر أسلحتهم وراحوا يضربون بها بطون خيول أفراد عصابة جدي. وهكذا اشتبك هؤلاء الأفراد من عصابة جَدِّي ورجال فرقة جياو قاو في معركة حامية، تساقطوا جميعًا وامتزجت دماؤهم بتربة قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي. ونجا من تلك المعركة زوج من الخيول، فرَّا هارِبَين صوب نهر موا شوى، وراحت ركاب سرجيهما تضرب بطنيهما، بينما كان ذيلاهما يرفرفان عاليًا وسط الغبار الأسود الذي ملأ المكان، حتى بديَا يركضان بلا تَكلُّف.
تمكن ثلاثة من أفراد فرقة جياو قاو من غرز خناجر أسلحتهم بكل غضب في بطن وصدر قائد فرقة خيول التنظيم، ذلك الرجل الشرير. فأمسك وو لوان تزه ماسورة رشاشه بكلتا يديه ومال إلى الأمام، ثم راح ينظر هنا وهناك حتى توقفت عيناه عن الإبصار تمامًا. وغطى حاجباه الطويلان عينيه الرماديتين، وسال الدم من فمه. ومد أفراد فرقة جياو قاو أيديهم وسحبوا خناجرهم بكل قوة من صدره. فوقف وو لوان تزه برهة ثم سقط صريعًا داخل الأخدود. وسطعت الشمس على عينيه، لتعكس شعاعًا من الضوء الباهت. وهنا انقض هؤلاء الرجال الثلاثة من فرقة جياو قاو عليه واستولوا على الرشاش الروسي الصنع، الذي كان مربوطًا برقبته والمسدس الماوزر الألماني، الذي كان مربوطًا حول خصره. ثم تَسلَّقت صدره سحلية ذات أرجل كثيرة، ووقفت على صدره وقد امتلأ جسمها بالدماء، بينما لمع من عينيها ذلك الشعاع المخيف الذي ينطلق من أعين الحشرات المُتسَلِّقة.
وقام شاب من أفراد التنظيم كان قد كُسِرَت قدمه من أثر الانفجار، بوضع بندقيته وسيفه أمامه ورفع يديه الشاحبتين عاليًا معلنًا الاستسلام لفرقة جياو قاو، وقد بدَا يتمتم بكلمات من بين شفتيه الرقيقتين، ونزلت من عينيه دموع الخوف من الموت، وراح يتوسل إليهم قائلًا: «أيها العم … لا تقتلني … أيها العم … لا تقتلني.» وهنا تراجع ذلك الرجل صاحب المُقْلَة الصفراء من فرقة جياو قاو بعد تَردُّد، تراجَع عن رمي ذلك الشاب بقذيفة كان ينوي أن ينهي حياته بها، ثم أحنى ظهره وأخذ البندقية والسيف، ولم ينتظر حتى يرفع ظهره، وانقض على ذلك الشاب من عصابة جَدِّي بماسورة البندقية لتدخل في بطنه وتخرج من ظهره، وقد انتبه ذلك الرجل ذو المقلة الصفراء آنذاك إلى ارتعاش جسد الشاب الذي كان يبدو جميلًا جمال ثمرة الخيار الطازجة، وقد أمسك الشاب بماسورة البندقية المغروزة في بطنه وراح يصيح مناديًا: «يا أمي.» ثم تساقطت رأسه الجميلة على ذراعيه. وهنا استدار أبو المقلة الصفراء غاضبًا وراح ينظر إلى رفيقه الذي أصيب برصاصة في منطقة الخصر — وكان رفيقه في منتصف العمر مستنِدًا وهو يتألم على ماسورة البندقية التي يمسك بها الشاب من عصابة جَدِّي — وكان أبو المقلة الصفراء قد أصيب برصاصة من مسدس أحد أفراد عصابة جدي الماوزر عندما قام ذلك الرجل في منتصف العمر من فرقة جياو قاو بغرز ماسورة البندقية في بطن أحد أفراد عصابة جدي.
فتَرَتْ عزيمة التنظيم وهِمَّته بمجرد انهيار فرقة الخيول التي كان يقودها وو لوان تزه، فرَّ عدد من أفراد التنظيم الذين احتموا خلال المعركة بأعلام ورايات الجنازة بأسلحتهم إلى الجنوب، لم يَستطِع جدي وأبو شامة إقناع هؤلاء الجبناء بالبقاء والعودة عن قرار الفِرار. وبعد أن حاوَل جَدِّي معهم، حمل أبي وراح يدافع عن نفسه وعن أبي حتى تمكَّن من الهرب في اتجاه نهر موا شوى.
وتمكَّن رجال فرقة جياو قاو الشجعان الماهرون في فنون الحرب من جَمْع الأسلحة التي تركها أفراد التنظيم، ومضوا في طريقهم يَتقدَّمُهم القائد جيانغ (صاحب القدم الصغيرة) وهُم في غاية السرور بما حققوه من نصر عظيم. وقد استطاع جَدِّي أن يعثر على بندقية يابانية الصنع كان قد ألقى بها أحد أفراد التنظيم الفارِّين، واحتمى بكومة من فضلات الحيوانات وحشر بداخلها عددًا من الطلقات النارية، وبعد سماع صوت أول طلقة تخرج منها، قام جَدِّي بفك ذراعه المصابة المربوط إلى رقبته، ورفع البندقية على كتفه الذي تورَّم من أثر حمل ذراعه المصاب، وكاد قلبه يقفز من بين ضلوعه، وراحت رأس القائد جيانغ صاحب القدم الصغيرة تتحرك أمام فوهة بندقية جدي. ولمزيد من الدِّقَّة، فقدْ حدَّد جدي هدفه صوب صدر القائد جيانغ. وأطلق رصاصته، وفي الوقت الذي دوَّى فيه صوت الطلقة، رأى أبي القائد جيانغ يسقط على الأرض. سقط القائد المغرور جيانغ قائد فرقة جياو قاو، وانتهز جَدِّي تلك الفرصة وسحب أبي ومضيَا مُسرعَين ليلحقَا بأعضاء فرقته الذين انسحبوا من ساحة المعركة.
أصابت تلك الطلقة التي خرجت من بندقية جدي، عَظْم الكاحل عند القائد جيانغ، وجاء الطبيب في عجالة لعلاجه ولف المنطقة المصابة. وجاء مساعد القائد للاطمئنان عليه، في حين بدَا وجه القائد جيانغ صاحب القدم الصغيرة شاحبًا وقد تصبب وجهه عرقًا، ولكنه كان لا يزال يرفض بحزم بقاءه إلى جواره، حيث قال: «أسرعوا، أسرعوا والحقوا بهم ولا تشغلوا أنفسكم بي! أسرعوا واستولوا على أسلحتهم ولا تتركوا قطعة سلاح واحدة، أسرعوا أيها الرفاق!»
وهنا انتفض أفراد فرقة جياو قاو الجالسون على الأرض بتشجيع القائد جيانغ، وهَبُّوا في اتجاه الطلقات النارية بقوة وهمة عالية. في حين توقف أفراد عصابة جَدِّي الذين قتلهم التعب، وألقوا بأسلحتهم وانتظروا أن يُعلِنوا استسلامهم لرجال فرقة جياو قاو.
فصاح فيهم جَدِّي غاضبًا: «أطلقوا النيران، أطلقوا النيران!»
فرد عليه رجل ساذج من أفراد التنظيم: «أيها القائد، لا داعي لأن تُثير غضبهم، إن كل ما يطمحون إليه هو السلاح، فلْنُعطِه لهم، ولنَعُد إلى قريتنا لزراعة الذُّرَة.»
هَمَّ أبو شامة أن يستمر في إطلاق النيران، فاعترضه أحد أفراد التنظيم. قال له: «يكفي هذا القدر أيها القائد، وكفى إثارة غضب هؤلاء الكلاب المسعورين.»
واقترب رجال فرقة جياو قاو أكثر فأكثر، وما إن رأى جَدِّي هؤلاء الرجال الشريرين اللطيفين حتى اضطر إلى إنزال بندقيته.
زلزلت أصوات الرشاشات الألمانية آنذاك المنطقة الواقعة عند ضفتي نهر موا شوى، كانت هناك معركة أكثر شراسة تنتظر أفراد عصابة جدي أفراد فرقة جياو قاو.
٥
عقب انتهاء خريف عام ١٩٣٩م الغائم الماطر، حلَّ فصل الشتاء وكان شتاءً قارصًا جدًّا؛ حيث تجمَّدَت جثث الكلاب التي تمكَّن أبي بمشاركة رفقائه من فرقة جَدِّي من قتلها باستخدام المسدسات والقذائف اليدوية، تجمَّدَت تلك الجثث مع سيقان الذُّرَة التي تساقطت داخل وديان المياه. كما تجمَّدَت أيضًا جثث الكلاب التي قتلت بالقذائف اليابانية خلال الصراع على الزعامة، تجمدت مع الأعشاب المائية داخل المجرى المائي لنهر موا شوى. وراحت جماعات الغربان التي آلمها الجوع الشديد تنهش في جثث الكلاب المتجمدة التي بدت مثل الكتل السوداء الصلبة، والتي كانت تتحرك فيما بين مجرى نهر موا شوى ووديان المياه. وقد تجمَّدَت مياه نهر موا شوى، وظهرت فضلات الغربان الخضراء بالقرب من جثث الكلاب أعلى سطح المياه المتجمدة. كما تجمعت كتل من الجليد أعلى الوديان، وبما أنَّ مياه تلك الأودية كانت ضحلة بالمقارنة مع النهر، فإن تلك الكتل الجليدية بدت متصلة بسطح الأرض، كانت تتكسر من كثرة السير أعلاها. وخلال فصل الشتاء الطويل، استغرق جَدِّي وأبي وأمي والسيدة ليو في بيات شتوي طويل في تلك القرية التي انهارت تمامًا. كان أبي وأمي قد عَلِمَا بطبيعة العلاقة التي تربط بين جَدِّي والسيدة ليو، ولم يُبدِيَا أي اعتراض على ذلك؛ حيث كانت السيدة ليو قد أبدت اهتمامًا ورعاية كبيرة لجدي وأبي وأمي خلال تلك الفترة العصيبة من حياتهم، ولم ينسَ أفراد عائلتي لها ذلك خلال عشرات السنين، حيث لا نزال حتى يومنا هذا نكتب اسم السيدة ليو في «شجرة العائلة.» ومكانها يأتي مباشرةً بعد ليان إر، وتأتي ليان إر مباشرةً بعد جدتي، وتأتي جدتي مباشرةً بعد جدي.
كان جَدِّي قد وقع فريسة للإحباط الشديد عقب الإصابة الخطيرة التي أصابت إحدى خصيتي أبي بواسطة كلب العائلة الأحمر. وكانت السيدة ليو قد واست جدتي قائلةً «كل ذي عاهةٍ جبار.» كما كانت تشينغ إر (أمي) قد تجرأت بتكليف من السيدة ليو على الاقتراب من قضيب أبي، كان شكله آنذاك يبدو غريبًا جدًّا بسبب إصابة الكلب، ومِن ثَمَّ فقد استطاعت السيدة ليو أن تثبت لجدي أن نسل عائلة يو لن ينقطع، وكان جَدِّي قد فرح آنذاك فرحًا كبيرًا، وفرَّ إلى خارج الخيمة ورفع يديه إلى السماء وراح يدعو ويشكر السماء على اطمئنانه على نسل العائلة، وكانت هذه الحكايات جميعها قد حدثت خلال فصل الخريف المنصرم، كانت السماء آنذاك قد امتلأت بأسراب الطيور التي تُحلِّق صوب الجنوب، وبدأت كتل الجليد تظهر في وديان المياه، وهبت الرياح الشمالية الغربية أكثر من مرة، حتى حل الشتاء الأكثر برودة في تاريخ الصين حتى ذلك الحين.
كان جَدِّي وأبي يقومان كل يومين بصيد كلب واحد. وهكذا ساعدتهما تلك الكلاب السمينة على أن يَتمتَّعَا بصحة وبنية قوية خلال عام واحد من صيد الكلاب، كانَا يقومان بتعليق جلود الكلاب التي يأكلونها على جدران القرية، وينظران إليها من بعيد وكأنها جداريات جميلة. وفي ربيع عام ١٩٤٠م، كان أبي قد تَحوَّل إلى شاب قوي البنية مفتول العضلات ذي صحة جيدة بفضل لحوم الكلاب السمينة التي تَغذَّى عليها، والتي كان لها أثر واضح على قلبه الميت فيما بعد، فقد كان يُقْبِل على القتل دون أن يرتجف له جفن.
وبالطبع فقد حاوَل جَدِّي وأبي أن يُغيِّرَا تلك الوجبة السمينة التي اعتادَا عليها خلال عام كامل. فاصطحب جَدِّي ابنه إلى الوادي لصيد الإِوَز الصيني.
كانَا قد تحرَّكَا عند غروب الشمس، واختفيَا داخل حقول الذُّرَة المظلمة، حتى شاهدَا قرص الشمس الكبير الذي بدَا لهما مثل فطيرة كبيرة من كتل الدم، شاهدَا الشمس وهي تختفي عن الأنظار، ونظرَا إلى الوادي، فإذا بطبقة من الدماء تعلو صفحته المتجمدة، حيث علت جثث البشر وجثث الكلاب التي كانت تملأ مياه الوادي. أما جماعات الغربان التي ملأت بطونها من تلك الجثث، فقد راحت تهز أجنحتها معلنةً عودتها إلى أعشاشها فوق الأشجار العالية في القرية. ولمع بريق النيران المشتعلة في الوادي. وارتدى جَدِّي وأبي الثياب المصنوعة من جلود الكلاب، حيث جعلَا الجزء الداخلي من الجلد من الداخل، والجزء الذي يظهر به شعر الكلاب من الخارج، حتى أصبحَا أشبه بالكلاب أكثر من شبههم بالبشر. وكان أبي يتمتع برغبة كبيرة في الأكل، وانقض على الفطائر المصنوعة من الذُّرَة، والتي كانت محشوة بلحم الكلاب. أمره جَدِّي أن يأكل برفقٍ دون أن يحدث هذا الصخب حتى لا يزعج الإِوَز الذي يُحلِّق على مسافات منخفضة، فقد أخبره جَدِّي بأن الإِوَز يتمتع بحاسة سمع قوية جدًّا، حيث يمكنه أن يستمع الأصوات لمسافة خمسة كيلومترات إذا كان الصوت في اتجاه الرياح، ولمسافة اثنين كيلو ونصف إذا كان الصوت عكس اتجاه الرياح. غير أن أبي لم يُصَدِّقه واستمرَّ في الْتِهَام فطائر الذُّرَة المحشوة بلحم الكلاب، ولكن دون أدنى صوت هذه المرة. وبعد غروب شمس ذلك اليوم، امتلأت السماء بغيوم خفيفة، وخيَّم الظلام على المياه المتجمدة، وظهر ما يزيد على أربعين إوزة من الإوز الصيني، كانت تارة تُحلِّق على مسافات منخفضة وتارةً تبطبط. وقد بدَا صوت بطبطة الإوز حزينًا جدًّا، وهنا راح أبي يفكر في أمه. وخرجت منه ريح كريهة جدًّا. فسارع جَدِّي بوضع يده على أنفه وقال متأففًا: «فلتقلل من كميات الطعام الكبيرة التي تلتهمها!» فضحك أبي ثم قال: «يا لها من رائحة كلابية كريهة جدًّا.» فقرصه جَدِّي قرصة ثم قال: «آه منك أيها الكلب الصغير!» وراحت جماعات الإوز تطير على سطح المياه المتجمدة، راحت كل واحدة تمد رقبتها وتداعب قدميها دون أن تحدث أي صوت، وصدر صوت بسيط عن قيام الإوز بهز أجنحتها. جمع جَدِّي وأبي أنفاسهما في انتظار سقوط فريسة من الإوز، ثم شاهدَا إوزة تسقط على المياه المتجمدة، تبعتها جماعة من الإوز. وقد راحت جماعة الإوز تَتحرَّك فوق سطح المياه المتجمدة، على بعد عشر خطوات فقط من ذلك المكان الذي يختبئ فيه جَدِّي وأبي. ثم تَجمَّع الإوز في مجموعة واحدة، ولكن بدت إوزة تقف بعيدًا عن المجموعة وقد رفعت رأسها ونصبت صدرها مثل جندي الحراسة. وامتلأت الأرض بفضلات الإوز التي بدت في البداية صفراء برتقالية، ثم تحولت إلى رمادية ثم إلى فضلات سوداء. ولمعت سبع نجوم أو ثماني وهي تتلألأ في السماء، إلا أنه لم تظهر أية شرارات لضوء النجوم على سطح الجليد الذي يتجمع عنده الإوز، وهكذا فقد بدت جماعة الإوز كالظل المظلم. وهنا أخرج جَدِّي ساق الذُّرَة المشتعل الذي كان يخبئه في ماسورة حديدية، فأصدرت تلك الإوزة التي كانت تقوم بدور جندي الحراسة إشارة الإنذار، فأفاقت جماعة الإوز التي كانت تغفو فوق سطح الجليد، وما إن أفاق الإوز، حتى طار في السماء، ولم يكن بالصورة المعروفة عنه في الحكايات، حيث تذكر الحكايات المعروفة عن هذا النوع من الإوز، أنه عندما يخرج الصيادون المختفون ويرفعون المشاعل، فإن الإوزة المكلفة بالحراسة تصدر إشارة الإنذار، فيفيق باقي الإوز ويراقبون المكان جيدًا، وعندما يتأكدون من هدوء المكان وأمانه يواصلون النوم، أما لو قامت الإوزة المكلفة بالحراسة بإصدار صوت الإنذار ثلاث مرات، فتعرف جماعة الإوز على الفور أنها تبلغهم بتحركات العدو، ثم تنقض جماعة الإوز على تلك الإوزة لنقرها، وخلال تلك الفوضى ينقض الصيادون على الإوز وقد يَتمكَّنُون من الإمساك بالكثير منه حيًّا. وقد تبدو هذه الحكاية منطقية بعض الشيء، إلا أنه يصعب تطبيقها. وربما قد يتصادَف حدوثها مرة أو مرتين كل عشرة آلاف مرة. ولكن على الرغم من جمال هذه الحكاية وروعتها، فإنها ليست بروعة حيلة «صيد الإوز بالصنارة» التي اخترعها أبي آنذاك، كان أبي قد اقترح على أمي وهُمَا داخل الخيمة هذه الحيلة قائلًا: «يا تشينغ إر، هيا بنا نخرج لصيد الإوز، ولنستخدم في ذلك صنارة صيد الأسماك، ولنعلق قطعة من لحم الكلاب غير المطهي على الصنارة، ونربط الصنارة بسلك طويل جدًّا، حتى إذا ما أكل الإوز من قطعة اللحم، يتوالى وقوع عدد كبير من الإوز في أيدينا، فما رأيك في هذه الحيلة الجديدة؟» فقالت أمي: «لقد جُنِنتَ من كثرة أكل لحم الكلاب!»، وعندما حلقت جماعات الإوز، انقض عليها أبي مسرعًا، وكأنه كان يعتقد أنه سيمسك بالإوز من الوهلة الأولى لمهاجمة جماعة الإوز، إلا أنه في نهاية الأمر لم يتمكن من ذلك. وقد أحس بهواء بارد يضرب وجهه بفرار جماعة الإوز بعيدة عنه. وفي اليوم التالي، أمسك أبي بندقيته وراح يهاجم الإوز حتى استطاع إصابة ثلاثة إِوَزَّات، ثم أخذها وعاد بها إلى الخيمة وسلخها جيدًا وأخرج أمعائها ونظفها ثم ألقى بها داخل القِدر حتى نضجت تمامًا، وجلس أبي وأمي وجدي والسيدة ليو حول مائدة واحدة ليأكلوا من لحم الإوز، وما إن قصَّتْ أمي على مسامعهم حيلة «صيد الإوز بالصنارة» التي اخترعها أبي حتى علَت أصوات ضحكهم داخل الخيمة. وهبَّت في تلك الليلة رياح قادمة من البرية، كانت الرياح قوية حتى سمعوا صوت اصطدام أعواد الذُّرَة ببعضها بعضًا، وسمعوا أيضًا أصوات الإوز في السماء، ثم صوت نباح الكلاب على مسافة بعيدة من الخيمة. وقد أحَسُّوا بأن لحم الإوز به طعم الأعشاب الخضراء، وأن هذا النوع من اللحوم يبدو خشنًا ورائحته عادية جدًّا.
انتهى فصل الشتاء ذو البرد القارص، وحل فصل الربيع. وهَبَّت في الليلة الأولى الرياح الجنوبية الشرقية المنعشة، وفي اليوم التالي سمعوا أصوات تَفكُّك الجليد، الذي كان يغطي سطح مياه نهر موا شوى. وظهرت بعض البراعم الصغيرة أعلى أشجار الصفصاف، وتزيَّنَت أشجار الخوخ بالبراعم الوردية الجميلة، وراحت جماعات السنونو تُحلِّق في الوادي وفي مجرى النهر، بينما راحت الأرانب البرية تلاحقها، واخضرَّت الأرض وأزهرت الأشجار. وبعد تساقُط بعض الأمطار الربيعية، خلع جدي وأبي الملابس المصنوعة من جلود الكلاب، التي كانوا يرتدونها خلال فصل الشتاء القارص. ولم تتوقف الأصوات التي كانت تهز جميع أرجاء قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي.
لم يحتمل جَدِّي وأبي، اللذان أصبحَا يتمتعان ببنية قوية بفضل التغذي على لحوم الكلاب، البقاء داخل الخيمة، فخرجَا للنُّزهة على حافة نهر موا شوى، وراحَا يتمشيان على الجسر الحجري أعلى النهر، ثم وقفَا هنالك أمام قبر جدتي وقبور هؤلاء الرفاق من فرقة جدي.
فقال أبي مخاطبًا جدي، فلنستسلم للجيش الثامن يا أبي.
فهزَّ جَدِّي رأسه بعدم الموافقة.
– هل تَعنْي أننا سنسلم أنفسنا لفرقة لينغ ماتزه؟
فهز جَدِّي رأسه بعدم الموافقة أيضًا.
وفي صباح ذلك اليوم، بدَا ضوء الشمس ساحرًا جذابًا بصورة لم يسبق لها مثيل. وخلَت السماء تمامًا من الغيوم، وقد وقف جَدِّي وأبي أمام قبر جدتي صامِتَين.
وراحَا ينظران إلى سبعة خيول تسير مُتفرِّقة قادمة من بعيد على حافة النهر الشمالية شرق الجسر الحجري، كان يمتطي تلك الخيول سبعة أشخاص ذوو وجوه غريبة، تظهر صلعة في مقدمة رءوسهم، أما الرجل الذي كان في المقدمة، فكان رجلًا ضخمًا أسمر اللون، ظهرَت شامة سوداء إلى جانب عينه اليمنى. وكان ذلك الرجل هو أبو شامة قائد التنظيم من قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، وكان قد لمع اسمه عندما كان جَدِّي يعمل قاطع طريق، حيث كان هناك عدم توافُق كبير آنذاك بين قُطَّاع الطُّرق وبين رجال هذا التنظيم، وكان جَدِّي يحتقر أبَا شامة احتقارًا شديدًا. وفي مطلع شتاء عام ١٩٢٩م، وقعَت معركة بين جَدِّي وأبي شامة على شاطئ المياه المالحة، كانت معركة حامية حتى لم يَتمكَّنوا من تحديد المنتصر والخاسر.
تقدَّمَت الخيول السبعة إلى أمام قبر جدتي، وهنا سحب أبو شامة لجام حصانه، فوقف الحصان على الفور، وراح يهز شعره، وأحنى رأسه ومضى يلتهم بعض الحشائش الجافة على حافة الطريق.
وهنا مد جَدِّي يده ليضغط على غطاء مسدسه الياباني الصنع.
واستقر أبو شامة على ظهر حصانه جيدًا، ثم قال: «أأنت أيها القائد يو؟!»
فرماه جَدِّي بنظرة تحدٍّ واضحة. فضحك أبو شامة بصورة بلهاء، ثم قفز من أعلى ظهر الحصان، ووقف على حافة النهر وراح ينظر إلى قبر جدتي وهو يقول: «هل ماتت؟»
فأجابه جَدِّي قائلًا: «نعم لقد ماتت!»
فقال أبو شامة غاضبًا: «اللعنة كل اللعنة عليكَ، لقد ضاعت هذه المرأة الجميلة بمجرد أن وقعَتْ في يدك!»
وهنا تطاير الشرر من عيني جدي.
فقال أبو شامة: «لو كانت اختارتني أنا لم تكن لتتعرض لهذه النهاية!»
فأخرج جَدِّي مسدسه الماوزر وراح يُصوِّبه نحو أبي شامة.
فقال أبو شامة بثبات واضح: «إذا كنتَ رجلًا حقًّا فاذهب لتثأر لها، أما إذا قَتلتَني أنا فهذا خير دليل على عدم استطاعتك لأن تثأر لها!»
كلٌّ منا لديه إجابة خاصة به حول ما الحب؟ ولقد قضى هذا الشيء الغريب على حياة الكثير من الأبطال والشجعان والجميلات والموهوبات. وهكذا استطعتُ وفق تاريخ حب جَدِّي وجماح حب أبي وصحراء حبي الشاحب الهزيل، استطعتُ أن أصل إلى هذه القاعدة الثابتة التي تناسب فقط حب هذه الأجيال الثلاثة من عائلتي: فالعنصر الأول الذي يُشكِّل الحُب الجنوني هو المعاناة الشديدة. وقد يذرف القلب المُعذَّب هنا كميات كبيرة جدًّا من الدماء بسبب معاناته من الحب. أما العنصر الثاني الذي يُشكِّل الحُب القاسي فهو النَّقْد الذي لا رحمة ولا هوادة فيه، حيث يَودُّ كل من طرفي هذا الحب لو يسلخ الطرف الثاني حيًّا لتمتزج دماء الجسد ودماء الروح ودماء القلب والدماء المعنوية والدماء المادية، ويُخْرِج طرف جميع أحشاء الطرف الثاني بما في ذلك القلب الأسود أو الأحمر، ثم يلقي بعد ذلك كل طرف بقلبه للطرف الثاني، ويتلاقى الطرفان في الهواء ويتصارعان حتى يَسقُطَا إربًا إربًا، والعنصر الثالث الذي يُشكِّل الحُبَّ البارد هو الصمت الدائم، فالمشاعر الباردة تُؤدِّي إلى تَحوُّل طَرفَي الحب إلى مجرد أصابع جيلاتي مجمدة، تتجمد بدايةً خلال الرياح الباردة ثم تتجمد وسط الثلج، ثم تتجمد داخل الأنهار، ثم توضع أخيرًا لتتجمد داخل المبردات الحديثة، ثم يتم تعليقها لتتجمد داخل الثلاجات المستخدمة في حفظ اللحوم. وهكذا فإن طَرفَي الحُب الحقيقيين يكون وجْهُهما مثل الصقيع، وتكون درجة حرارتهما ٢٥ درجة مئوية، ويكونان قادرَيْن فقط على التصفيق، غير قادرين على الكلام، ليس لأنهما لا يرغبان في الكلام، ولكن لأنهما لم يَعُد باستطاعتهما الكلام، في حين يعتقد الآخرون أنهما يتظاهران بالخرس.
ومن ثم فإن الحب الجنوني والقاسي والبارد يعادل نزيف الدماء والسلخ حيًّا والتظاهر بالخرس. وهكذا تدور الدائرة دون انقطاع.
وهكذا تتحول دماء الحب الطازجة إلى فضلات، ويظهر الحب في صورة شخصين من لحم ودم يرقدان إلى جوار بعضهما، في حين تكون نهاية هذا الحب زوجًا من أصابع الجيلاتي، يفتحان أعينهما الرمادية المستديرة.
في صيف عام ١٩٢٣م، كان جَدِّي قد خطف جدَّتي من على ظهر الحمار، وأخذها إلى داخل الذُّرَة وافترشَا ثيابه المصنوعة من القش، وهذه كانت بداية مرحلة «النزيف» في علاقة حبهما. وفي صيف عام ١٩٢٦م، وعندما كان أبي في الثانية من عمره، كانت خادمة جدتي الفتاة ليان إر قد أغْرَت جدي بجمالها وحشَرَت نفسها بينه وبين جدتي كزوجة ثانية له، وهذه كانت بداية مرحلة «السَّلْخ حيًّا» لعلاقتهما العاطفية، وهكذا سقط حُبُّهما من علياء جنونه إلى جحيم قسوته ووحشيته.
كانت الفتاة ليان إر تصغر جدتي بعام واحد، كانت قد بلغت التاسعة عشرة من عمرها في ربيع عام ١٩٢٦م. وتتمتع وهي في الثامنة عشرة من عمرها ببنية قوية وبساقين طويلتين وقدمين صغيرتين، وعينين مستديرتين سوداوين وبأنف صغيرة ودقيقة، وبشفتين سميكتين مثيرتين. وقد صادف ذلك الحين مرحلة الازدهار الكبير، التي يشهدها فرن صناعة النبيذ المملوكة لعائلتي، كانت تمتلئ القرى والمدن المحيطة بالنبيذ الأبيض ذي الجودة العالية المصنوع من الذُّرَة الذي ينتجه فرن عائلتي، وتفوح رائحة النبيذ الذكية داخل فناء العائلة والغرف الداخلية طوال العام، وهكذا كان جميع أهل العائلة من الرجال والنساء يتمتعون بقُدْرة كبيرة على الشراب تأثرًا بحياتهم داخل ذلك الفرن الكبير المتخصص في صناعة النبيذ. ولا داعي هنا لأن نتحدث عن القدرة الكبيرة التي كان يتمتع بها جَدِّي وجدتي على شرب النبيذ المصنوع من الذُّرَة، حتى السيدة ليو تلك السيدة التي لم تنشأ في تلك العائلة كانت أيضًا قادرة على شرب قدر كبير من النبيذ. وكانت الفتاة الشابة ليان إر قد رافقت في بداية الأمر جدتي في الشرب، حتى وصلت فيما بعد إلى مرحلة صعبة وأصبح لا يمكنها العيش دون النبيذ. كانوا يشعرون بأن الخمر يجعل الإنسان منتشيًا وشجاعًا لا يهاب الموت، وتجعله أيضًا يتمادى في الشراب حتى السكر وما يتبع ذلك من فساد في حياته وتدَهْوُر في صحته. وكان جَدِّي قد بدأ في ذلك الحين حياته كأحد أفراد قُطَّاع الطُّرق، ولم يكن دافعه إلى ذلك الحصول على المال، ولكن كان بهدف أن يحافظ على حياته ليس إلا، إن الثأر هذا القانون القاسي قد جعل ذلك الرجل الطيب الضعيف من عامة الشعب يتحوَّل إلى قاطع طريق ذي قلب أسود قاسٍ جريء على ارتكاب أعظم الجرائم. كان جَدِّي قد استطاع أن يقتل خوا بوا تزه ورجاله بعد تدربه على فنون استخدام السلاح. وفي تلك الأثناء، كان والد جَدِّي ذلك الرجل الطماع قد غادر فرن النبيذ، وسار وسط الزراعات الخضراء يحتمي بها من أهوال الطريق، وبدأ حياة السَّلْب والنهب. وكانت عصابات قُطَّاع الطُّرق لا تنتهي أبدًا في قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، فقد صنعتهم الحكومة الرسمية بيديها، وصَنَعهم الفقر، وصنَعَتْهم الجرائم المنتشرة في القرية، وصنعوا أنفسهم بأنفسهم. وقد انتشر خبر قيام جَدِّي بقتل خوا بوا تزه زعيم عصابة قُطَّاع الطُّرق في قرية دونغ بيي وأتباعه عند نهر موا شوى، انتشر الخبر في أرجاء القرية التي راحت تتحدث عن شجاعة جَدِّي وبطولته، وتوافَد عليه صغار قُطَّاع الطُّرق، حتى كانت الفترة من عام ١٩٢٥م حتى عام ١٩٢٨م هي العصر الذهبي في تاريخ عصابات قُطَّاع الطُّرق بقرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، وذاع صيت جدي، وأصبح مصدر رعب كبير للجهات الرسمية.
وخلال تلك الفترة، كان السيد تساو مينغ جيو لا يزال يشغل رئيس مدينة قاو مي. وكان جَدِّي لا يزال يذكر قيام السيد تساو رئيس المدينة بضربه بالحذاء على وجهه، وقد أضمر له حقدًا دفينًا وأصرَّ على أن يثأر منه، كانت جرأة جَدِّي على المواجهة المباشرة مع السُّلطات الرسمية أحد الأسباب المهمة، التي جعلته يشتهر ويذيع صيته بوصفه بطلًا شجاعًا. وفي مطلع عام ١٩٢٦م، كان جَدِّي قد اصطحب معه اثنين من رجاله وذهبَا إلى المدينة وقامَا بخطف الابن الوحيد لرئيس المدينة تساو مينغ جيو البالغ من العمر أربعة عشر عامًا. وكان جَدِّي قد اقتاد ذلك الطفل الوسيم حاملًا مسدسه في يده وسار به في شوارع المدينة، حتى وصل إلى مبنى حكومة المدينة، وجاء إليه يان لوا قو زعيم القبض على اللصوص ومعه أعداد كبيرة من جنود حكومة المدينة، كانوا يصيحون من بعيد غير قادِرِين على الاقتراب منه خطوة واحدة. وقد راحوا يطلقون النيران بشكل عشوائي، وكانت جميع الطلقات بعيدًا جدًّا عن جدي. وهنا وقف جَدِّي مكانه وترنَّح قليلًا ثم صوَّب مسدسه تجاه صدغ الطفل، وراح يصيح بصوت مرتفع: «فلترجع يا يان لوا قو إلى سيدك الكلب تساو مينغ جيو وتخبره أن يأتيني بعشرة آلاف جنيه يفتدي بها ابنه الوحيد، وأمامه ثلاثة أيام فقط، وبعدها سيتم فسخ هذا التعاقد!»
فسأله يان لوا قو بثبات وهدوء واضح: «وأين سنتقابل أيها القائد يو؟»
فأجابه جَدِّي قائلًا: «سنتقابل وسط الجسر الخشبي أعلى نهر موا شوى بقرية دونغ بيي بمدينة قاو مي.»
فاصطحب يان لوا قو جنوده وعادوا إلى مبنى حكومة المدينة.
وما إن خرج جَدِّي خارج حدود المدينة، حتى راح الطفل المخطوف يبكي بكاءً شديدًا ويصارع للخلاص من قبضة جدي. واحمرَّ وجه الطفل من شدة البكاء، إلا أنه كان لا يزال طفلًا لطيفًا. فخاطبه جَدِّي قائلًا: «كفاك هذا البكاء، فأنا أبوك بالتَّبنِّي والآن أَصطحِبُك إلى أمك بالتَّبَنِّي!» وعندها كاد الطفل أن ينهار من شدة البكاء. فغضب جَدِّي غضبًا شديدًا، واستلَّ سيفه وراح يُلَوِّح به في وجه الطفل، ثم قال: «كُفَّ عن البكاء، وإلا قطعتُ أذنك!» فسكت الطفل وراح ينظر إليهم بذهول وقد اصطحبه الرَّجُلان ومضيَا في طريقهما إلى قرية دونغ بيي.
وعندما ابتَعدُوا عن حدود المدينة بحوالي كيلومترين ونصف الكيلومتر، سمع جَدِّي صوت حوافر خيول تتبعهم. فنظر جَدِّي نظرة سريعة إلى ذلك الصوت، فإذا به يرى مجموعة من الخيول تركض نحوهم بسرعة شديدة. وانتبه إلى أن تلك المجموعة من الخيول يَتقدَّمُها يان لوا قو ذلك الرجل الذكي القوي. وما إن أدرك جَدِّي صعوبة الموقف، أمر الرجلين من قُطَّاع الطُّرق أن يختفيا على جانبي الطريق، ثم ينقض ثلاثتهم ويأخذوا بأسلحتهم ويوجهونها نحو رأس الطفل.
وعندما كان يان لوا قو ورجاله على بُعد خطوات قليلة من جدي ورجليه، ربط يان لوا قو فرسه ودخل إلى حقول الذُّرَة المجاورة. كانت حقول الذُّرَة عقب موسم الحصاد خالية تمامًا من أعواد الذُّرَة إلا من بعض السيقان الجافة، وقد جاءت رياح الشتاء بالكثير من الأتربة حتى بدت تربة الحقول صلبة جدًّا. فراح رجال يان لوا قو يتبعونه حتى وصلوا إلى المكان الذي يختبئ فيه جَدِّي والرجلان من قُطَّاع الطُّرق، ثم مالوا على جانب الطريق الترابي، واندفعوا نحو قرية دونغ بيي.
بقي جَدِّي مضطربًا لبعض الوقت، ثم أفاق بسرعة. وراح يضرب على رجله بكفه ثم قال: «يا لها من خسارة كبيرة، لقد خسرنا هذه الرهينة!»
ووقف هذان الرجلان من قُطَّاع الطُّرق مذهولَيْن، ثم سألَا جَدِّي بحماقة: «أين ذهب هؤلاء؟»
فلم يجبهما جَدِّي وراح يطلق النيران في اتجاه جماعة الخيول التي اندفعت نحو القرية، ولكن الخيول كانت قد ابتعدت كثيرًا، ولم يستطع مسدسه أن يصل إلى الخيول وأصاب فقط ذلك الغبار الذي خلفته وراءها.
قاد يان لوا قو ذلك الذكي الماهر فرقة الخيول إلى قرية دونغ بيي وشن هجومه على قريتنا، انقضُّوا على منزلنا، وبدَا أنه يعرف الطريق إلى هنالك جيدًا. وفي تلك الأثناء كان جَدِّي قد بدأ يَتحرَّك نحو القرية. وبما أنَّ الابن الوحيد للسيد تساو مينغ جيو نشأ نشأة طيبة في بيئةٍ مرفهةٍ، فكيف يمكنه أن يتحمل كل هذه المعاناة التي تعرض لها منذ أن وقع رهينة في يد جدي؟ فما إن جرى مع جَدِّي ورفاقه مسافة نصف كيلومتر حتى سقط على الأرض منهكًا، فاقترح أحد الرجلين من قُطَّاع الطُّرق على جَدِّي اقتراحًا أن: «نقتله ونوفر على أنفسنا مشقة مضايقته لنا خلال الطريق.» فقال جدي: «إن يان لوا قو بالتأكيد يستعد الآن للقبض على ابني!»
فهز جَدِّي رأس ذلك الطفل، حتى نهض الطفل وسار بخطوات بطيئة. فراح الرجل قاطع الطريق يحث جَدِّي قائلًا: «لقد جاء قراره متأخرًا، والآن ليس عليك الاستعجال، فلن يحدث لابنك أي مكروه ما دام أن هذا الحيوان الصغير تحت قبضتنا.»
قام يان لوا قو ورجاله باقتحام منزل عائلتي وألقى القبض على جدتي وأبي وربطهما في أقدام الخيول.
فراحت جدتي تسبهم غاضبة: «مهلًا أيها العميان! إنني ابنة السيد تساو مينغ جيو رئيس المدينة بالتَّبنِّي!»
فكشَّر يان لوا قو عن أنيابه ثم قال: «وإننا جئنا نقصدك أنت أيتها الابنة بالتَّبنِّي!»
والتقت فرقة يان لوا قو بجدي ورجاله في منتصف الطريق. وأشار كل طرف من الطرفين بسلاحه إلى «رهينته»، وكانوا قد مروا على مسافة قريبة من بعضهما بعضًا دون أن يتجرأ أي من الطرفين على التصرف بطيش تجاه الطرف الآخر.
ونظر جَدِّي إلى جدتي التي كانت مُكبَّلة من يديها أعلى ظهر الحصان، ثم نظر إلى أبي الذي كان محاصَرًا في حضن يان لوا قو.
ومرَّت خيول يان لوا قو من جانب جَدِّي بخفة شديدة، وسمع جَدِّي صوت رنين الأجراس المُعلَّقة في رقاب الخيول، وانتبه إلى البسمة التي كانت تعلو هؤلاء الجنود الذين كانوا يمتطون الخيول، بينما ظهر على وجه جدتي الغضب الشديد، وراحت تنظر إلى جَدِّي الذي يقف على جانب الطريق وقد بدَا عليه الحزن الشديد، ثم صاحت بصوت مرتفع: «يا جان آو، فلتطلق سراح هذا الطفل أخي بالتَّبنِّي حتى تستطيع أن تنقذنَا من قبضتهم.»
فقبض جَدِّي على يد ذلك الطفل الرهينة بشدة، وكان جَدِّي يعرف جيدًا أنه عاجلًا أم آجلًا سيطلق سراح هذا الطفل، ولكن لم يَحِن وقت إطلاق سراحه بعد.
لم يُغيِّر الطرفان مكان تبادُل الرهائن أعلى جسر نهر موا شوى الخشبي. وعبَّأ جَدِّي ما يزيد على ٢٣٠ رجلًا يمثلون تقريبًا جميع أفراد عصابات قُطَّاع الطُّرق في قرية دونغ بيي، واستَعدُّوا جيدًا بأسلحتهم الممتلئة بالذخيرة الحية، وتجمَّعُوا أعلى الجسر الخشبي إما راقِدِين أو جالِسِين في انتظار اللحظة الحاسمة. كان جليد النهر لم يَذُب بعدُ، ذاب الجزء القريب من حافة النهر بفعل جو الربيع الدافئ، وقد خلَقَت المنطقة المُذابة شريطين من المياه الخضراء، وبَدَت قِطَع الجليد متفرقة في وسطها، وامتلأت بطبقة من التراب جاءت بها الرياح الشمالية.
وفي صباح ذلك اليوم، وصلَت فرقة الخيول التابعة لحكومة المدينة إلى حافة النهر في خطوط متعرجة، وكان يتوسطهم هودج صغير يحمله أربعة رجال، وقد بدَا الهودج يهتزُّ بصورة مُلفِتة.
ووقف الرجال القادمون من المدينة في الناحية الجنوبية من الجسر الخشبي وراحوا يتبادلون الحديث مع جَدِّي ورجاله في الناحية الشمالية للجسر. وبدأ السيد تساو مينغ جيو رئيس المدينة الوسيم الوقور الجليل في تبادُل أطراف الحديث مع جدي. حيث راح السيد رئيس المدينة يخاطب جَدِّي وقد علَت وجهه ابتسامة ودودة قائلًا: «يا جان آو، إنك تُعتَبر زوج ابنتي بالتَّبنِّي، فكيف تقوم باختطاف أخي زوجتك الصغير؟ فإذا كنتَ بحاجة للمال، فأخبر أباك بالتَّبنِّي وسيكون لك ما تطلب!»
فقال جدي: «إنني لستُ بحاجة للمال، ولن أنسى الثلاثمائة ضربة بنعال الأحذية التي ضَربْتَني إيَّاها!»
فضحك السيد تساو مينغ جيو منتشيًا ثم قال: «إنه سوء فهم، إنه سوء فهم فحسب! وكما يقول المثل لا محبة إلَّا بعد عداوة! فيا زوج ابنتي العزيز، أنت بطل كبير تَمكَّنتَ من القضاء على خوا بوا تزه، وأنا بالتأكيد أريد مكافأتك على بطولتك وإنجازاتك العظيمة.»
فرد عليه جَدِّي بأسلوب فيه تَعنُّت وتَعسُّف واضح: «ومَن الذي طلب منك أن تكافئه حسب بطولاته وإنجازاته؟» وعلى الرغم من أنه رد عليه هذا الرد بلسانه، فإنه كان يخفي بداخله عكس ذلك.
حرك يان لوا قو ستارة الهودج، فخرجت منه جدتي تحتضن أبي ببطء ملحوظ.
وسارت حتى رأس الجسر حتى اعترض يان لو قو طريقها، وصاح بصوت مرتفع: «يا يو جان آو، أرْسِل ابن السيد تساو مينغ جيو رئيس المدينة إلى رأس الجسر، ولْنَتَّفقْ معًا على إطلاق الرهائن في التوقيت نفسه.»
فصاح يان لوا قو بصوت مرتفع: «أَطلِقوا الرهائن!»
فانطلق ابن السيد تساو رئيس المدينة فارًّا إلى أبيه على الناحية الجنوبية من الجسر، بينما انطلقَتْ جدَّتِي محتضنة أبي إلى الناحية الشمالية من الجسر.
فرفع قُطَّاع الطُّرق من رجال جَدِّي مسدساتهم، بينما رفع جنود المدينة بنادقهم.
تقابَلَت جدتي مع ذلك الطفل الرهينة وسط الجسر الخشبي. وأَحْنَتْ جدتي ظهرها لتتحدث معه فبكى الطفل وابتعد عنها، ثم فرَّ مسرعًا إلى الناحية الجنوبية من الجسر الخشبي.
وفي شهر مارس من ذلك العام مات والد جدتي. فاصْطحَبَت جدتي أبي ورَكِبَا على ظهر بغل أسود وتوجَّهَا إلى مسقط رأسها لعمل الترتيبات اللازمة لجنازة والدها، قالت إنهما سيعودان بعد ثلاثة أيام فقط، ولكن من يعلم تقلبات الطقس الغريبة المقصودة، ففي اليوم الثاني من وصول جدتي إلى مسقط رأسها بدأت تهطل أمطار غزيرة جدًّا، حتى امتلأت الطرقات بالمياه ولم يَعُد بها موضع قدم لم تصل إليه الأمطار الغزيرة، حتى كادت السماء أن تتصل بالأرض من خلال مياه الأمطار. ولم يحتمل جَدِّي ورفاقه البقاء في البرية، فعاد كل منهم إلى بيته، ففي مثل ذلك الطقس الشديد، لم يكن هناك أي مخلوقات قادرة على البقاء خارج مكانها الأصلي، حتى طيور السنونو طارت إلى أعشاشها تحتمي من المطر الغزير، كما سكن جنود المدينة تمامًا ولم يَعُد لهم تَحرُّكات واضحة في الشوارع والطرقات، بالإضافة إلى أنه عقب حادثة الاختطاف الغريبة التي وقعت خلال ربيع ذلك العام، كان السيد تساو مينغ جيو رئيس المدينة قد توصَّل مع جَدِّي إلى اتِّفَاق سِرِّي، وهكذا شَهِدَت مدينة قاو مي صورة من السلام بين العسكر وقُطَّاع الطُّرق، عاد قُطَّاع الطُّرُق إلى بيوتهم وقاموا بإخفاء أسلحتهم تحت وساداتهم، وبدَءُوا منذ ذلك الحين ينعمون بالنوم العميق في بيوتهم.
وارتفع صوت الأمطار أكثر فأكثر، وزاد تدفُّق مياهها أعلى المساكن المبنية من الطُّوب اللَّبِن. وتجمعت كميات كبيرة من مياه الأمطار تغطي نصف طول الإنسان وسط فناء المنزل. وقد خصبت مياه الأمطار تربة الفناء الواسع، حيث ظهرت بعض من الأزهار المائية وسط أطلال سوره، فما إن سقط السور، حتى دخل لون المروج الخضراء إلى وسط الفناء عَبْر النوافذ الكبيرة. وقد اضطجع جَدِّي ثم جلس القرفصاء حول المدفأة، وراح يتأمل منظر المساحات الشاسعة من الذُّرَة الرفيعة الخضراء، وقد اختَفَت السُّحُب المنخفضة الارتفاع تحت أعواد الذُّرَة السامقة، واستمر صوت أعواد الذُّرَة، وامتلأت أرجاء الفناء برائحة التربة الممتزجة برائحة الأعشاب الخضراء الذكية. وقد استطاعت تلك الأمطار القوية أن تجعل جَدِّي في حيرة من أمره، وأن يفقد الشعور تمامًا بكل ما حوله، فراح ينسى ذلك كله بشرب كميات كبيرة من النبيذ التي لم يكن يستفيق منها، حتى عجز تمامًا عن أن يفرق بين الليل والنهار والسماء والأرض. استطاع بغل العائلة الأسود أن يقطع الحبل المربوط به ويهرب من حظيرته الصيفية في الجزء الشرقي من فناء المنزل، ثم وقف متسمرًا أمام نافذة جدتي. وحدَّق جَدِّي بعينيه اللتين احمَرَّتَا من كثرة الشراب إلى ذلك البغل الأحمق، ثم انتابه شعور بالراحة والهدوء. وقد رأى مياه الأمطار القوية تنزل على جسد البغل كالسهام الحادَّة، ومنها ما يسقط على جسده بسرعة، ومنها ما يسير على جسده مرورًا بأذنيه المظلمتين، ثم تتجمع أسفل بطنه، ثم تسقط أخيرًا على الأرض وسط مياه الأمطار التي ملأت وسط الفناء. بدأت مياه الأمطار تَتحرَّك مُحْدِثة صوتًا مسموعًا، بينما لا يزال البغل ثابتًا في مكانه لا يُحرِّك ساكنًا إلا عينيه اللتين بَدتَا مثل زوج من البيض، كان يفتحهما قليلًا ثم يُعاوِد إغماضهما بسرعة. وانتابت جَدِّي حالة من الملل لم يشعر بها من قبل. فخلع جلبابه، ثم خلع بنطاله، وأبقى فقط على سروال داخلي، ثم راح يحك بيده شعر صدره وقدميه، كان كلما حكه بشدة شعر بأنه في حاجة لأن يستمر في ذلك، وشم رائحة أنثوية تعبق أرجاء المكان، فأخذ بسلطانية النبيذ وألقى بها إلى المدفأة، فقفز إليه في الحال فأر صغير ذو فم طويل وراح يرميه بنظرات ساخرة، ثم فرَّ الفأر مسرعًا إلى حافة النافذة الخلفية، وراح يحك جسده بقدميه الخلفيتين. وما إن رفع جَدِّي مسدسه، حتى قفز الفأر بسرعة ليسقط خارج النافذة، ثم دَوَّى صوت الطلقة النارية داخل أرجاء الغرفة.
وهنا دخلَت الفتاة ليان إر بشعرها الأشعث، وراحت تنظر إلى جدي الجالس إلى جوار المدفأة شابكًا ذراعيه فوق ركبتيه، ولم تتحدث الفتاة معه بكلمة واحدة، وانحنت لتجمع بقايا السلطانية التي تَحطَّمَت منذ قليل، ثم استدارت نحو باب الغرفة مستعدةً للخروج.
هنا أحس جَدِّي بحشرجة قوية في حَلْقه، فسعل قليلًا، ثم تحدث إلى الفتاة ليان إر بصوت مُجْهد: «أنت يا … توقَّفي.»
فاستدارت الفتاة ناحيته، وراحت تعض بأسنانها البيضاء على شفتيها السميكتين، ثم ابتسمت ابتسامة جميلة أضاءت جميع جنبات الغرفة المظلمة، وقد حجبت أعواد الذُّرَة الخضراء صوت الأمطار الشديدة خارج المنزل. وهنا راح جَدِّي ينظر إلى شعر الفتاة ليان إر الأشعث وأذنيها الصغيرتين وإلى صدرها البارز ثم قال: «لقد كبرتِ أيتها الفتاة.»
فعضت ليان إر على حافة فمها عضة بها بعض المكر.
فسألها جدي: «ما الذي أتى بك إلى هنا؟»
فأجابت الفتاة وهي تتثاءب: «لقد غلبني النعاس!» ثم قالت: «آه من هذا الطقس السيئ، إلى متى سيستمر هطول هذه الأمطار الشديدة، لقد كادت الأمطار أن تُغْرق جميع أرجاء الأرض.»
فقال جدي: «لقد احتجزت هذه الأمطار الشديدة دوو قوان وأمه في مسقط رأسها، ألم يَقولَا بأنهما سيعودان بعد ثلاثة أيام؟ لقد كادت أن تضيع هذه الزوجة الشَّابَّة!»
فسألته ليان إر: «وهل تأمر بشيء؟»
فطأطأ جَدِّي رأسه ومضى يفكر قليلًا ثم قال: «لا عليك الآن.»
فعاودت ليان إر العض على شفتيها وهي تبتسم، ثم هزَّت مؤخرتها قليلًا وغادرت الغرفة.
وهنا عاود الظلام يَلُف أرجاء الغرفة، واشتدَّت الأمطار خارج النافذة. بينما كان البغل الأسود لا يزال قابعًا في مكانه لا يتحرك، وغرقت أقدامه داخل مياه الأمطار الغزيرة. وقد انتبه جَدِّي إلى حركة مناطق من جسده وهو يهز بذيله.
وعادت الفتاة ليان إر إلى الغرفة مرة ثانية، واتكأت على إطار الباب وهي تنظر إلى جَدِّي نظرات مريبة. وقد تَغطَّت عيناها اللتان كانتَا مشرقتين منذ قليلة بسحابة زرقاء.
وابتعد صوت الأمطار ثانيةً، وأحس جَدِّي بأن راحتي قدميه وراحتي يديه قد تَصبَّبتْ جميعها بالعَرَق.
فسألها جدي: «ماذا تريدين؟»
فعضت ليان إر على شفتيها وابتسمت ابتسامة رقيقة. وعندها انتبه جَدِّي إلى أن هالة من الضوء الذهبي قد ملأت أرجاء الغرفة.
وسألَت الفتاة: «هل تشرب النبيذ؟»
– «وهل تريدين أن تشربي معي؟»
– «نعم، سأشرب معك.»
فأحضرت الفتاة ليان إر زجاجة من النبيذ، وقطعت ملء طبق من البيض المملح.
وازدادت قوة صوت الأمطار خارج النافذة، وبدَا البغل الأسود مثل قطعة حجرية سوداء من شدة البَرْد، وسَرَت البرودة إلى داخل الغرفة، حتى لَفَّت جسد جَدِّي العاري فراح يرتعش من شدة البرد.
فسألته ليان إر بنبرة تخلو من الاحترام: «هل تشعر بالبرودة؟»
فأجابها جَدِّي غاضبًا: «إنني أشعر بالحرارة الشديدة!»
فسكبَت الفتاة سلطانيتين من النبيذ، قدَّمَت لجدي واحدة واحتفظَت بالثانية لنفسها. ثم ضربَا السلطانيتين ببعضهما بعضًا.
سقطَت سلطانيات النبيذ الفارغة على الأرض، وانشغلَا بالنظر إلى السلطانيات الملقاة على الأرض.
ورأى جَدِّي ألسنة لهب ذهبية مشتعلة تملأ أرجاء الغرفة، وقد ظهرت بينها ألسنة لهب زرقاء، فأشعلت ألسنة اللهب الذهبية جسده، بينما أشعلت ألسنة اللهب الزرقاء قلبه.
•••
وراح جَدِّي يُعيد المسدس إلى جرابه وهو يقول وقد شعر بالبرودة الشديدة: «إن الرجل الشجاع سيأخذ ثأره ولو بعد حين!»
أما السيد أبو شامة والذي كان واقفًا على حافة النهر، فقد سار حتى وصل إلى جانب قبر جدتي، وراح يَلفُّ حول القبر وهو يضرب بقدمه التراب الذي يغطي سطح القبر، ثم قال متأثرًا: «ما أقصر حياة الإنسان! ولقد قرَّر يو جان آو والتنظيمات الحديدية أن يُقاوِموا المعتدي الياباني، فلتنضم إلينا!»
فزَمَّ جَدِّي شفتيه وقال متعجبًا: «أنضم إلى عصابتك أنتَ أيها المخادع؟!»
فراح أبو شامة يضرب بقدمه على قبر جدتي ويقول: «كُفَّ عن الغرور يا ابن اللعينة، فالتنظيمات الحديدية تستند إلى دعم الآلهة وتَتَّفِق مع رغبة السماء ورغبة عامة الشعب، وموافقة التنظيم على ضمك يُعْتَبر مَكْرمة كبيرة، وزعيم التنظيم وافق على انضمامك احترامًا لمشاعرها هي.»
فقال جدي: «إنني لست بحاجة لشفقتك يا ابن اللعينة، وسيأتي الوقت الذي سأصفي فيه حسابي معك، ولا تعتقد أن الأمر قد انتهى إلى هذا الحد!»
ضرب أبو شامة على مسدسه المربوط حول خصره وقال: «وهل تعتقد أنني أخشى لقاءك، أنا أيضًا أحسن استخدام السلاح!»
ثم وصل إلى حافة النهر رجل من أفراد التنظيم وسيم بهي الطلعة، وسحَب يد جَدِّي وراح يتحدث إليه بتواضع واحترام جم قائلًا: «أيها القائد يو، إن جميع أفراد التنظيم يُكِنُّون لك كل الاحترام والتقدير، ونأمل جميعًا أن تنضم إلينا، فالمثل يقول: «أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب!» ويجب علينا جميعًا أن نتكاتف معًا لمواجَهة المعتدي الياباني. ولننظر إلى تلك الخلافات الشخصية بعد أن ننتهي من حربنا ضد المعتدي.»
فراح جَدِّي ينظر إلى ذلك الشاب وقد شعر تجاهه بالراحة، ومضى يفكر في نائبه — ذلك الشاب البطل الذي لقي حتفه بسبب خروج طلقة من مسدسه أثناء قيامه بتنظيفه، ثم سأله جَدِّي ساخرًا: «وهل أنت من أتباع الحزب الشيوعي؟»
فقال الشاب: «إنني لستُ من أتباع الحزب الشيوعي ولا الحزب الوطني. وإنني أكره الحزب الشيوعي والحزب الوطني.»
فقال جدي: «يا لك من رجل شجاع!»
فقال الشاب: «أما أنا فأُدْعَى وو لوان تزه.»
فضرب جَدِّي على يده ضربة خفيفة ثم قال: «عرفتُك.»
كان أبي يقف إلى جوار جدي، قابعًا في مكانه لم يَتحرَّك منذ وقت طويل. وقد راح ينظر إلى رأس ذلك الشاب بفضول واضح. وانتبه إلى صلعة الشاب التي تُعْتَبر علامة على أنه من أفراد التنظيم، ولم يكن أبي يعرف السبب في هذه العلامة.
٦
وقضى جَدِّي مع الفتاة ليان إر ثلاثة أيام بلياليها، حتى تَورَّمَت شفتاها وسالَت منها الدماء، راحَت تنزل إلى داخل فمها وتنساب بين أسنانها البيضاء، حتى إنه كان يشم رائحة تلك الدماء كلما كان يُقبلها فيما بعد. وبعد مُضِي تلك الأيام الثلاثة، وبعد أن اختفى صوت تساقط الأمطار واختفى اللون الذهبي واللون الأزرق الذي ملأ الغرفة، سمع جَدِّي أصوات أعواد الذُّرَة في الحقول الممتدة خارج النافذة، وسمع نقيق الضفادع وصوت الأرانب البرية. وقد جاء ذلك الهواء البارد محملًا بروائح كثيرة، كان أبرزها وأشدها قوةً رائحة ذلك البغل الأسود. الذي كان واقفًا في مكانه لا يتحرك حتى غاص نصف جسده في المياه. كان جَدِّي يشعر بخطورة البغل كلما شم رائحته القوية. وكان يفكر في أنه عاجلًا أم آجلًا ستحين الفرصة التي يجهز عليه فيها بمسدسه ويحطم رأسه. وكان قد انتوى ذلك وصوَّب مسدسه تجاهه أكثر من مرة، ولكن كلما رفع المسدس صوب البغل كان اللهب الذهبي والأزرق يملأ أرجاء الغرفة.
في صباح اليوم الرابع، انتبه جَدِّي إلى نحافة جسد الفتاة ليان إر التي كانت ترقد إلى جواره، وإلى تلك الزرقة التي تحيط بعينيها المغمضتين وإلى بياض شفتيها الجافتين. وسمع في ذلك الحين صوت انهيار عدد من منازل القرية. فارتدى ملابسه في عجالة، وقفز بسرعة من أعلى المدفأة حتى تعثرت قدمه، فسقط على الأرض وشعر بألم في معدته، فراح يجاهد حتى انتصب ثانيةً، ثم راح ينادي بصوت منهك على العمة ليو، ولكن لم يجب أحد. فسارع باقتحام باب تلك الغرفة التي تسكنها الفتاة ليان إر والعمة ليو، وراح ينظر داخل الغرفة، فرأى ضفدعة خضراء ترقد أعلى المدفأة، ولا يوجد أي أثر للعمة ليو. فرجع جَدِّي إلى تلك الغرفة التي يقف أمامها البغل الأسود، وراح يلتقط عددًا من البيض المملح الذي أكله بقشره. وقد شعر بالجوع الشديد بعد أن أكل البيض المملح، فدخل الفرن وراح يبحث في جميع الخزانات حتى عثر على أربع قطع من الخبز، وتسع بيضات مملحة وقطعتين من الصويا ذات الرائحة الكريهة، وثلاثة رءوس من البصل، ثم شرب ملعقة كبيرة من زيت الفول السوداني.
وسطعت الشمس القادمة من حقول الذُّرَة داخل الغرفة، بينما كانت ليان إر لا تزال تغط في نوم عميق، فراح جَدِّي ينظر إلى جسدها اللامع مثل جلد البغل الأسود، وقد لاح أمام عينيه الضوء الذهبي. وقد أتت الشمس الحمراء خارج النافذة على هذا الضوء الذهبي. فراح جَدِّي يضرب على بطنها بمسدسه ضربًا خفيفًا، ففتحت ليان إر عينيها وابتسمَتْ له ابتسامة رقيقة، وقد لَمعَت زُرْقة عينيها. ثم قفز جَدِّي إلى وسط الفناء، وراح يتأمَّل الشمس التي غابت عن الفناء لفترة طويلة، وقد سطعت على المياه المُتجمِّعة في الفناء فاكتست باللون الأحمر، ثم سمع صوت المياه في الشارع وقد راحت تنساب إلى داخل حقول الذُّرَة. حتى كادت الذُّرَة أن تغرق في برك المياه.
ونقصت المياه في الفناء شيئًا فشيئًا، حتى اختفت تمامًا ليظهر سطح أرض الفناء من جديد. كما كان الدمار قد أصاب الجُزأين الشرقي والغربي من الفناء الواسع، وخرج الجد لوو خان، والعمة ليو وعمال الفرن مُسرعِين ليتمتعوا بالشمس التي ملأت أرجاء الفناء الكبير. ورأى جَدِّي أيديهم ووجوههم وقد اكتست بطبقة من اللون الأخضر.
فسألهم جدي: «هل لعبتم القمار خلال الأيام الثلاثة الماضية؟»
فأجاب الجد لوو خان: «نعم لقد لعبنا القمار.»
فقال جدي: «لقد غاص البغل في حفرة العام الماضي، فلتأخُذوا حبلًا وتذهبوا لرفعه من داخل الحفرة.»
فأخذ عمال الفرن بالحبل ووضعوه أسفل بطن البغل، وجعلوا به عقدتين عند ظهر البغل، ووضعوا داخلهما لوحين من الخشب، ثم اجتمع ما يزيد على عشرة أشخاص وسحبوا البغل من داخل الحفرة وكأنهم يسحبون واحدة من ثمار الجزر.
بدا الجو صحوًا بعد توقُّف الأمطار، واختفَت مياه الأمطار تمامًا، واكْتسَت الأرض بطبقة من الطين اللامع. وجاءت جَدَّتي وأبي على ظهر بغل من خلال حقول الذُّرَة الممتلئة بالوحل. وقد امتلأت أقدام البغل وبطنه بالوحل. وكان البغلان الأسودان ما إن يَشمَّا رائحة الوحل حتى يَضرِبَا بأقدامهما ويرفعَا رقبتهما ويَصيحَا بصوت مرتفع، ثم يتعانقان بمودة بينما هما مربوطان معًا.
واستقبل جَدِّي جدتي بخجلٍ شديدٍ، ومدَّ يديه واحتضن أبي. وقد بدت عينا جدتي مُحمَرَّتَين من الإرهاق الشديد، وفاحت منها رائحة كريهة. وسألها جدي: «هل انتهيتم من الجنازة؟»
فأجابته جدتي قائلةً: «لقد انتهينا من دفن الجثة صباح اليوم، ولولا توقُّف الأمطار الشديدة، لكان قد أصبح وجبة سائغة لديدان الأرض.»
فاحتضن جَدِّي ابنه ثم قال: «آه من هذه الأمطار الشديدة، لقد كادت أن تغرق الأرض بما عليها. يا صغيري دوو قوان، أسمعني صوتك وأنت تنادي يا أبي!»
فقالت جدتي: «بل من الأفضل أن يناديك «أبي بالتَّبنِّي» «أبي الذي رباني منذ أن كنتُ صغيرًا!» والآن سأذهب أنا لتغيير ملابسي.»
فاحتضن جَدِّي أبي وراح يلفُّ به أرجاء الفناء الواسع، ثم أشار إلى الحفرة التي غاص فيها البغل، وقال: «يا دوو قوان، يا صغيري دوو قوان! انظر إلى هذه الحفرة التي سقط فيها البغل الأسود، لقد مكَث البغل بداخلها ثلاثة أيام بلياليها.»
وأحضرت الفتاة ليان إر طستًا من النحاس لتملأه بالمياه، ثم نظرت إلى جَدِّي وهي تعض على شفتيها وتزمهما، فابتسم إليها جَدِّي ابتسامة مقصودة، بينما كَشَّرت هي عن أنيابها وأظهرت له عدم سعادتها برؤيته.
سألها جَدِّي بصوتٍ خفيضٍ: «ماذا بكِ؟»
فأجابت ليان إر بلهجة يملؤها الغضب والحقد: «اللوم كل اللوم على الأمطار اللعينة!»
حملت ليان إر المياه إلى الغرفة، وسمع جَدِّي صوت جدتي تسألها: «فيم كنتما تتحدثان؟»
فأجابت ليان إر: «لم نتحدث في أيِّ شيءٍ.»
– «وماذا تعنين بقولك، عليك أن تلوم تلك الأمطار اللعينة؟»
فقال ليان إر: «لا شيء، لا شيء، لقد كادت تلك الأمطار اللعينة أن تغرق الأرض بما عليها!»
فتأوَّهَت جدتي قليلًا كأنها قد عرفت الإجابة عن سؤالها، وسمع جدي آنذاك صوت خرير المياه داخل الطست النحاسي.
وعندما خرجت ليان إر لتسكب المياه المتبقية في الطست، انتبه جدي إلى احمرار وجهها وإلى نظراتها المُشتَّتة.
وبعد مُضِي ثلاثة أيام، قالت جدتي إنها تنوي العودة إلى مسقط رأسها للقيام بطقس إلقاء الأوراق المالية على جثة والدها. وعندما احتضَنَت أبي ورَكِبَا على ظهر البغل، قالت جدتي مخاطبة ليان إر: «إنني لن أعود اليوم.»
وفي مساء ذلك اليوم، كانت العمة ليو قد ذهبتْ إلى الجزء الشرقي من الفناء حيث مكان إقامة عمال فرن النبيذ لتشاركهم لعب القمار، وعندها عاد اللهيب الذهبي يملأ أرجاء غرفة جدتي من جديد.
وعادت جدتي على ظهر بغلها في جوف الليل. وقَفتْ عند النافذة واستمعت بعض الأصوات التي تصدر من داخل غرفتها، ثم أطلقَتْ سيلًا من السباب البذيء.
وأوجعت جدتي الفتاة ليان إر ضربًا على وجهها الممتلئ، حتى سالت منه الدماء، ثم صفَعتْ جَدِّي صفعة قوية على خده الأيسر، فضحك جَدِّي فور تلقي صفعتها، ورفعَتْ جدتي يدها تنوي صفعه صفة ثانية، إلا أن يدها شلت تمامًا فور اقترابها من خد جدي، فنزلت يدها على كتفه. وهنا أحكم جَدِّي قبضته وصفعها صفعة أسقطتها على الأرض.
فراحت جدتي تبكي بصوت مرتفع.
واصطحب جَدِّي ليان إر إلى خارج الغرفة.
٧
وفَّرَ أعضاء التنظيم حصانًا لكي يركبه جَدِّي وأبي، كان أبو شامة يتقدَّم الرَّكْب وهو يجري بفرسه بسرعة شديدة، بينما سار الشاب وو لوان تزه ذو اللهجة الواضحة، والذي يكره الحزب الشيوعي والحزب الوطني، سار ببطء بمحاذاة جَدِّي وأبي. كان الحصان الذي ركبه الشاب وو لوان تزه حصانًا صغيرًا في ريعان شبابه، وقد راح ينظر إلى الأحصنة الخمسة التي تسير في المقدمة بسرعة شديدة، وراح يهز رأسه تعبيرًا عن رغبته الشديدة في اللحاق بها، بينما أصر راكبه على شد لجامه وأجبره على التَّخلِّي عن رغبته في الفرار لملاحقة الأحصنة التي تتقدَّم الرَّكْب. وهنا راح الحصان الصغير الملَوَّن يُعَبِّر عن غضبه بأنْ راح يداعب الحصان الأسود الذي يركبه جَدِّي تعبيرًا عن غضبه من سيده. رفع الحصان الأسود حافره في وجه الحصان الملون مدافعًا عن نفسه، وتدخَّل جَدِّي بأن شدَّ لجام حصانه وراح يصرف الحصان المُلوَّن بعيدًا عنه. وبدأت مياه نهر موا شوى الزرقاء الدافئة تَتحرَّك حركات خفيفة، وسرَت رائحتها تجاه الحقول الممتدة على جانبي النهر. وبسبب الحرب الطاحنة التي تشهدها المنطقة، اكتست الحقول باللون الأصفر الذابل، كان قد سقط ما يزيد على نصف أعواد الذُّرَة، ظهرت جماعات قليلة من الفلاحين داخل الحقول، كما قام عدد من الفلاحين الأذكياء بإضرام النيران في أعواد الذُّرَة الجافة حتى تحوَّلت إلى رماد، وعادت ثانيةً إلى الأرض التي أنبتتها.
وعلَا اللَّهب الناتج عن إضرام الفلاحين النيران في أعواد الذُّرَة الجافة على جانبي نهر موا شوى، حتى تحوَّل اللَّهب إلى ستارة حمراء أمام الحقول الممتدة على جانبي النهر، وعلا الدخان في سماء المكان، وتغلغلت رائحة احتراق أعواد الذُّرَة إلى داخل أنف جَدِّي وحَلْقه. وانحنى الشاب وو لوان تزه برأسه، وراح يسأل جَدِّي قائلًا: «أيها القائد يو، لقد تحدَّثتُ إليك كثيرًا، ولم أستمع حتى الآن إلى رأيكم السديد!»
فابتسم جَدِّي ابتسامة مُصطَنَعة، ثم قال: «إنني جاهِل لا أعرف أكثر من مائتي كلمة، وإنني سأحسن القول تمامًا إذا ما تحدَّثْنا عن القتل والسَّلْب والنَّهْب، أما ما يَتعلَّق بالوطن والأحزاب وغيرها من هذه الأمور فإنني أجهلها تمامًا!»
– «إذًا، فلنستمع إلى رأيكم حول من الذي سيحكم الصين بعد طرد المعتدي الياباني؟»
– «هذا الأمر لا يخصني في شيء، وعلى أية حال مَهْمَا كان ذلك الحاكم فإنه لن يجرؤ على المساس بي!»
– «وما رأيكم في تسليم هذه المهمة للحزب الشيوعي؟»
فرفع جَدِّي أنفه ساخرًا، وأخرج صوتًا من أنفه.
– «أم أنك ترى أن يتولاها الحزب الوطني؟»
– «هؤلاء الكلاب!»
وهنا أوقف الشاب وو لوان تزه حصانه لانتظار حصان جَدِّي الذي كان يجري خلفه، ومال الشاب بجسده ناحية جدي، وقال بشيء من السرية: «أيها القائد يو، كما أخبرتُك أنني طالعتُ منذ طفولتي روايَتَي «الدويلات الثلاث المتحاربة» و«أبطال البحيرة»، وعلمتُ جيدًا بما فيهما من خطط ومؤامرات، وجرأة في المواجهة. وكنتُ أعتقد فيما قبل أن السيد أبا شامة بطلٌ شجاع، وهكذا هجرتُ منزلي وتركتُ بلدتي وسارعتُ بالانضمام إليه، كنتُ أتمنى من أعماق قلبي تحقيق طموحاتي العالية والاستماتة من أجل بلوغ هدفي من الانضمام لهذا التنظيم، وأن نحقق على أرض الواقع إسهامات وإنجازات كبرى، ونُؤمِّن حياة زوجاتنا وأطفالنا، ولكنْ مَن كان يدري أن أبا شامة هذا إنما هو رجل أحمق مثل الخنزير، غبي مثل البقرة، جبان ضعيف الحيلة، وأن كل ما يفكر فيه هو حماية ممتلكاته الخاصة في قرية يان شوى كوو تزه، وكما يقول القدماء: إن الذكي هو من يتحين الفرصة المناسبة لاستخدام ذكائه. وقد تَوصَّلتُ بعد تفكير مَلِي، إلى أنكَ أنتَ البطل الوحيد في هذه القرية الكبيرة؛ ومن ثم فقد تواصلتُ مع عشرات الإخوة من أعضاء هذا التنظيم، واتَّفقْنَا معًا على مطالبة أبي شامة بأن يدعوك للانضمام إلينا، وهذا من قَبِيل إغراء الفريسة حتى تقع في الفخ المنصوب لها. وأنك فور انضمامك لنا ستعتمد على عملك واجتهادك حتى تَحظَى بتعاطف جميع أعضاء التنظيم والإعلاء من مكانتك بيننا، وعندها سأتَحيَّن الفرصة للإطاحة بأبي شامة ونعلن تنصيبك زعيمًا لنا، ونبدأ عهدًا جديدًا تحت زعامتك، حيث الالتزام بالقواعد الصارمة والعمل على زيادة حجم قُوَّاتنا، وتوطيد أقدامنا بدايةً في قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، ثم نتوسع شمالًا للسيطرة على قرية دونغ نان بمدينة بينغ دو، ثم السيطرة على القرى الشمالية من مدينة جياو شيان، وتوحيد هذه القرى تحت زعامتنا. وفي ذلك الحين سنتمكن من تأسيس عاصمتنا في يان شوى كوو تزه، ونرفع عليها عَلَم تنظيم المقاوَمة ضد اليابان، والذي ستكون أنت أميرًا له. ثم نقوم بعدها بتقسيم أنفسنا إلى ثلاث فرق رئيسية، الفرقة الأولى تهاجم مدينة جياو شيان، والفرقة الثانية لمهاجمة مدينة قاو مي، أما الفرقة الثالثة فتهاجم مدينة بينغ دو، وهكذا حتى ندمر الحزب الشيوعي والحزب الوطني والشياطين اليابانيين، وبعد الاستيلاء على هذه المُدن الثلاث، فسنكون قد استولينا تمامًا على الصين قاطبةً!»
وهنا كاد جَدِّي أن يسقط من أعلى ظهر حصانه، وراح ينظر بذهول شديد إلى ذلك الشاب الوسيم المفعم بالحماس، وأحس برغبة قوية تسيطر على قلبه، فشد جَدِّي لجام حصانه، ثم انتظر حتى زال السواد الذي كان يظهر أمام مرمى بصره، ثم نزل من على ظهر حصانه، وقد فكر في أن يركع أمام الشاب، ولكنه عدل عن ذلك، ومد يده إلى يد الشاب وو لوان تزه التي كانت مبللة بالعرق، وراح يقول بصوت متلعثم: «أيها السيد! يا لكَ من صعلوك! كيف لم نتقابَل من قبلُ! لسوء الحظ أننا تعارَفْنا متأخرًا.»
قال الشاب وو لوان تزه بعينين دامعتين: «دعْنَا من المجاملة، ولنعمل ونخطط معًا لتحقيق الإنجازات والمآثر الكبرى!»
كان أبو شامة يحث حصانه على الجري بسرعة، وهو يصيح بصوت مرتفع: «يا هذا، إلى متى ستمكثون في مكانكم؟»
فوضع وو لوان تزه قبضة يده على فمه، وراح يرد عليه: «سنتحرك فورًا، لقد انقطع حبل حصان السيد يو، وها نحن نقوم بإصلاحه!»
سمعوا السيد أبا شامة يسبهم آنذاك ببعض الألفاظ القبيحة، وقد راح يضرب على ظهر حصانه، حتى تألم الحصان كثيرًا ومضى يجري بسرعة شديدة مثل الأرانب البرية.
ونظر الشاب وو لوان تزه إلى أبي ذلك الفتى ذي العينين اللامعتين، الذي كان جالسًا على ظهر الحصان، ثم خاطبه قائلًا: «أيها الأمير الصغير، إن ما دار بيني وبين والدك القائد يو منذ قليل كلام في غاية الخطورة، وعليك ألَّا تفشيه أبدًا!»
هزَّ أبي رأسه هزةً شديدةً بالموافقة.
فأرخى وو لوان تزه لجام حصانه، وترك له العنان، ففرَّ الحصان مسرعًا، وقد تطايَرتْ خلفه كميات كبيرة من الأتربة التي حملتها الرياح إلى مجرى النهر.
وأحسَّ جَدِّي بصدق ووضوح لم يعهدهما في حياته من قبل، أحسَّ وكأن كلام الشاب وو لوان تزه قد نظَّف قلبه تمامًا حتى جعله مثل المرآة اللامعة، وشعر بداخله بسعادة بالِغة، وأنه أخيرًا قد عرف هدف رحلة كفاحه الطويلة. وراح يُحرِّك شفتيه، ويتمتم بكلمات غير مفهومة تمامًا، حتى إن أبي الذي كان جالسًا في حضنه قد عجز عن فهم ما يُتَمتِم به. وقال جدي: «لتكن مشيئة السماء!»
وسار الحصان في طريقه مسرعًا حينًا ومبطئًا حينًا، حتى وصل إلى أسفل حافة نهر موا شوى وجعل النهر من خلفه، وعند غروب شمس ذلك اليوم، جلس جَدِّي على ظهر حصانه، وراح ينظر إلى نهر يان شوى، ذلك النهر الضيق الذي يضيق مجراه عن نهر موا شوى، ويجري في خطوط مُتعرِّجة وسط الأراضي المالحة، وبدَت مياه النهر مثل زجاج رمادي يكشف عن صورة غير واضحة.
٨
أخيرًا، وبعد التفكير مرارًا وتكرارًا، قرَّر جَدِّي العدول عن العودة إلى المنزل للاطمئنان على جدتي وأبي، على الرغم من أنه قد راوده في أحلامه جسد جدتي الأبيض، وابتسامة أبي البريئة والغريبة، كان قد أحس فور استيقاظه بدموع غزيرة بللت وجهه المتسخ، وبوَخْزَة شديدة في قلبه، كان يعلم جيدًا وهو يتأمل في النجوم مدى اشتياقه لزوجته وابنه. أما الآن فإنه يقف على ناصية القرية التي يعرفها جيدًا، ويشم رائحة النبيذ القريبة إلى قلبه، ولكنه لا يزال مترددًا. لقد استطاعت تلك الصفعة التي صفعته إيَّاها جدتي أن تُفرِّق بينهما، كانت قد سَبَّته: يا حمار! يا خنزير! وقفَتْ أمامه وهي تضع يديها في وسطها وترفَع رقبتها لأعلى، ورأى الدماء الحمراء الداكنة تسيل داخل فمها … هذه الصورة القبيحة جعلته في غاية الاضطراب، حيث مضى يفكر في أنه لم يتعرض أبدًا خلال حياته الطويلة للسباب من قِبَل امرأة، كما أنه لم تَجْرُؤ امرأة على صفعه على وجهه. وعلى الرغم من شعوره بوَخْز الضمير خلال علاقته السِّرِّيَّة مع الفتاة ليان إر، فإنه بعد تَعرُّضه للسب والصفع من قِبَل جدتي، قد زال شعوره بوَخْز الضمير، وزال شعوره بنقد ذاته على قيامه بمثل تلك الفعلة، والآن زال هذا الشعور تمامًا، وحل محله شعور قوي بالانتقام. فتشجَّع على مغادرة المنزل مصطحبًا معه الفتاة ليان إر، وقد غادر إلى قرية شيان شوى كوو تزه التي تبعد مسافة سبعة كيلومترات ونصف الكيلومتر عن قريتنا، واشترى لهما بتلك القرية مسكنًا يقيمان فيه. وكان يعرف جيدًا أن حياته لم تكن تسير على ما يرام خلال تلك الفترة، فلقد اكتشف الكثير من مزايا جدتي من خلال عيوب الفتاة ليان إر التي اتَّضحَت له من خلال عِشْرَتها … والآن وبعد نجاته من الهلاك المُحتَّم، فإن أقدامه قد أتت به إلى هنا مرة ثانية، وهو الآن يشم رائحة مُحبَّبة إلى قلبه، شعر بحزنٍ شديدٍ يُخيِّم على قلبه. ومضى يفكر في أن يتغاضى عن كل ما حدث ويرمي بنفسه داخل ذلك الفناء الذي يحوي الكثير من الذكريات القبيحة والمفجعة والجميلة ليستعيد الأيام الجميلة التي قضاها داخل جدرانه، ولكن صوت السباب المفجع، وتلك الصورة القبيحة يقفان حاجزًا كبيرًا، يعوقان طريقه إلى الفناء.
وعند منتصف الليل، وصل جَدِّي أخيرًا إلى قرية شيان شوى كوو تزه، وقد بدَا عليه التعب الشديد، ووقف أمام المسكن الذي كان قد اشتراه قبل عامين، وراح يتأمل قمر ما بعد منتصف الليل الذي ظهر عاليًا في السماء ناحية جنوب غرب المسكن. بدت السماء رمادية فضية، بينما كان القمر ذهبيًّا ناقصًا واضحًا تمامًا، أحاط به عدد من النجوم المتفرِّقة، وسطع ضوء القمر والنجوم أعلى سطح المسكن والشوارع المحيطة به. ولاح أمام عينيه جسد ليان إر الأسمر القوي الطويل، ومضى يفكر في ذلك اللهب الذهبي الذي كان ينبعث من جسدها، والشعاع الأزرق الذي كانت ترسله عيناها، وهنا استطاعت هذه الذكريات الجميلة أن تجعله ينسى آلامه الجسدية والمعنوية، فتسلق سور المسكن ودلف إلى داخل الفناء.
طرق جَدِّي على حافة النافذة، فاجتمع حماسه، وراح ينادي بصوت خفيض: «يا ليان إر … ليان إر.»
وسمع صوت صراخ داخل الغرفة، ثم صوت ارتعاد شديد، ثم صوت بكاء متقطع.
«ليان إر، ليان إر، هل تسمعين صوتي؟ إنني يو جان آو!»
– «أخي … أخي الحميم! إنك لن تستطيع إرهابي! وإنني أتمنى لقاءك حتى لو كنتَ عفريت يو جان آو! وإنني أعلم أنك تَحوَّلتَ إلى عفريت، وأنا في غاية السعادة لأن تأتي للاطمئنان عليَّ بعد أن تَحوَّلتَ إلى عفريت … فإن هذا يدل على أنك لا تزال تفكر فيَّ … تقدَّمْ … تقدَّمْ.»
«ليان إر، إنني لست عفريتًا، إنني لا زلتُ حيًّا، لقد استطعتُ النجاة حيًّا!»، وراح جَدِّي يضرب بقبضة يده على النافذة، ثم قال: «فلتسمعي هذا الصوت، وهل يستطيع العفريت أن يطرق النافذة؟»
فسمع صوت بكائها داخل الغرفة.
فقال جدي: «كُفِّي عن البكاء حتى لا يسمع أحد صوتنا.»
اقترب من الباب، ووقف عنده ثابتًا لتجيء ليان إر مثل السمكة الكبيرة وترمي بنفسها في أحضانه.
واضطجع جَدِّي أمام المدفأة، وراح ينظر بذهول إلى السقف المطلي بالورق، ومكث بالمنزل طيلة شهرين كاملين لم تطأ قدمه خلالهما عتبة المنزل، كانت ليان إر تنقل له كل يوم ما يثار من أحاديث حول عصابات قُطَّاع الطُّرق في قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، ومِن ثَمَّ، فإنه كان يبدو كل يوم غارقًا في ذكريات تلك المأساة الكبرى. ومضى يُفكِّر في أنه قضى عمره في صيد الإوز، ولكنه الآن وقع بفعل الإوز، وأنه كان قادرًا أكثر من مرة على الفتك بذلك الكلب تساو مينغ جيو، ولكنه كان دائمًا ما يعفو عنه. وهنا راح يفكر في جدتي، إن علاقتها المشكوك فيها كابنة بالتَّبنِّي لذلك الكلب تساو مينغ جيو كانت أحد الأسباب التي أوقعته في يد ذلك الكلب، وأنه كما يكره تساو مينغ جيو، فإنه يكرهها كرهًا شديدًا. وربما تكون قد خَطَّطتْ مع ذلك الكلب وحَفرَا له تلك الحفرة معًا، وخاصةً أنه سمع ليان إر تقول له إنك لا تستطيع أن تنساها، ولكنها نَسِيَتْك منذ زمن طويل، فبعد أن غادرتَ القرية على متن القطار، كانت قد رحلَتْ مع أبي شامة زعيم التنظيم، ومكثَا لبضعة شهور في قرية شيان شوى كوو نزه، ولم تَعُد إلى القرية حتى يومنا هذا. كانت ليان إر تُفْضِي إليه بهذه الأسرار، بينما هي تفرك بيدها أضلاعه. وما إن انتبه جَدِّي إلى جسدها الأسود حتى شعر ببعض الاشمئزاز، وهنا راح يفكر في جسد جدتي الأبيض الناصع، ثم راح يفكر بعيدًا في تلك الظهيرة التي اختطفها فيها إلى داخل حقول الذُّرَة، وقضى معها لحظات لن تُنْسى إلى الأبد.
تَقلَّب جَدِّي قليلًا ثم قال: «وهل لا يزال مسدسي موجودًا؟»
فاحتضنت ليان إر ذراع جدي، وقد شعرت بخوف شديد، ثم أجابت: «ماذا تريد أن تفعل؟»
فقال جدي: «أريد أن أقتل هؤلاء الكلاب!»
فقالت ليان إر: «يا جان آو، يجب أن تتوقَّف عن القتل! فلقد قتلتَ الكثير من الناس خلال رحلة حياتك الطويلة!»
فركلها جَدِّي ركلة في بطنها، ثم قال: «كفاكِ من هذه الثرثرة، وائتيني بالمسدس!»
فشعرت ليان إر ببعض الضيق، ثم فتحَت الوسادة وأخرجَت منها ذلك المسدس الماوزر.
وعاوَد جَدِّي وأبي يركبان على ظهر ذلك الحصان الأسود، وراحَا يلحقان بذلك الشاب من أعضاء التنظيم، وقد قطعَا مسافة طويلة حتى لاح أمامهما أخيرًا نهر يان شوى، وعندما رأيَا ذلك الخلاء الواسع الممتد على ضفتي نهر يان شوى، فإنه على الرغم من أنه لم يكن قد هدأ بعدُ من كلام الشاب وو لوان تزه المثير جدًّا، فإنه مضى يُفكِّر في مشهد اشتباكه مع أبي شامة على حافة نهر يان شوى.
أحكم جَدِّي وضع مسدسه الماوزر، وركب على ظهر حمار كبير وقطع مسافة طويلة خلال صبيحة ذلك اليوم، حتى وصل إلى قرية يان شوى كوو تزه، وقام فور وصوله بربط حماره إلى جذع شجرة من أشجار الدَّردار خارج حدود القرية، وراح الحمار يقضم في لحاء الشجرة، وأنزل جَدِّي قبعته القديمة على عينيه ومضى يسير في عجالة إلى داخل القرية. وعلى الرغم من اتساع تلك القرية فإنه لم يتوقف للسؤال عن الطريق، وراح يتوغل إلى داخل القرية في اتجاه صفوف المنازل العالية المبنية من الطوب. صادَف الوقت حينها أواخر شهر الخريف ومطلع الشتاء، وقد رأى حركة مجموعة من أشجار الكستناء ذات الأوراق الجافة تهتز بفعل الرياح، ولم تكن الرياح قوية، إلا أن صوتها كان قويًّا بعض الشيء. ودخل جدي إلى فناء المسكن الكبير المبني من الطوب، حيث صادَف وقت دخوله اجتماع أعضاء التنظيم. رأى لوحة كبيرة صفراء اللون مُعلَّقة على سور الصالة الكبيرة، وقد ظهر عليها رسم عجوز ذي ملامح غريبة يَركَب نمرًا ضخمًا مخططًا. وقد رأى أسفل اللوحة مجموعة من الأشياء الغريبة جدًّا (استوضح جَدِّي فيما بعد أن تلك الأشياء كانت عبارة عن أقدام قِرد، عظام دجاج، مرارة خنزير، رأس قطة، حوافر بغل)، ووسط هالة من الدخان ذي الرائحة الذكية، رأى جَدِّي رجلًا تظهر في وجهه شامَة يجلس على مقعد مستدير من الحديد، وقد رفع الرجل يده اليسرى ليمسح على صلعته، بينما وضع يده اليمنى على ردفه، وهو يتلو بصوت مرتفع مجموعة من التعاويذ.
وعرف جَدِّي على الفور أن ذلك الرجل الجالس أمامه هو أبو شامة، ذلك الشيطان المعروف في قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي.
وفور الانتهاء من تلاوة التعاويذ، نهذ أبو شامة بسرعة، وراح يسجد ثلاث سجدات أمام تلك اللوحة، ثم عاد بعد ذلك ليجلس على المقعد الحديدي، ثم قبض على يديه ليجعل أظافر أصابعه العشرة تختفي داخل قبضته. ثم راح يهز ذقنه لمجموعة من أعضاء التنظيم الجالسين في الصالة الفسيحة. راح أعضاء التنظيم يمسحون على صلعاتهم بأيديهم اليسرى، ويضعون أيديهم اليمنى على أردافهم، ثم أغمضوا أعينهم وراحوا يُردِّدون تلك التعاويذ التي انتهى منها أبو شامة، كان صوت تلاوة تلك التعاويذ مؤثرًا جدًّا، وأحس جَدِّي بأرواح غريبة تملأ المكان، واختفى الغضب الشديد الذي دخل به، وأخفى حنقه الشديد تجاه أبي شامة.
راح أعضاء التنظيم يتلون تلك التعاويذ في صوت واحد، ثم يسجدون معًا أمام ذلك العجوز الذي يركب النمر المخطط، ثم نهضوا ووقَفوا في صَفَّين في مواجهة السيد أبي شامة. ورأى قِدرًا أحمر كبيرًا يوضع أمام أبي شامة، امتلأ القدر الكبير بالذُّرَة الرفيعة، حيث كان جَدِّي قد سمع من قبل أن أعضاء هذا التنظيم يأكلون حب الذُّرَة دون طهوه، وقد رأى هذا أخيرًا بأم عينيه؛ رأى أعضاء التنظيم يتقدمون الواحد تلو الآخر إلى ذلك القدر ويأخذون سلطانية من الذُّرَة يشربونها دفعة واحدة، ثم يقفون أمام منضدة القرابين، ويمسحون على رءوسهم بتلك القرابين الموضوعة أعلى المنضدة بما فيها من أقدام القرود وحوافر البغال وعظام الدجاج.
وانتهى أعضاء التنظيم من هذه الطقوس عند غروب الشمس، وقد تجرأ جَدِّي وأطلق طلقة على تلك اللوحة الكبيرة، حتى أحدث ثقبًا كبيرًا في وجه ذلك العجوز الذي تملأ صورته اللوحة الكبيرة؛ فذُعِر أعضاء التنظيم وخرجوا في جماعة واحدة وحاصروا جَدِّي وسطهم.
وراح أبو شامة يسبه بصوت مرتفع: «مَن أنت أيها اللص الجريء!»
فرجع جَدِّي إلى الخلف، ووقف أمام كومة من الطوب، وراح يرفع قبعته إلى أعلى مستخدمًا ماسورة مسدسه التي لم يهدأ دخانها بعد، ثم قال: «إنني جَدُّك وجَدُّ آبائك يو جان آو!»
فقال أبو شامة: «هل لا زلتَ على قيد الحياة؟»
فقال جدي: «وَدِدتُ أن أراك قبل أن أفارق هذه الحياة!»
فقال أبو شامة: «وهل تعتقد أنك ستتمكن من قتلي بهذه الحركات الطائشة؟ أيها الرفاق، ائتوني بالسكين!»
جاءه أحد أعضاء التنظيم بسكين ذبح الخنازير، وحبس أبو شامة أنفاسه قليلًا، ثم أعطى إشارة إلى ذلك الرجل من أعضاء التنظيم. وهنا رأى جَدِّي بأم عينيه ذلك السكين الحاد عندما انغرست في جسد أبي شامة، وقد بدت وكأنها تشق قطعة من الخشب الصلب جدًّا، حيث سمع صوت السكين وهي تحاول اختراق جسده، ولكن دون جدوى، أحدثت فقط بعض الآثار البيضاء البسيطة في جسده.
راح أعضاء التنظيم يُردِّدون تعاويذهم: «آه ما آه لا آه ما آه لا، رءوس من حديد وأذرع من حديد وأرواح من حديد … وأجساد حديدية وطاعة كاملة للإله الذي يَركَب النمر المُخطَّط، آه ما آه لا … آه ما آه لا.»
شعر جَدِّي بدهشة بالغة أخفاها في نفسه، لم يكن يتخيل أبدًا أن يرى جسدًا يبدو كسدٍّ منيعٍ أمام الطلقات النارية والسكاكين الحادَّة، وراح يفكر في مضمون التعاويذ التي يتلوها أعضاء التنظيم، حيث يذكرون كلمات أجساد من حديد، ولكنهم لم يقولوا أعينًا من حديد.
فسأل جَدِّي الزعيم أبا شامة: «هل تستطيع عيناك أن تتصدى لطلقاتي النارية؟»
فرد عليه أبو شامة السؤال بسؤال أصعب: «وهل تستطيع بطنك أن تتصدَّى لسكيني؟»
كان جَدِّي يعلم جيدًا أن بطنه لن تقوى على التَّصدِّي لسكينه الحادِّ، كما يعلم أن عيني أبي شامة لن تقوى على صد طلقات مسدسه الماوزر.
فأخذ أعضاء التنظيم الموجودون في داخل الصالة الفسيحة السكاكين والسيوف والأسلحة وأحاطوا بجدي.
كان جَدِّي يعلم أن مسدسه يحتوي فقط على تسع طلقات نارية، وأنه بعد قيامه بقتل أبي شامة سينقض عليه أعضاء التنظيم كالكلاب ويقطعونه إربًا إربًا.
فقال جَدِّي مخاطبًا أبا شامة: «يا أبا شامة، كما أرى بأم عينيَّ أنك تبدو رجلًا ذا شأن، فقد قرَّرتُ أن أمنحك فرصة للنجاة! فإذا سلمتني تلك العاهرة، فسأعتَبرُ أن ما بيننا من نزاع قد انتهى تمامًا!»
فرد أبو شامة قائلًا: «وهل هي تخصك؟ وهل ستقبلُ ذلك إذا طلبْت منها هذا الأمر؟ وهل تَزوَّجْتَها زواجًا رسميًّا؟ فإن من يُؤْوِ أرملة أو كلبًا ضالًّا يَكُن هو صاحب الحق فيما يُؤْوي! وعليك أن تعي هذه الحقيقة جيدًا وتَغرُب عن وجهي، وإلا فلا تلمني على ما سيكون مني تجاهك!»
فرفع جَدِّي مسدسه، واستعد أعضاء التنظيم بأسلحتهم اللامعة، وما إن رأى جَدِّي هؤلاء الرجال وقد بدءوا في تلاوة التعاويذ، حتى راح يفكر في نفسه قائلًا: فلتكن رأس مقابل رأس!
وفي تلك الأثناء خرجت عليهم جدتي، وهي تبتسم ابتسامة باردة، وهنا أنزل جَدِّي مسدسه إلى جانبه.
وتقدَّمَت جدتي، وهي تحتضن أبي ووقفَت على درجة سُلَّم حَجَري، وقد لَفَّتْها أشعة الشمس حتى بدَا جسدها يبرق أمامه. ورأى شَعْرَها المُرسَل اللامع، ووجهها المتوَرِّد، وعينيها الصافيتين البراقتين، وملامحها اللطيفة والمثيرة للكُرْه الشديد.
راح جَدِّي يعض على أسنانه ويسبها: «أيتها العاهرة!»
فردَّتْ عليه جدتي بسوء أدب واضح: «أيها الحمار! أيها الخنزير! أيها الوضيع! إنك فقط تصلح لمُضاجَعة الخادمات!»
فرفع جَدِّي مسدسه.
فقالت جدتي: «فلتطلق النار إذًا! فلتقتلني! ولتقتل ابني!»
وهنا سمع جَدِّي صوت أبي يناديه: «أبي بالتَّبنِّي!»
فأنزل جَدِّي مسدسه للمرة الثانية.
ومضى يتذكر ظهر ذلك اليوم الذي جمعه وإيَّاها داخل حقول الذُّرَة الخضراء، وذلك البغل الأسود الذي غاص في الوحل خارج النافذة، وهذا الجسد الغض عندما يرتمي في أحضان أبي شامة.
فقال جدي: «يا أبا شامة، إذًا فلتكن بيننا المُواجَهة رجلًا لرجل، مُجرَّدَين من أية أسلحة، ولتكن معركة حياة أو موت، وسأنتظرك عند حافة النهر خارج حدود القرية.»
وأعاد جَدِّي مسدسه إلى الجراب المربوط حول خصره، وشق طريقه بين أعضاء التنظيم الذين وقفوا أمامه شارِدِين، ثم نظر إلى أبي دون أن ينظر إلى جدتي، ومضى مسرعًا إلى خارج حدود القرية.
وما إن وصل جَدِّي إلى شاطئ نهر يان شوى، حتى خلع سترته القطنية وألقى بمسدسه الماوزر، وشد حزامه جيدًا، ووقف ينتظر مجيء أبي شامة، كان يعلم أنه حتمًا سيأتي للقائه.
بدت مياه نهر يان شوى آنذاك صافية انعكست داخلها أشعة الشمس، وبدَت الأعشاب القصيرة داخلها منتصبة وواضحة.
وجاء أبو شامة.
وجاءت أيضًا جدتي، وهي تحمل أبي بين يديها، وقد بدَتْ نظراتها غريبة جدًّا.
وجاء أيضًا جميع أعضاء التنظيم الذي يتزعمه أبو شامة.
وسأل أبو شامة: «هل تُفضِّل القتال المُهذَّب أم القتال العشوائي؟»
فسأله جدي: «وكيف يكون القتال المُهذَّب؟ وكيف يكون القتال العشوائي؟»
فأجاب أبو شامة: «القتال المُهذَّب هو أن تضربني ثلاث ضربات، ثم أضربك ثلاثًا، أما القتال العشوائي، فهو أن نتقاتل بشكل عشوائي دون الالتزام بقواعد مُحدَّدة!»
ففكر جَدِّي قليلًا، ثم أجابه قائلًا: «فليكن القتال المُهذَّب!»
فقال أبو شامة، وقد بدَا عليه أنه مستعد تمامًا لهذا النوع من القتال: «هل سأبدأ بمهاجمتك أم أنك الذي ستبدأ؟»
فقال جدي: «فلنحتكم إلى السماء، وليكن الاقتراع من خلال الأعشاب، وسيبدأ الذي يختار العُشبة الأطول!»
فسأله أبو شامة: «ومَن الذي سيحكم هذا الاقتراع؟»
فقامت جدتي بوضع أبي على الأرض، ثم قالت: «أنا الذي سأتولَّى ذلك.»
فأخذَتْ جدتي بزوج من الأعشاب الجافة ووضَعتْهما خلف ظهرها، ثم قدَّمَت يديها إلى الأمام، وقالت: «فَلْتختارَا!»
ونظرت إلى جَدِّي نظرة خاطفة، فبدأ جَدِّي بالاختيار، ففتحَتْ يدها لتظهر العشبة التي اختارها جدي.
وقالت جدتي: «لقد اخترتَ العشبة الأطول، ولتبدأ أنت بضربه ثلاث ضربات!»
فأحكم جَدِّي قبضته جيدًا وضرب أبا شامة في بطنه، فصاح أبو شامة بصوتٍ مرتفعٍ.
وأفاق أبو شامة قليلًا، ونصب بطنه ثانيةً، وراح ينتظر الضربة الثانية، وهو يرمي جَدِّي بنظرات قاتلة.
ثم نزل عليه جَدِّي باللكمة الثانية في مَعِدَته.
فتراجع أبو شامة خطوة إلى الخلف.
أما اللكمة الثالثة والأخيرة، فقد استعدَّ لها جَدِّي جيدًا، ونزل بكل ما أوتي من قوة على صدر أبي شامة.
فتراجع أبو شامة خطوتين إلى الخلف، وبدا وجهه شاحبًا، وأمسك بصدره وراح يسعل قليلًا، وبصق دمًا.
ثم راح أبو شامة يمسح فمه من بقايا الدم، وهو يهز رأسه أمام جدي، وجمع جَدِّي أنفاسه جيدًا في انتظار رَدِّ أبي شامة.
رفع أبو شامة قبضته الكبيرة في حجم حافر الحصان، ورفع يده حتى هم أن ينزل بها على جسد جدي، ثم استعادها مرة ثانية.
وقال أبو شامة: «سأعفيك من هذه اللكمة لأجل السماء!»
ثم لوح أبو شامة بيده الثانية مستعدًّا للكمة الثانية، ثم قال: «وسأعفيك أيضًا من هذه اللكمة لأجل الأرض!»
أما اللكمة الثالثة التي نزل بها أبو شامة على جدي، فقد تَقلَّب على إثرها في السماء مثل كتلة من الطين، ثم سقط على الأرض الصلبة.
نهض جَدِّي بصعوبة، وراح يرفع سترته ومسدسه، وقد تصبب وجهه عرقًا.
وقال: «وَلْنلتَقِ بعد عشر سنوات.»
وانتبه جَدِّي إلى قطعة من لحاء الشجر تعوم فوق سطح مياه النهر، فأطلق عليها تسع رصاصات متتالية، حتى تَحوَّلت إلى قِطَع صغيرة جدًّا، ثم أعاد المسدس إلى خصره، ومضى في طريقه مترنحًا إلى البرية المالحة. وانعكست أشعة الشمس على كتفه العاري وعلى ظهره المنحني، حتى بدَا جسده لامعًا مثل البرونز.
وراح أبو شامة ينظر إلى قطع لحاء الشجر التي ملأت سطح المياه، ثم بصق دمًا، وجلس على الأرض.
وحمَلتْ جدتي أبي وراحت تنادي على جدي، وهي تبكي قائلة: «يا جان آو.» ثم راحت تجري وراءه مُتعثِّرة الخُطَى.
٩
دوَّت أصوات الرَّشَّاشات خلف حافة نهر موا شوى لمدة ثلاث دقائق، ثم شَهدِتْ بعد فترة توقُّف قصيرة تَجمُّع رجال فريق جياو قاو الذين كانوا يصيحون منذ قليل أن استغلوا فرصة الانتصار وواصلوا القتال، تجمَّع هؤلاء وسقطوا وسط الطريق ووسط حقول الذُّرَة الجافة، أما أعضاء التنظيم التابعون لجدي الذين كانوا في مواجهة أفراد فريق جياو قاو، والذين استعَدُّوا للاستسلام، فقد بدوا مثل أعواد الذُّرَة المكسورة، كان من بينهم أعضاء قدامى انضموا إلى التنظيم منذ ما يزيد على عشرة أعوام متأثِّرين بخداع أبي شامة لهم، ومن بينهم أعضاء جُدد انضَمُّوا إلى التنظيم منذ وقت قريب متأثِّرين في ذلك بسُمْعَة جَدِّي وبطولاته، أما ما ظهر عليهم جميعًا من الصلعات وأكل حبوب الذُّرَة دون طهيها، وذلك الإله الحديدي الذي يحميهم، وحوافر البغال ومخالب القرود وعظام الدجاج وغيرها من الأشياء الغريبة، فإن ذلك كله لم يستطع أن يحميهم من الطلقات النارية الفتاكة التي أصابتهم من تلك الرشاشات التي حطمت فقراتهم وعظامهم تحطيمًا، واخترقت صدورهم وبطونهم، واختلطت أجساد أعضاء التنظيم بأجساد أفراد فريق جياو قاو الملطخة بالدماء، واختلطت دماء أفراد جياو قاو الحمراء بدماء أعضاء التنظيم الخضراء مكونةً بركًا من الدماء البنفسجية، خضبت الحقول والأرض التي افترشتها تلك الأجساد، حيث أصبحت تلك الأماكن بعد عدة سنوات من أخصب الأراضي في المنطقة؛ إذ كانت محاصيل الذُّرَة الرفيعة التي تزرع في تلك الأماكن تنمو بشكل سريع، وذات سيقان براقة وتتمتع بصفات تميزها عن غيرها من الذُّرَة في الأماكن الأخرى، وكأنها كانت تتمتع بقدرات خارقة على التخصيب والنمو.
وهكذا، وقعت معركة حامية بين فريق جياو قاو وأعضاء التنظيم الذي يتبع جدي، إلا أن هذين الخصمين العنيدين تَحَّولَا في لَمْح البصر إلى رُفَقاء حرب بينهما خطوط مناوشات، وقد كانوا إمَّا أنْ يحيوا معًا أو يموتوا معًا يجمعهم مصير واحد، وقد اجتمع القائد جيانغ قائد فريق جياو قاو المصاب في قدمه مع جَدِّي قائد التنظيم المصاب في ذراعه، وعندما كان جَدِّي يضع رأسه بالقرب من قدم القائد جيانغ الملفوفة بالشاش، كان قد اكتشف أن قدمه ليست على ذلك النحو من الصغر، وشم جَدِّي رائحة الدماء التي تنزف من جرحه تحت الشاش.
ثم دوَّى صوت الرشاشات خلف حافة النهر من جديد، وكانت الطلقات النارية تأتي في اتجاه عرض الطريق وداخل حقول الذُّرَة، وقد خلَّفَت وراءها كميات كبيرة من الأتربة التي ملأت المكان، وامتزج صوت القذائف المُدوِّية التي تضرب الأرض مع صوت ضَرْبها للأجساد حتى بدَا الصوت مرعبًا، وقد وَدَّ أعضاء فريق جياو قاو والجماعة الحديدية لو اختفوا تحت الأرض من شدة ذلك الصوت.
وتَغيَّرَت معالم الأرض المحيطة بموقع المعركة، وأصبحَت الأرض مُنبسِطَة، وقد خَلَت من جميع الأشياء التي كانت تُغطِّي سطحها، وبدَت الطَّلَقات النارية الكثيفة كما لو كانت مِجْرَفة تَجرف كل ما يعترض طريقها.
ثم خَيَّمتْ على المكان فترة راحة، سمع جَدِّي خلالها صوت القائد جيانغ يصيح قائلًا: «القذائف اليدوية!»
ثم ارتفَع صوت دَوِي الرشاشات من جديد، وخمد الصوت بعد لحظات قليلة، وقام أعضاء فريق جياو قاو الماهرون في استخدام القذائف اليدوية بإلقاء ما يزيد على عشر قذائف خلف حافة النهر، سمعوا بعدها أصوات نحيب هؤلاء الأبطال المُختَفِين هناك، وتطايَر إلى خَلْف حافة النهر ذراع شخص ملفوف بقطعة قماش رمادية، ورأى جَدِّي أصابع ذلك الذراع القصير وكأنها تبعث إلى القائد جيانغ برسالة تقول: «إنه القائد لينغ ماتزه! إنه ذلك الكلب لينغ ماتزه.»
ثم قام أعضاء فريق جياو قاو بإلقاء دفعة ثانية من القذائف اليدوية، ملأ صوت انفجارها جميع أرجاء المكان، وتناثَرت كميات كبيرة من الضَّبَاب خلف حافة النهر، وتقدَّم سبعة أو ثمانية من أعضاء الفريق بشجاعة إلى حافة النهر حامِلِين الرشاشات، وما إن تقدَّمُوا إلى الأمام، تَلَقَّوا سيلًا من الطلقات النارية أَردَتْهم ما بين قتيل وجريح.
وصاح القائد جيانغ: «انْسحِبوا!»
وقام أعضاء فريق جياو قاو بإلقاء دفعة ثالثة من القذائف اليدوية، وما إن دوَّى صوت الانفجار حتى راح بعض الأفراد يحاولون الفرار ناحية الشمال. قام اثنان من أعضاء الفريق بمساعدة القائد جيانغ ليلحق بأعضاء الفريق الذين بدءوا الانسحاب من مسرح المعركة، بينما كان جَدِّي لا يزال منبطحًا على الأرض لا يَتحرَّك، كان قد أحس بخطورة الفرار والانسحاب في تلك اللحظة، كان يرغب في الفرار، ولكنه كان على ثقة بأن ذلك التوقيت ليس توقيتًا مناسبًا للفرار من أرض المعركة. وانضم عدد من أعضاء الجماعة الحديدية لأعضاء فريق جياو قاو الذين فَرُّوا من أرض المعركة، بينما بَقِي عدَد آخر إلى جانب جَدِّي وقد بدَوْا مُتردِّدِين، فراح جَدِّي يخاطبهم بصوت خفيض: «اثبتوا في أماكنكم.»
وامتلأ المكان بالدخان الكثيف، وعَلَت أصوات مُعاناة الجرحى خلف حافة النهر، وسمع جَدِّي صوتًا يعرفه جيدًا يصيح متألمًا: «اضربوهم بالرَّشَّاشات، اضربوهم بالرَّشَّاشات!» وما إن تَيقَّن جَدِّي من صوت القائد لينغ ماتزه حتى عَلَت وجهه ابتسامة يائسة.
اصطحَب جَدِّي أبي معه وانضمَّا للجماعة الحديدية، ووفقًا لقواعد الجماعة، فقد قامَا في مساء ذلك اليوم بحلق الشعر الذي يعلو جبهتهما علامةً على كونهما من أفراد الجماعة الحديدية، وعندما كانَا يقومان بالسجود أمام ذلك العجوز الذي يركب فوق النمر، انتبه جَدِّي آنذاك إلى آثار إصابة طلق ناري في وجه ذلك العجوز، فراح جَدِّي يبتسم ابتسامة أخفاها عن الحضور. وقام أبي أيضًا بحلق شعر رأسه، وما إن رأى المقص الأسود في يد أبي شامة حتى شعر برعشةٍ شديدةٍ سرت في جسده، لا يزال يذكر ذلك الموقف الذي مر عليه أكثر من عشر سنوات كما لو كان ليلة البارحة. وبعد أن تم حلق شعر رأس أبي، قام السيد أبو شامة بِفَرْك صلعة أبي بتلك الأشياء الغريبة من أقدام القرود وحوافر البغال وعظام الدجاج، وبعد انتهاء مراسم الانضمام للجماعة الحديدية، شعر أبي بأن جسده قد أصبح في غاية الصلابة، وكأن أعضاءه جميعها قد أصبحت أعضاء حديدية.
ورحَّب أعضاء الجماعة الحديدية بجدي ترحيبًا حارًّا، وقد راحوا يُلِحُّون على أبي أن يُلْقِي على مسامعهم بعضًا من بطولات جَدِّي خلال المعركة التي دارت عند نهر موا شوى. وبتشجيع من وو لوان تزه، استطاع أعضاء الجماعة الحديدية أن يَتَّحِدوا معًا ويطالبوا السيد أبا شامة بالاعتراف بجدي نائبًا لرئيس الجماعة الحديدية.
وبعد أن تم الاعتراف بجدي نائبًا لرئيس الجماعة، راح وو لوان تزه يُحَفِّز أعضاء الجماعة على القتال والوقوف أمام الشياطين اليابانيين، وقال: «لقد أمضيْنَا وقتًا طويلًا في تجهيز هذا الجيش الكبير، وها هو النفوذ الياباني يزداد، وقد تَعرَّضَت البلاد والعباد للدمار الشديد على أيدي الغزاة اليابانيين، وإلى متى ينتظر أفراد هذه الجماعة الحديدية المُدرَّبون على فنون القتال حتى يقفوا أمام الغزاة؟» وكان عدد كبير من أفراد الجماعة الحديدية شبابًا ذوي حماس شديد، كانوا يَكرَهون اليابانيين كُرهًا شديدًا، وما إن استمعوا إلى تشجيع وو لوان تزه حتى زادَت رغبتهم في النزول لأرض المعركة ومواجهة اليابانيين وتقديم مهاراتهم الفائقة في فنون القتال. وقد وجد السيد أبو شامة نفسه مضطرًّا لموافقتهم على ما توصلوا إليه معًا. وراح جَدِّي يسأل وو لوان تزه خلسةً: «هل أنت واثق من قدرة مهاراتهم على التَّصدِّي للطلقات النارية التي يمتلكها اليابانيون؟» فضحك وو لوان تزه ضحكة ماكرة، ولم يُعْطِه أية إجابة على سؤاله.
كانت أول معركة تُشارك فيها قوات الجماعة الحديدية معركة متواضعة، كانوا قد اشتبكوا مع فريق قاو يينغ التابع لسرية جانغ جو شي الموالية للقوات اليابانية، فعندما همَّت قوات الجماعة الحديدية أن تُباغِت مواقع مدافع سرية جانغ، صادف ذلك عودة فريق قاو يينغ الذي كان قد خرج لسرقة كميات من الحبوب الغذائية، وعندها التقى الفريقان عند ناصية الطريق في معركة متواضعة، وكانت قوات فريق قاو يينغ تتألَّف مما يزيد على ستين رجلًا، وكانوا يرتدون زيًّا عسكريًّا مِشْمِشي اللون، وقد ظهروا وهم مُسلَّحون بالبنادق والذخيرة، وكانوا يَسوقون عشرات البغال والحمير المُحمَّلة بالحبوب الغذائية التي اسْتولَوا عليها، بينما ظهرت قوات الجماعة الحديدية في لباس أسود وهم يحملون الخناجر، فيما عدا ما يزيد على عشرة أفراد منهم كانوا يحملون المسدسات.
وسأل أحد زعماء قوات قاو يينغ كان ممتلئ الجسم، وهو أعلى فرسه: «وإلى أي جماعة تنتمون؟»
فمد جَدِّي يده إلى خصره حيث موضع مسدسه، وما إن استَلَّ مسدسه حتى راح يصيح بصوت مرتفع: «إننا من تلك الجماعة المكلَّفة بقتل الخونة!»
وهنا سقط الزعيم السمين من على فرسه، وقد غرق في دمائه.
وراح أعضاء الجماعة الحديدية يصيحون في صوتٍ واحدٍ: «آه ما لا آه ما لا»، ثم انَقضُّوا يتقدمون إلى الأمام بجرأة كبيرة، بينما راحَت البغال والحمير المُحمَّلة بالحبوب تتصارع محاوِلة الفرار من أمامهم، وتبعها في ذلك هؤلاء الخونة الذين بدءوا يحاولون الهرب والنجاة بأنفسهم، وعندها تَعرَّضوا لخناجر أفراد الجماعة الحديدية الذين تمكنوا من السيطرة عليهم تمامًا.
وعندما فرَّ الخونة إلى مسافة قريبة من أفراد الجماعة الحديدية، بدءوا يدركون أنهم قد وقعوا في قبضة أفراد الجماعة الحديدية فتجَمَّعوا معًا وأشهروا أسلحتهم، وهنا انقضَّ أفراد الجماعة الحديدية عليهم وهم يرمونهم بسيل من اللعنات.
وصاح جَدِّي بصوت مرتفع: «تفرَّقُوا، احْنُوا ظهوركم.»
وقد طَغتْ أصوات لعنات أفراد العصابة الحديدية على صوت صياح جدي ومناداته عليهم، وتجَمَّعوا معًا ومَضَوا يَتقدَّمون إلى الأمام لملاقاة الخونة.
أطلق الخونة عددًا من الطلقات النارية سقط على إثرها عدد من أفراد الجماعة الحديدية، وامتلأت الأرض بدمائهم، وارتفعت أصوات صُراخ وتأوُّه المصابين منهم.
وهنا شعر أفراد الجماعة الحديدية بذهول شديد من هول ما أصابهم، فأطلق الخونة عددًا من الطلقات النارية، حتى تمكنوا من إصابة عدد أكبر من أفراد الجماعة الحديدية.
راح جَدِّي يصيح بأعلى صوته: «تَفرَّقوا، انبطِحُوا أرضًا»
فتقدم الخونة إلى الأمام وهم لا يتوقفون عن إطلاق النيران، فانحنى جَدِّي ومد يده إلى مسدسه ودس بداخله عددًا من الطلقات النارية، فرفع أبو شامة نصف جسده وراح يصيح في رجاله غاضبًا: «انهضوا، ارفعوا أصواتكم بنشيد الجماعة، ولتقفوا معًا يا من تملكون الرءوس الحديدية والأذرع الحديدية والقلوب الحديدية أمام الطلقات النارية التي لا يمكنها أن تصيب السيد الذي يركب فوق ظهر النمر.»
وهنا طارت رصاصة من أعلى رأس السيد أبي شامة زعيم العصابة الحديدية، فألقى بنفسه أرضًا مثل الكلب الجبان، وبدا وجهه شاحبًا.
ضحك جَدِّي ضحكة فاترة، وانحنى قليلًا ومدَّ يده واستل مسدس السيد أبي شامة، ثم نادى على أبي قائلًا: «يا دوو قوان!»
فقفز أبي على الفور أمامه وأجابه: «نعم يا والدي، إنني هنا!»
فقدَّم جَدِّي مسدس الزعيم أبي شامة إلى أبي، ثم قال: «اجمع نفسك جيدًا والتزم الصَّمتَ وعدم الحركة، ولا تطلق النيران حتى يقتربوا منا.»
ثم صاح جَدِّي بصوت مرتفع: «فَلْيَستعِدَّ كل من يحمل السلاح، وَلْتَبدءُوا في إطلاق النيران فور اقترابهم منا!»
وهنا تَقدَّمَت قوات الخونة إلى الأمام بجرأة واضحة.
ومَضَوا يَتقدَّمون من تجاه جَدِّي حتى أصبحوا على بعد خمسين مترًا، ثم أربعين مترًا، ثم عشرين مترًا، ثم عشرة أمتار، ومضوا يتقدمون حتى استطاع أبي أن يرى بوضوح أسنانهم الصفراء.
قفز جَدِّي قفزة إلى الأمام، وراح يلوح بيده اليمنى نحو اليمين ويده اليسرى نحو اليسار، حتى تَمكَّن من إصابة سبعة أو ثمانية من جيش الخونة، تمكن أبي والشاب وو لوان تزه من إصابة أهدافهما بنجاحٍ كبيرٍ، وهنا انسحب أفراد جيش الخونة ولاذوا بالفرار من أمام جدي ورفاقه، لاحَقَهم جَدِّي ورفاقه وأمطروهم بوابل من الطلقات النارية، حيث إنهم لم يكتفوا بمسدساتهم التي كانوا يحملونها معهم، فراحوا يجمعون البنادق التي سقطت من أفراد جيش الخونة.
وهكذا، عَضَّدَت تلك المعركة المتواضعة من مكانة جَدِّي وزعامته بين أفراد الجماعة الحديدية، كما أنَّ مقتل العشرات من أفراد الجماعة قد أدَّى إلى كشف النقاب عن عدم جدوى تلك المعتقدات السَّخِيفة التي يُنادي بها الزعيم أبو شامة. ومنذ ذلك الحين بدأ أفراد الجماعة يمتنعون عن الالتزام بالقيام بالطقوس اليومية التي كان أبو شامة يُجبِرهم على الالتزام بها، وبدَءُوا يعلنون حاجتهم إلى السلاح، نعم السلاح ليس غيره، وأن تلك القوى الخارقة، والسحر الذي كان ينادي به أبو شامة، لا يمكنهما أنْ يَقفَا في وجه مجموعة صغيرة من الأسلحة.
استخدَم جَدِّي وأبي حيلة ارتداء الملابس العسكرية المُزيَّفة واندَسَّا وسط فريق جياو قاو، واستطاعَا في وضح النهار أن يخطفا القائد جيانغ قائد فريق جياو قاو، ثم استخدم طريقة الانتقال الخادع إلى معسكر فريق القائد لينغ ماتزه، حتى تَمكَّنَا من اختطاف القائد لينغ ماتزه نفسه مطالبين فريقه بفدية.
وهكذا، استطاعَا أن يَحصلَا على كمية كبيرة جدًّا من الأسلحة والذخيرة والخيول مقابل هاتين الرهينتين، كما ساعدَت هذه الحيلة على توطيد مكانة جَدِّي وسط أفراد الجماعة الحديدية، حتى أصبح الزعيم أبو شامة زعيمًا لا فائدة منه في هذه الجماعة، الأمر الذي جعل الشاب وو لوان تزه يفكر أكثر من مرة في التَّخلُّص منه، ولكن جَدِّي كان يمنعه من تحقيق رغبته.
وبعد حادثة الاختطاف، ازداد نفوذ الجماعة الحديدية في محيط قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، بينما توارَى فريق جياو قاو وفريق لينغ ماتزه عن الأنظار، وكأن الساحة قد أُفْرِغَت تمامًا أمام الجماعة الحديدية، والسلام قد عمَّ جميع أرجاء المنطقة، وهنا بدأت تلح على جَدِّي فكرة إقامة جنازة كبيرة لتأبين جدتي، ثم بدأ بعد ذلك يمضي في طريقه إلى جمع الأموال والقتل والسلب والنهب، حتى التصقت هذه الأعمال بسمعة عائلة يو التي يُمثِّلها جدي، الأمر الذي زاد الطين بلة، كما أنَّ جَدِّي كان قد نسي تمامًا تلك المقولة البسيطة التي تقول بأنه ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع، وهكذا كانت تلك الجنازة المهيبة التي أقامها لتأبين جدتي من أكبر الأخطاء التي ارتكبها في تلك الفترة من حياته.
دوَّت أصوات الرشاشات من جديد خلف حافة النهر، واستوضح جَدِّي أن هذا الصوت مصدره زوج من الرشاشات الآلية، وأن بقية الرشاشات الأخرى قد تَعرَّضتْ للتدمير الكامل بفعل القذائف اليدوية التي ألقت بها قوات فريق جياو قاو، وتَمكَّنَت الطلقات النارية التي خرجت من هذين الرشاشين من تطويق أفراد فريق جياو قاو الذين فروا على بعد ما يزيد على مائة متر من حافة النهر، كما طَوَّقَت أيضًا أفراد الجماعة الحديدية الذين اندَسُّوا وسط أفراد فريق جياو قاو، ومضى جَدِّي يفكر في أن القائد الماكر لينغ ماتزه لن يتقدَّم لرد هجماته بهذه البساطة، وأنه قرر أن يطلق فقط زوجًا من الرشاشات لإحداث بعض الفوضى أمام العدو.
ورأى جَدِّي جسدًا نحيفًا ملطخًا بالدماء بين أفراد فريق جياو قاو الذين كان يزيد عددهم عن عشرة أفراد، رآه يزحف ببطء شديد محاولًا الصعود إلى حافة النهر، كان الرجل يزحف ببطء ملحوظ أبطأ كثيرًا من حركة دودة القز ودودة الأرض والحلزون، ورأى جسده ينزف مع كل حركة كميات كبيرة من الدماء، وكأنه قد تم تقطيعه إلى قطع منفصلة عن بعضها البعض، وهنا عرف جَدِّي على الفور أن هذا الشخص الماثل أمامه هو أحد الأبطال الشجعان وأحد الرجال الذين يمثلون شجاعة وشهامة قرية دونغ بيي. وما إن تَمكَّن ذلك الرجل من أفراد فريق جياو قاو من الصعود إلى منتصف حافة النهر حتى توقف عن مواصلة الزحف إلى أعلى، ومضى جدي يتابعه وهو يميل بجسده بصعوبة ملحوظة، ثم مدَّ يده إلى خصره وأخرج قذيفة يدوية ملطخة بالدماء وكأنه قد أخرج من بطنه جنينًا صغيرًا، قرَّب القذيفة إلى فمه ليفتح فوهتها، ثم شد فتيلها بأسنانه، ألقى بنفسه على الأعشاب الخضراء على حافة النهر، وانتشر دخان القذيفة على حافة النهر، ثم إلى خارج حدود حافة النهر.
وهنا ندم جَدِّي ندمًا شديدًا، فكان يجب عيه ألا يبدي ما أبداه من رقة القلب والتعاطف الشديد، ففي اليوم الذي تَمكَّن فيه جَدِّي من اختطاف لينغ ماتزه رهينة، طلب منه فقط مائة بندقية وخمسة رشاشات وخمسين رأسًا من الخيول. كان عليه منذ بداية الأمر أن يطلب الرشاشات الثمانية التي يمتلكها القائد لينغ ماتزه، ولكنه كان قد نسي أمر هذه الرشاشات، أو لنقل إنه كان يشعر آنذاك أن هذه الرشاشات ليست ذات قيمة كبيرة، حيث إن الفترة الطويلة التي قضاها كقاطع طريق جعلته يعترف فقط بقيمة المسدسات وينكر قيمة البنادق والرشاشات، وأنه لو كان قد أدرج الرشاشات الثمانية في طلبه لإطلاق سراح لينغ ماتزه، لما كان قد تعرض لهذا المأزق الشديد الذي أوقعه فيه لينغ ماتزه.
وعندما سقط ذلك الرجل الجريح من أفراد فريق جياو قاو على الأعشاب الخضراء على حافة النهر، كان قد ألقى بالقذيفة التي كانت في يده، فحدث صوت انفجار على حافة النهر، وتطايرت الرشاشات إلى أعلى ثم سقطت ثانيةً. وسقط ذلك الرجل الذي ألقى بالقذيفة مغشيًّا عليه، رأى جَدِّي الدماء تسيل من جسده بصورة مستمرة، حتى شعر تجاهه بالشفقة.
وهكذا، فرغت جميع الرشاشات التي يمتلكها القائد لينغ ماتزه. فراح جَدِّي ينادي على أبي بصوت مرتفع: «يا دوو قوان!»
كان أبي لا يزال محاصرًا بجثتين ثقيلتين، كانتَا تُطبِقان عليه بشدة حتى كاد يدرك أنه قد أشرف على الموت، بدَا جسده ملطخًا بالدماء، ولم يَكد يَعرِف هل هذه الدماء الكثيفة مصدرها هاتان الجثتان أو أنها تسيل من جسده هو، وهنا سمع أبي صوت جَدِّي ينادي عليه، فرفع رأسه من أسفل الجثتين وراح يرفع ذراعه ليمسح الدماء التي ملأت وجهه، ثم قال وهو يتنهد: «نعم يا أبي، إنني هنا.»
خرج أفراد فريق لينغ ماتزه من خلف حافة النهر حاملين السلاح، وكأنهم مثل نباتات عيش الغراب التي أصبح أكثر حيوية عقب نزول الأمطار، ومضوا يتقدمون إلى الأمام حاملين السلاح، وقد قابلهم أفراد فريق جياو قاو بإطلاق النيران على بُعْد مائة متر، أبلوا بلاءً حسنًا في إطلاق النيران بواسطة الرشاشات التي حصلوا عليها من فريق الخيول الذي يقوده وو لوان تزه، وهنا بدأ رجال لينغ ماتزه ينسحبون من أمامهم مثل السلاحف.
وتقدم جَدِّي وراح يزيح الجثتين ليفسح الطريق أمام أبي ليخرج من أسفلهما.
وسأل جدي: «هل جُرِحتَ يا صغيري؟»
فراح أبي يحرك يديه وقدميه قليلًا ثم أجاب: «لا يا أبي، وهذا الجرح الذي يظهر في ذراعي هو جرح قد أصابني منذ قليل من قِبَل أفراد قوات جيش با لو.»
فقال جدي: «أيها الرفاق، فلتنجوا بحياتكم!»
نهض ما يزيد على عشرين رجلًا من أفراد الجماعة الحديدية، ظهرت عليهم آثار دماء، نهضوا ممسكين بأسلحتهم وساروا جهة الشمال، ولم يقم أفراد فريق جياو قاو بإطلاق النيران عليهم، في حين أطلق أفراد فريق القائد لينغ ماتزه بعض الطلقات النارية، ولكن جميع الطلقات أطلقت في الهواء ولم تُصوَّب تجاه هؤلاء الأفراد المنسحبين.
ثم جاءت طلقة من الخلف، فشعر جَدِّي أن رقبته قد تعرضت لصفعة قوية من الخلف، وشعر بسخونة شديدة في تلك المنطقة من جسده، فمد جَدِّي يده يتحسس تلك السخونة، فإذا بيده تمتلئ بالدماء الطازجة، ثم نظر جدي نظرة إلى الخلف، فإذا به يرى الزعيم أبا شامة يقبع في مكانه مثل الضفدع، وقد ظهرت على وجهه دمعتان ذهبيتان، فابتسم إليه جدي ابتسامة خفيفة ثم هزَّ إليه رأسه، ثم سحب جَدِّي أبي وغادرَا المكان بخطوات بطيئة.
دوَّى صوت طلقة نارية خلف ظهريهما.
فتنهد جَدِّي تنهيدة طويلة، وراح أبي ينظر إلى الخلف، فإذا به يرى فتحة سوداء صغيرة تظهر على جبين أبي شامة، وقد سال على وجهه خيط سائل أبيض اللون.
وفي أصيل ذلك اليوم، تمكنت قوات القائد لينغ ماتزه من مُحاصَرة أفراد فريق جياو قاو وأفراد الجماعة الحديدية اللذين يتزعمهم جدي داخل المكان المُعَد لإقامة جنازة جدتي، وراح الفريقان اللذان أطلقَا جميع الذخيرة التي كانت بحوزتهما، راحا يحدقان النظر إلى فريق تشي جونغ التابع لفريق لينغ ماتزه، والذي كان يقترب منهما شيئًا فشيئًا. وعند غروب الشمس، لَفَّ المكان حزن شديد، وامتلأت الأرض بعدد كبير من أبناء وبنات قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، الذين تَربَّوا على حبوب الذُّرَة الرفيعة الحمراء، وقد سالت دماؤهم في جدول مضى يسير ليصب في مجرى النهر الكبير. جذبت رائحة تلك الدماء الطازجة جماعات الغربان، التي نسيت العودة إلى أعشاشها وبدأت تُحلِّق فوق تلك الدماء، وحلَّق معظم تلك الغربان أعلى جثث الخيول التي ملأت المكان، وبدت جماعات الغربان وكأنها مجموعة من الأطفال الذين يتلهفون على أكل طعام لذيذ جذَّاب.
برز تابوت جدتي من تحت المظلة الكبيرة التي كانت تحجبه عن الأعين، وقد ظهرت بعض الفتحات الصغيرة في جسم التابوت، وكانت عبارة عن آثار لطلقات نارية أصابت التابوت، كان ذلك التابوت قبل ساعات قليلة عبارة عن حاجز مهم خلال المعركة التي دارت بين جيش با لو والجماعة الحديدية من جهة وفريق لينغ ماتزه من جهة أخرى. امتلأت خيام الحِداد الممتدة على جانبي الطريق بلحوم الدجاج والبط والأغنام والخنازير. وخلال المعركة، كانت قوات جيش با لو تُواصِل القتال، وهي تتغذى بتلك اللحوم المُعدَّة لهذه الجنازة المهيبة.
وتقدَّم عدد من فريق جياو قاو إلى الأمام حاملين الخناجر، فتعرَّضوا لوابل من الطلقات النارية من قبل قوات لينغ ماتزه حتى سارَعوا بالانبطاح أرضًا.
ورفع القائد لينغ ماتزه سلاحه وراح يصيح بصوت مرتفع: «ارفعوا أيديكم وأعْلِنوا استسلامكم!»
فراح كل من جَدِّي والقائد جيانغ قائد فريق جياو قاو ينظران إلى بعضهما البعض، ولم ينبس أحدهما ببنت شفة، ولكنهما رفعَا أيديهما لأعلى في توقيت واحد.
تبعهما في ذلك هؤلاء الأفراد المتبقون من فريق جياو قاو والجماعة الحديدية.
وتقدَّم إليهم القائد لينغ ماتزه الذي كان يرتدي قفازًا أبيض اللون، أحاط به بعض من رجاله لحراسته، وراح الرجل يضحك بصوت مسموع وهو يقول: «أيها القائد يو، أيها القائد جيانغ، لقد التقينا من جديد، فما الذي يدور ببالكما الآن أيها البطلان؟»
فقال جَدِّي بلهجة حزينة: «إنه الندم!»
وقال القائد جيانغ: «أما أنا فأريد أن أقدم تقريرًا للقيادة في يان آن حول جريمة قيام الحزب الوطني بتدمير الوحدة القومية لحرب المقاوَمة ضد اليابان!»
قام القائد لينغ ماتزه بضرب القائد جيانغ بالسوط، ثم راح يسبه قائلًا: «اللعنة عليك أيها القائد من جيش با لو، إن كلامك أشد صلابةً من عظامك!»
ولوح القائد لينغ بيده إلى رجاله أن «خذوه للحبس داخل القرية!»
كانت قوات فريق لينغ ماتزه قد قضت تلك الليلة داخل قريتنا، قاموا بحبس أفراد فريق جياو قاو وأفراد الجماعة الحديدية داخل إحدى الخيام، وقام اثنا عشر رجلًا من فريق لينغ ماتزه الذين يحملون الرشاشات الملونة بمحاصرة الخيمة، ولأجل الحفاظ على أرواح جميع من كانوا بداخل الخيمة، لم يقم أي منهم بأي حركة تثير غضب هؤلاء الحُرَّاس المُسلَّحِين بالرشاشات، هذا ولم تتوقف طوال تلك الليلة تأوُّهات الجرحى وأصوات بكاء الشباب الذين اشتاقوا إلى أمهاتهم وزوجاتهم ومحبوباتهم. وقد ارتمى أبي في حضن والده مثل العصفور الجريح المسكين، وراح يستمع إلى دقات قلب جَدِّي التي بدت سريعة حينًا وبطيئة حينًا، وكأنه كان يستمع إلى صوت موسيقى رنان. وأخيرًا استطاع أبي أن يستسلم للنوم تحت تأثير الرياح الجنوبية الحانية. ورأى في منامه سيدة تشبه جدتي وتشبه في الوقت ذاته الفتاة تشينغ إر، راحت تلك السيدة تداعب بلطف جرحه حول عضوه التناسلي، وسَرَت في جسده رعشة شديدة … فأفاق أبي من نومه فجأة، وبدَا كمن فقد شيئًا غاليًا، وسمع صوت ولولة أحياء وأموات يملأ الخلاء الفسيح. وهنا راح يتذكر ذلك المشهد الذي رآه في منامه، وشعر بدهشة وخوف شديد، ولم يجرؤ أن يخبر جَدِّي بما يحدث معه، فجلس في هدوء شديد، وراح ينظر إلى درب التبانة من خلال فتحة الخيمة. ثم تذكر فجأة أنه سوف يبلغ عمَّا قريب السادسة عشرة من عمره!
وبعد طلوع الصبح، قام رجال فريق لينغ ماتزه بهدم الخيام التي نصبوها ليلة البارحة، وحصلوا على عدد من الحبال الطويلة، وقاموا بربط الأسرى في مجموعات، تكونت كل مجموعة من خمسة أفراد في حبل واحد، وقادوا أسراهم إلى شجرة الصفصاف جانب الخليج التي كان أفراد الجماعة الحديدية يربطون خيولهم عندها ليلة البارحة، وقد ربطوا القائد جيانغ وجدي وأبي معًا، وجعلوهم في الجزء الأمامي من الشجرة، كان أبي في المقدمة وجدي في الوسط ثم القائد جيانغ في آخر الصف. وكانت قدمَا أبي تغوصان في كميات كبيرة من نفايات الخيول، وتحول جسد ذلك الطبيب وبغله إلى هيكل يخلو من أي قطعة لحم، وكان قبر يو دا يا يظهر هنالك أسفل تلك الشجرة الوحيدة الموجودة في ذلك المكان، وكانت نباتات النيلوفر لا تزال موجودة في مكانها، وقد بدت أوراقها واضحة فوق صفحة المياه، وكانت جماعات الضفادع تشق طريقها وسط الطحالب الكثيفة الصفراء التي تملأ الخليج، وما إن عبروا السور الترابي المحيط بالقرية، حتى رأى أبي أن الحقول لا تزال بها بعض الآثار الواضحة لما حدث بالأمس، سقطت أعلام ورايات الجنازة على الطريق، وبدت وكأنَّها حية ضخمة تم ضَرْبها ضربًا شديدًا حتى سقطت جثة هامدة. وراح ما يزيد على عشرة أفراد من قوات فريق لينغ ماتزه يَشقُّون جثث الخيول بالمَعاوِل والخناجر، وانتشرت على الفور رائحة الدماء في أرجاء المكان.
سمع أبي صوت تنهيدة عميقة صدرت عن القائد جيانغ، فالتفَت إلى الوراء، وفعَل جَدِّي مثله، ورأى أبي جَدِّي والقائد جيانغ ينظران نظرات فاحصة في جميع الاتجاهات، وقد علَا وجْهَهما الحزنُ والتعبُ الشديد، تَدهورَت حالة ذراع جَدِّي المصاب، وفاحت منه رائحة عفنة، جذبت جماعات كثيرة من الذباب الذي كان يتكدس حول عظام الطبيب وبغله، كما سقطت تلك اللفافة التي كانت تغطي قدم القائد جيانغ صاحب القدم الصغيرة، وكان ذلك الجرح الذي أحدثه به جَدِّي لا يزال تسيل منه بعض الدماء السوداء.
وانتبه أبي إلى جَدِّي والقائد جيانغ وهما ينظران إلى بعضهما البعض، وكأنهما يريدان أن يتحدَّثَا إلى بعضهما البعض، ولكن لم يحدث ذلك بينهما. فتنهَّد أبي ثم التفَتَ إلى الوراء، وراح ينظر إلى تلك السهول الفسيحة ذات التربة الطينية، وسمع صوت بكاء تلك الأرواح المظلومة التي لفظت أنفاسها على تلك السهول، واستطاع أبي أن يستمع ويرى بعض رجال فريق القائد لينغ، وهم ينقلون ويحملون ويرفعون بعض قطع لحوم الخيول المليئة بالدماء إلى حافة الخليج، وقد حلقت فوقهم جماعات من الغربان التي استقرت أعلى شجرة الصفصاف.
بلغ عدد أفراد فريق جياو قاو والجماعة الحديدية الذين تم ربطهم إلى شجرة الصفصاف ما يزيد على ثمانين رجلًا. من بينهم ما يزيد على عشرين رجلًا من أفراد الجماعة الحديدية الذين اختلطوا بأفراد فريق جياو قاو، ورأى أبي رجلًا من أفراد الجماعة الحديدية فوق الأربعين، كان يبكي بصوت مسموع، حيث بدَا أن عظامه قد أصيبت بفعل تلك القذائف اليدوية، وقد راح أحد أفراد فريق جياو قاو الذي كان يقف إلى جواره يضرب على كتفه ويواسيه قائلًا: «يا زوج أختي الكبرى! فَلْتكفَّ عن البكاء، وحتمًا سيأتي اليوم الذي سننتقم فيه من العميل الخائن جانغ جو شي!»، فأدار ذلك الرجل من أفراد الجماعة الحديدية رأسه تجاه كتفه، وراح يمسح وجهه المتسخ بملابسه المتسخة، ثم قال بصوت متشنج: «إنني لا أبكي على أختك الكبرى! فإنها على أية حال قد ماتت ولا فائدة من البكاء عليها، إنني أبكي على حالنا نحن، لقد كنا في الأصل قرويين لا نفارق أرْضَنا وديارنا، ولم نكن ننظر إلى أبعد من ذلك أبدًا، فما الذي جاء بنا إلى هذا المكان؟ إنني أبكي على ابن أختك، أبكي على ابني دا يين تزه، الذي انضم معي للجماعة الحديدية وعمره لا يزيد على الثامنة عشرة، والذي كان في بداية الأمر يسعى إلى الانتقام لأختك الكبرى، وها هو لم يَتمكَّن من ذلك، بل سقط على أيديكم، نعم لقد قتلتموه بأسلحتكم، وكان قد أعلن استسلامه لكم، وقد رأيتُه بأم عيني يعلن استسلامه، ولكنكم قتلتموه! آه منكم أيها الكلاب أصحاب القلوب القاسية! أليس لديكم أبناء مثله؟»
جفَّتْ دموع ذلك الرجل من أعضاء الجماعة الحديدية القدامى بفعل الغضب الشديد الذي عَبَّر عنه للتَّو، ثم رفع رأسه وراح يطلق سيلًا من الشتائم على ذلك الرجل من فريق جياو قاو، والذي كان مربوطًا مثله بحبل من الخيش، راح يسبه قائلًا: «أيها الحيوانات! فلتذهبوا لقتال اليابانيين إذا كانت لديكم الجرأة على القتال! فلتذهبوا لقتال هؤلاء الغزاة ذوي البشرة الصفراء! وما الفائدة من قتالنا نحن أعضاء الجماعة الحديدية؟ آه منكم أيها الخونة! آه من هؤلاء الخونة أمثال جانغ بانغ تشانغ، وتشين قوي وغيرهما من الخونة!»
«يا زوج أختي الكبرى، يا زوج أختي الكبرى، أرجوك ألا تغضب.» هكذا راح أخو زوجته الذي يعمل جنديًّا في فريق جياو قاو ينصحه بهذه الكلمات.
«من ذا زوج أختك الكبرى؟ وهل نسيتَ أن لك زوج أخت عندما قُمتَ بإلقاء القذائف اليدوية على ابن أختك؟ إنكم أعضاء جيش با لو الشيوعيون أصحاب قلوب متحجرة؟ أليس لديكم زوجة وأولاد؟» بدأت الدماء تسيل من جرح ذلك الرجل من أعضاء الجماعة الحديدية حينما اشتد غضبه.
«أيها العجوز، لا تنظر إلى الأمر من ناحية واحدة فقط! فإنكم أعضاء الجماعة الحديدية لو لم تكونوا قد قمتم باختطاف قائدنا القائد جيانغ، والاستيلاء على مائة بندقية من أسلحتنا، فإننا لم نكن لنقاتلكم أبدًا، إن السبب الرئيسي في قتالنا إياكم هو استعادة تلك الأسلحة التي نستخدمها في مقاومة اليابانيين، ولْنُزوِّد مِن تَسلُّحنا أمام اليابانيين ونَمِضي إلى حرب كبرى مع هؤلاء المعتدين، ولنكون روادًا على طريق المقاومة ضد المعتدي الياباني!» هكذا راح أحد قادة فريق جياو قاو يَردُّ على اتهامات ذلك الرجل من أعضاء الجماعة الحديدية.
وراح أبي يرد على ذلك القائد بلهجة غاضبة قائلًا: «إنكم أنتم الذين بدأتم بسرقة الأسلحة التي كُنَّا نخفيها داخل البئر، وأنتم الذين سرقتم جلود الكلاب التي كنا نعلقها أعلى السور، وقد قمنا باختطاف قائدكم ردًّا على ما قمتم به!»
ثم بصق أبي بصقة قوية تجاه ذلك القائد من فريق جياو قاو، ولكن بصقته لم تصل إلى ذلك القائد واصطدمت بجبهة أحد أعضاء الجماعة الحديدية.
فأشاح ذلك الرجل الذي تلقى البصقة بوجهه بعيدًا، وشعر بحزن شديد مما أصابه، وراح يمسح ما أصابه بجذع الشجرة. ثم استدار بجسده غاضبًا — غضب غضبًا شديدًا لم يكن ليغضبه حتى لو تم إطلاق النار عليه — وراح يسب أبي قائلًا: «اللعنة كل اللعنة عليك يا دوو قوان!»
وضَحِك الأسرى الذين كانوا مربوطين بحبال من الكتان، والذين لم يكونوا على علم بما ينتظرهم من حظ سيئ.
ابتسم جَدِّي ابتسامة صفراء، ثم قال: «فيم تختلفون؟ إنكم جميعًا أسرى جيش مهزوم منكسر.»
وقبل أن ينتهي جَدِّي من كلامه إلى أبي ومن معه من الأسرى، أحس أن ذراعه المصابة قد حُشِرَت في الحبل، فاستدار بجسده حتى أرخى الحبل عن ذراعه قليلًا، وعندها رأى القائد جيانغ حزينًا، وقد تَورَّمَت قدمه المصابة ورمًا شديدًا حتى أصبحت في حجم ثمرة الشمَّام الشتوي، وسال منها سائل مثل الدم.
وهنا اندفع نحوه عدد من رجال فريق جياو قاو، ولكن اعترضَتْهم الحبال التي كانوا مربوطين بها، واكتفوا فقط بالنظر إلى قائدهم الذي كان مُلقًى أمامهم ما بين اليقظة والنوم.
وتحرَّرَت الشمس من الضَّباب الكثيف الذي كان يَحجُبها عن سطح الكرة الأرضية، وعمَّ ضوؤها جميع الأرجاء، وامتلأت الأرض بدفئها وحنوها، كان طباخ فريق لينغ ماتزه مشغولًا باستخدام القدور التي استخدمها أمس أفراد الجماعة الحديدية لإعداد الأرز المطبوخ، وقد بدأ الأرز يغلي في القدور، واختلطت رائحة الأرز المطبوخ الذكية برائحة الدماء ورائحة الجثث المتعفنة التي كانت تملأ المكان، وتقدَّم أربعة رجال من أفراد فريق لينغ ماتزه، وقد حَملُوا معًا درفتي باب علقوا أعلاهما قطعة كبيرة من لحم حصان مذبوح وقَدَم الحصان كاملة، حتى وصلوا إلى حافة الخليج. وما إن وصلوا إلى الخليج حتى راحوا ينظرون بشفقة على هؤلاء الأسرى المربوطين إلى أشجار الصفصاف، وقد كان من بين هؤلاء الأسرى من هو مشغول بالنظر إلى القائد جيانغ الذي يرقد مغشيًّا عليه، ومنهم من ينشغل بالنظر إلى الحراس الذين يحملون السلاح ويقفون أعلى السور الترابي الواقع إلى شمال القرية، وقد بدت حراب أسلحتهم تبرق، ومنهم من كان منشغلًا بالنظر إلى الضَّبَاب الكثيف الذي كان يملأ سماء نهر موا شوى، بينما انشغل أبي بالنظر إلى هؤلاء الرجال الأربعة من فريق لينغ ماتزه الذين جاءوا إلى حافة الخليج يحملون لَحْم الحصان.
وما إن وصل الرَّكْب إلى حافة الخليج حتى قاموا بوضع درفتي الباب إلى جانب مياه الخليج، فانقلبَت الدرفتان وسالت منهما بعض الدماء، وجرت الدماء إلى داخل الخليج، ومنها إلى أعلى الطحالب الصفراء التي تملأ الخليج، وقد انقلب عدد من تلك الطحالب ليظهر على السطح لونها الرمادي المخضر، وانعكس الضوء الوردي الذي تعكسه تلك الطحالب الصفراء على وجوه هؤلاء الأفراد من فريق لينغ ماتزه.
ما أكثر الطحالب التي تملأ مياه هذا الخليج! هكذا علق أحد الرجال الأربعة، بدَا شخصًا نحيفًا جدًّا مثل طائر أبي قردان، وبدَتْ أوراق تلك الطحالب تملأ صفحة الخليج، وكأنها عدد كبير من جلود الخيول.
– وما أقذر مياه هذا الخليج!
– إن الجميع يقولون إن من يشرب من مياهه سيُصاب بالبَرَص.
– وكيف يكون ذلك؟
– قبل عدة سنوات، كان قد نزل في هذا الخليج رجلان مصابان بالبرص، حتى إن العدوى أصابت الأسماك الصغيرة التي كانت تملأ مياه الخليج.
وغاصَت قدَمَا ذلك الرجل النحيف داخل وحل الخليج، وراح يحاول بسرعة أن يتخلص من الورطة التي وقع فيها، وراح يحرك قدميه بشدة حتى امتلأ حذاؤه الياباني بالوحل.
ومضى أبي يَتذكَّر مشهد قيام أفراد فريق لينغ ماتزه بالاستيلاء على أحذية الجنود اليابانيين الذين كانوا قد سقطوا خلال المعركة التي دارت على الجسر الكبير أعلى نهر موى شوى، كانوا قد قاموا بخلع تلك الأحذية الجلدية الطويلة من أقدام القتلى اليابانيين، وألقوا بأحذيتهم المصنوعة من القماش وارتدوا الأحذية اليابانية الجلدية الطويلة. ولا يزال أبي يذكر صورة هؤلاء الرجال من فريق لينغ ماتزه الذين قاموا بارتداء الأحذية اليابانية، وقد بدوا مثل البغال والخيول التي تم تعليق أجراس حديدية جديدة برقبتها، وراحوا يسيرون بصعوبة واضحة، وبدَا عليهم الخوف والرعب من السقوط في أي لحظة.
قام أفراد فريق لينغ ماتزه باستخدام بعض الألواح الخشبية في إزاحة الطحالب التي كانت تملأ صفحة مياه الخليج، حتى استطاعوا الكشف عن بقعة مياه خضراء خالية من الطحالب، ثم تدفقت على الفور كميات جديدة من الطحالب التي جاءت من مساحات تبعد عنهم لتملأ صفحة المياه التي خلت من الطحالب، وقد أحدث تدفق تلك الطحالب صوتًا بدَا مزعجًا لأبي.
وأطلَّتْ من وسط الطحالب رأس أفعى من تلك الأفاعي التي تقيم داخل المياه، وبعد لحظات قليلة ظهر جسم الأفعى كاملًا أعلى صفحة مياه الخليج، ثم راحت الأفعى تسبح داخل المياه، ولكنها اختفت بعد وقت قليل. ثم عاد السكون إلى مياه الخليج من جديد بعد تلك الجلبة التي أحدثتها الأفعى منذ قليل.
رأى أبي هؤلاء الرجال الأربعة، وهم يتابعون تلك الأفعى، كان الوحل قد غطى منطقة الكاحل في أقدامهم، وقد نسوا أن يتحركوا ليخلصوا أنفسهم من الوحل.
واختفَت الأفعى من أمامهم، وعندها تَنهَّد الرجال الأربعة تنهيدة عميقة، واستمر الرجال الذين يمسكون بالعصي الخشبية في إبعاد الطحالب من على سطح المياه، ورفع ذلك الرجل طويل القامة قَدم الحصان المذبوح، وألقى بها في المياه محدثةً صوتًا مسموعًا، ثم تناثرت المياه في كل مكان وظهرت فقاعات مثل باقات الورود الخضراء.
راح ذلك الرجل الذي كان يمسك بفأس حادَّة يوبخه على فعلته قائلًا: «فلتتحرك ببطء يا ابن الملعونة» فحمل ذلك الرجل صاحب القامة الطويلة قدم الحصان وراح يحركها إلى أعلى وإلى أسفل، وتطايرت الطحالب في كل مكان.
وقال الرجل الذي كان يحمل الفأس: «حسنًا، يكفي ذلك، وعلى أية حال، فإن هذه القدم سوف تُطْبَخ داخل القِدر.»
ثم قام الرجل صاحب القامة الطويلة بإلقاء قدم الحصان على درفة الباب، وقام الرجل الذي يحمل الفأس بتقطيع القدم إلى قطع صغيرة محدثًا صوتًا قويًّا مثل صوت ضرب المياه بالعصي.
واستمر أبي في مشاهدة هؤلاء الرجال الأربعة، وقد قاموا بحمل قدم الحصان التي غسلوها جيدًا ثم قطعوها بالفأس ووضعوها أعلى درفة الباب، ثم تابعهم بعد ذلك حتى قاموا بوضع قطع اللحم داخل القدر الكبير، وقد بدَا اللهب أسفل القدر شديدًا جدًّا، وأخذ أحد الطباخين بسكينه قطعة من اللحم من داخل القدر ووضعها أعلى النار ليشويها، أصدرت قطع اللحم صوتًا مرتفعًا، وكأنها تعرف أنها تتعرض لعملية شوي شديدة.
وفي تلك الأثناء رأى أبي القائد لينغ ماتزه يخرج من خيمته في لباسه الكامل المُنسَّق، وقد حمل سوطًا ومضى يتقدم بمرافقة حراسه لمشاهدة مئات البنادق والقذيفتين اليدويتين التي استولوا عليها من الجماعة الحديدية وفريق جياو قاو، وارتسمت على وجهه ابتسامة الرضا عمَّا حققه من نصر، وراح يلوح بسوطه ويقترب من هؤلاء الأسرى المربوطين إلى شجرة الصفصاف، وسمع أبي حينذاك صوت تنهدات تأتي من خلفه. ولم يلتفت إلى الخلف، ولكنه استطاع أن يرى السخط الشديد الذي علا وجه جدي، وراح القائد لينغ يحرك شفتيه والتجاعيد التي تظهر على وجنتيه.
وقال القائد لينغ بلهجة ساخرة: «أيها القائد يو، هل فكَّرتَ كيف سأتصرف معك؟»
فقال جدي: «فلتتصرف كما يحلو لك!»
فقال القائد لينغ: «إذا قَتلتُك فإنك للأسف تُعْتَبر أحد الرجال الشجعان، وإذا لم أقتلك، فإنه من المحتمل أنك ستعاود اختطافي في يوم من الأيام!»
فقال جدي: «لن يهدأ لي بال حتى بعد موتي!»
وهنا قفز أبي قفزة ليلقي بقطعة من روث الخيول على صدر القائد لينغ.
فرفع القائد لينغ سوطه، ثم أنزله ثانيةً، وقال ضاحكًا: «لقد سمعتُ أن هذا الحيوان يمتلك خصية واحدة فقط، أيها الحراس! أسرعوا بقطع الخصية المتبقية وائتوني بها في الحال، حتى لا يعاود القفز بهذه الطريقة ثانيةً!»
فقال جدي: «يا سيد لينغ، إنه طفل، اتركه لشأنه ولتفعل بي ما تشاء!»
فقال القائد لينغ: «طفل، إن هذا الحيوان الهجين أشد شراسة من صغار الذئاب!»
وهنا تيقظ القائد جيانغ، وجاء يحبو على يديه.
فسأله القائد لينغ بلهجة ساخرة: «أيها القائد جيانغ، ما رأيك في الطريقة التي سأقضي عليه بها؟»
فقال القائد جيانغ: «أيها القائد لينغ، لم يكن لديك الحق في قتلي قبل تحطيم الجبهة الموحدة بين الحزب الشيوعي والحزب الوطني.»
فقال القائد لينغ: «إن قتلي إيَّاك إنما هو مثل تَخلُّصي من نملة ضعيفة!»
ورأى أبي زوجًا من القمل يسرح أعلى رقبة القائد جيانغ الطويلة، وراح يتخلص منهما، وتذكر أبي ذلك اليوم الذي قاموا فيه باختطاف القائد جيانغ، ومشهد قيام أفراد فريق جياو قاو باصطياد القمل تحت شعاع الشمس.
وقال القائد جيانغ بثقة وشجاعة واضحة: «أيها القائد لينغ، إنك لن تتمكن من تحقيق نتيجة جيدة إذا ما قتلتني، فإننا أعضاء جيش با لو لا ننتهي أبدًا، وسيأتي اليوم الذي سيصفي فيه الشعب حسابه معك على جريمتك بقتل أحد أبطال المقاومة ضد اليابان!»
فقال القائد لينغ: «فلتنتظر هنا قليلًا، وسأعود إليك فور تناوُل الطعام!»
وتجمَّع أعضاء فريق لينغ ماتزه معًا ليأكلوا من لحم الحصان ويشربوا نبيذ الذُّرَة.
وأطلق الحارس الذي كان يقف عند السور الترابي شمال القرية طلقة، وحمل بندقيته وراح يجري إلى داخل القرية وهو يصيح بأعلى صوته: «لقد جاء الشياطين، لقد جاء الشياطين.»
فانفجر أعضاء فريق لينغ ماتزه غاضبين، وراحوا يصطدمون ببعضهم البعض، وقد ألقوا بما أمامهم من الطعام والنبيذ.
وجاء الحارس وهو يلهث، وأمسك به القائد لينغ من تلابيبه وراح يسأله: «كم عدد الشياطين؟ وهل هم من الشياطين اليابانيين أم من العملاء؟»
فأجاب الحارس: «يبدو أنهم من العملاء، حيث إنهم يرتدون الزي الأصفر، ويمضون إلى داخل القرية.»
فقال القائد لينغ مصدرًا أوامره لرجاله: «إنهم من العملاء، فلتقتلوا هؤلاء الكلاب. أنت أيها القائد تشي أسرِعْ بحشد قواتك حول السور الترابي!»
فحمل أفراد فريق القائد لينغ أسلحتهم وانقضوا نحو السور الترابي عند مدخل القرية، وأمر القائد لينغ اثنين من رجاله الذين يحملون الرشاشات الملونة قائلًا: «راقبوهم جيدًا، وإذا حدث منهم أي خيانة فاقضوا عليهم جميعًا!»
وفَرَّ القائد لينغ في حماية عدد من الحراس إلى شمال القرية.
وبعد مُضِي ما يزيد على عشر دقائق، وبعد الاشتباك بالنيران الذي حدَث في الجزء الشمالي من القرية، وبعد سماع صوت البنادق المتفرقة، دوَّى صوت الطلقات النارية من الرشاشات، وبعد وقت قليل انفجرت بعض القذائف داخل القرية، أصابت القذائف الأسوار والأشجار، علَت بين أصوات البشر الذين ذُعِرُوا من هول القذائف أصوات أناس أجانب.
إنهم من الشياطين الحقيقيين وليسوا من العملاء. وقد راح أفراد فريق القائد لينغ يقاومون عند السور الترابي، وقد انسحب عدد من الرجال الذين أصيبوا منهم خلال تلك المعركة.
وبعد مُضِي نصف الساعة، تخلى فريق القائد لينغ عن السور، وتراجعوا إلى الجدران المتحطمة، وراحوا يقاومون الشياطين الذين احتلوا السور الترابي.
وسقطت قنابل الشياطين اليابانيين عند جانب الخليج المائي، ولم يَعُد أفراد الجماعة الحديدية وأفراد فريق جياو قاو يحتملون الصبر أكثر من ذلك، فراحوا يسبون في غضبٍ شديدٍ: «فُكُّوا قيودنا! فُكُّوا قيودنا، اللعنة عليكم جميعًا!»
فراح الرجلان من أعضاء فريق القائد لينغ اللذان كانا يحملان الرشاشين الملونين ينظران إلى بعضهما البعض، ولكنهما كانَا عاجزَين عن اتخاذ قرار بشأن هؤلاء الأسرى.
فقال جدي: «إذا كنتم صينيين من ظهور صينيين فسارِعوا بإطلاق سراحنا، أما إذا كنتم من ظهور يابانيين فسارعوا بقتلنا!»
فأسرع الرجلان إلى كومة الأسلحة، وأحضرَا زوجًا من السيوف، وقطعَا تلك الحبال التي كانَا يربطان بها هؤلاء الأسرى.
فانقضَّ ما يزيد على ثمانين رجلًا بجنون على كومة الأسلحة والقذائف، ثم انَقضُّوا تجاه مصدر القنابل اليابانية غير عابئين بتعبهم وجوعهم وعطشهم.
وبعد مضي ما يزيد على عشر دقائق، امتدت ألسنة اللهب خلف السور الترابي، وكان ذلك نتيجة أول مجموعة من القذائف التي ألقى بها أفراد الجماعة الحديدية وفريق جياو قاو.