الباب الخامس

النهاية الغريبة

١

كانت الشفتان الحمراوان الممتلئتان اللتان تتميز بهما النساء ذوات البشرة السمراء، قد جعَلَتا زوجة جَدِّي ليان إر تتمتع بجاذبية قوية، وكانت الأيام قد استطاعت أن تدفن كل ما يتعلق بأصل ليان إر وفصلها، حيث وارت التربة الصفراء جسدها الشاب الممتلئ، ورأت وجهها الممتلئ وعينيها الزرقاوين اللتين لم يُؤثِّر فيهما الموت، واستطاعت تلك التربة الصفراء أن تُوقِف نظراتها الغاضبة والساخطة والمتحدية لهذا العالَم القذر، والتي تتعطش إلى عالَم يعج بالجمال الخالص. وفي حقيقة الأمر، فإن زوجة جَدِّي ليان إر كانت قد دُفِنَت داخل التربة السوداء في مسقط رأسي، كانت جثتها قد وُضِعَت داخل تابوت من خشب الصفصاف، وفاحت رائحة دمائها من داخل التابوت الرقيق، وقد تم دهن الجزء الخارجي من التابوت بطبقة من اللون الأحمر الغامق والفاتح، ولم يستطع ذلك اللون الأحمر أن يُخفي تلك الثقوب التي ملأت خشب التابوت. ولكن صورة تغطية جسدها الأسمر اللامع بالتربة الصفراء اللامعة لا تزال حاضرة في ذهني، ولن تضيع تلك الصورة من أمام عيني إلى الأبد، حيث رأيتُ كما لو كانت عيناي تقع على قمة جبلية من الرمال الصفراء التي تنعكس عليها أشعة الشمس الحمراء، وقد بدَا أمامي شعرها الطويل المُرسَل وثدياها العاليان، وبرزَت شفتاها المثيرتان من بين الرمال الذهبية، وعرفتُ أن هذا كله مُجرَّد تخيلات، أعلم جيدًا أن تربة مسقط رأسي السوداء قد وارت جسد زوجة جدي، وأن كل ما يحيط بقبرها الآن هو عبارة عن حقول الذُّرَة الحمراء، وأنك إذا وقفتَ أمام قبرها فلن يكون باستطاعتك أن ترى أي شيء سوى الذُّرَة الرفيعة الحمراء، حيث إن حقول الذُّرَة الممتدة حول قبرها ستحجب عنك الرؤية، وتجعلك تعجز عن أن ترى أكثر من شبر أمامك. إذًا، فلترفع وجهك عاليًا وتحاول أن تنظر من خلال أعواد الذُّرَة إلى صفحة السماء الزرقاء المفزعة! ولتحاول أن تستمع إلى الأصوات القادمة من الأرواح التي تسكن السماء!

٢

في صباح ذلك اليوم، كانت السماء قد تلونت باللون الأزرق الجميل، وقبل أن تطلع الشمس امتلأ الأفق بحمرة داكنة. وكان العم لاو قينغ قد أطلق رصاصة محلية على ثعلب أحمر اللون بدا ذيله مثل شعلة من اللهب. ويعتبر العم لاو قينغ صيادًا من فئة الصيادين الفريدين في قرية شيان شوى كوو تزه، كان ماهرًا في صيد ومهاجمة الإوز والأرانب البرية والبط البري وابن عرس والثعالب والعصافير. وفي مطلع فصل الشتاء ومنتصف الخريف من كل عام، كانت العصافير تتجمع بكميات كبيرة في قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، وتغطي جماعات سماء حقول القرية، ثم تطير عائدة إلى القرية وتسقط أعلى شجرة الصفصاف الوحيدة ذات الأوراق الذابلة، وتمتلئ أوراق شجرة الصفصاف الذابلة العارية بأعداد كبيرة من العصافير. وما إن يحل وقت الغروب حتى تتزين شجرة الصفصاف بتلك العصافير وعيونها البراقة، وتمضي العصافير في حركة مستمرة فوق أعواد الشجرة الكبيرة. وهنا يحمل العم لاو قينغ بندقيته ويغمض إحدى عينيه واضعًا إصبعه على زناد بندقيته، ثم يطلق رصاصة يسقط على إثرها جماعة من العصافير، ويعج المكان بأصوات العصافير، حيث تمضي العصافير التي لم تصبها رصاصة العم لاو قينغ تطير هنا وهناك وتنظر إلى العصافير التي سقطت على الأرض مصابة برصاصته، ثم تطير مسرعة محلقة في السماء. وكان أبي قد أكل في صباه من تلك العصافير التي كان يقوم العم لاو قينغ بصيدها، كان لحمها طَيِّب المذاق غنيًّا بالبروتينات اللازمة لتقوية الجسم. وبعد ثلاثين عامًا من ذلك التاريخ، كنتُ قد رافقت أخي الأكبر وخرجْنَا إلى حقول الذُّرَة المهجنة للقيام ببعض التجارب على محصول الذُّرَة، وكنا قد اشتبَكْنا في معركة حامية مع جماعات العصافير الماكرة. كان العم لاو قينغ قد بلغ آنذاك السبعين من عمره، يعيش بمفرده ويتمتَّع بمزايا نظام «الضمانات الخمسة»،١ وكان من الشخصيات ذات السمعة الطيبة على مستوى القرية، وكان كلما حل مهرجان الشكوى الكبير، يصعد إلى المنصة الرئيسية ويبدأ في بث آلامه أمام الملأ. وفي كل مرة يصعد فيها إلى المنصة الرئيسية لبث آلامه، يقوم بخلع ملابسه الخارجية، ويكشف عن بعض آثار الجروح في جسده. وكان دائمًا ما يقول أمام الملأ: «لقد قام الشياطين اليابانيون بطعني ثماني عشرة طعنة، حتى غرق جسدي في بركة من الدماء، ولكنني لم أَمُتْ بعدُ. فلماذا لم أَمتْ رغم كل هذه الطعنات؟ لقد كان السبب في ذلك الإله الثعلب الذي أنقذني وحماني من بطش الشياطين اليابانيين، وكنتُ قد رقدت فترة طويلة، وما إن فتحتُ عيني حتى وجدتهما تمتلئان بشعاع أحمر، وكان الإله الثعلب الرحيم العطوف يمد لسانه إليَّ ويلعق جراحي.»

كان الجد لاو قينغ قد أقام في منزله لوحة مُخصَّصة للإله الثعلب، وفي مطلع فترة «الثورة الثقافية الكبرى»، قدم إلى منزله بعض الحراس من الجيش الأحمر لهدم تلك اللوحة، فسارع الجد لاو قينغ بأخذ سكين كبيرة وقرفص أمام اللوحة، حتى اضطر الحراس إلى التراجع عن هدفهم وتركوه لحاله.

وكان الجد لاو قينغ قد تحقق في وقت طويل من أمر ذلك الثعلب الذي يعتقد بأنه يملك قدرات الآلهة، ولكنه لم يقم بقتله، حيث كان الجد لاو قينغ يتابع نمو الثعلب ونمو ريشه الأحمر الجميل، حتى صار ثعلبًا كبيرًا جميلًا، وتأكد من أنه سيحصل على مبلغ كبير في حالة قيامه ببيعه. وهنا عرف أن الوقت قد حان للتخلص منه، وأنه قد عاش في هذه الدنيا فترة كافية، كان الثعلب يسرق في كل ليلة دجاجة يأكلها كاملة، ويتمكن من الحصول على دجاجته يوميًّا على الرغم من قيام أهل القرية بحماية ما يملكون من دجاج بشتى الوسائل، ويتمكن من النجاة من جميع الفخاخ التي كانوا ينصبونها له، وكانت بطنه قد أصبحت هي المستودع الوحيد الذي امتلأ به دجاج أهل القرية في ذلك العام، وخرج لاو قينغ بعد سماع صياح الديكة إلى خارج حدود القرية، ونصب كمينًا خلف سور ترابي قصير عند الوادي الذي يقع عند مدخل القرية، وانتظر الثعلب حتى يعود بفريسته. وكان الوادي يمتلئ بكمية من القصب يصل ارتفاعها إلى نصف طول الإنسان، وتجمعت مياه الخريف وسطع الضوء على تلك المياه الباردة، وظهرت جماعات من الأسماك الصغيرة، ثم انعكس الضوء على المياه والقصب، وشمَّ لاو قينغ رائحة الثعلب، وانتبه إلى حركته بين القصب، فقام بوضع أصابع يده اليمنى المتجمدة من شدة البرودة أمام فمه، حيث غلبه النعاس، ثم وضع يده على زناد بندقيته. وقفز الثعلب من بين القصب، ووقف أعلى المياه المتجمدة، انعكس الضوء الأحمر على تلك المياه حتى بدت مثل ألسنة اللهب المشتعلة، ظهرت آثار دماء الدجاج على فم الثعلب، ظهر بعض من ريش الدجاج وقد علق بشاربه، راح الثعلب يتبختر أعلى سطح المياه، فأصدر لاو فينغ صوتًا مسموعًا، فوقف الثعلب على الفور، وراح ينظر إلى السور الترابي، وسرت رعشة شديدة في جسد لاو قينغ، وما إن نظر إلى مَعالم الغضب التي ارتسمت على وجه الثعلب حتى ساوره خوف وقلق شديد، ومضى الثعلب إلى وَكْره بين القصب، فأغمض لاو قينغ عينه وضغط على زناد بندقيته، وقد جعلته حركة البندقية يشعر برجفة شديدة تهزه هزًّا عنيفًا حتى جلس على الأرض، وانزوى الثعلب بسرعة وسط القصب، ووقف لاو قينغ وحمل بندقيته وراح يتابع الدخان الكثيف الذي ملأ سماء المكان، كان يعلم أن الثعلب لا يزال وسط القصب يراقبه بحقدٍ شديدٍ؛ فوقف لاو قينغ في مكانه، وقد بدَا ذا جسد ضخم كبير، وفجأة شعر بشعور أقرب ما يكون إلى وَخْز الضمير، وندم على ما قام به، ومضى يتذكر تلك الثقة الكبيرة التي منحه إيَّاها الثعلب خلال عام كامل، وأن الثعلب حتمًا يعلم جيدًا أنه يختبئ الآن خلف السور الترابي، إلا أنه لا يزال يسير أعلى سطح المياه المتجمدة، وكأنه يقوم باختبار ضميره؛ فأطلق لاو قينغ رصاصة، وكانت بلا شك خير تعبير عن خيانته لذلك الصديق الذي ينتمي إلى جماعة غير بني البشر، ثم راح ينظر داخل مساحة القصب التي يختبئ بداخلها الثعلب، ومضى يتعمق إلى داخل القصب ولم يتلفت وراءه أبدًا.

وأحس بعد ذلك ببرد شديد يسري داخل جسده، فاستدار قليلًا، وسقطت بندقيته أعلى سطح المياه المتجمدة، وشعر بسخونة شديدة تسري داخل بنطاله القطني، ونظر أمامه فإذا به يرى ما يزيد على عشرة رجال في زي أصفر، كانوا يحملون بنادق كبيرة مزودة بحراب لامعة، وهنا صاح وقد أحس برعب شديد: «اليابانيين!»

وتقدَّم الجنود اليابانيون نحوه وطعنه كل واحد منهم طعنة في صدره وفي بطنه؛ فراح لاو قينغ يصدر صوتًا حزينًا وكأنه يتوسل إلى الثعلب لكي يخرج لإنقاذه، ثم سقط أعلى سطح المياه المتجمدة، واصطدمت رأسه بالمياه المتجمدة حتى كشفت عن باطن المياه، وسالت دماؤه داخل المياه، وشعر بسخونة شديدة في الجزء الأعلى من جسده، وكأنه قد وضع على جمرات من اللهب الشديد، فراح يقطع بكلتا يديه تلك السترة القطنية التي تغطي الجزء الأعلى من جسده.

وفي تلك اللحظات التي كان فيها شاردًا، رأى ذلك الثعلب ذا الشعر الأحمر الجميل يخرج من وكره داخل القصب، ثم راح الثعلب يلف حوله، ثم جلس أمامه وراح ينظر إليه في شفقة، وبدَا شعر الثعلب جميلًا جدًّا، وبدت عيناه جميلتين كما لو كانتَا من الأحجار الكريمة الخضراء الجميلة، ثم شعر بعد ذلك بشعر الثعلب، وقد اقترب من جسده، وبدأ ينتظر أسنان الثعلب لكي ينقض عليه ويفتك به، كان لاو قينغ يعلم جيدًا أن الإنسان الذي يخون الوعد أحقر من الحيوانات؛ لذا فإنه لن يشكو إذا ما انقضَّ عليه الثعلب لينهي حياته، وهنا مد الثعلب لسانه البارد وراح يلعق جراح الجد لاو قينغ.

تيقن الجد لاو قينغ أن ذلك الثعلب قد قابَل السيئة بالحسنة وأنقذ حياته، وأنه من الصعب أن يجد في هذا العالم إنسانًا غيره تعود إليه الحياة من جديد بعد أن يُطعن ثماني عشرة طعنة، وأنه بالتأكيد هناك دواء فعال في لسان ذلك الثعلب، قال الجد لاو قينغ: إن أي منطقة كان يمر عليها لسان الثعلب، كانت تُشفَى في الحال، وكأنها قد دُهِنت بزيت النعناع.

٣

كان بعض أهالي القرية الذين نزلوا إلى المدينة لبيع الأحذية المصنوعة من القش قد ذكروا أن اليابانيين استَوْلَوا على مدينة قاو مي، ورَفَعوا عَلَم اليابان على مدخل المدينة، وما إن سمع أهل القرية ذلك النبأ، حتى أصبحوا في حيرة شديدة ولم يهدأ لهم بال، وراحوا ينتظرون المصيبة الكبرى التي ستحل بهم عمَّا قريب. وفي الوقت الذي كان القلق والخوف الشديد قد سيطر على جميع أهل القرية، كان هناك شخصان لا يساورهما أدنى قلق أو خوف ممَّا ترامى إلى سمعهما، وكانَا لا يزالان يزاولان أعمالَهما كما كان عليه الوضع قبل سماع ذلك النبأ، كان الشخصان هُما الجد لاو قينغ ذلك الصياد الماهر الذي ذكرناه آنفًا، أما الشخص الثاني فهو تشينغ ما تزه، والذي كان قد عمل زمارًا، وكان يعشق غناء أعمال أوبرا بكين.

وقف تشينغ ما تزه أمام أهل القرية وراح يخطب فيهم قائلًا: «ما الذي يخيفكم؟ وما الذي يحزنكم؟ سنكون شعبًا مطيعًا لأي حاكم يحكمنا. أولًا لن نشكو من قلة الغذاء، وثانيًا، لن نحتج على الضرائب التي تُفرض علينا، وسننفذ جميع الأوامر التي تُفرض علينا، وعندئذٍ مَن ذا الذي سَيُسِيء إلينا؟ مَن الذي سَيُسِيء إلينا؟»

وهكذا، عملت نصيحة تشينغ ما تزه على تهدئة عدد كبير من أهل القرية، وعاد الجميع إلى ممارسة حياتهم بشكل اعتيادي فراحوا ينامون ويأكلون ويعملون كما لو أن شيئًا لم يحدث. ولم يَكَد يمر وقت طويل حتى عاث اليابانيون في المدينة فسادًا، وانتشر طغيانهم واستبدادهم إلى أبعد الحدود، فراحوا يقتلون الأهالي ويطلقون المدافع الرشاشة ويلقون بجثث القتلى للكلاب ويغتصبون النساء اللائي تزيد أعمارهن على الستين، ويعلقون الأهالي على الكابلات الكهربائية في المدينة. وعلى الرغم من أن الأهالي حاولوا تقليد تشينغ ما تزه والجد لاو قينغ في هدوئهما وعدم مبالاتهما بما يحدث في المدينة، فإنهم عجزوا عن ذلك تمامًا، ولم يستطيعوا أن ينسوا في يقظتهم ونومهم ما يقوم به اليابانيون من جرائم لا تُغْتَفر.

وهكذا، كان تشينغ ما تزه يبدو سعيدًا على الدوام، وازدادت سعادته بسماعه خبر اقتراب قدوم اليابانيين إلى القرية، حيث إن قدومهم سيؤدي إلى زيادة كمية فضلات الكلاب التي يقوم بجمعها في صباح كل يوم، وأن أحدًا من أهل القرية لن يجرؤ على الخروج لمشاركته في ذلك. وفي فجر ذلك اليوم، خرج تشينغ ما تزه إلى خارج حدود القرية، والتقى هناك بالجد لاو قينغ الذي كان يحمل بندقية الصيد، وحيَّاه تشينغ ما تزه، ثم مضى كل منهم إلى طريقه. ولم يكد يمر وقت طويل حتى استطاع تشينغ ما تزه أن يملأ سلته بفضلات الكلاب. وهنا وضع تشينغ سلته وحمل مجرفة حديدية، ووقف أعلى السور الترابي جنوب القرية، وراح يتنفس نفسًا باردًا منعشًا، ثم شعر بحكة في حنجرته، فسلك حنجرته قليلًا ثم راح يتغنى، وقد شعر بسعادة غامرة.

ودوَّى صوت طَلْق ناري.

وطارت تلك القبعة البالية التي كان تشينغ ما تزه يضعها فوق رأسه، ثم طأطأ رقبته واختفى خلف السور الترابي، واصطدمت رأسه بتراب السور، ولكنه لم يشعر بأي ألم أو حكة، ثم اكتشف بعد ذلك أن فمه قد امتلأ بكمية من التراب الممتزج بالفحم، ورأى فأرًا ميتًا ملقى هنالك إلى جانب مقشة قديمة، ولم يدرك إذا ما كان هو نفسه حيًّا أو ميتًا، فراح يحرك ذراعيه وقدميه ويقفز، ولكن اكتشف أن ذراعيه وقدميه لا تطاوعه في الحركة ثم اكتشف أن سرواله مبلل. وهنا شعر برهبة شديدة، ومضى يفكر في أنه حتمًا قد انتهى، وأنه قد جرح، وحاول أن يجلس، ومد يده إلى سرواله يتحسس ما بداخله، وانتظر يده أن تخرج مغسولة باللون الأحمر، فرفعها أمام عينيه، فاكتشف وكأنها قد غُسِلت باللون الأصفر وليس الأحمر. وامتلأت أنفه برائحة شتلات نباتات مُتعفِّنة، فراح يمسح يده في الأرض ليتخلص من تلك الرائحة، ولكنه لم يتمكن من ذلك، فأمسك بالمقشة القديمة ليمسح عن يده تلك الرائحة الكريهة، وما إن هم أن يستخدم المقشة حتى سمع صوتًا قادمًا من خارج الوادي يصيح فيه قائلًا: «قف!»

رفع رأسه فإذا بالشخص الذي يأمره رجل في الثلاثين من عمره، ذو وجه حادٍّ في حِدَّة السيف، وبشرة صفراء وذقن طويلة، يرتدي فوق رأسه قبعة ملونة، ويمسك بمسدس أسود حالِك. ثم نظر خلف ذلك الرجل فرأى عشرات الأقدام الصفراء الملفوف حولها شارات من القماش الملون، ثم نظَر أعلى تلك الأقدام ليرى وجوهًا لأشخاص غريبين عن وطنه، وقد علت تلك الوجوه سعادة واضحة، ونظر أعلاهم ليرى علمًا مربعًا يتوسطه قرص الشمس. وهنا أحس تشينغ ما تزه برعشةٍ شديدةٍ.

وصاح فيه ذلك الرجل الذي كان يرتدي القبعة الملونة غاضبًا: «انهض!»

فأحكم تشينغ ما تزه ربط حزامه ثم صعد إلى أعلى الخندق، وكان في ارتباك شديد ولم يَتمكَّن من السيطرة على نفسه، وبدَا وجهه شاحبًا ولم يعرف ماذا يقول لذلك الشخص الغريب، فراح يهز رأسه وينحني أمامه.

فسأل الرجل تشينغ ما تزه: «هل هناك بالقرية قوات تابعة للحزب الوطني؟»

فذُهل تشينغ ما تزه ذهولًا شديدًا وراح ينظر إلى السائل.

فتقدَّم نحوه جندي ياباني وقد راح يلوح أمامه بخنجر ملطخ بالدماء، راح يلوح بالخنجر أمام صدر تشينغ ما تزه ووجهه، وأحس تشينغ ما تزه أن رجفة الخنجر قد تسللت إلى صدره وعينيه، وأحس بأن بطنه تصدر صوتًا مسموعًا، وأن معدته تهتز بشدة، ثم أحس بسعادة كبيرة جعلته كاد أن يرقص من شدة الفرح. فصاح الجندي الياباني ثم نزل بخنجره ليشق سترته القطنية، ثم تغلغل الخنجر ليحدث ألمًا شديدًا أسفل السترة القديمة. فراح تشينغ ما تزه ينزوي بعيدًا عنه، وكاد أن يغرق في دموعه ومُخاطه وبرازه وبوله.

غمغم الجندي الياباني بجملة غير مفهومة، ثم مضى يغمغم بكلام كثير، فراح تشينغ ما تزه ينظر متألمًا إلى وجه الجندي الياباني الذي اشتاط غضبًا، ثم انخرط في البكاء بصوتٍ مرتفعٍ.

أمسك ذلك الرجل الذي يرتدي القبعة بمسدسه وضرب تشينغ ما تزه على جبهته، ثم قال: «اسكت عن البكاء! واستمع إلى سؤالي! ما اسم هذه القرية؟ هل هي قرية شيان شوى كوو تزه؟»

فجاهدَ تشينغ ما تزه ليكتم بكاءه، وراح يهز رأسه ليجيب عن سؤال ذلك الرجل.

ثم سألَه الرجل بطريقة لطيفة بعض الشيء قائلًا: «هل يوجد في هذه القرية أحذية مصنوعة من القش؟»

وهنا لم يُبالِ تشينغ ما تزه بألمه، وراح يجيب على سؤال الرجل وكأنه يَتودَّد إليه قائلًا: «يوجد، يوجد، يوجد.»

فسأله الرجل: «لقد كان يوم أمس هو يوم سوق مدينة قاو مي، فهل ذهب أي من أهل هذه القرية إلى سوق مدينة قاو مي لبيع الأحذية المصنوعة من القش؟»

فأجاب تشينغ ما تزه: «نعم نعم نعم، لقد ذهب بعض أهل القرية إلى هناك لبيع الأحذية المصنوعة من القش»، وبدأَت الدماء الساخنة تسيل من صدره إلى منطقة معدته.

«وهل يوجد بينهم مَن يُدعَى شيان تساي قه دا؟»

«لا أعرف … لا أعرف.»

وهنا قام صاحب القبعة المصنوعة من الصوف بصفعه صفعة قوية، ثم قال غاضبًا: «تَكلَّم! هل كان بينهم شخص يُدعَى شيان تساي قه دا؟»

فراح تشينغ ما تزه يجيبه مغلوبًا على أمره قائلًا: «نعم نعم نعم أيها القائد»، ثم قال: «أيها القائد، إن جميع الأسر هنا لا تخلو من شيان تساي قه دا،٢ وجميع الأواني الكبيرة التي تمتلكها الأهالي في هذه البلدة تحتوي على شيان تساي قه دا.»

فقام القائد الياباني صاحب القبعة بصفعه على وجهه قائلًا: «اللعنة على أمك، كيف تتظاهر بهذه الحماقة؟ أسألك هل يوجد بين هؤلاء شخص يُدعَى شيان تساي قه دا؟» ثم راح يَسبُّه «أيها المخادع الحقير، إنني أسألك هل يوجد بينهم شخص يدعى شيان تساي قه دا؟»

فقال المواطن تشينغ ما تزه، وقد سقط مغشيًّا عليه من قوة صفعات القائد الياباني «يوجد … لا يوجد … يوجد … لا يوجد … أيها القائد أتوسل إليك ألا تصفعني ثانيةً … لا تصفعني أيها القائد!»

وهنا تحدث أحد الجنود اليابانيين ببعض الكلمات، وعندها قام القائد الياباني بخلع قبعته وراح يركع أمام أحد الشياطين اليابانيين، ثم استدار بجسده واختفت تلك الابتسامة التي كانت تعلو وجهه منذ قليل، ودفع تشينغ ما تزه دفعة، ثم قال بلهجة غاضبة: «تقدَّمْ إلى الأمام لتقودنا إلى هذه القرية، واصْحَبْنا إلى جميع من يقومون ببيع الأحذية المصنوعة من القش.»

كان تشينغ ما تزه لا يزال مشغولًا كثيرًا بِسلَّته الممتلئة بفضلات الكلاب، والتي كانت لا تزال ملقاة عند السور الترابي، وما إن التفت إلى الوراء ينظر إليها حتى اصطدم وجهه بخنجر لامع. وهنا أدرك جيدًا أن حياته أهم بكثير من تلك السلة والقيمة التي تساويها الفضلات التي تمتلئ بها، فمضى إلى القرية ولم يُعِد الالتفات إلى السلة ثانيةً. وقد تبعه عشرات الجنود اليابانيين، الذين كانوا يرتدون أحذية جلدية عالية كانت تحدث صوتًا مسموعًا، وصاحت بعض الكلاب الرمادية التي كانت تختبئ عند السور الترابي، وبدأت أشعة شمس الصباح تنعكس على الأرض من تحت أقدامهم، وحطمت أصوات بكاء بعض الأطفال ذلك السكون الذي كان يخيم على القرية، وكانت أصوات أحذية الجنود اليابانيين تهز أذنيه وتجثم على صدره، وأحس بأن جرح صدره أصبح أكثر سخونة، وأن سرواله المبلل قد أصبح أكثر برودة. وهنا أدرك أنه قد صادف حظًّا سيئًا مثل الفضلات التي خرج ليجمعها على الرغم من امتناع الآخَرِين عن الخروج في ذلك اليوم. وشعر بالظلم والأسى الشديد؛ لأن الجنود اليابانيين لا يعرفون أنه مواطن مطيع، واستطاع في أسرع وقت أن يصحبهم إلى الأماكن المخصصة لصناعة الأحذية المصنوعة من القش، وقد أصبح على ثقة بأن جميع من سيصدق عليه اسم شيان تساي قه دا سيتعرض للتنكيل به على يد هؤلاء الجنود، وراح ينظر إلى منزله من مسافة بعيدة جدًّا، وقد نمت بعض الأعشاب أعلى سقف المنزل بفعل الأمطار الصيفية الشديدة التي نزلت على القرية، وراح ينظر إلى منزله، وقد أحس بأنه للمرة الأولى في حياته يشعر بهذا الإحساس والحنين تجاه منزله، ومضى يفكر في أنه سيعود إليه فور انتهائه من صحبة اليابانيين، ويسارع بتغيير سرواله المبلل، ويطلب من زوجته المساعدة في تضميد الجرح الذي أصابه في صدره ووضع بعض الجير داخل الجرح، كانت الدماء قد بدأت تتوقف عن السيل، وشعر بارتخاء قدميه، وبتقزز شديد، إذ إنه لم يكن قد تعرض طيلة حياته لمثل هذا المأزق الشديد، بل إنه لم يتعرض أي من الزمارين في قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي لمثل هذا المأزق من قبل، ومضى في طريقه غارقًا في دموعه، ويفكر في زوجته الجميلة المصابة مثله بمرض الجدري، والتي قبلت الزواج منه، والتي ارتبطت معه برباط مقدس إلى الأبد.

٤

في صباح ذلك اليوم، أفاقت زوجة جَدِّي من حلمها الذي كانت تتشاجر فيه مع جدتي على صوت دوي إطلاق النيران خارج حدود القرية. وجلست زوجة جَدِّي على سريرها، وكان قلبها يدق دقات مضطربة، وَمضَتْ تُفكِّر طويلًا، ولكنها عجَزتْ عن الوصول إلى ماذا حدث عند حدود القرية حتى تسمع صوت الطلقات النارية الكثيفة، أم ترى أنها كانت لا تزال في عالم الأحلام، وانعكس ضوء الصباح على نافذة حجرتها، وشعرت زوجة جدي ببرودة عند كتفيها فمالت بوجهها ونظرت إلى ابنتها التي كانت لا تزال غارقة في نومها إلى جانبها واستطاع صوت تَنفُّس تلك الفتاة الصغيرة ذات الخمسة أعوام أن يهدئ من روع زوجة جدي، حيث مَضتْ تُفكِّر في أن صوت الطلقات النارية ربما يكون مصدره قيام العم لاو قينغ بممارَسة هوايته في صيد القطط والحيوانات البرية، ولم تكن تعلم أن تخمينها هذا لم يكن له أي أساس من الصحة، كما أنها لم تكن تعلم أنه في الوقت الذي كانت تفكر فيه في هذا الأمر، وقد شدت غطاءها لتعاود النوم، كانت الخناجر اليابانية الحادة تخترق جسد العم لاو قينغ، واستدارتْ عمتي الصغيرة قليلًا لترتمي في حضن زوجة جدي، فاحتضنَتْها وقد شعرَتْ بأن دفء تَنفُّس صغيرتها قد ملأ صدرها، وكانت قد مضت ثمانية أعوام على قيام جدتي بطرد زوجة جَدِّي من منزل العائلة، وخلال تلك الفترة كان جَدِّي قد احْتُجِز لدى حكومة جي نان حتى كاد أن يفقد حياته، ثم تمكن جَدِّي من النجاة وعاد إلى قريته، ليكتشف أن جدتي كانت قد قامَت باصطحاب أبي وأقامَت مع الزعيم أبي شامة زعيم الجماعة الحديدية، فاشتبك جَدِّي مع أبي شامة عند نهر يان شوى، وعلى الرغم من هزيمة جَدِّي في تلك المعركة، فإن ظهوره قد أنعش عاطفة جدتي تجاهه، فلاحَقَتْه جدتي وعادَا معًا إلى قريتهما، وعملَا معًا على إنعاش تجارة النبيذ التي كانت تشتهر بها العائلة، وقد تَخلَّى جَدِّي عن استخدام السلاح وقيادة فريق قُطَّاع الطُّرق، وعمل عدة سنوات كفلاح من الفلاحين الموسرين في القرية، وكان جَدِّي قد عانى خلال تلك السنوات من الإزعاج والقلق الشديد الذي كان مصدره النزاع المستمر بين جدتي وزوجة جدي. وكانت نتيجة ذلك النزاع والغيرة التي دَبَّت بينهما أنْ تم توقيع «اتفاق ثلاثي فيما بينهم»، ويقضي الاتفاق بأن يقيم جَدِّي فترة عشرة أيام مع جدتي، ثم ينتقل بعدها للإقامة فترة عشرة أيام مماثلة مع زوجته الثانية، ولا يجوز لأي من الأطراف الثلاثة مخالفة الاتفاق المُبرَم بينهم. واستطاع جَدِّي أن يلتزم على الدوام بهذا الاتفاق؛ لأنه كان يعلم جيدًا بخطورة زوجتيه، وأنه لن تتنازل أي منهن عن حقها لصالح ضرتها، احتضَنَت زوجة جَدِّي عمتي الصغيرة، وقد أحسَّتْ بحزنٍ شديدٍ. فقد كانت في ذلك الحين حاملًا في شهرها الثالث، والمرأة الحامل عادةً ما تتحول إلى امرأة طيبة لطيفة، ولكنها تكون في حاجة ماسَّة إلى الرعاية والاهتمام بها. وهكذا كانت زوجة جدي، في أثناء حملها الثاني تَعدُّ الأيام والليالي في انتظار عودة جدي، وكان موعد عودته هو يوم الغد … ولكنها تسمع الآن صوت الطلقات النارية الكثيفة عند مدخل القرية.

قفزت زوجة جَدِّي في عجالة وراحت ترتدي ملابسها، وقد شَعرتْ برعشة شديدة تهزها هزًّا، وكان قد ترامى إلى سمعها منذ وقت طويل خبر اقتراب وصول اليابانيين إلى القرية، فقضت يومها في حيرة شديدة وكانت تشعر باقتراب وقوع الكارثة، حتى إنها كانت قد فكرت في العودة مع جدي، وأن تصبر على مضايقة جدتي وسبابها خير لها وأهون عليها من الرعب الشديد الذي تشعر به في قرية شيان شوى كوو تزه، وحاولَتْ أن تفصح عن رغبتها في ذلك إلى جدي، ولكنه رفض رفضًا قاطعًا، وأعتقد أن سبب رفض جَدِّي إنما يرجع إلى المعاناة الشديدة التي يعيشها مع جدتي زوجته الثانية، كان جَدِّي قد ندم ندمًا شديدًا على موقفه من هذا الأمر، كان قد رأى المصيبة الكبرى التي أَلمَّتْ به من جَرَّاء ذلك عندما وقف في صباح يوم الغد وسط الفناء الكبير الذي كان يمتلئ بآثار الحيوانات البرية.

استيقظَتْ عمتي الصغيرة، وفتحَتْ عينيها المشرقتين، وراحت تتظاهر بأنها تتثاءب، ثم تنهدت تنهيدة عميقة، وذهلت زوجة جَدِّي ذهولًا شديدًا عندما رأت ابنتها تبدو أمامها على تلك الحالة، وراحت تنظر إلى الدموع التي ذرفتها عيناها في أثناء التثاؤب، وصمتت لمدة طويلة.

وقالت عمتي الصغيرة مخاطبةً أمها: «أمي، ساعديني في ارتداء ملابسي.»

أخذت زوجة جَدِّي بمعطف عمتي القطني الصغير الأحمر، ثم راحت تنظر إلى وجه صغيرتها بدهشة شديدة، وقد لاحظَتْ هذا التغير الشديد الذي طرأ على ابنتها التي أصبحت تستيقظ بنفسها كل يوم بعد أن كانت تجد صعوبة كبيرة في إيقاظها فيما مضى، ونظرَت إلى التجاعيد الكثيرة التي ملأت وجهها الصغير، وإلى حاجبيها اللذين نزلَا إلى فمها حتى بدت تلك الفتاة الصغيرة وكأنها سيدة عجوز، وشعرت زوجة جَدِّي برعشة شديدة تهز قلبها، وأحسَّت ببرودة المعطف الصغير الذي تمسكه بيديها، سرَتْ تلك البرودة إلى قلبها، فراحت تنادي على عمتي بكنيتها: «يا شيانغ قوان … يا شيانغ قوان … انتظري حتى تساعدك أمك في تسخين هذا المعطف البارد.»

فأجابت عمتي: «لا داعي، لا داعي لتسخينه يا أماه.»

وبدأت عينا زوجة جَدِّي تذرفان الدموع، لم تعد قادرة على رؤية وجه طفلتها الذي أصبح شاحبًا بعد أن كان في غاية النضارة والإشراق، ثم هربت مسرعةً إلى غرفة الطهي، وأشعلت النار في بعض من أعواد القمح وراحت تسخن معطف ابنتها البارد، أحدثت أعواد القمح عند اشتعالها صوتًا قويًّا مثل دوي طلقات نارية، وبدأ المعطف يتقلب وسط اللهب حتى سرت السخونة إلى يدي زوجة جدي، وخمدت النيران فجأة، وبقيت كومة من الرماد الذي تبقى من آثار إشعال أعواد القمح، وتناثر الدخان إلى سقف الغرفة، وهنا نادت عمتي الصغيرة التي كانت في الغرفة الداخلية على أمها، فأيقظتها، كانت تمسك بالمعطف الصغير داخل غرفة الطهي، فحملَت الأم المعطف الساخن وتوجَّهَت إلى الغرفة الداخلية، فرأت ابنتها تجلس أعلى مصطبة التدفئة، وقد التحفت باللحاف، وشاهدت ذلك التناقض الواضح بين بشرة تلك الطفلة البيضاء ولون اللحاف البنفسجي، فقامت زوجة جَدِّي بوضع ذراعَي ابنتها الضعيفتين داخل أكمام المعطف القطني الأحمر، بدَت عمتي مطيعة لها على غير عادتها تمامًا، حتى إن دَوِي الطلقات النارية الذي كان يهز القرية بأكملها لم يستطع أن يعرقل قيام زوجة جَدِّي بمساعدة عمتي في ارتداء المعطف القطني الصغير.

بدا صوت الانفجار وكأنه قادم من أعماق الأرض، كان الصوت مكتومًا واستمر لفترة طويلة، وبدأت ستارة النافذة تهتز بشدة، وسمعوا صوت هروب العصافير التي كانت تبحث عن الحَب وسط الفناء الكبير. وما إن انتهى صوت الانفجار، سمعوا صوت إطلاق بعض المدافع الرشاشة، فعاودت الفوضى تعم أرجاء القرية، وسمعوا بعض الأصوات المرعوبة من تلك الأصوات، فاحتضنت زوجة جَدِّي صغيرتها بشدة، والتصقت الأم وابنتها ببعضهما البعض، وراحتا ترتجفان من شدة الخوف.

وتوقَّفتْ أصوات الضجيج لفترة مؤقَّتة، ولفَّ القرية صَمْت مميت، وسكنت جميع الأصوات في القرية إلَّا من وقع خطوات ثقيلة أو نُباح بعض الكلاب ودَوِي بعض الطلقات النارية، ثم دَوَّى صوت انفجارَين متتابعَين علَت معهما أصوات الأهالي الذين ذُعِروا ذعرًا شديدًا، ثم عمَّت الفوضى والضجيج القرية من جديد، واختلطت أصوات صراخ النساء وبكاء الأطفال وصياح الديكة ونهيق الحمير التي كانت تُصارع للتخلص من قيودها. وأغلقَت زوجة جَدِّي باب الغرفة، وأتت بِعصَوَين وأحكمَت بهما غلق الباب، ثم قفزَت إلى دكة المدفأة وانزَوت إلى جانب الحائط، وراحت تنتظر وقوع الكارثة، وكانت في تلك اللحظة تشتاق إلى جَدِّي كثيرًا، وتكرهه كثيرًا. ومَضَت تُفكِّر في أنها ستبكي أمامه بكاءً شديدًا عندما يَعود إليها في الغد، وستفتعل معه شجارًا عنيفًا. انعكس ضوء الشمس المشرق على زجاج النافذة، وذابَت كُرات الصقيع التي كانت مُكدَّسة على النافذة، وتَحوَّلت إلى قطرات مياه راحت تتساقط على زجاج النافذة. وارتَفع صوت دَوِي الطَّلقات النارية داخل القرية، وارتفع معه صوت صراخ النساء الذي ملأ أرجاء القرية، وكانت زوجة جَدِّي تَعرِف بالطبع سَبَب صراخ نساء القرية، كانت قد سمعتْ أن هؤلاء الجنود اليابانيين مثل الحيوانات في الاعتداء على نساء القرية، حتى إنهم كانوا لا يرحمون النساء اللائي بلغن السبعين، وسرَت إلى داخل الغرفة رائحة الدخان القادم من خارج المنزل، وسمعت أصوات صراخ الرجال في الخارج، وهنا شعرت زوجة جَدِّي بالشَّلل التام، سمعت صوت باب المدخل، بالإضافة إلى لهجة غريبة كانت بالتأكيد لهجة اليابانيين، كما سمعت أصوات نزاع الأهالي عند مدخل الفناء الكبير؛ فحدَّقَت عمتي، ثم صمَتَت برهة، لتنخرط في البكاء بصوت مرتفع، مدَّت أمها يدها ووضعَتْها على فمها تكتم صوت بكائها. واهتزَّت درفتا باب المدخل، فنزلت الأم من أعلى مصطبة التدفئة، وملأت يديها بقبضتين من الرماد ونثرته على وجهها، كما قامت بنثر بعض الرماد على وجه صغيرتها، واهتزت درفتا الباب اهتزازًا شديدًا كما لو أنهما كادَتا أن تَتحطَّما تحطيمًا، وبدأ الرعب يسيطر على الأم، حيث لم تتوقف مقلتاها عن النظر هنا وهناك. ومضت تفكر في نفسها، إن هؤلاء الجنود إذا كانوا لا يرحمون العجائز في سن السبعين، فإنهم يجب أن يرحموا الحوامل؟ ثم فكرت الأم في حيلة تحاول أن تتقي بها شر المعتدين، سَحبَت صرة من أعلى مصطبة التدفئة، ثم فكت حزام بنطالها، ووضعت الصرة بداخله وأحكَمَت ربطها جيدًا، ثم شدَّت البنطال جيدًا، وحاولت جاهدة أن تضبط وضع الصرة كي لا تضايقها خشية أن يكتشف اليابانيون أمرها. بينما انزوت عمتي إلى جوار الحائط، وراحَت تُراقِب تصرفات أمها الغريبة.

فُتِح باب المدخل الكبير، وسقطت إحدى درفتيه الكبيرتين الثقيلتين على الأرض، وبمجرد أن سمعت زوجة جَدِّي صوت سقوط الدرفة على الأرض سارعت بالاختفاء أسفل المرجل، وراحت تنثر الرماد على وجهها، وعمَّت الفوضى أرجاء الفناء، فسارعت زوجة جَدِّي بالوصول إلى الغرفة الداخلية وأغلقت بابها، وصعدت أعلى مصطبة التدفئة واحتضنت صغيرتها وحاولت جاهدة أن تكتم صوتها، وسمعت صوت تمتمة الجنود اليابانيين وقد بدءوا يستخدمون أسلحتهم في تحطيم باب الغرفة، كان باب الغرفة الوسطى أضعف بكثير من باب المدخل، لم يصمد أمام محاولتهم، وسمعت الأم صوت فتح باب الغرفة الوسطى، ونظرت إلى العَصَوَين خلف الباب وقد سقطتَا على الأرض، ثم تأكدت من أنهم قد نجحوا في اقتحام الغرفة الوسطى. وبقيت الدرفتان الصغيرتان اللتان كانتا تستندان إلى حائط الغرفة كآخِر حاجز بينها وبين المعتدين. وبالطبع فقد كانت الدرفتان أضعف بكثير من باب المدخل وباب الغرفة الوسطى، وما داموا قد نجحوا في تحطيم باب المدخل وباب الغرفة الوسطى، فإن تحطيم الدرفتين سيكون أمرًا تافهًا بالنسبة لهم، والأمر كله يتوقف على إذا ما كانت لدى الجنود اليابانيين الرغبة في اقتحام الدرفتين وتحطيمها، ويتوقف على إذا ما كانوا يمتلكون رغبة تحطيم جميع الحواجز بهدف الوصول إلى فريستهم؛ وما دام الأمر هكذا، فإنه لا يزال لديها بصيص من الحظ؛ لأن الخطر الذي يمكن أن يأتي لها من ذلك الحاجز هو على أية حال مجرَّد توقُّعات من الصعب أن تتحوَّل إلى واقع، ثم راحت زوجة جَدِّي تُحدِّق إلى ذلك الحاجز في حالة من القلق الشديد الذي شعرت به بسماع وقع أقدام الجنود اليابانيين وحواراتهم التي لا تفهم منها شيئًا، وكانت الدرفتان ذواتي لون أحمر داكن، وقد امتلأت بكرتاهما ببعض التراب الرمادي، كما ظهرت بعض آثار الدماء الحمراء الداكنة القذرة على مزلاج الباب، وكانت تلك الدماء تخص فأرًا أسود قتل في ذلك الموضع، ومضت زوجة جدي تتذكر عندما قامت بقتل ابن عرس الأسود، أطلق صوتًا قويًّا ثم راح يَتلوَّى على الأرض حتى فقد القدرة تمامًا على الحركة، وكانت بالطبع تكره ابن عرس الشَّرس من أعماق قلبها، ففي أصيل أحد أيام خريف عام ١٩٣١م، وبينما كانت زوجة جَدِّي تقوم بجمع بعض الخضراوات البرية من وسط حقول الذُّرَة الرفيعة، رأت ابن عرس يقف أعلى قبر صغير مُغطًّى بالأعشاب الصفراء، وبدَا جسده متشحًا بالصفار، بينما بدَا فمه شديد السواد مثل الحبر الأسود تمامًا، وقد انتبهَتْ إليه عندما كانت تقوم بقضاء حاجتها وسط حقول الذُّرَة. رأَتْه واقفًا أعلى ذلك القبر، يرتكز على قدميه، ويرفع مخلبيه ويهزهما في اتجاهها. وفجأة أحسَّت كما لو أنها صُعِقَت بتيار كهربائي شديد، سرت بجسدها رعشة شديدة من رأسها حتى أخمص قدميها، فتسمَّرَت وسط حقول الذُّرَة وراحت تصيح بكلام غير مفهوم، وعندما عادت إلى حالتها الطبيعية، لفَّ الظلام حقول الذُّرَة، وامتلأت السماء بالنجوم، وراحت تبحث لها عن مخرج من هذا الظلام، حتى توصَّلَت إلى طريق ترابي يقودها إلى داخل القرية، واختفى من أمام عينيها خيال ابن عرس، ثم ظهر مرة ثانية. وقد أجبرها ذلك الخيال على أن تصيح بأعلى صوتها، حتى إنها صاحت بصوت أحسَّت بأنه ليس صوتًا طبيعيًّا، وأنها تشعر بدهشة وخوف شديد لسماع ذلك الصوت الذي يختلف تمامًا عن صوت صياح الإنسان العادي، أصيبت زوجة جَدِّي بحالة من الجنون لفترة طويلة، وشعرت أنها استطاعت أن تتحكم في نفسها، ولا بد أن تلتزم بقواعد الجنون، فراحت تصرخ وتضحك بصوت مرتفع، وتَهذِي بكلام غير مفهوم وتتصَرَّف تصرُّفات غريبة، وكلما كانت تعاودها تلك الحالة، كانت تشعر وكأنها شخصان مختلفان تمامًا، وأنها كانت تصارع داخل حفرة ممتلئة بالشهوة والموت، وأنها تعجز عن الخروج من تلك الحفرة. وأحسَّت كما لو أن يديها قَبَضتَا على طوق النجاة الذي يمكن أن يخرجها من تلك الحفرة، ولكن ما إن تقبض عليه بشدة حتى يتحوَّل ذلك الطَّوْق إلى جزء من الوحل يصعب السيطرة عليه، لتسقط داخل الحفرة من جديد. ووسط كل هذه المعاناة، كان ابن عرس ذو الفم الأسود لا يَتوقَّف عن الظهور أمامها، وهو يكشر لها عن أنيابه ضاحكًا، ويهز لها ذيله، كانت تصرخ بصوتٍ عالٍ كُلَّما لامَس ذيلُه جسدها، وفي النهاية غادر ابن عرس وقد أنهكه التعب، وسقطت زوجة جَدِّي مغشيًّا عليها، وقد تَصبَّب جسدها عرَقًا، واصفر وجهها من شدة التعب. ولكي يتم معالجة الجنون الذي أصاب زوجة جدي، كان جَدِّي قد رَكِب بغلته وقصد قرية باي لان يستقدم السيد لي شان رن المتخصص في طرد الأرواح والقبض على العفاريت، كان السيد لي شان رن قد قام بحرق البخور وإشعال الشموع، ورسم باللون الأحمر الداكن علامة غريبة على ورقة صفراء، ثم حرقها حتى تحولت إلى كتلة من الرماد ومزجها بدم كلب أسود اللون، ثم وضع الخليط داخل أنف زوجة جَدِّي وفمها. حتى راح ذلك العفريت الذي كان يلبسها يَتلوَّى ويصيح بصوت جنوني إلى أن خرج من داخلها، ثم عادت زوجة جَدِّي إلى حالتها الطبيعية منذ ذلك اليوم. وفيما بعد كان ابن عرس قد عاد إلى منزلها لسرقة بعض الدَّجَاج، فاشتبك مع الديك الأحمر القوي في معركة شرسة، انتهت بهزيمة ابن عرس، وقد تمكن الديك من أن يفقده إحدى عينيه، فراح ابن عرس يتلوى وسط الفناء، فاستغلت زوجة جَدِّي الفرصة، وحمَلَت مزلاج الباب وخرجت إلى الفناء، وراحت تضرب ابن عرس ضربات انتقام قوية. حتى تَمكَّنَت من الثأر لنفسها وشفَت غليلها من ذلك الحيوان الشرس، حملت ذلك المزلاج الملطخ بالدماء، ووقَفَت وسط الفناء شاردة لبعض الوقت. ثم واصَلتْ ضَرْب ابن عرس حتى حطَّمَت جسده تمامًا، وعادت إلى غرفتها وقد أحسَّتْ أنها انتقَمتْ منه أشد الانتقام.

راحت زوجة جَدِّي تُحدِّق في آثار الدماء التي تملأ المزلاج، وتذَكَّرت تلك الحادثة القديمة، وأحسَّت وكأنها تسمع صوتًا مرعبًا جدًّا يأتي من أعماقها.

اهتزت درفة الباب الضعيفة قليلًا ثم فتحت على مصراعيها، ودخل إلى الغرفة جندي ياباني ذو بشرة صفراء يمسك ببندقية مزودة بحربة، واستطاعت زوجة جَدِّي وسط صراخها وعدم تركيز عينيها أن تحدد ملامح ذلك الجندي الياباني، غير أن فمه ووجنتيه وشكله المهذب قد تحول في لحظة إلى نفس ملامح ابن عرس الذي انتهَت حياته بين يديها. بدَا لها فمه المُدبَّب وشاربه الأسود ونظراته المتلصصة تشبه ابن عرس إلى حدٍّ كبيرٍ، إلا أن ابن عرس كان أضخم منه، وكان شعره أكثر اصفرارًا ونظراته أكثر مكرًا، وهكذا راحت زوجة جَدِّي تستعيد ما حدث خلال تلك المعركة التي أبلت فيها بلاءً حسنًا، تأذت عمتي الصغيرة كثيرًا من شدة صراخ أمها، وشعرت بخوف ورعب شديد من منظر وجهها الذي لطخته بالرماد، فراحت الفتاة تحاول جاهدة الخلاص من بين ذراعَي أمها اللتين بدَتَا لها مثل سياج حديدي، فقفزت لتجلس أعلى حافة النافذة، حتى تمكَّنَت من رؤية ستة من الجنود اليابانيين، كانت أول وآخر مرة تراهم في حياتها القصيرة.

ووقفَ الجنود اليابانيون الستة أمام مدفأة زوجة جدي، كانوا يحملون جميعًا بنادق مزودة بمحاريب لامعة، وقد بدَوا في زحامٍ شديدٍ داخل الغرفة، علَت وجوههم ابتسامة ماكرة وحمقاء كابتسامة ابن عرس، وبدت بالنسبة لتلك الفتاة الصغيرة مصفرة ومحمرة وجميلة ودافئة وودودة مثل خبز الذُّرَة الذي خرج لتوِّه من الفرن. ولم تكن عمَّتِي تخاف آنذاك من أي شيء أمامها إلَّا من تلك الحراب التي كانت مزودة بها بنادق هؤلاء الجنود اليابانيين، كانت تخاف أيضًا من وجه أمها الجاف مثل واحدة القرع الجافة، وبدت وجوه هؤلاء الجنود اليابانيين عامل جذب مألوف لها.

راح الجنود اليابانيين يضحكون كاشفين عن أسنانهم المكشرة أو المنتظمة أو المتباعدة عن بعضها البعض، وهنا انتاب زوجة جَدِّي الرعب الشديد بسبب بعض الجنون الذي تبقى من آثار ابن عرس وبسبب ضحكات هؤلاء الجنود، واستطاعت أن تخمن من خلال تلك الضحكات أن هناك خطرًا شديدًا سيواجهها عمَّا قريب، مثلما كانت قد استطاعت فيما مضى أن تتنبأ بما وقع من ابن عرس تجاهها في تلك الحادثة القديمة. ومن ثم، فقد راحت تصيح بصوت عالٍ، وهي تضغط بكلتا يديها على بطنها، وتميل بجسدها ناحية الحائط.

وتقدم إلى المدفأة جندي ياباني يصل طوله إلى حوالي متر وخمسة وستين سنتيمترًا تقريبًا — وربما يكون أطول أو أقصر من ذلك قليلًا — ويبلغ عمره ما بين الخامسة والثلاثين والأربعين، خلع قبعته العسكرية، ومسح على صلعته، وعلت وجهه نظرة غامضة، وراح يتحدث بلغة صينية متلعثمة قائلًا: «أنت يا، أنت أيتها الفتاة الجميلة، لا تخافي أيتها الجميلة!» ثم سند بندقيته إلى جانب سور المدفأة، وأمسك بالسور، وقفز إلى أعلى مصطبة التدفئة، ثم راح يتلوى مثل الدودة حتى وصل أمام زوجة جدي، وهنا ودت المرأة لو أن ابتلعتها شقوق الحائط، ثم اختلطَتْ دموعها الغزيرة ببقايا الرماد الذي كان يملأ وجهها، ليكشف عن بشرة سوداء لامعة. فراح الجندي الياباني يستمر في ثرثرته، ومد أصابعه القصيرة الغليظة وقرص وجه زوجة جدي قرصة سريعة. وما إن طالت يده وجهها، حتى شعرت المرأة بامتعاض شديد، وكأن ضفدعًا تسلل إلى داخل بنطالها. فراحت تصيح بصوت مرتفع، فأمسك الجندي الياباني برجليها وراح يدفعها بقوة للخلف، فسقطت المرأة على مصطبة التدفئة واصطدمت رأسها بحائط الغرفة. وبعد أن رقدت زوجة جدي على مصطبة التدفئة، بدت بطنها مثل هضبة صغيرة، فبدأ الجندي الياباني بالمسح على بطنها، ثم نظر بطرف عينيه إلى تلك البطن المزيفة وخبطها خبطة قوية، راح الجندي الياباني يحكم سيطرته على قدمي المرأة بكلتا ركبتيه، وبدأ يفك رباط بنطالها، بينما راحت هي تمنعه بكل ما أُوتِيَت من قوة وهي تَتلوَّى، ثم تمكنت أخيرًا من عضه عضةً قويةً في أنفه التي بدت مثل رأس الثوم، فصرخ صرخة غريبة، وأرخى يديه وراح يمسك بأنفه ليمنع الدماء التي بدأت تسيل منها، ثم راح ينظر نظرات مريبة إلى زوجة جَدِّي التي انزوت إلى جانب الحائط، وهنا ضحك الجنود الخمسة الذين كانوا يقفون أسفل مصطبة التدفئة. بينما سارع ذلك الجندي المصاب بإخراج منديل يد أسود ووضعه على أنفه وراح يضغط عليه بشدة، ثم وقف أعلى مصطبة التدفئة، وقد تغيرت تعبيرات وجهه التي كانت منذ قليل تبدو وكأنها تعبيرات شاعر غزل أثناء إنشاد أبيات من الشعر العاطفي، تغيرت ملامحه لتكشف عن حقيقته كذئب مفترس، فرفع بندقيته وصوَّبها تجاه بطن زوجة جَدِّي المرتفعة، وقد انعكس ضوء الشمس على حربة البندقية، ولمع ضوء الشمس، وهنا صرخت زوجة جَدِّي آخِر صرخة ثم أغمضَتْ عينيها.

جلست عمتي أعلى حافة النافذة، كانت قد تابعت باهتمامٍ شديدٍ ما حدث بين أمها وذلك الجندي الياباني ممتلئ الجسم، ولكنها لم تستطع أن تتحقق من نية ذلك الجندي الياباني السيئة من خلال وجهه الذي بدَا أمامها، حتى إنها راحت تمسك بحب استطلاع ذلك الضوء الذي انعكس على صلعته، بل إنها استهجنت صوت صراخ أمها الذي بدا لها مثل صوت الحيوانات البرية، ولكنها ما إن رأت ذلك التغير الكبير الذي طرأ على ملامح ذلك الجندي وقيامه بتصويب حربته تجاه بطن أمها، نقول ما إن رأت ذلك حتى سيطر عليها شعور بالخوف الشديد على نفسها وشعرت بالحب العميق لأمها. وعندها قفزت الفتاة من أعلى حافة النافذة وألقت بنفسها على أمها.

وتحدث ذلك الجندي سليط اللسان الذي سبقهم في الدخول إلى الغرفة ببعض الكلمات مع ذلك الجندي الممتلئ الجسم الذي كان يقف أعلى مصطبة التدفئة، ثم صعد هو إلى أعلى مصطبة التدفئة، وأزاح الجندي إلى أسفل، ثم رماه بابتسامة ساخرة. ثم أدار وجهه وأخذ يحمل بندقيته بإحدى يديه، بينما راح يجذب شعر الفتاة بيده الأخرى وكأنه يجذب رأس واحدة من اللفت، حتى استطاع أن يقتلعها من حضن أمها، وكأنه يقتلع رأس اللفت من بطن تربة صلبة، دفعها بقوة إلى خلف النافذة، ثم جذبها إلى أعلى مصطبة التدفئة. وقد أدت تلك الدفعات القوية إلى تحطيم النافذة. حبست الفتاة صراخها وتغيرت ملامحها من شدة الغضب، وهنا تحرَّرتْ زوجة جَدِّي من سيطرة ابن عرس عليها في خيالها وانقضَّتْ على ذلك الجندي مثل الحيوان المفترس، فاستقبلها الجندي الياباني بركلة قوية في بطنها. وعلى الرغم من أن ركلته قد أصابت بشكل مباشر تلك الصرة التي كانت تضعها في بطنها، فإن ركلته القوية استطاعت أن تحدث تأثيرًا قويًّا على بطنها الحقيقية، واستطاعت أن تدفعها إلى حائط الغرفة، ليصطدم ظهرها ورأسها بالحائط، وعندما جلست على الأرض مغشيًّا عليه، شعرت بألم شديد في بطنها، ولم تستطع الفتاة الصغيرة أن تكتم صراخها أكثر من ذلك، فراحت تصرخ بصوت مرتفع للغاية، واستطاع صوت صراخها المرتفع أن يوقظ الأم، لتنتبه إلى أن ذلك الجندي الياباني النحيف الذي يقف أمامها الآن قد انفصل تمامًا عن صورة ابن عرس التي كانت تسيطر عليها منذ قليل. وانتبهت جيدًا إلى وجهه النحيف وأنفه الطويل المدبب، وعينيه السوداوين اللامعتين، وكأنه مثقف ذكي سريع البديهة واسع الاطلاع والمعرفة. فسجدت زوجة جَدِّي على مصطبة التدفئة وراحت تذرف الدموع وهي تتوسل إليه قائلةً: «أيها السيد … أيها السيد المحترم … فَلْتعفُ عنا … أليس لديكم زوجة وأبناء مثلنا … أليس لديكم أخوات مثلنا؟!»

وتحركت خدود الجندي الياباني التي بدت مثل خدود فأر صغير ممتلئ الجسم، ولاحت في عينيه الزرقاوين طبقة دخان أزرق، فمع أنه لم يفهم كلام زوجة جدي، فإنه على الأقل قد فهم مضمون ما تفوَّهت به. وانتبهت زوجة جَدِّي إلى حركة كتفيه واهتزاز وجنتيه عندما سمع صوت صراخ عمتي، وإلى نظرة الشفقة التي علت وجهه آنذاك، فنظر بجبن ملحوظ إلى رفقائه الذين كانوا يقفون أسفل مصطبة التدفئة، وقد لاحقته عيون زوجة جَدِّي التي راحت تتأمل وجوه هؤلاء الجنود الخمسة، علت وجوه هؤلاء الجنود نظرات وتعبيرات مختلفة، غير أن زوجة جَدِّي شعرت أن نظراتهم وتعبيرات وجوههم تخفي بعض اللين والعطف، كانوا يحاولون جاهدين التمسك بالجدية والصرامة في التعامل ويعلنون عن تلك التعبيرات والنظرات القاسية الساخرة تجاه ذلك الجندي النحيف أعلى مصطبة التدفئة. حول الجندي النحيف نظرته عن هؤلاء الجنود الخمسة، بينما راحت زوجة جَدِّي تتابع نظرات عينيه، ولاحظت خمود نظراته، وبدأت وجنتاه ترتعشان بشدة، بدأت عضلاته تهتز بشكل ملحوظ، فراح الرجل يعض على أسنانه وكأنه يخفي شيئًا ما، ثم وجه حربة بندقيته اللامعة تجاه فم عمتي الصغير.

وبدأ الرجل يتحدث بلغة صينية وبلهجة قاسية قائلًا: «أنت يا، اخلعي بنطالك! اخلعي بنطالك!» كانت لغته الصينية أفضل من لغة ذلك الجندي السمين الأصلع.

وكانت زوجة جَدِّي قد تحررت منذ قليل من تخيلاتها لابن عرس، ولم تكن قد عادت لحالتها الطبيعية بعد، كان ذلك الجندي النحيف يبدو لها أحيانًا مثل المثقف واسع المعرفة وأحيانًا أخرى مثل ابن عرس ذي الفم الأسود، فراحت ترتجف حينًا وتصرخ حينًا، حيث كادت تلك الحربة اللامعة أن تندفع إلى داخل فم ابنتها الصغيرة، وهنا أفاقت من تخيلاتها، وشعرت بألم شديد يعتصر قلبها، خلعت بنطالها ثم خلعت ملابسها الداخلية، حتى بدت عارية تمامًا، ثم ألقت بتلك الصرة التي كانت تضعها في بطنها إلى أسفل مصطبة التدفئة، حتى اصطدمت تلك الصرة بوجه أحد الجنود اليابانيين، والذي بدا شابًّا يافعًا وسيمًا، وعندما سقطت تلك الصرة على الأرض، راح ذلك الجندي الشاب الوسيم يتابعها بعينيه الجميلتين وهو في ذهول شديد، فابتسمت إليه زوجة جدي ابتسامة غريبة، بينما كانت عيناها تذرفان الدموع، ثم رقدت أعلى مصطبة التدفئة وراحت تقول بصوت مرتفع: «فلتتقدم! فلتتقدموا جميعًا! ولا تلمسوا ابنتي! لا تلمسوا ابنتي!»

استعاد ذلك الجندي النحيف حربته، وأنزل ذراعه الذي بدا عليه التعب، وكأنه قد شُلَّ تمامًا، وافترش جسد زوجة جَدِّي الغض مصطبة التدفئة، وبدت عيون هؤلاء الجنود اليابانيين شاردة ووجوههم جامدة وكأنهم تماثيل من الصلصال، بينما راحت زوجة جَدِّي تنتظر هجومهم على جسدها، وهي متبلدة الشعور، وقد علا وجهها الشحوب.

وها أنا أفكر الآن هل زوجة جَدِّي كان سيمكنها تجنب تلك الإهانة الكبيرة لو كانت قد واجهت جنديًّا يابانيًّا واحدًا فقط؟ لا، لم يكن بإمكانها تجنب تلك الإهانة التي تعرضت لها، فعندما يكون هناك إنسان وحش مفترس بمفرده، لن يكون مضطرًّا لأن يرتدي قناع الإنسانية وسيضاعف من جنونه وطيشه، وسيتخلص من جميع الأقنعة والكلمات الجميلة وسينقض على فريسته بكل وحشية. في الظروف العادية، نجد أن القوة الأخلاقية قد تجبر تلك الحيوانات البرية التي تعيش وسط البشر على التخفي وراء ملابس أنيقة تُخفي شكلها الحقيقي، فالمجتمع المستقر الآمن يعتبر مسرحًا لتدريب البشر، تمامًا كما لو وضعنا بعض النمور والذئاب داخل قفص لمدة طويلة، فإن تلك الحيوانات ستتلوث ببعض صفات البشر. أليس كذلك؟ نعم؟ لا؟ أليس كذلك؟ إنني لو لم أكن رجلًا، لو أمسكت بخنجر فسأقوم بقتل جميع الرجال على سطح الأرض! وربما لو كان ذلك الذي تعرض لزوجة جَدِّي في ذلك اليوم جنديًّا يابانيًّا واحدًا فقط، فلربما فكر في أمه أو زوجته، ولو فكر في هؤلاء فقد يتخلى عن رغبته، أليس كذلك؟

تشبث هؤلاء الجنود اليابانيون الستة بموقفهم تجاه زوجة جدي، ووقفوا أمام جسدها العاري بخشوعٍ تامٍّ وكأنهم يقفون أمام ضريح، حيث لم يكن يرغب أو يجرؤ أحد منهم على التزحزح من مكانه، رقدت هي أمامهم مثل سمكة كبيرة تتعرض لأشعة الشمس، وبكت عمتي بكاءً شديدًا حتى بُحَّ صوتها من كثرة البكاء. وفي حقيقة الأمر، إن هؤلاء الجنود كانوا قد تأثروا بما قامت به زوجة جَدِّي وتقديم نفسها لهم، فعندما رقدت أمام هؤلاء الأبناء بقلب الأم، راح كل منهم يستعيد مسار حياته الطويلة.

وأعتقد أنها لو كانت استطاعت أن تصبر قليلًا، فإنه ربما كان بإمكانها أن تنتصر عليهم. فيا زوجة جَدِّي لماذا سارعتِ بارتداء ملابسك فور أن رقدتِ على مصطبة التدفئة؟ فإنك ما إن بدأتِ في وضع إحدى قدميك داخل بنطالك عمَّت الفوضى بين هؤلاء الجنود الخمسين المنتظرين أسفل مصطبة التدفئة، وقام ذلك الجندي الذي تعرضت أنفه لعضة شديدة من أسنانك بإلقاء بندقيته وقفز إلى أعلى مصطبة التدفئة، وقد رحت تنظرين بتقزز إلى أنفه المصاب، ثم لم تتمكني من السيطرة على حالة الجنون الذي يعود إليك بين الحين والآخر، أما ذلك الجندي النحيف الذي تمكَّن من التغلب عليكِ بحيلته الماكرة فقد ركل الجندي السمين إلى أسفل مصطبة التدفئة، ثم لوح بقبضته للجنود الواقفين أسفل مصطبة التدفئة وهو يتكلم بكلمات غير مفهومة لك، ثم قام بالصعود أعلى جسدك، والتصق جسده بجسدك وامتلأ وجهك بالرذاذ الكثيف الذي كان يخرج من فمه الكريه.

ثم لاحت أمام عينيك صورة ابن عرس ذي الفم الأسود المدبب، فبدأت في الصراخ بجنون، وقد أصيب الجنود اليابانيون بالعدوى وراحوا يصرخون مثلك بصورة غير طبيعية.

نعم، إنه ذلك الجندي الياباني الأصلع في منتصف العمر الذي أزاح الجندي النحيف من أعلى جسدك. والتصق وجهه بوجهك، فأغمضتِ عينيك وقد شعرت بامتعاضٍ شديدٍ من هيئته المخيفة، وشعرت بألم شديد يتعرض له ذلك الجنين صاحب الأشهر الثلاثة في بطنك العالية، وسمعت صوت بكاء عمتي، وصوت تنهد ذلك الجندي الأصلع السمين مثل الخنزير، وصوت قيام هؤلاء الجنود الواقفين أسفل مصطبة التدفئة بدق الأرض وصوت ضحكاتهم الفاجرة. قام الجندي الأصلع بعضك عضة قوية في وجهك، وكأنه كان ينتقم لنفسه من تلك العضة القوية التي تركت أثرًا واضحًا في فمه، وامتلأ وجهك بالدموع والدماء وعرق ذلك الجندي الأصلع، وخرجت من فمك كتلة من الدماء الساخنة، وامتلأ أنفك برائحة كريهة، وزاد الألم الذي يطبق على جنينك، وأصيبت جميع عضلات جسمك وأعصابك بتشنج شديد، وأصبحت مثل القوس المشدود، وشعرت بأن جنينك يحاول بأقصى استطاعته أن يختفي في مكان عميق داخل بطنك العالية، يحاول أن يختفي من تلك المهانة التي تتعرضين لها الآن، وبدت على وجهك علامات الغضب الشديد، فعندما لامس خد ذلك الجندي الياباني فمك، إذا بك تنَقَضِّين على وجهه بعضة قوية من أسنانك الحادة، وقد بدَا لحم خده مثل المطاط الناعم، وأحسستِ برائحة لحمه الكريهة، فبدأتِ ترخي أسنانك قليلًا، ثم أعقب ذلك ارتخاء أعصابك وعضلاتك.

كانت زوجة جَدِّي قد سمعت بعد ذلك صوت صراخ عمتي المفجع القادم من مكان بعيد جدًّا، فراحَت تفتح عينيها بصعوبة شديدة لترى أمامها صورة كما في عالم الخيال، رأت ذلك الجندي الياباني الشاب الوسيم يقف أعلى مصطبة التدفئة، وقد كان يستفز عمتي بحربة بندقيته، وهو يلوح بالحربة أمام عينيها، فقفزت عمتي إلى أسفل مصطبة التدفئة بسرعة شديدة، وقد انفتح معطفها الأحمر الصغير تحت أشعة الشمس ليبدو مثل قطعة من الحرير الأحمر الأملس، راح المعطف يتطاير داخل الغرفة من الأمواج، ووقف شَعْر رأسها خلال قفزتها السريعة من أعلى مصطبة التدفئة، فحمل الجندي الياباني الشاب بندقيته، وتساقطت من عينيه قطرات من الدموع الزرقاء.

صرخت زوجة جَدِّي صرخة قوية، وودَّت لو طارت إلى ابنتها، ولكن جسدها كان قد أصبح مثل الجثة الهامدة، ورأت أمامها هالة من الضوء الأصفر أعقبها ظهور هالة جديدة من الضوء الأخضر، وفي النهاية احتضنتها مياه المستنقع السوداء.

فلتقطعي أيتها الخناجر الحادَّة رقاب هؤلاء الشياطين!

واحمَرَّت الذُّرَة الرفيعة، وجاء الشياطين اليابانيون.

واستباحوا تراب وطننا، واستباحوا جسد زوجة جدي.

فلتأخذوا حِرابكم وأسلحتكم، ولتأخذوا مَعاولكم وعِصِيَّكم، وَلْتُقاتلوا الشياطين، وتَحْمُوا بلادكم، وَلْتَغْسلوا عاركم!

٥

كان جَدِّي قد وصل إلى قرية شيان شوى كوو تزه في صباح اليوم التالي لاعتداء الجنود اليابانيين على زوجته وابنته، جاء على ظهر أحد البغلين الأسودين المملوكين لعائلتي، انطلق قُبَيل فجر ذلك اليوم، ووصل عند مطلع شمس اليوم نفسه، كان يشعر بضيقٍ شديدٍ طوال رحلته بسبب ذلك الخلاف الذي دبَّ بينه وبين جدتي قُبَيل تحركه إلى قرية شيان شوى كوو تزه، حتى إنه لم يهتم بالتمتع بمنظر حقول الذُّرَة الجميل لحظة طلوع الشمس ومراقبة جماعات الغربان التي تُحلِّق في عَنان السماء في الصباح المبكر، تلقَّى ذلك البغل الأسود المسكين ضربات قاسية تَحثُّه على الجري بأقصى سرعة، وحاوَل البغل المسكين أن يَستَرِق النظر غاضبًا إلى سيده الذي يركب على ظهره، والذي لا يتوقَّف عن ضربه، ورأى البغل أنه يحاول تنفيذ أوامر سيده قدر استطاعته، كان يجري بأقصى سرعة ممكنة. نعم، كان البغل يجري بسرعة شديدة. ففي صباح ذلك اليوم، انطلق ذلك البغل الأسود حاملًا جَدِّي على ظهره، وراح يقطع ذلك الطريق الترابي المُتعرِّج بأقصى سرعة، كانت أقدامه تدكُّ الأرض دكًّا، وكان الطريق الترابي يمتلئ بآثار فيضان مياه الخريف وآثار سير العربات ذات العجلات الخشبية. ومضى جَدِّي يَتقدَّم على ظهر البغل ووجهه شاحب، وجسده المُتصلِّب يهتز إلى أعلى وإلى أسفل مع تلك السرعة الشديدة التي كان يقطع بها البغل ذلك الطريق الطويل. حتى شَعرتْ جماعات فئران الحقول التي خرجت تبحث عن رزقها مبكرًا بالفزع الشديد.

كان جدي، والجد لوو خان الذي بدأت تظهر عليه ملامح الشيخوخة، قد سمعَا في أثناء حديثهما داخل الحانة صوت دَوِي الطلقات النارية والانفجارات القادمة من الجهة الشمالية الغربية، وكان جَدِّي قد شعر ببعض القلق، فخرج إلى خارج المنزل وراح يَتفقَّد الشارع، ليكتشف أن هناك حالة من السكون التام قد عمت المكان بما فيه، فعاد ثانيةً إلى الحانة ليشارك الجد لوو خان الشراب، كان الجد لوو خان لا يزال يتولَّى مهام المُشرِف على فُرن صناعة النبيذ التي تمتلكها عائلتي، ففي عام ١٩٢٩م عندما تَعرَّض جَدِّي للتنكيل به وغادرت جدتي البلدة، وهجَر عمال الفرن عملهم بحثًا عن لقمة عيش في مكان جديد آمِن، مكث الجد لوو خان في بيت العائلة للحفاظ على الفُرن وحمايته مثل الكلب المُخْلِص لسيده، وكان يُؤمِن بأنه مَهْمَا طال الظلام لا بد أن يُبدِّده نور الصباح، وراح ينتظر في صبرٍ زوال الغُمَّة عن جَدِّي وخروجه من سجنه، وعودة جدتي إلى زوجها وبيتها. وحملت جدتي أبي وعادَا بصحبة جَدِّي من قرية يان شوى كوو تزه إلى مسقط رأسهم، وطرقوا باب الفناء الكبير الموحش ليخرج إليهم الجد لوو خان مثل العفريت المخيف من وسط كومة كبيرة من الأعشاب، وما إن رأى الشيخ سَيِّدَه وسَيِّدَته قد عادَا إلى منزلهما، حتى سجد أمامهما وقد فاضت عيناه بالدموع، وكان جَدِّي وجدتي يُعاملان الجد لوو خان كوالدهما؛ نظرًا لما كان يتمتع به الرجل من أخلاق حميدة وإخلاص لعائلتي، حتى إنهما كانَا قد أوكلَا له إدارة شئون فرن صناعة النبيذ، ولم يكونَا يسألانه عن أي شيء يتعلق بحسابات الفرن.

وعندما مالت الشمس نحو الجنوب الشرقي، دَوَّى صوت بعض الطلقات النارية، واستطاع جَدِّي أن يحدد مصدرها بأنها إما أنْ تكون بالقرب من قرية شيان شوى كوو تزه أو أن تكون داخل حدود القرية نفسها. وهنا اشتد بجدي القلق، وسحب بغله وهمَّ بالتَّوجُّه إلى قرية شيان شوى كوو تزه، ولكن الجد لوو خان نصَحه بأن ينتظر بعض الوقت، وألا يَتَّخذ هذا القرار المتهور، وإلا عرَّض نفسه للخطر الشديد؛ فاستجاب جَدِّي لنصيحة الجد لوو خان، وانتظر داخل الحانة وهو في غاية القلق، وراح ينتظر عامِل الفرن الذي أرسله الجد لوو خان إلى هناك لتقصِّي الأخبار، وعاد ذلك العامل في وقت الظهيرة يلهث من شدة التعب، وقد امتلأ وجهه بالعَرَق وامتلأ جسده بالوحل، حيث ذكر العامل أنه في صباح ذلك اليوم قام اليابانيون بمحاصرة قرية شيان شوى كوو تزه، ولكن كان من الصعب أن يقف على الحالة الداخلية للقرية، وأنه كان قد تَمكَّن من الاختفاء داخل حقول القصب التي تبعد مسافة كيلومتر ونصف عن القرية، واستمع إلى صراخ أهل القرية الشديد، كما تمكَّن من رؤية بعض ألسنة اللهب تمتد في سماء القرية. وما إن خرج العامل من أمامهما، حتى حمل جدي سلطانية من النبيذ ورفعها على فمه لينتهي منها في شربة واحدة، ثم عاد مسرعًا إلى غرفته، وراح يبحث عن مسدسه الماوزر الذي لم يخرجه من مخبئه وسط الحائط منذ فترة طويلة.

كان جَدِّي قد التقى عند خروجه من الحانة بحوالي سبعة أو ثمانية من اللاجئين في ثياب ممزقة وذوي وجوه شاحبة، تَمكَّنوا من الفرار من بطش اليابانيين من قرية شيان شوى كوو تزه. وكانوا يجرُّون حمارًا عجوزًا ذا عينين جاحظتين، وضعوا فوق ظهره سَلَّتَين، أما السلة التي على اليسار فقد كانت تحتوي على لِحاف قُطْني، والسَّلَّة التي على اليمين رقد بداخلها صبي في الرابعة من عمره تقريبًا، وقد رأى جَدِّي ذلك الصبي الصغير الذي كان ذا رقبة نحيفة طويلة ورأس كبير، وأذنين سميكتين كبيرتين. جلس الصبي داخل السلة وبدت نظراته تُعبِّر عن شعوره بالطمأنينة والأمان، كان يمسك بمنجل قديم اعتلاه الصدأ وينشغل بتقشير عصا من خشب الصفصاف الأبيض، وكان لا يتوقف عن مص شفتيه لانشغاله بتقشير العصا بقوة، بينما كانت تتطاير نشارة الخشب إلى خارج السلة، وأحس جَدِّي أن ذلك الصبي يتمتع بجاذبية قوية، وفي الوقت الذي أجبرته تلك الجاذبية على التقرب من والدي الصبي للاستفسار عن ظروف القرية القادِمِين منها، كان جَدِّي لا يتوقف عن التفكير في التقرب من الصبي ومشاهدة حركاته الدقيقة في تقشير العصي الخشبية والتحديق في أذنيه الكبيرتين اللتين ترمزان إلى سعادته الكبيرة وعمره المديد وقدرته الكبيرة على الابتكار. قام والِدَا الصبي بتقديم صورة كاملة لجدي عمَّا قام به اليابانيون في قرية شيان شوى كوو تزه، كما ذَكرَا أن الفضل في تَمكُّنهما من الفرار من أيدي اليابانيين إنما يعود إلى ذلك الصبي، فلم يتوقَّف الصبي عن البكاء الشديد منذ بعدَ ظُهْر اليوم الأول من دخول اليابانيين إلى القرية، كان يريد إقناع والديه بالسَّفَر خارج القرية لزيارة جده لأمه، ولم يستطع والداه أن يقنعاه بعدَم السَّفر بكل الوسائل بما فيها التهديد والإغراء. وأخيرًا استجاب الوالدان لرأي الصبي، واستيقظوا مبكرًا وجَهَّزُوا حمارهم، وخرجوا من القرية مع سماع أول صوت انفجار في شرق القرية. وما إن تَمكَّنُوا من الفرار إلى خارج حدود القرية، حتى قام اليابانيون بمحاصرة القرية، قام اللاجئون الآخرون بسرد تجاربهم في الفِرار مِن بَطْش المعتدين اليابانيين، كانت جميعها أمثلة وقصصًا مؤثرة. وعندما قام جدي بسؤالهم عن أحوال زوجته ليان إر وابنته شيانغ قوان، راح هؤلاء اللاجئون يَترنَّحون هنا وهناك، وقد بدَت على وجوههم الحيرة وعجزوا عن التَّفوُّه بكلمة واحدة، وهنا قام ذلك الصبي الجالس داخل السَّلَّة بوضع يديه على بطنه ورفع رأسه لأعلى وأغمض عينيه وراح يجيب جَدِّي قائلًا: «إنهنَّ لم يخرجن من القرية بعد، إنهن ينتظرن الموت.» وهنا ذُعِر والِدَا الصبي ذعرًا شديدًا، وكأنهما كانَا يفكران في الكلام نفسه الذي تفوَّه به ابنهما، أو كأنهما أفاقَا فجأة، وراحت والدة الصبي تنظر إلى جدي، وراح والده يضرب على ظهر الحمار، بينما مضى اللاجئون في طريقهم مثل الكلاب الضالة والأسماك التي نجت من شِبَاك الصيادين، وراح جَدِّي يودعهم بنظراته، وخاصةً ذلك الصبي ذا الأذنين الكبيرتين، ولقد صَدَق إحساس جَدِّي ورأيه في ذلك الصعلوك الصغير، حيث أصبح ذلك الصبي بعد عشرين عامًا من ذلك اليوم أحد الصعاليك الشياطين في قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي.

أسرَع جَدِّي إلى الغرفة الغربية، ودفع جدار الغرفة غاضبًا، وراح يبحث عن مسدسه الماوزر، غير أنه لم يعثر على المسدس، واكتشف فقط بعض الآثار التي تدل على وجوده هنا من قبل، فأدار جَدِّي جسده غاضبًا، ليقع نظره على ابتسامة ساخرة من جدتي، وقابلته جدتي بوجهها المشرق المُظْلِم الكئيب في الوقت نفسه، بدَا حاجباها مُتهَدِّلَين إلى أسفل، وهي تزمُّ بشفتيها، وتركَّزَت ابتسامتها الساخرة عند وجنتيها؛ فراح جدي يرميها بنظرات تَفيض بالانتقام، ثم صاح فيها وقد بدَا عليه القلق الشديد: «أين مسدسي؟»

فرفعت جدتي فمها لأعلى وراحت تخرج هواءً باردًا من أنفها، وأدارت جسدها بعيدًا عنه دون أن تُعِيره أدنى اهتمام، ورفعَت منفضة من ريش الدجاج وراحت تضرب بها على اللحاف الموضوع أعلى مصطبة التدفئة.

صاح جَدِّي غاضبًا: «أين مسدسي؟»

فأجابته جدتي غاضبة: «فلتسأل عنه العفاريت!» بينما كانت لا تزال منشغلة بتنفيض اللحاف.

حاوَل جَدِّي التحكم في غضبه وخاطبها قائلًا: «أعطيني المسدس»، ثم راح يشرح لها الأمر بصوت خفيض قائلًا: «لقد حاصر اليابانيون قرية شيان شوى كوو تزه، وأريد الذهاب للاطمئنان على زوجتي وابنتي.»

فأدارت جدتي جسدها، وقالت غاضبة: «فلتذهب للاطمئنان على زوجتك وابنتك! وما شأني أنا بهذا الأمر؟!»

فقال جدي: «أعطيني المسدس!»

فقالت جدتي: «أخبرتُك بأنني لا أعلم شيئًا عنه، فلا تطلبه مني ثانيةً!»

فتقدَّم جَدِّي خطوة إلى الأمام، ثم قال: «ألستِ أنتِ التي سرقْتِ مسدسي وأهدَيتِه لأبي شامة؟»

– «نعم، لقد سرقتُه وأهديتُه له! ولم أهدِ له المسدس فقط، بل إنني أهديتُه نفسي أيضًا، وقضيتُ معه ليالي جميلة جدًّا! وما أسعدَ وألذَّ الليالي التي قضيتُها معه!»

تأوَّه جَدِّي قليلًا، ورفع قبضته لأعلى ونزل بها على أنف جدتي، فسالت من أنفها كمية كبيرة من الدم الأسود، وتألَّمَت ثم سقطت على الأرض، وما إن استطاعت التحامل على نفسها ونهضت، حتى استقبلها جَدِّي بلكمة في رقبتها، وكانت تلك اللكمة قوية جدًّا أطاحت بها مسافة ثلاثة إلى خمسة أمتار، لتسقط هنالك أعلى الخزانة الموضوعة إلى جوار الحائط.

راح جَدِّي يعض على أسنانه ويسبها: «أيتها العاهرة! أيتها الفاجرة!» وقد جمع سبابه كل الحقد والكره الشديد الذي كان يُكِنُّه تجاهها خلال السنوات الماضية. وراح يتذكر تلك المهانة التي تعرَّض لها عندما طرحه أبو شامة أرضًا، وتذكَّر تلك المرات العديدة التي تَخيَّل فيها جدتي بين أحضان أبي شامة، وتذكَّر تلك الحالة التي كانت تَنتابُه عندما يفكر في ذلك، وسَرَت في جسده سخونة شديدة، فخلع مزلاج الباب المصنوع من جذوع النخل وصوبه تجاه رأس جدتي التي كانت تحاول النهوض من أعلى الخزانة، وهي تميل برقبتها وقد امتلأ وجهها بالدماء.

نادى عليه أبي الذي عاد مسرعًا من خارج المنزل: «أبي بالتَّبنِّي!» وقد اضطره سماع صوت أبي إلى بقاء يده معلقة في الهواء، وهي تقبض على المزلاج.

ولولا نداء أبي في تلك اللحظة، لكان ذلك المزلاج قد أنهى حياة جدتي لا محالة، وكان قضاؤها وقدرها ألَّا تموت على يد جدي، كان قضاؤها وقدرها أن تموت برصاص المعتدي الياباني، كان قضاؤها وقدرها أن يكون موتها موتًا مُشرِّفًا مُشْرقًا مثل الذُّرَة الرفيعة الناضجة.

زحفَتْ جدتي حتى قدَّمَي جدي، وسجدت بركبتيها على الأرض، وتشبَّثَت بذراعيها بقدميه، وراحت تمسح بيديها الساخنتين على قدميه المتصلبتين، ثم رفعَتْ وجهها المكفهر وراحت تتوسل إليه باكية: «يا جان آو، يا جان آو، يا أخي الأكبر يا زوجي، فلتقتلني، اقتلني. فإنك لا تعلم كم يعز عليَّ فِراقُك وبُعدُك عنِّي، ولا تعلم كم أتمنى ألا تذهب إلى هناك، فإنك إذا ذهبتَ لن تعود ثانيةً. إن هناك أعدادًا كبيرة من اليابانيين، أما أنتَ ففردٌ وحيد، ومَهمَا بلغَتْ قُوَّتك وشجاعتك فلن تقوى على مواجهتهم، فالكثرة تغلب الشجاعة يا أخي الحبيب، وإن تلك العاهرة لهي السبب في هذه الكارثة التي نتعرض لها، وإنني لم أَنْسكَ لحظة عندما كنتُ إلى جوار أبي شامة؛ فإنكَ لا يمكن أن تُلقي بنفسك إلى التهلكة يا أخي العزيز! وكيف يمكنني العيش لحظة واحدة بعد مماتك، أما إذا كنتَ مصرًّا على الذهاب إليها، فليكن في الغد، فإن فترة الأيام العشرة التي تقضيها معي ستكتمل غدًا، وقد نجحَت في مشاركتي فيك … وعلى أية حال فلتذهب الآن … فسأتنازل لها عن يوم.»

ألصقت جدتي رأسها بركبة جدي، وأحس جَدِّي أن رأسها ذات سخونة شديدة وكأنها قطعة من الجمر الملتهب، وهنا راح يتذكر بسرعة بعض المزايا التي تتمتع بها جدتي، وشعر جَدِّي بالندم الشديد، وزاد ندمه عندما رأى أبي الذي كان يختبئ خلف باب الغرفة، وراح يلوم نفسه أنه كان عنيفًا جدًّا معها، فانحنى واحتضنها إلى أعلى مصطبة التدفئة، وقرَّر أن يُؤجِّل رحلته إلى زوجته الثانية وابنته في قرية شيان شوى كوو تزه إلى صباح اليوم التالي، وليحفظهما الرب آمنين سالمين من كل مكروه.

ركب جَدِّي بغله وفَرَّ مسرعًا سالكًا الطريق الترابي الممتد من قريتنا إلى قرية شيان شوى كوو تزه، وقد بدَا الطريق الذي يبلغ طوله سبعة كيلومترات ونصف طويلًا جدًّا، وكان البغل يقطعه بسرعته الجنونية، بينما كان جَدِّي يلومه على بطئه، ولا يتوقف عن ضربه ضربًا مبرحًا على مُؤخِّرَته. وبدَا الطريق طويلًا جدًّا وكأنه يمتد إلى ما لا نهاية. وامتلأ جانِبَا الطريق الترابي بكميات كبيرة من الغبار التي خلَّفَها البغل الأسود وراءه وهو يقطع الطريق بسرعة جنونية، حتى بدَا الطريق وكأنه مُغطًّى بسحابة سوداء تَعوق الرؤية تمامًا، انتشرت الروائح الغريبة القادمة من قرية شيان شوى كوو تزه لتملأ سماء الطريق.

وتَقدَّم جَدِّي على ظهر بغله حتى تمكَّن من دخول القرية، ولم يهتم بالذهاب لرؤية جثث البشر والحيوانات التي كانت مُكوَّمة وسط القرية، ولكنه تَوجَّه إلى منزل زوجته مباشرةً، ونزل عن بغله ودخل إلى الفناء. وما إن رأى باب المدخل محطمًا شعر بقلق شديد، ثم تَقدَّم إلى الأمام ليشم رائحة الدماء التي تملأ المكان، راح يجاهد نفسه لعدم الاهتمام بتلك الرائحة. قطع الفناء واقتحم الغرفة الداخلية، ثم تخطَّى بسرعة باب الغرفة، ليشعر عندها بأن قلبه قد أصبح مثل قطعة حجرية صلبة، كانت زوجة جَدِّي لا تزال في وضع قيامها بحماية عمتي شيانغ قوان، مُعلَّقة فوق مصطبة التدفئة، بينما كانت عمتي ملقاة على الأرض الطينية المقابلة للسرير، وقد غطس وجهها الصغير في الوحل، وهي تفتح فمها فتحة كبيرة، وكأنها تطلق صرخة صامتة.

صاح جَدِّي صيحة قوية، ثم أخرج مسدسه ورفعه عاليًا، وفرَّ إلى خارج المنزل مُتعثِّر الخُطى، وقفز أعلى ظهر بغله الأسود المنهك، ضرب البغل على كَفَله بماسورة المسدس ليحثه على الفرار إلى المدينة، ليبحث عن هؤلاء المعتدين اليابانيين ويغسل عاره بيديه. وما إن رأتْ عيناه حقول القصب الذابل حتى عرف أنه سلك طريقًا خاطئًا، فعدل جَدِّي رأس البغل ووضعه على الطريق الصحيح المؤدي إلى المدينة. وسمع صوت صياح غامِض من خلفه، إلا أنه لم يلتفت إلى الوراء، وراح يضرب البغل بماسورة المسدس ليحثه على الجري بسرعة. ولكن البغل لم يكن باستطاعته تَحمُّل كل تلك المعاناة والمعاملة القاسية، فكان كلما تَعرَّض لضربة من جَدِّي راح يرفع قدميه الخلفيتين وكَفَله لأعلى. وكلما زاد عناد البغل، اشتاط جَدِّي غضبًا وراح يوجعه ضربًا. صبَّ جَدِّي جام غضبه وكرهه تجاه اليابانيين على كَفَل ذلك البغل الأسود، فراح البغل المسكين يتلوَّى على الأرض ويجري بجنون، حتى قام أخيرًا برمي سيده وسط حقول الذُّرَة المتراكمة من العام الماضي.

وراح جَدِّي ينهض مثل الحيوان الجريح، ثم رفع مسدسه وصوبه تجاه رأس البغل الذي امتلأ جسمه بالعرق الغزير، بينما كان متسمِّرًا في مكانه مُكبَّل الأقدام، وقد ظهر في كَفَله تَورُّم في حجم البيضة، وظهرت على جسده آثار دماء سوداء. كانت يد جَدِّي التي تحمل المسدس لا تزال مرفوعة عاليًا، ثم بدأت ترتعش. وفي تلك الأثناء، ظهر أمامه بغل العائلة الثاني قادمًا تحت أشعة الشمس الحمراء، وظهر الجد لوو خان يركب أعلى ظهر البغل، وبدَا جلد البغل الثاني وكأنه مدهون بطبقة من مسحوق الذَّهَب، رأى جَدِّي حوافر البغل تتحرك حركات شديدة.

قفز الجد لوو خان من على ظهر بغله وقد انتابه بعض القلق، ومال جسده الهزيل إلى الأمام قليلًا حتى كاد أن يسقط على الأرض. ووقف في المنطقة الواقعة بين جَدِّي وبين بغله الأسود، ثم رفع يده وأنزل يد جَدِّي التي كانت ترفع المسدس وراح يخاطبه قائلًا: «يا جان آو، ارجع عن هذا التصرف الطائش!»

وما إن رأى جَدِّي الجد لوو خان أمامه حتى تحوَّل غضبه الشديد إلى مزيج من الحزن والغضب، وفاضت عيناه بالدموع. وراح يشكو إليه بصوت مُجهَد قائلًا: «أيها العم لوو خان، لقد تعرَّضَت زوجتي وابنتي للهلاك على أيدي المعتدين اليابانيين.»

وجلس جَدِّي على الأرض وقد انتابه شعور قوي بالحزن والغضب الشديد. وساعده الجد لوو خان لكي ينهض ثانيةً، وقال الجد لوو خان مشجعًا: «يا سيدي الفاضل، إن الرجل الشجاع يثأر ويغسل عاره ولو بعد حين! والآن عليك بالعودة للانتهاء من مراسم دَفنِهن حتى يَرتَحْن في تُربَتهنَّ.»

فوقف جَدِّي وراح يسلك الطريق المؤدِّي إلى القرية مترنحًا بخطوات متثاقلة، بينما سحب الجد لوو خان البغلين وسار خلف جَدِّي عائدين إلى القرية.

ولم تكن زوجة جَدِّي قد لفظت أنفاسها الأخيرة بعدُ، راحت تفتح عينيها ناظرة إلى جَدِّي والجد لوو خان اللذين كانَا يقفان أسفل مصطبة التدفئة مُحدِّقَين إلى جسدها الملقى جثة هامدة فوق مصطبة التدفئة. ونظر جدي إلى حاجبيها السميكين وعينيها الغائمتين وأنفها المصاب وشفتيها المُتورِّمَتين، شعر جَدِّي بحزن شديد على حالها ثم انتابه شعور بالقلق على حياتها. وبدأت عيناها تذرفان الدموع، واهتزت شفتاها وراحت تنادي على جَدِّي قائلةً: «أخي الكبير!»

وناداها جَدِّي بصوت يعتصره الألم: «يا ليان إر!»

بينما انسحب الجد لوو خان إلى خارج الغرفة.

صعد جَدِّي إلى أعلى مصطبة التدفئة ليساعد زوجته في ارتداء ملابسها. وما إن لامسَتْ يداه جلدها، حتى صرخت صرخة قوية، وراحتْ تهذي بكلمات غير مفهومة وعاودتها تلك الحالة التي كانت تنتابها منذ سنوات عندما كان يهاجمها شبح ابن عرس. فراح جَدِّي يحاول جاهدًا شلَّ حركة يديها، واجتهد في دس البنطال حول الجزء الأسفل من جسدها، والذي كان شبه ميت وغير نظيف تمامًا.

ثم عادَ الجد لوو خان إلى الغرفة، وقال مخاطبًا جدي: «سيدي، لقد استعرتُ عربة من الجيران لنحمل عليها زوجتك وابنتك ونعود بهما إلى قريتنا لنعتني بها.»

ومضى الجد لوو خان في كلامه وهو ينتظر سماع رأي جدي، إلى أن هز جَدِّي رأسه بالموافقة.

فحمَل الجد لوو خان زوجًا من الألحفة وغادَر الغرفة، ثم راح يفرش بهما العربة ذات العجلات الخشبية.

حمل جَدِّي زوجته بين يديه، وجعل إحدى يديه عند رقبتها والأخرى عند ركبتها، وحملها بعناية وحرص شديد كما لو كانت كنزًا نفيسًا، وخطَا بها إلى خارج الغرفة ثم باب المدخل ثم إلى الفناء الذي لا تزال آثار أقدام الجنود اليابانيين واضحة على أرضه، ثم تخطَّى الباب الرئيسي المتساقط حتى وصل إلى العربة الواقفة في عرض الشارع والمُتوجِّهَة صوب الجنوب الشرقي. كان الجد لوو خان قد ربط أحد البغلين الأسودين في مقدمة العربة، بينما ربط البغل الكبير الذي تورَّم جسده من شدة ضرب جَدِّي له في مُؤخِّرة العربة. وهنا قام جَدِّي بوضع زوجته، والتي لم تكن تتوقف عن الصياح داخل العربة. عرف جَدِّي من خلال نظرات زوجته كم تَودُّ لو كانت تمتلك القدرة والقوة الشديدة لتحمي نفسها، ولكنها كانت على عكس ذلك تمامًا. فوضعها جَدِّي داخل العربة، ونظر إلى الخلف ليرى الجد لوو خان يحتضن جثة عمتي شيانغ قوان، وقد فاضت عيناه بالدموع. شعر جَدِّي وكأن كماشة انغرزت داخل حلقه، فراحت الدموع تنهمر من عينيه وهو يسعل ويتقيأ بشدة، ثم راح يستند على العربة وقد رفع وجهه لأعلى، واستغرق يتأمل عجلات العربة الخشبية التي بدت مثل قرص الشمس الكبير.

وسلَّم الجد لوو خان جثة عمتي شيانغ قوان إلى جدي، فراح جَدِّي يتأمُّل وجهها الصغير الذي تبدو عليه آثار المعاناة والألم الشديد الذي تَحمَّلتْه، ثم سقطت من عينيه دمعتان حارقتان.

وقام جَدِّي بوضع جثة ابنته إلى جوار الجزء السفلي من جسد أمها، الذي بدا شبه مشلول، ثم سحب طرف اللحاف وغطى به وجه الطفلة المرعب.

قال الجد لوو خان: «سيدي، فلتجلس داخل العربة.»

فجلس جَدِّي أعلى عمود العربة شاردًا، وجعل قدميه تتدليان خارج العربة.

وسحب الجد لوو خان حَبْل البغل ومضى يسير ببطء ملحوظ. وراحت العربة تقطع الطريق وهي تهتز محدثةً صوتًا مسموعًا. وأخيرًا خرجت العربة من حدود القرية وسلكت الطريق الترابي لتسير في اتجاه قريتنا التي تفوح جميع أرجائها بنبيذ الذُّرَة. وواجهَت العربة صعوبة كبيرة في أثناء سيرها على الطريق الترابي غير الممهد، وارتفع صوت عمود العربة، والذي كان يطلق صوتًا قويًّا وكأنه يحتضر. أدار جَدِّي جسده، وجعل قدميه تتدليان داخل العربة. وعلى الرغم من اهتزاز العربة المستمر، فإن زوجة جَدِّي بدَا أنها قد استسلمَت للنوم وعيناها الرماديتان مفتوحتان. فسارع جَدِّي بوضع إصبعه أمام فتحة أنفها ليتأكد ما إذا كانت قد قطعَتِ النَّفَس أم أنها لا تزال على قيد الحياة، وجد أنها لا تزال تتنفس بصورة طبيعية، وعندها اطمأن قلبه قليلًا.

وسارت تلك العربة الحزينة وسط البرية الواسعة، وقد تناثَرتْ خلفها كميات كبيرة من التراب، مضت تسير في اتجاه قريتنا. جلس جَدِّي داخلها وأحس بأن جميع الأشياء من حوله تكتسي باللون الأخضر.

وبدَا عريش تلك العربة بالنسبة لبغل العائلة ضيقًا جدًّا، وبدت عجلاتها خفيفة جدًّا. وأحس البغل بضيق شديد، فقد كان يتمنى أن يجري بسرعة إلا أن الجد لوو خان كان يمنعه من ذلك من خلال سيطرته المحكمة على السلسلة المعدنية الموضوعة في فمه، فاضطر البغل للاستسلام ومضى يسير وفق رغبة سيده. بينما كان الجد لوو خان لا يتوقف عن سب هؤلاء المعتدين اليابانيين قائلًا: «هؤلاء الحيوانات … هؤلاء الحيوانات الذين لا علاقة لهم بالجنس البشري … لقد قاموا أيضًا بقتل جميع أهل الدار المجاورة، وبقروا بطن تلك السيدة … لقد قتلوا ذلك الجنين المسكين الذي تكوَّن داخل بطن أمه منذ أيام قليلة … يا لها من جريمة كبرى! … إن ذلك الجنين يبدو مثل الفأر الصغير الذي سُلِخ جِلْده … والذي ترك آثار فضلاته داخل القِدر … آه من هؤلاء الحيوانات!»

وهنا راح الجد لوو خان يتكلم مع نفسه، وربما كان يعلم أن جَدِّي كان يستمع إلى كلامه، ولكنه لم يلتفت إلى جدي. مضى يمسك بالسلسلة الموضوعة في فم البغل مانعًا إيَّاه من الجري بسرعة، بينما كان البغل لا يتوقف عن هز ذيله، ويضرب به جسم العربة محدثًا صوتًا مسموعًا. أما البغل الذي كان مربوطًا بالخلف، فقد كان يسير مطأطئ الرأس حزينًا، وقد يحار المرء أن يحدد من خلال وجهه المُتجَهِّم إذا ما كان حاقدًا أو خجولًا أو يائسًا.

٦

لا يزال أبي يذكر جيدًا أن تلك العربة التي يجرها البغل، والتي كانت تحمل زوجة جَدِّي بين الحياة والموت وجثة عمتي شيانغ قوان، لا يزال يذكر أن تلك العربة كانت قد وصلت إلى القرية في وقت الظهيرة. وقد هَبَّت في ذلك التوقيت رياح شمالية غربية عاتية، وامتلأتْ شوارع القرية بالغبار الكثيف وأوراق الشجر. كان الجو حارًّا رطبًا، وقد بدَتْ معالم ذلك الجو على شَفتَي أبي. كان أبي قد اكتشف أن البغلين المربوطين في مقدمة ومؤخرة العربة، ما إن وصلَا إلى مدخل القرية حتى زادت سرعتهما. وقد تقدَّم الجد لوو خان يسير بخطوات مُتعرِّجة، وعجلات العربة لا تتوقف عن الاهتزاز. امتلأت أطراف عيون البغلين وأطراف عَينَي جَدِّي والجد لوو خان بقاذورات مثل فضلات العصافير، وامتلأت تلك القاذورات بالأتربة. فجلس جَدِّي فوق عمود العربة ووضع يديه الكبيرتين على رأسه وكأنه تمثال من الصلصال. وسرح في تلك المناظر المحيطة به دون أن ينبس ببنت شفة. وتقدَّم أبي إلى مكان يبعد حوالي عشرين مترًا عن العربة التي يجرها البغل، وراح يشم بأنفه الحساس — وإذا صدقنا القول فإن أنفه لم يكن أنفًا عاديًّا، بل كان مثل أدوات تجارب الشم الحساسة — واستطاع أن يتأكد من تلك الرائحة غير الطيبة التي تنبعث من داخل العربة. ثم فر مسرعًا عائدًا إلى المنزل، وراح يصيح مناديًا على جدتي التي كانت تقطع الغرفة ذهابًا وإيابًا وهي في حيرة شديدة: «أمي، أمي، لقد عاد أبي بالتَّبنِّي، اكتشفتُ أن بغلنا يجر عربة خشبية على ظهرها جثة شخص ميت، ورأيتُ أبي بالتَّبنِّي يجلس فوق العربة والجد لوو خان يجر البغل، بينما هناك بغل آخر يسير خلف العربة.»

وما إن انتهى أبي من تقديم تقريره إلى جدتي، حتى تَغيَّرت فجأة ملامح وجهها، ثم سارت مسرعة بصحبة أبي إلى خارج المنزل.

ومضَت العربة تَهتزُّ حتى سكَتَ صوتها تمامًا لتقف خارج منزلنا، وقفز جَدِّي من أعلى العربة، وراح يرمق جدتي بعينين حمراوين، بينما راح أبي ينظر إلى عَينَي والده وهو في غاية الرُّعب، وقد بدَت له عينَا جَدِّي مثل عَينَي الهر التي تَتغيَّر كثيرًا في طرفة عين.

قال جَدِّي مخاطبًا جدتي بلهجة قاسية غاضبة: «لقد أتت الرياح هذه المرة كما تَشتهين بالضبط!»

فلم تَجرؤ جدتي على الدفاع عن نفسها، وتقدَّمَت إلى العربة وهي تُقدم رِجْلًا وتؤخِّر الأخرى، وتبعها أبي وراح ينظر إلى داخل العربة. امتلأ أعلى اللِّحاف القطني بالتراب الكثيف، وبدَا هنالك شيء ما تحت اللحاف. ورفعَت اللحاف قليلًا، ثم سحبت يدها بسرعة وكأنها قد لامست شيئًا ساخنًا جدًّا. واستخدم أبي حاسة بصره القوية ليتمكن من رؤية وجه زوجة جَدِّي الذي بدا مثل ثمرة الباذنجان التالفة أسفل اللحاف وفم عمتي المفتوح المُتيَبِّس.

وقد أثار فَمُ عمتي المفتوح بعض الذكريات الطيبة لدى أبي، حتى إنه كان أبي قد خالَف من قبل أوامر أمه وأقام أكثر من مرة في قرية شيان شوى كوو تزه. وكان جَدِّي قد طالبه بأن ينادي على زوجة جَدِّي ليان إر بأمي الثانية، وكانت زوجة جَدِّي تُعامِل أبي بودٍّ وحب شديد، حتى إنه كان يثق في أنها امرأة ذات قلب طيب. وقد تركَت في ذكرياتُه انطباعًا طيبًا لن يُنْسى إلى الأبد، فما إن تذكَّرها أبي حتى أحسَّ وكأنه يراها أمام عينيه. بينما كانت عمتي الصغيرة شيانغ قوان تتمتع بلسان عذب حلو يقطر شهدًا وهي لا تتوقف عن مناجاته يا أخي الكبير يا أخي الكبير. كان أبي يعشق أخته الصغيرة جدًّا، كان يعشق بياض وجهها الجميل وعينيها البَرَّاقتَين. ولكن كلما تعمَّقَت العلاقة بين أبي وأخته الصغيرة وانخرطَا في اللعب معًا إلى درجة يعز عليهما فراق بعضهما البعض، كانت جدتي تسارع بإرسال مُن يُجبِر أبي على العودة إليها في الحال. فيركب أبي البغل وهو لا يتوقف عن النظر خلفه إلى عيني أخته الصغيرة التي تفيض بالدموع، وعندها يشعر بألم وحزن شديد يعتصر قلبه، ولم يكن يعرف السبب وراء ذلك الحقد الدفين والكره بين جدتي وزوجة جَدِّي ليان إر.

تذكَّر أبي ذلك المشهد عندما ذهب بصحبة أمه إلى مقبرة الأطفال الأموات المكشوفة لوزن الأطفال الأموات. وكانت تلك الزيارة في مساء أحد الأيام قبل حوالي عامين، كان أبي قد ذهب بصحبة جدتي إلى «مقبرة الأطفال الأموات المكشوفة» التي تبعد حوالي كيلومتر ونصف شرق القرية — وكانت تلك المقبرة عبارة عن مكان فسيح يُلقي فيه الأهالي موتاهم من الأطفال الصغار حيث كانت تنتشر في القرية عادة تقول بأن الطفل الذي يموت دون الخامسة من عمره لا يمكن دفْنُه مثل باقي الأموات، وإنما يجب إلقاؤه في مكان مكشوف لتأكله الكلاب الضالة، وكانت تنتشر في ذلك الحين الطُّرُق التقليدية في استقبال المواليد، بالإضافة إلى تَدنِّي مستوى الخدمة الطبية، مما أدَّى إلى ارتفاع نسبة الوفيات الأطفال، بينما كانوا ينظرون إلى الناجين من الأطفال على أنهم شجعان. كنتُ أفكر في بعض الأحيان تفكيرًا غريبًا في أن تَراجُع النوع الإنساني له علاقة وثيقة بالحياة الرغدة المريحة التي يحياها الإنسان. ولكن بما أنَّ السعي إلى تلك الحياة الرغدة المريحة يُعْتَبر هدفًا يسعى إليه كل إنسان، وهدفًا يَعْتبِر الجميع أنه لا بُدَّ من الوصول إليه حتى تكتمل له الراحة، فإن ذلك سيؤدي بلا شك إلى تناقُض عميق يجعل الإنسان في قلقٍ شديدٍ. فالبشر يجتهدون الآن في الاعتماد على جهودهم للقضاء على بعض الصفات الجيدة الخاصة بهم. وعندما رافق أبي جدتي إلى ذلك المكان المُخصَّص للتخلص من جثث الأطفال الأموات، كانت جدتي مُولَعة جدًّا بنظام «المقامرة بالزهور» (وهو أحد أشكال المقامرة، ويشبه إلى حدٍّ كبيرٍ «ورق اليانصيب»، و«الجوائز البنكية»، و«جوائز المشترَيات» في العصر الحالي)، كانت جدتي تحاوِل بقدر استطاعتها أن تكون أحد «المقامرين». كان جميع أهل القرية وخاصةً جمهور النساء يعشقون ذلك النوع من المقامرة. وكان جَدِّي يعيش آنذاك عيشة رغدة، وقد نصَّبَه جميع أهل القرية رئيسًا لمهرجان المُقامَرة بالزهور، كان جَدِّي يقوم بوضع اثنتين وثلاثين زهرة داخل سلة من البامبو، ويقوم بملامسة الزهور مرتين يوميًّا في صباح ومساء كل يوم، وكانت تلك الزهور تتكون أساسًا من زهور «الفوانيا الصينية»، و«الورد الصيني»، و«الورد البلدي»، و«زهرة البنفسج». وعلى الشخص الذي يُراهِن بدفع ثلاثين ضعف المبلغ الذي يُراهِن عليه. وبالطبع كانت معظم تلك الأموال تقع في يد جدي. كما كانت النساء العاشقات لذلك النوع من المُقامَرة يسبحن في خيالهن ويتخيلن الكثير من المهارات الخاصة بتخمين الفائز، والتي كان من بينها وضع طفلة صغيرة داخل قِدر كبير ممتلئ بالنبيذ على أن يثقوا في كلامها فور خروجها من النبيذ، والحكم على الفائز من خلال الأحلام التي تراودهن وغيرها من الطُّرُق … التي كان من الصعب إحصاؤها. إلا أن طريقة وزن الأطفال الموتى كانت طريقة جديدة اخترعتها جدتي من وحي خيالها.

صنَعَت جدتي ميزانًا، ووزنَتْ به اثنتين وثلاثين زهرة من زهور المُقامَرة.

وكانت تلك الليلة ليلة حالكة، قامَت جدتي بإيقاظ أبي عند منتصف الليل، وشعر أبي بأنه استيقظ رغمًا عنه، فاشتد غضبه وتمنَّى أن يرمي أمه بسيل من الشتائم. فقَرَّبَت جدتي فمها إلى أذنه وراحت تهمس إليه قائلةً: «التزم الصمت التام، وهيا اذهب معي لنقوم بتخمين الفائز في رهان الزهور». كان أبي يشعر بحب استطلاع تجاه تلك الأمور الغريبة، فانتفض مسرعًا وارتدى حذاءه وقُبَّعَته، وخرج من المنزل والقرية مُتخفِّيًا عن أعُين جدي. وسارَا بحذرٍ شديدٍ ولم يشعر بحركتهم إنسان أو حيوان. سلَّم أبي يده اليسرى لأمه لتسحبه وراءها، بينما كانت يده اليمنى تحمل مصباحًا صغيرًا مصنوعًا من الورق الأحمر، أما جدتي فقد كانت تسحب أبي بيدها اليمنى، وتحمل بيدها اليسرى ذلك الميزان الذي تستخدمه في وزن الأطفال الموتى.

وما إن خرجوا خارج حدود القرية حتى سمع أبي صوت الرياح الجنوبية الشرقية التي كانت تعصف بحقول الذُّرَة الممتدة خارج القرية، وشم رائحة مياه نهر موا شوى القادمة من بعيد. وسارَا بحذر شديد تجاه مقبرة الأطفال الموتى المكشوفة. وعندما سارَا مسافة حوالي نصف كيلومتر، كانت عَينَا أبي قد تكيفت مع الظلام الحالك، وأصبح بإمكانه أن يميز لون الطريق الرمادي ولون الذُّرَة الممتدة على جانبي الطريق. وزادت قوة صوت الرياح داخل حقول الذُّرَة لتزيد من غرابة تلك الليلة المُظلِمة، ثم سمعوا صوت نَعِيب بومة مخيف جدًّا، وعجزوا عن تحديد المكان القادم منه الصوت.

وأخيرًا تأكَّدُوا من أن البومة كانت تقف أعلى شجرة الصفصاف الواقعة في منتصف الوادي الفسيح الممتلئ بجثث الأطفال الموتى، وأنها قد راحت تنعب بصوت مرتفع بعد أن أكلت حتى شبعت من تلك الجثث. وعندما اقتربت جدتي يتبعها أبي من تلك الشجرة، كانت البومة لا تزال أعلى الشجرة تنعب بشكل متواصل. كانت تلك الشجرة تظهر وسط وادٍ فسيح، وإذا رأيتَها في النهار ستقع عيناك على أوراقها الحمراء. وقد هزَّ صوت البومة الوادي الفسيح، وأحَسَّ أبي أن عَيْنَي البومة الخضراوين تَلمعَان بصرامة بين أوراق شجرة الصفصاف. وهنا أحس بأن أسنانه تُطَقطِق من شدة الخوف وسرَت بجسده رعشة شديدة، فراح يقبض بشدة على يد جدتي، وأحس للتَّوِّ أن ذلك الرُّعب كاد أن يُحطِّم رأسه تحطيمًا.

كان وادي الجثث يمتلئ برائحة كريهة، وعمَّ الظلام الشديد أسفل شجرة الصفصاف، وسمع أبي أصوات الصراصير أسفل الشجرة، وتساقَطت من أعلى الشجرة قطرات أمطار في حجم العملة المعدنية، محدثةً صوتًا مسموعًا حطَّم الصمت الرهيب الذي كان يخيم على المكان. فضربت جدتي على يد ابنها وأَلمحَت له أن يُقَرفِص مكانه. فنفَّذ أبي أمرها بسرعة، وقد لامسَت قدماه ويداه الأعشاب التي تنمو في ذلك الوادي، وضايقت أوراقُها ذقنه، وكأن هناك الكثير من عيون هؤلاء الأطفال الموتى تُحدِّق في ظَهْره. وسمع أبي صوت ركض وضحكات جماعة كبيرة من هؤلاء الأطفال الموتى.

ودقَّت جدتي بهدوء على حَجَر القَدَّاحة، ليخرج بعض اللَّهَب الذي انعكس على يديها المرتعشتين. وهدأتِ النار، فراحَت جدتي تنفخ فيها حتى سمع أبي صوت الهواء الشديد الذي يخرج من فمها. وهكذا حتى اشتعلت النار من جديد وملأ ضوؤها المكان، ثم أشعلت جدتي شمعة المصباح الورقي لتخرج منه كتلة من الضوء الأحمر، وهنا توقَّفَت البومة عن النَّعيب، وتوافَدت جماعات الأطفال الموتى وأحاطوا بأبي وجدَّتي والمصباح الورقي.

تقدَّمَت جدتي حاملة المصباح الورقي وراحت تبحث عن شيء ما وسط الوادي الفسيح، واصطدم بعض البعوض بالمصباح محدثًا صوتًا مسموعًا. وكان الوادي يمتلئ بالأعشاب البرية، وامتلأت أرضه بالوحل، مما أعاق حركة جدتي بسهولة وسط الوادي، فراحت تنقل قدميها بحذرٍ شديدٍ. ولم يكن أبي يعرف ذلك الشيء الذي تبحث عنه جدتي، كان لديه حب استطلاع لأن يعرف ولكنه لم يجرؤ على سؤالها، فراح يسير وراءها في صمتٍ تامٍّ. كانت أطراف الأطفال الموتى ملقاة في جميع أرجاء الوادي، وامتلأ الوادي برائحة كريهة. وانتبهت جدتي إلى قطعة حصير مطوية ملقاة أسفل الأعشاب البرية، فأعطت جدتي المصباح لأبي ووضعت الميزان على الأرض، ثم انحنت لتأخذ قطعة الحصير المطوية. رأى أبي تحت ضوء المصباح أصابع جدتي وهي تتحرك مثل دودة الأرض الحمراء. ثم فتحت الحصير لتكشف عن رضيع صغير ملفوف بداخل صرة صغيرة. وبدت رأسه صلعاء تمامًا. فارتعش أبي مما رأى. وأخذت جدتي بعَلَّاقة الميزان ووضعتها على قطعة قماش بالية. وراحت تمسك بإحدى يديها حبل الميزان وتدفع بالأخرى رمانة الميزان. وانفتحت قطعة القماش البالية ليسقط الرضيع على الأرض، وتسقط رُمَّانة الميزان على قدم جدتي، بينما اصطدمت عَلَّاقة الميزان برأس أبي. فصرخ أبي صرخة، وكاد أن يُلقِي بالمصباح من يده. وهنا ضحكت البومة أعلى الشجرة ضحكة ساخرة، وكأنها كانت تسخر من تصرفاتهم الحمقاء. فمدَّت جدتي يدها تلتقط رمانة الميزان من على الأرض، وراحت تغرز علاقة الميزان بقسوة داخل لحم الطفل الميت. وشعر أبي برجفة شديدة من صوت غَرْز علاقة الميزان داخل جسم الرضيع. فأشاح بوجهه بعيدًا، وما إن أدار وجهه ثانيةً حتى رأى يد أمه تتحرك حول ذراع الميزان، وراح ذراع الميزان يتحرك إلى أعلى وإلى أسفل حتى استقر أخيرًا عند نقطة متوسطة. وعندها أشارت جدتي إلى أبي لكي يقترب بالمصباح، انعكس ضوء المصباح الورقي على ذراع الميزان، بينما كان مؤشر الميزان يقف عند زهرة «الفوانيا الصينية.»

وعندما وصل أبي برفقة أمه إلى مدخل القرية، كان لا يزال بإمكانه سماع نعيب البومة الغاضب.

ووضعت جدتي أعلى «زهرة الفوانيا الصينية» مبلغًا من المال.

وكانت الزهرة التي ربحت الرهان في ذلك اليوم هي زهرة «المايهوا.»

ومن ثم فقد أصيبت جدتي حينها بوعكة صحية شديدة.

وما إن رأى أبي فم أخته الصغيرة شيانغ قوان مفتوحًا، حتى تذَكَّر فجأة أن فم ذلك الرضيع الذي وزنته أمه في ذلك اليوم كان مفتوحًا أيضًا، وأحسَّ أنه يسمع صوت غناء البومة الذي كان يبدو حزينًا حينًا وسعيدًا حينًا، ثم غرق في التفكير في جو الوادي الندي الرطب. وانتابه قلق وحيرة شديدة من الجو الحار الرطب والغبار الكثيف الذي كانت ترمي به الرياح الشمالية الغربية في كل مكان من حوله.

رأى أبي تلك النظرات الحادَّة التي كان جَدِّي يرمي بها جدتي آنذاك، وكأنه يستعد للانقضاض عليها ليفترسها في أي لحظة. وفجأة احدَوْدَب ظهر جدتي، ومالت على العربة وراحت تضرب على اللِّحاف، وهي تبكي، وقد فاضت عيناها بالدموع: «أختي الحبيبة! … أختي الحبيبة! … يا شيانغ قوان! … يا ابنتي الغالية!»

وخفَّتْ حدة غضب جَدِّي بعد سماعه صوت بكاء جدتي. وتقدَّم الجد لوو خان إلى جوار جدتي وراح ينصحها بصوت خفيض قائلًا: «سيدتي، لا عليك بالبكاء، ولنَهتمَّ الآن بحملهن إلى داخل المنزل.»

فتقدَّمَت جدتي وفتحتِ اللحاف، ثم احتضنَت عمتي شيانغ قوان وسارت بها إلى داخل المنزل، بينما حمل جَدِّي زوجته الثانية وتَبِع جدتي إلى داخل المنزل.

ووقف أبي خارج المنزل، وراح ينظر إلى الجد لوو خان، وهو يفك البغل عن العربة، بدَت بطن البغل وقد أصيب بآثار جراح من طول مدة ربطها بالعربة، ثم نظر إلى الجد لوو خان، وهو يفك البغل الأسود الذي كان مربوطًا بمؤخرة العربة. وما إن تَحرَّر البغلان من قيودهما حتى راحا يتقلبان على الأرض رافعين بطنهما إلى السماء حينًا وملصقيهما بالأرض حينًا. وبعد أن انتهى البغلان من التَّمرُّغ في التراب، راحَا يهزان جسديهما بشدة، وتطايرت كميات كبيرة من الأتربة من أعلى جسديهما، فسحبهما الجد لوو خان وتَوجَّه بهما إلى الفناء الشرقي، وتبعه أبي إلى حيث ذهب. فقال الجد لوو خان: «يا دوو قوان، فَلْتعُد إلى المنزل، لِتَعُد إلى المنزل.»

جلست جدتي أمام الموقد، وراحت تُوقِد النيران لتغلي نصف قدر من المياه، وتسلل أبي إلى داخل الغرفة ليرى زوجة جَدِّي راقدة فوق مصطبة التدفئة، مُحدقة العينين ولا تتوقف وجنتاها عن الحركة. ثم رأى أبي أخته الصغيرة شيانغ قوان راقدة أعلى مصطبة التدفئة، وقد تم تغطية وجهها بِصُرَّة حمراء، غطَّت وجهها تمامًا، ثم مضى أبي يتذكر بعض مشاهد تلك الليلة المظلمة التي رافق فيها جدتي إلى مقبرة الأطفال الموتى المكشوفة. وبدا صوت نهيق البغال في الفناء الشرقي مثل صوت نعيب البومة في تلك الليلة المظلمة. شم أبي رائحة تَعفُّن الجثة، ثم مضى يفكر في أن أخته الصغيرة ستكون بعد قليل وسط ذلك الوادي الممتلئ بجثث الأطفال الموتى، لكي تكون وجبة دسمة للبوم والكلاب الضالة. لم يكن أبي يتخيل أن الإنسان يكون على هذه الدرجة من القبح بعد موته، وقد مثل له وجه أخته المختفي تحت الصُّرَّة الحمراء قوة جَذْب كبيرة، وكان يتمنَّى من أعماقه أن يفتح الصرة وينظر إلى وجهها الصغير.

عادت جدتي إلى الغرفة، وهي تحمل طستًا نحاسيًّا ممتلئًا بالماء الساخن، ووضعت الماء على حافة مصطبة التدفئة، وراحت تطرد أبي قائلةً: «اخرُج من هنا!»

خرج أبي غاضبًا، وسمع صوت غلق الباب فور خروجه من الغرفة. ولم يستطع أن يتحكم في حب الاستطلاع الذي يسيطر عليه، فوضع عينه عند شق الباب وراح يشاهد ما يحدث داخل الغرفة. فرأى جَدِّي وجدتي وقد جلسَا أعلى مصطبة التدفئة، ثم قامَا بخلع الملابس التي كانت ترتديها زوجة جدي، وألقيَا بها على الأرض، فسقط بنطالها الذي كان مبللًا على الأرض محدثًا صوتًا خفيفًا. ثم شم أبي رائحة كريهة مقززة. وتساقَط ذراعَا زوجة جَدِّي إلى جوارها وخرج من فمها صوت غريب. وقد بدَا ذلك الصوت لأبي مثل صوت نعيب البومة وسط مقبرة الأطفال الموتى المكشوفة في الوادي الفسيح.

وقالت جدتي لجدي متوسلة إليه: «فلتضغط أنت على ذراعيها». وقد بدَا وجْهُ كل من جَدِّي وجدتي غائمًا وسط البخار الذي ملأ سماء الغرفة.

وأخرجَت جدتي منديل يد أبيض من داخل الطست النحاسي الممتلئ بالماء الساخن، وراحت تعصره وقد نزلت منه المياه إلى داخل الطست. كان المنديل ساخنًا جدًّا حتى عجزت جدتي أن تحتفظ به فراحت تقلبه بين يديها، ثم فتحت جدتي المنديل الساخن ووضعته على وجه زوجة جدي المتسخ، بينما كان جَدِّي منشغلًا بالضغط على ذراعَي زوجته، فراحت زوجة جَدِّي تهز رقبتها بشدة وتصرخ بصوت مُرعِب مثل صوت البومة. ورفعت جدَّتِي المنديل من فوق وجهها، وبدَا المنديل متسخًا جدًّا. ثم وضعت جدتي المنديل داخل الطست ثانيةً وراحت تشطفه ثم رفعته لأعلى، وعصرته قليلًا وراحت تمسح به على جسد زوجة جدي.

وفترت سخونة المياه داخل الطست النحاسي، وتصَبَّب جبين جدتي عرقًا، فراحت تُخاطِب جَدِّي قائلةً: «فلتسكب المياه المتسخة وتُغيِّرها بقِدْر من المياه النظيفة.»

فرَّ أبي مسرعًا إلى الفناء الرئيسي وراح ينظر إلى جَدِّي وهو يحمل الطست النحاسي بكلتا يديه، وقد انحنى ظهره من ثقل الطست، ومضى يَترنَّح حتى وصل إلى جانب سور المرحاض القصير، ورفع ذراعه وراح يسكب المياه المتسخة التي بدت تجري وسط الفناء مثل الشلال حتى فرغ الطست تمامًا.

وعندما عاد أبي ليضع عينه عند شق الباب ثانيةً، كان جسد زوجة جدي يلمع مثل قطعة أثاث من خشب الصندل الأحمر التي تم تَلميعها منذ وقت قليل، وخَفَّتْ حِدَّة صوت صراخها وتَحوَّل إلى مُجرَّد تأوُّه. وطلبَتْ جدتي من جدي أن يحتضن زوجته الثانية، ثم ألقَت باللحاف والملاءة إلى أسفل مصطبة التدفئة، وفرشَت حصيرة نظيفة تمامًا. فوضع جَدِّي زوجته على الحصيرة، بينما قامَت جدتي بوضع كمية من القطن بين قدمي زوجة جدي، ثم سحبَت لحافًا وغَطَّت به جسدها. وراحت تتحدث إليها بصوت خفيض ناعم: «أختي الصغيرة، فلتنامي الآن، لترتاحي بعض الوقت، أنا وجان آو سنبقى هنا للاهتمام بك.»

أغمضت زوجة جَدِّي عينيها بهدوء وسلام.

ثم خرج جَدِّي لِيُغيِّر مياه الطست مرة ثانية.

وعندما همَّتْ جدتي أن تغسل جسد عمتي الصغيرة شيانغ قوان، تجرَّأ أبي وتسلل إلى داخل الغرفة، ووقف أمام مصطبة التدفئة، فرمَقَتْه جدتي بنظرة دون أن تَطلُب منه مغادرة الغرفة. وراحت جدتي تنشغل بتنظيف الدماء الجافة التي ملأت جسد عمتي وفاضت عيناها بالدموع. وبمجرَّد أن انتهت جدتي من تنظيف جسد عمتي، سنَدتْ رأسها على الحائط وسرحت فترة طويلة دون أن تتحرك حتى بدت مثل الجثة الهامدة.

وفي أصيل ذلك اليوم، قام جَدِّي بلف ابنته في لحاف واحتضنها إلى خارج المنزل، وتبعه أبي إلى مدخل البيت، فقال جَدِّي مخاطبًا أبي: «فلترجع أنت يا دوو قوان، ولْتبقَ إلى جوار أمك الأولى وأمك الثانية.»

فاعترض الجد لوو خان جَدِّي عند مدخل الفناء الشرقي قائلًا: «سيدي، فلترجع أنت أيضًا، ولأتولَّى أنا تشييعها.»

فسلم جَدِّي عمتي شيانغ قوان إلى الجد لوو خان وعاد هو إلى مدخل الفناء الواسع، وأمسك بيد أبي وراحَا يودعان الجد لوو خان بنظراتهما حتى وصل إلى خارج القرية.

٧

وفي اليوم الثالث والعشرين من الشهر الثاني عشر القمري وفق التقويم الصيني لعام ١٩٧٣م، كان السيد قينغ صاحب الثماني عشرة طعنة قد بلغ الثمانين من عمره. وعندما استيقظ في صباح ذلك اليوم، سمع صوتًا قويًّا قادمًا من المذياع وسط القرية، وسمع صوت امرأة عجوز تنادي في المذياع قائلةً: «يا يونغ تشي!»: فسألها رجل ذو صوت أجش: «أمي، هل تشعرين بأنك قد تَحسَّنتِ اليوم؟» فقالت العجوز: «لا، لم أشعر بأي تَحسُّن بعد، بل إنني أشعر بدوار شديد منذ الصباح.»

ضغَط قينغ صاحب الثماني عشرة طعنة على حصيرة المصطبة الباردة ثم جلس عليها، وأحس هو أيضًا بمزيد من الدوار منذ أن استيقظ صباح اليوم. واشتدَّت الرياح الباردة خارج النافذة، وبدأت نتف الثلج تضرب ستارة سطح النافذة مُحْدِثةً صوتًا مسموعًا. والتحف قينغ بسترته المصنوعة من جلد الكلاب، والتي ظهرت بها آثار عبث الحشرات، ثم نزل من أعلى المصطبة ومد يده ليأخذ بعصاه التي يتزين أعلاها برأس تنين، والموضوعة خلف باب الغرفة، ثم توجه إلى خارج الغرفة. كان فناء المنزل قد امتلأ بطبقة سميكة من الثلج، وكانت عيناه لا ترى سوى لون الثلج الأبيض الذي ملأ الفناء حتى أعلى السور الترابي المحيط بالفناء، بينما كانت تمتد على المدى البعيد قليل أعواد الذُّرَة وسط الحقول الفسيحة. واستمر هطول كُرَات الثلج، ولم يكن يعرف متى ستتوقف السماء عن إرسال هذه الكميات الكبيرة من الثلج. فاستدار بجسده سعيدًا بما يرى، وراح يفتح بعصاه غطاء قِدْر الذُّرَة وقِدْر الدقيق، ليكتشف أنهما فارغان تمامًا، وعندها تأكد من أن عينيه لم تَخُنْه عندما نظر إليهما بالأمس. لم يكن الطعام قد دخل جوفه منذ يومين كاملين، وبدأت معدته تتلوى من شدة الجوع، واستعد ليتوجه بكل حزم ودون أدنى خوف إلى مكتب سكرتير الحزب في القرية ليطلب بعض الحبوب. واشتد شعوره بالجوع والعطش والبرد، وكان يعلم جيدًا أن سكرتير الحزب المسئول بقريته هو مجرد صعلوك ذي قلب مُتحجِّر، وأنه ليس من السهل التفاوض معه لطلب كمية بسيطة من الحبوب. فقرَّر أن يغلي قليلًا من الماء ليشعر ببعض الدفء في معدته، واستعد ليخوض آخر معركة مع ذلك الصعلوك. مدَّ عصاه ليفتح القدر المخصص للاحتفاظ بالمياه، ليكتشف أن به قدرًا ضئيلًا من الثلج، وأنه يخلو تمامًا من المياه، وهنا تذكر أنه لم يوقد النار في بيته منذ ثلاثة أيام، وأنه لا يمتلك جرَّة يحمل بداخلها ما يحتاج من الماء من البئر المخصص لذلك. فراح يبحث عن مِغْرفة قديمة، وغَرَف بها ما يزيد على عشرين غرفة من الثلوج التي تملأ فناء المنزل، ثم راح يسكبها داخل القدر الذي لم يَقُم بتنظيفه أبدًا. وضع الغطاء أعلى القدر ثانيةً وراح يبحث عن بعض الحطب والكبريت، وفشل في العثور على ذلك وسط الفناء، فدخل إلى غرفته، وجعل يأخذ قليلًا من أعواد القمح من الموقد أسفل مصطبة التدفئة، وأخذ يستخدم السكين في جمع بعض أعواد الذُّرَة والأعشاب الأخرى، ثم أشعل فيها النار بواسطة القداحة، انتهى عصر علبة الكبريت التي كان يشتريها بقرشين، وأصبح الناس يحصلون على الكبريت على بطاقات التموين، ولا يمكن شراء الكبريت خارج بطاقات التموين، وكان يعرف جيدًا حجم نفسه وأنه مجرد صعلوك وضيع لا يساوي مليمًا واحدًا في هذا المجتمع. واشتعلت ألسنة اللهب داخل الموقد، فتقدم نحوها وراح يمنح صدره قدرًا من الدفء وسط برودة الجو الشديدة، بينما كان ظهره لا يزال يشعر بالبرودة، أضاف كمية من الأعشاب ليشتد اشتعال النار، ثم أدار جسده ليمنح ظهره بعض الدفء. وهنا سرت البرودة في صدره من جديد، وهكذا، فإن عدم قدرته على تدفئة جسده كاملًا في نفس التوقيت قد زاد من معاناته. فتوقف عن ذلك، وراح يقذف بالأعشاب داخل النار منتظرًا غليان المياه. كان يعتقد أنه إذا شرب قدرًا من الماء المغلي ومنح معدته بعض الدفء، سيكون قادرًا على أن يكون خصمًا قويًّا أمام ذلك الصعلوك، وأنه إذا فشل في الحصول على الحبوب الغذائية التي يحتاج إليها، فإنه لن يسمح لذلك الصعلوك بأن يطرده بسهولة. وعندما أوشكت النار أن تخمد، أخذ بآخر كمية من الأعشاب وألقى بها وسط النار وراح يتوسل إلى إله النار أن يجعل تلك الأعشاب تشتعل لأطول فترة ممكنة، إلا أنها انطفأت في أسرع وقت. وعندما سكنت النار تمامًا، قفز بسرعة شديدة عائدًا إلى غرفته، وسحب آخر كمية من الأعشاب المكومة أسفل مصطبة التدفئة وألقى بها في النار حتى تشتعل وتذيب كمية الثلج داخل القِدر. كما ألقى بمقعد ذي ثلاثة أرجل ومكنسة قديمة داخل النار ليزيد من اشتعالها. وهنا اشتدت ألسنة اللهب وسمع صوت اشتعال المقعد والمكنسة وامتلأ المكان بالدخان الكثيف. فذعر ذعرًا شديدًا، ومد عصاه يسحب تلك المروحة الصغيرة المُعلَّقة على الحائط، وراح يهوي بها على النار حتى نجح في السيطرة على الدخان، ليرى ألسنة اللهب تأكل في المقعد والمكنسة. كان يعلم جيدًا أن الأخشاب تشتعل ببطء أكثر من غيرها من المواد الأخرى، وهنا شعر ببعض الراحة. وبما أنَّ عيون الشيوخ الكبار تعجز تمامًا عن التصدي للدخان، فقد راحت تذرف عيناه الدموع التي نزلت على وجهه حتى ذقنه. وسمع صوت غليان المياه المستمر داخل القدر. فراح ينصت إلى صوت المياه وغمرته سعادة جمة، وعلت وجهه ابتسامة بريئة. وعندما خفت حدة اشتعال النار داخل الموقد، سحب تلك الابتسامة البريئة وتراكمت علامات الخوف الشديد على صفحة وجهه، فهب واقفًا وراح يمسح المكان من حوله بنظرات حادة باحثًا عن أي شيء قابل للاشتعال، وبالطبع فإن عوارض وسقيفة المنزل من المواد القابلة للاشتعال، ولكنه يعجز عن الإتيان بها. وهنا تذكر على الفور حكاية الأعرج تشويه قواي لي أحد الملائكة الثمانية، وقيامه بإشعال النار في قدمه. وتقول الحكاية بأن تشويه قواي لي كان قد وضع قدمه داخل النار المشتعلة حتى سمع صوت اشتعالها يرن في أذنيه، فجاءت إليه زوجة أخيه، وقالت له: «أنت كده يا أخي صرت أعرج!» وبما أنَّ فم النساء عنوان الشؤم، فقد أصيب قدمه بالعرج. وكان يعرف جيدًا أنه ليس ملاكًا، وأنه إذا حرقت قدمه فلن تقوى على السير خطوة واحدة، ومِن ثَمَّ فإنه لن يستطيع الذهاب إلى سكرتير الحزب لطلب ما يحتاج من الحبوب الغذائية. وأخيرًا وفي تلك اللحظة التي أوشكت أن تخمد فيها النار أمامه، حدق في المحراب المحفور داخل الحائط. كانت هناك لوحة سوداء حالكة موضوعة أمام المحراب، فراح يلكز تلك اللوحة بعصاه إلى أن أحدثت صوتًا مسموعًا، وتساقطت من أعلاها كمية من التراب، إلى أن كشفت عن لون خشبها الأصلي الذي كان يغطيه التراب منذ فترة طويلة. وهنا خفق قلبه وشعر بألم شديد. وبينما هو يتألم ألقى بتلك اللوحة التي احتفظ بها أمام المحراب طيلة ستة وثلاثين عامًا في بطن النار. واستقبلت النار تلك اللوحة بحفاوة شديدة فراحت تلتهمها الْتِهامًا، وظهرت آثار عرق أحمر داكن أعلى تلك اللوحة وهي تشتعل وسط النار، وبدت له آثار العرق وكأنه يحرق لحم ذلك الثعلب الأحمر … مد الثعلب لسانه وراح يلعق الثمانية عشر جرحًا التي كان يمتلئ بها جسده، وها هو لا يزال بعد هذه المدة الطويلة يتذكر لسان ذلك الثعلب البارد اللطيف. كان على ثقة بأن لسان الثعلب كان دواء شافيًا لجميع الأمراض. حتى إنه بعد أن عاد إلى القرية لم يلتهب أي من تلك الجراح الثمانية عشر، شُفِيَت تمامًا دون أن يضع عليها أي دواء. وكان كلما قص حكاية لسان الثعلب على مسامع الأصغر منه سنًّا، يرى علامات الشك تعلو وجوههم. فيخلع عنه سترته الخارجية غاضبًا، ويجعلهم يرون بأم أعينهم آثار الجراح التي كانت تملأ جسده، إلا أنهم كانوا لا يزالون ثابتين على موقفهم تجاه حكايته الغريبة. وكان يثق بأنه لن يموت رغم كل الصعاب، وأنه ينتظر حظًّا كبيرًا سيأتي إليه، إلا أن ذلك الحظ لا يزال يأبى. وبعد أن أصبح واحدًا من أبناء الشعب الذين يتمتعون «بالضمانات الخمسة»، تأكد عندها من أنه قد واتاه الحظ أخيرًا. ثم زال عنه ذلك الحظ فيما بعد، وعندها لم يعد أحد من أهل القرية يهتم بأمره. ذلك الطفل الذي كان يجلس آنذاك داخل السلة الموضوعة أعلى ظهر الحمار، والذي كان مشغولًا بتقشير تلك العصا الخشبية، أصبح ذلك الصعلوك الصغير سكرتيرًا للحزب في القرية — ولو لم يقم ذلك الصعلوك بقتل تسعة أرواحٍ بشريةٍ خلال سنوات «القفزة الكبرى»، لكان من الممكن أن يصبح سكرتير الحزب على مستوى المقاطعة، قام ذلك الصعلوك بشطب اسمه من قائمة المستفيدين من «الضمانات الخمسة» … وراحت تلك اللوحة تشتعل بصعوبة كبيرة وكأنها مثل لحم الثعالب، سمع صوت غليان المياه داخل القدر، وأخيرًا نجح في تسخين المياه داخل القدر.

راح يتجرع تلك المياه الساخنة، وما إن دخلت إلى جوفه أول جرعة من الماء الساخن، شعر براحة كبيرة وارتعش جسمه، فراح يتجرع المزيد من الماء الساخن وشعر بأنه قد ارتفع إلى مصاف الملائكة.

وما إن شرب سطلين من الماء الساخن، حتى تصبب جسده عرقًا، وأيقظت سخونة جسده جماعات القمل التي راحت تجري على جسده دون أن تقرصه. وعلى الرغم من شعوره بالجوع والعطش الشديد، فإنه أحس بأن جسده قد استعاد بعض القوة. فأمسك بعصاه وراح يخترق كومة الثلج الكثيفة وسمع صوت تساقط الثلج، فشعر بارتياح وصفاء. وكان الشارع يخلو من المارَّة، وقد رأى كلبًا أسود تعلو ظهره كمية من الثلج يسير وسط الشارع بحذر واضح، وكان الكلب يسير مسافة ثم يتوقف ويهز جسده ليتطاير من أعلى ظهره كميات من الثلج، حتى يكشف عن لون جلده الأسود، إلا أنه كانت هناك كمية جديدة من الثلج تتراكم بسرعة فوق ظهره. وتبع الشيخ قينغ صاحب الثماني عشرة طعنة الكلب الأسود إلى داخل منزل ذلك الصعلوك سكرتير الحزب بالقرية. كان باب منزل الصعلوك الأسود الكبير مغلقًا، وكانت تطل من داخل السور بعض من أزهار المايخوا شديدة الحمرة. ولم يكن للسيد قينغ مزاج ليتمتع بجمال تلك الأزهار، فصعد درجات السُّلَّم الحجرية، وراح يلهث قليلًا، ثم أحكم بعد ذلك قبضته جيدًا وجعل يضرب على درفة الباب. فإذا به يجد الفناء ساكنًا تمامًا إلا من نباح الكلاب. اعتراه الغضب الشديد، وراح يستند على جانب الباب الكبير، ورفع عصاه وراح يضرب بها على قفل البال، فراحت الكلاب تنبح وسط الفناء بشكل جنوني.

وأخيرًا انفتح باب المنزل الرئيسي، واصطدم أول ما اصطدم بكلب سمين ذي عينين وشعر لامع، ولم يُبالِ الكلب السمين بأي خطر يواجهه وراح يهجم على الشيخ قينغ صاحب الثماني عشرة طعنة، وهنا راح الشيخ يلوح بعصاه مدافعًا عن نفسه، فتراجع الكلب وكشف عن أنيابه البيضاء الجميلة وينبح بشكل مستمر، وبعدها رأى وجه امرأة في منتصف العمر ممتلئة الجسم ذات وجه مضيء. فجعلت المرأة تنظر إلى قينغ صاحب الثماني عشرة طعنة، ثم خاطبته بلهجة ودودة قائلة: «إنه أنت أيها الجد قينغ، هل لديك مسألة ما؟» فرد عليها الشيخ قينغ بصوت مبحوح قائلًا: «أريد مقابلة السيد السكرتير!» فقالت المرأة بلهجة حانية تنم عن تعاطفها مع الشيخ: «لقد خرج لحضور اجتماع الجمعية العمومية للقرية.» فراح الشيخ قينغ يصيح بصوت متعب «فلتتركيني أدخل! فإنني على الرغم من تعرضي لثماني عشرة طعنة بيد اليابانيين، فإنني لم أَمُت، فهل هو يريد أن أموت جوعًا وعطشًا تحت قدميه؟» فقالت المرأة وقد شعرت بكثير من الحزن: «أيها الجد قينغ، إنه حقًّا خارج المنزل، لقد خرج منذ وقت مبكر لحضور اجتماع الجمعية. وإذا كنت جوعان، فلتتفضل إلى منزلنا لتأكل بعض الطعام، وفي الحقيقة إننا ليس لدينا طعام فاخر، فالميسر لدينا هو الخبز المحشو بالبطاطا.» قال الشيخ ببرود: «تقولين الخبز المحشو بالبطاطا؟ إن كلابكم لن ترضى أن تأكل هذا الخبز المحشو بالبطاطا!» فَشعرَت المرأة بشيءٍ من عدم الارتياح إلى كلامه، فقالت: «إذًا فلا داعي لأن تأكل هذا الخبز. وإنه الآن ليس موجودًا بالمنزل. إنه ذهب لحضور اجتماع الجمعية. وإذا كنت تريده، فلتذهب لمقابلته هناك!» ثم دخلَت المرأة إلى المنزل، وأغلقَت الباب الرئيسي. فرفع الشيخ عصاه وراح يضرب على الباب من جديد، وقد شعر بالإرهاق الشديد حتى كاد أن يسقط على الأرض. ثم راح يخطو إلى الشارع القريب من كومات الثلج، وهو يحدث نفسه قائلًا: «ذهب إلى اجتماع الجمعية … ذهب إلى اجتماع الجمعية … إنني أتهم هذا الصعلوك الحقير … أتهمه بظلم واضطهاد المواطنين البسطاء الصالحين، أتهمه بأنه اغتصب الحبوب الغذائية التي تَخصُّني.» وراح الشيخ يسير بصعوبة مثل الكلب الأعرج، وقد تركت قدماه آثارًا واضحة وسط الثلج. وبعد أن ابتعد مسافة طويلة عن المنزل، كان لا يزال يشم رائحة أزهار المايخوا العطرة، فأدار جسده ونظر إلى ذلك الباب الأسود الكبير وبصق نحوه بصقة شديدة، بينما كانت أزهار المايخوا الحمراء ترفرف عالية.

وأخيرًا وصل الشيخ قينغ إلى خارج مدخل الجمعية قبيل غروب الشمس. كان الباب مصنوعًا من الحديد، يصل قطر سيخ الحديد فيه إلى حجم سمك إصبع الإبهام، وكان الباب عاليًا لدرجة أن أي شاب يفكر جيدًا قبل أن يقدم على القفز من أعلاه. استطاع أن ينظر من خلال السياج الحديدي، ليرى الثلج داخل الفناء وقد بدا أسود متسخًا. ورأى عددًا من الأشخاص يَتحرَّكون داخل الفناء يرتدون ملابس جديدة وقبعات جديدة، وذَوِي رءوس وآذان كبيرة وأسنان لامعة. ومنهم من كان يحمل رأس خنزير تخلو من الشعر، وقد بدت آذان الخنزير حمراء، ومنهم من كان يحمل واحدة من السَّمك الشريطي الفضي، ومنهم من كان يحمل الدجاج والبط المذبوح. فراح الشيخ قينغ يضرب بعصاه الباب الحديدي محدثًا صوتًا مسموعًا، وكأن هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يقطعون الفناء ذهابًا وإيابًا منشغلين جدًّا، لم ينظر أحد منهم إلى الشيخ واستمرُّوا في حركاتهم وسط الفناء. فراح الشيخ قينغ يبكي ويصيح بصوت مرتفع قائلًا: «أيها المسئولون! … أيها القادة! … إنني مظلوم … لقد كاد الجوع أن يقتلني!»

وتقدَّم نحوه شاب في ريعان شباب يظهر داخل جيب قميصه ثلاثة من الأقلام الجافة، وراح الشاب يسأله ببرود: «وما الذي يحملك على هذا الصراخ هنا؟» وما إن رأى الشيخ قينغ ذلك الشاب والأقلام الجافة التي تطل من جيب قميصه، حتى اعتقد بأنه واحد من المسئولين الكبار قد خرج إليه ليسمع شكواه، فسجد الشيخ قينغ أمام الشباب وراح يمسك بالسياج الحديدي، وبدأ يشكو إليه حاله باكيًا: «أيها المسئول الكبير، لقد استولى سكرتير القرية على حصة الحبوب الغذائية المخصصة لي، ولم يدخل جوفي طعام منذ ثلاثة أيام، وها أنا كدتُ أن أموت من شدة الجوع. والطعنات الثماني عشرة التي تلقيتها من المعتدين اليابانيين لم تستطع النيل مني، وها أنا سأموت جوعًا!»

فسأله الشاب: «وإلى أي قرية تنتمي أيها الشيخ؟»

فسأله الشيخ قينغ مندهشًا: «أيها المسئول الكبير، ألا تعرفني؟ إنني قينغ صاحب الثماني عشرة طعنة!»

فضحك الشاب، ثم قال: «وكيف أعرف أنك قينغ صاحب الثماني عشرة طعنة؟ فلترجع وتبحث عن السيد المسئول عنكم، فإن هيئة الجمعية في عطلة الآن.»

راح الشيخ قينغ يضرب على الباب الحديدية لمدة طويلة، ولكن لم يُعِرْه أحد أدنى اهتمام. وانعكس ضوء أصفر على نافذة الفناء الكبير، وراحت تتساقط أعلى النافذة كميات من الثلج في حجم ريش الإوز في صمتٍ تامٍّ. ودوَّى في القرية صوت انفجار بعض المفرقعات، فتذكر فجأة أنه قد حان وقت الافتراق عن الموقد، وأنه قد حان وقت صعود إله الموقد إلى السماء. ففكر في العودة إلى منزله، ولكن ما إن تقدَّم خطوة سقط منكبًّا على وجهه وكأن هناك شخصًا ما قد دفعه من الخلف. وشعر بدفء شديد عندما لامس وجهه نتف الثلج التي تملأ الأرض. وقد جعله هذا الشعور بالدفء يتذكر حضن أمه الدافئ الحنون، لا بطن أمه الدافئة. فعندما كان طفلًا صغيرًا مغمض العينين في بطن أمه، كان مثل السمكة الصغيرة التي تتحرك بحرية تامة، ولم يكن يشكو من الجوع أو اللباس أو كان يساوره أدنى قلق أو خوف. وقد شعر بسعادة أن يستعيد ذكرياته داخل بطن أمه، وجعله الشعور بعدم الجوع والعطش والبرودة يشعر بسعادة بالغة. وجعله صوت نباح الكلاب الذي كان يملأ جميع أرجاء القرية يتأكد من أنه قد غادر بطن أمه إلى هذه الدنيا. بدا ذلك الضوء الأصفر في فناء الجمعية وحمرة أزهار المايخوا في منزل سكرتير الحزب، بدا مثل هالة من النور أضاءت جميع الأرجاء، وشعر بالنور يغمر جميع الأماكن، بينما كانت نتف الثلج تتساقط بشكل متواصل، وقد امْتطَت آلهة المَواقد خيولًا من الورق وفَرَّت إلى ذلك الفردوس البعيد. وهنا شعر بسخونة شديدة تسري داخله. راح يخلع في عُجالة تلك السترة القديمة من جلود الكلاب، ثم خلع سرواله القطني البالي، ثم حذاءه القطني، فوجد أنه لا يزال يشعر بالسخونة، راح يخلع قبعته القديمة من اللَّبَّاد، ولكنه لا يزال يشعر بسخونة، فخلع جميع ملابسه حتى أصبح عاريًا كما ولدته أمه، ولكنه كان لا يزال يشعر بالسخونة. فاتكأ على كومة الثلج، فإذا بالثلج يلسعه لسعةً شديدةً، فراح يتلوى وهو لا يزال يشعر بالسخونة الشديدة. فراح يبتلع كميات كبيرة من الثلج، فإذا بقطع الثلج تلسع حلقه بشدة، وكأنها حصى ساخنة جدًّا في أيام الحر الشديد. ولا يزال يشعر بالسخونة! فانتفض من أعلى كومة الثلج، وراح يمسك بسيخ حديدي من أسياخ سور الجمعية، فإذا بالسيخ يلسع يده لسعة قوية جدًّا، حتى التصقت يده بالسور الحديدي وعجز أن ينتزعها منه، واستمر في صياحه: سخونة شديدة! سخونة شديدة!

وخرج ذلك الشاب صاحب الأقلام الجافة مبكرًا ليكنس الثلج المُتراكِم وسط الفناء، وما إن أطل من سور الجمعية حتى ذُعِر ذعرًا شديدًا؛ حيث رأى ذلك الشيخ الذي كان يُقدِّم نفسه على أنه قينغ صاحب الثماني عشرة طعنة، رآه معلقًا على باب المدخل عاريًا كما ولدته أمه وفي حالة صعبة جدًّا. وقد انتبه إلى ملامح الشيخ المسودة، وأطرافه المرتخية، وهو يحدق في فناء الجمعية. ولم يكن أحد يصدق لأول وهلة أن هذا الشخص هو شيخ وحيد مات من شدة الجوع والعطش والبرد.

تعمَّد ذلك الشاب أن يحصي آثار الجراح على جسم الشيخ قينغ، ليجد أنها ثمانية عشر جرحًا بالتمام والكمال.

٨

استطاع تشينغ ما تزه أن يَتحرَّر من أَسْر الجنود اليابانيين، بعد أن دَلَّهم على جميع الورش التي تعمل في مجال صناعة الأحذية من القش. فسأله ذلك الجندي صاحب القبعة المصنوعة من الصوف بلهجة صارمة: «ألا تزال هناك ورش أخرى لم نَرَها بعد؟» فقال تشينغ ما تزه مؤكدًا: «لا يا سيدي، حقًّا إنه ليس هناك أي ورش أخرى.» فنظر صاحب القبعة نظرة إلى الجنود المحيطين به، فهَزُّوا إليه رأسهم بالموافقة، وعندها سمع تشينغ صاحب القبعة يأمره: «انصرف!» فهز تشينغ رأسه وانحنى أمامه وأخَذَ يتراجع خطوات إلى الخلف، ثم أدار جسده بسرعة شديدة، كان يتمنَّى أن يفر مسرعًا من أمامهم، إلا أن قدميه لم تساعداه على ذلك، وعجز عن أن يخطو خطوة واحدة. وبدأت جراح صدره تُؤلِمُه ألمًا شديدًا، وشعر ببرودة داخل سرواله. فاستند إلى جذع شجرة وأخذ نفَسًا عميقًا، وراح يستمع إلى الصراخ الشديد القادم من جميع منازل القرية، وعجزت قدماه عن الحركة. واحتك ظهره بلحاء شجرة الصفصاف الجاف. وملأ دخان القذائف اليدوية الكثيف سماء القرية. وقام الجنود اليابانيون بإلقاء مئات القنابل السوداء الصغيرة على الورش الاثنتي عشرة المتخصصة في صناعة الأحذية من القش، كانت القنابل تتساقط من نوافذ الورش لتخرج من مداخلها. وبعد أن انتهى هؤلاء الجنود اليابانيين من إلقاء القنابل على الورش، راحوا يطوفون حول الورش المحترقة دون أن يتحرك لهم ساكن. ودَوَّت أصوات الانفجارات داخل الورش وقد رجت الأرض رجًّا، وتصاعدت كميات كبيرة من الدخان الكثيف من نوافذ الورش المحترقة وسط صرخات استغاثة هؤلاء العمال الذين لم يلفظوا أنفاسهم الأخيرة بعد. راح الجنود اليابانيون يلقون بكميات من القش عبر النوافذ ليزداد اشتعال النيران بداخل الورش، حتى خفت حدة صرخات الاستغاثة، وأصبح من الصعب الاستماع إليها. وهكذا قاد تشينغ إلى تلك الورش الاثنتي عشرة في القرية. كان يعلم جيدًا أن ثلاثة أرباع رجال القرية يعملون ويقضون الليل داخل تلك الورش، ويبدو أنه لن يخرج أحد منهم حيًّا. وفجأة أحس بأنه ارتكب جريمة لا تُغتفر. لم يكن الجنود اليابانيون يستطيعون التوصل إلى تلك الورشة الواقعة شرق القرية دون الاعتماد عليه، وتعتبر تلك الورشة أكبر ورشة على مستوى القرية، يجتمع داخلها يوميًّا حوالي ثلاثين أو عشرين رجلًا ما بين العمل في صناعة الأحذية وبين التسامر. ألقى الجنود اليابانيون على تلك الورشة وحدها ما يزيد على أربعين قنبلة، حتى نجحوا في تدميرها تمامًا. أصبحت الورشة فور تدميرها عبارة عن مقبرة بارزة، وبرز بين الركام عمود خشبي بدَا وكأنه فوهة بندقية موجهة نحو السماء.

خاف خوفًا شديدًا وندم ندمًا أشد. وأحس كأنه يرى تلك الوجوه التي تعرف وقد أحاطت به وراحت توبخه توبيخًا شديدًا. راح هو يدافع عن نفسه قائلًا: «إن الجنود اليابانيين هم الذين أجبروني بأسلحتهم على ارتكاب هذا الخطأ، وحتى لو امتنعت عن مساعدتهم، فإنه بإمكانهم أن يتوصلوا إلى جميع الورش في القرية ويدمروها تدميرًا.» وقد راح هؤلاء الضحايا يتبادلون النظرات البائسة فيما بينهم، ثم اختفوا عنه. فراح ينظر إلى أشلائهم، وعلى الرغم من عدم شعوره بوَخْز الضمير، فإنه أحس ببرودة شديدة تسري بداخله، وكأنه قد نُقِع في نهرٍ شديد البرودة.

وجاهَد حتى استطاع العودة إلى منزله، ليكتشف أن زوجته الجميلة وابنته ذات الثلاثة عشر عامًا ترقدان عاريتين وسط الفناء، خرجت أمعاؤهن على الأرض. فاسودت الدنيا أمام عينيه، حتى سقط مغشيًّا عليه … فرقد على الأرض ما بين الحياة والموت … ثم مضى يتقدَّم نحو الجنوب الغربي. كان الجنوب الغربي تعلوه سماء وردية تمتلئ بسحب وردية، وقد وقف بين تلك السحب الوردية زوجته وابنته والعديد من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال الذين يعرفهم من أهل القرية. فراح يقفز بسرعة رافعًا وجهه لأعلى يحاول اللَّحاق بتلك السحب الوردية التي كانت تتحرك ببطء شديد. إلا أن هؤلاء الناس الذين كانوا يسيرون وسط السُّحب لم يعيروه أدنى اهتمام، بل راحوا يبصقون عليه بما فيهم زوجته وابنته. فَهبَّ يدافع عن نفسه أمامهم، راح يقول بأنه كان مضطرًّا إلى مساعدة هؤلاء الجنود اليابانيين وإرشادهم إلى ورش صناعة القَشِّ، إلا أن البصق كان ينزل عليه بشدة مثل الأمطار الغزيرة. ورأى أن تلك السُّحُب قد بدأت تبتعد عنه. حتى تَحوَّلتْ أخيرًا إلى نقاط حمراء … كانت زوجته سيدة جميلة شابة يشع وجهها بالنور، وظُلِمَت ظلمًا شديدًا من زواجها بشخص مثله مصاب بالجدري … كان تشينغ ما تزه ينفخ في بوقه نفخًا حزينًا مساء كل يوم عندما كان يقيم بقرية زوجته، وكان صوت نفخه يقطع قلبها تقطيعًا … يمكن القول بأنها عَشِقَت وتزوَّجَت من بوقه. وعندما شَعرتْ بالملل من تكرار صوت بوقه وملامح وجهه المصاب بالجدري، شَعرتْ بالمَلل الشديد من العيش في هذا المنزل. فهربت مع بائع مُتجوِّل، إلا أنه استطاع القبض عليها وإعادتها إلى منزله ثانيةً. أوجَعَها ضربًا مبرحًا على أردافها ووجهها. فاستسلمَتْ له وراحتْ تقضي أيامها معه برضاها. وأنجبت منه ابنة ثم ولدًا … وما إن أفاق من غيبوبته حتى راح يبحث عن ابنه، ليكتشف أن ابنه صاحب الثمانية أعوام كان مُنزرِعًا داخِل قِدْر المياه، رأسه إلى أسفل وقدماه إلى أعلى، وقد بدَا جسده متصلبًا تمامًا مثل العصا.

فسارع تشينغ ما تزه بربط حبل إلى إطار الباب، وجعل في وسطه فتحة أدخل فيها رأسه، وترك قدميه تسند على مقعد صغير، وأحكم ربط الحبل حول رقبته. وهنا تقدَّم شاب يمسك بسكين، وقطع الحبل. فسقط تشينغ ما تزه على عتبة الباب. وقد انشغل الشاب في إسعافه مدة طويلة حتى أفاق ثانيةً.

قال الشاب بلهجة غاضبة: «أيها العم تشينغ ما تزه! ألم يَكفِ قيام اليابانيين بقتلنا؟ فلماذا تُقْبِل على الانتحار؟ عليك أيها العم أن تحيا حتى تغسل عارك!»

فراح تشينغ ما تزه يشكو إلى الشاب باكيًا: «يا ابن أخي تشون شينغ! لقد ماتت عمَّتُك وابنتي لان تزه وابني جو تزه، وأصبحتُ لا أهل ولا دار لي!»

فحمل الشاب تشون شينغ سكينه وتَقدَّم إلى داخل الفناء، وعندما خرج ثانيةً بدَا وجهه شاحبًا وعيناه محمرتين، وراح يشد تشينغ ما تزه من يده قائلًا: «هيا بنا أيها العم تشينغ! هيا بنا ننضم لقوات الجيش الثامن! فإن فريق جياو قاو التابع للجيش الثامن يقوم في الوقت الحالي بجمع الجنود وشراء الخيول في قرية ليانغ شيان!»

فقال تشينغ ما تزه متعجبًا: «وماذا عن منزلي وممتلكاتي؟»

– «أيها الشيخ الأحمق! وإلى من كنت ستترك منزلك وممتلكاتك وقد كنت مقدمًا على الانتحار منذ قليل؟ هيا بنا!»

وفي مطلع ربيع عام ١٩٤٠م، كان الطقس على غير عادته شديد البرودة، وتحوَّلتْ جميع أنحاء قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي إلى مجرد أطلال، بينما راح الناجون من جموع الأهالي يعيشون داخل جحورهم مثل الفئران. وبدَا البرد والجوع والعطش يشتد بأعضاء فريق جياو قاو، وظهرت بين صفوفه الكثير من الأمراض، وبدت وجوه جميع أعضاء الفريق من القائد حتى الجندي العادي شاحبة من شدة الجوع، يرتعد الواحد منهم بين الثياب الخفيفة البالية التي يرتديها، ولجأ هؤلاء الناجون للاختفاء في إحدى القرى القريبة من قرية شيان شوى كوو تزه، كانوا يخرجون في مطلع كل صباح إلى جانب السور يقبضون على القمل ويعرضونه للشمس. وكانوا يخشون مهاجمة العدو في وضح النهار، أما الليل فقد كان برده شديدًا جدًّا، وكانوا يخشون إذا خرجوا في هذا الليل البارد فإنهم حتى ولو نجوا من أيدي اليابانيين، فإنهم سيموتون من شدة البرد. وفي تلك الأثناء أصبح تشينغ ما تزه بطلًا معروفًا بين أعضاء فريق جياو قاو التابع للجيش الثامن، بل إنه نجح في كسب ثقة قائد الفريق السيد جيانغ. وكان تشينغ لا يفضل استخدام البنادق والرشاشات في مهاجمة العدو، وكان يُفضل استخدام القذائف اليدوية، وفي كل معركة يخوضها الفريق، كان تشينغ يتقدم إلى الأمام بشجاعة ويلقي بالقذائف على العدو مغمضًا عينيه. حتى إنه كان باستطاعته أن يتقدم على مسافة سبعة أو ثمانية أمتار من العدو ليلقي بالقذائف، ومن الغرابة أنه لم يكن حتى يسارع بالاختفاء عقب إلقاء القذيفة تجنبًا للشذرات المتطايرة، كانت تطير من فوقه دون أن تصيبه بأدنى أذًى.

وكان السيد جيانغ قائد فريق جياو قاو قد عقد اجتماعًا لمناقشة كيفية حل مشكلة البرودة الشديدة والجوع والعطش. فإذا بتشينغ ما تزه يدخل بطيش ويجلس وسط الحضور عَبُوس الوجه دون أن يتكلم بكلمة واحدة. فسأله القائد جيانغ: «سيد تشينغ، هل لديك رأي في هذه المسألة؟»

فاستمر تشينغ ما تزه في صمته.

فقال قائد شاب مثقف: «بالنظر إلى أوضاعنا الحالية، فإنه إذا لزمنا التقوقع داخل قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، فإننا بلا شك ننتظر الموت. فيجب علينا أن ننجو بأنفسنا من هذه المنطقة ونفر إلى مناطق إنتاج القطن بمدينة جياو نان لنصنع لأنفسنا بعض الثياب القطنية لتقينا البرد الشديد، كما أنَّ تلك المنطقة تشتهر بإنتاج البطاطا التي ستسد جوعنا.»

أخرج القائد جيانغ من جيبه قصاصة جريدة، وقال: «إنه وفقًا لجريدة لجنة الحزب، فإن الوضع في مدينة جياو نان أشد تأزمًا من هذه المدينة، وقد نجحت القوات اليابانية في محاصرة قوات الجماعة الحديدية، وقد قضوا عليهم تمامًا. وإذا قارنَّا بين المنطقتين، فإن قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي هي أنسب مكان لمهاجمة العدو، حيث تتمتع هذه المنطقة بمساحة شاسعة وتفصل بين قراها مسافات بعيدة، كما أن قوة عملاء القوات اليابانية ضعيفة جدًّا، ولم يتم حصاد مساحات كبيرة من محصول الذُّرَة الرفيعة منذ العام الماضي، وستكون هذه المساحات أماكن مناسبة لأن نختبئ بداخلها، وإذا تَمكنَّا من التوصل إلى حل لمشكلة المأكل والملبس، سيمكننا الصمود حتى نَتحيَّن الفرصة المناسبة لقتال العدو الياباني.»

فقال أحد قادة الفريق، وبدَا وجهه شاحبًا: «وهل يمكن ذلك؟ وأين لنا بالقماش؟ وأين لنا بالقطن؟ وأين لنا بالغذاء؟ إننا سنموت إذا اكتفينا بأكل حفنة من الذُّرَة المنبتة! أرى أنه يجب أن نتظاهر بالاستسلام، ونقدم أنفسنا إلى القائد العميل جانغ جو شي، ثم نهرب من بين صفوفه بعد أن نحصل على الثياب القطنية ونتزود بالكمية الكافية من الذخيرة.»

فانتفض القائد الشاب المثقف غاضبًا، ثم قال: «هل تريدنا أن نكون عملاء؟»

فراح ذلك القائد ذو الوجه الشاحب يوضح وجهة نظره قائلًا: «مَن الذي طلب منك أن تكون عميلًا؟ إنني أقصد التظاهر بالاستسلام! ففي عصر الدويلات الثلاث المتحاربة، استخدم كل من جيانغ وي، وخوانغ قاي حيلة التظاهر بالاستسلام أو الاستسلام المزيف!»

– «إننا ننتمي إلى الحزب الشيوعي، وإننا لن نطأطئ رءوسنا وننحني لعدونا ولو متنا من الجوع والبرد، وإنني سأقف بسلاحي هذا في وجه مَن يفكر في بيع نفسه للعدو!»

فقال ذلك القائد ذو الوجه الشاحب بلهجة قوية: «وهل يعني انتماؤنا للحزب الشيوعي أن نموت من الجوع والبرد؟ إن الحزب الشيوعي يتمتع بذكاء حادٍّ، وعلينا أن نُعْمِل ذكاءنا ونخطط للوصول إلى الهدف السامي، ولن نتمكن من إحراز النصر في معركتنا أمام العدو الياباني إلا إذا حافظنا على الروح الثورية العظيمة التي نتمتع بها!»

فقال القائد جيانغ: «أيها الرفاق، أيها الرفاق، لا داعي للتشاجر، وعلينا أن نتناقش بهدوء.»

قال تشينغ ما تزه: «أيها القائد العام، إن لديَّ خطة محددة.»

وما إن قدم تشينغ ما تزه خطته، حتى أعجب بها القائد جيانغ كثيرًا وراح يصفق له على ذكائه الحادِّ.

وهكذا أخذ فريق جياو قاو بخطة تشينغ ما تزه، كانوا قد استغَلُّوا ظلمة الليل وقاموا بالاستيلاء على جلود الكلاب التي تزيد على مائة جلد، والتي كان يخفيها جَدِّي وأبي على بعض الأطلال في القرية، كما سَرقُوا أيضًا خمسة عشر رشاشًا كان جَدِّي يخفيها داخِل إحدى الآبار في القرية، ثم قاموا وفق الخطة بمهاجمة الكلاب ليحلوا مشاكل المأكل، ثم وزَّعُوا جلود الكلاب فيما بينهم بمعدل جلد واحد لكل فرد يتقي به البرد الشديد. وفي ربيع ذلك العام الذي اتسم بالبرودة الشديدة، انتشر في محيط قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي جماعة من الأبطال الذين كانوا يَلتحِفون بجلود الكلاب، خاضوا أكثر من عشر معارك قوية، حتى تَمكَّنُوا من تحقيق النصر على قوات العملاء الموالين للجيش الياباني وخاصةً قوات القائد العميل جانغ جو شي.

أما أول معركة اشترك فيها رجال فريق جياو قاو فقد وقعَتْ في اليوم الثاني من الشهر الثاني حسب التقويم القديم، وقعَتْ في ذلك اليوم الذي يُعْرَف باليوم الذي يرفع التنين فيه رأسه عاليًا، حيث كان رجال فريق جياو قاو الذين كانوا يلتحفون بجلود الكلاب قد دخلوا قرية ما ديان، ونجحوا في محاصرة السرية التاسعة التابعة لجيش القائد العميل جانغ جو شي وإحدى الفرق اليابانية الصغيرة، والذين كانوا مُكلَّفِين بحراسة قرية ما ديان. وكانت قوات القائد العميل تُعسْكِر في مدرسة قرية ما ديان الابتدائية، وكانت تتكون من أربع غرف مبنية بالطوب وسور عالٍ. كانت هناك شبكة من الأسلاك الحديدية تمتد فوق السور، وكان هناك حصن شَيَّده الشياطين اليابانيون في منتصف الغرف الأربع في عام ١٩٣٨م، وكان الحصن قد تأثَّر بسقوط الأمطار في العام الماضي حتى سقطت قاعدته وحدث به انحناء واضح. فهجره اليابانيون وتم هدم الحصن، ومع دخول فصل الشتاء القارص وعدم القدرة على العمل على إعادة بناء الحصن، اضطر اليابانيون والسرية التاسعة التابعة لجيش القائد العميل إلى الإقامة داخل هذه الغرف الأربع في مدرسة القرية الابتدائية.

كان قائد السرية التاسعة رجلًا صينيًّا من مدينة قاو مي، وكان معروفًا بقسوته وبطشه الشديد، في حين كانت الابتسامة لا تُفارِق وجهه طوال النهار، كان قد بدأ منذ مطلع فصل الشتاء في جمع الطوب والأحجار والأخشاب للاستعداد لإعادة بناء الحصن، وأنفق مبالغ طائلة خلال مرحلة جمع المواد اللازمة لإعادة بناء الحصن، الأمر الذي أدَّى إلى أن كرهه أهالي القرية كرهًا شديدًا.

أما قرية ما ديان، فكانت تتبع القرى الشمالية الغربية لمدينة جياو، تجاور قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، وتبعد حوالي خمسة عشر كيلومترًا عن معسكر فريق جياو قاو التابع للجيش الثامن. وكان فريق جياو قاو قد غادَر القرية قُبَيل غروب شمس ذلك اليوم، وكان بعض من أهالي القرية قد شاهَدوا الفريق لحظة خروجه من القرية: فقبيل غروب الشمس، غادر القرية مجموعة من رجال الجيش الثامن يزيد عددهم على مائتي شخص. كانوا يلتحفون جلود الكلاب، وقد جعلوا شعر الكلب من الخارج، بينما كان يتدلى ذيل الكلب بين قدمي الواحد منهم، وقد سطع الضوء على شعر الكلاب فبدا لامعًا ذا ألوان متعددة، جميلًا وغريبًا في الوقت نفسه، وكأنهم مجموعة من العفاريت.

كان أعضاء فريق جياو قاو الذين خرجوا ملتحفين بجلود الكلاب ليخوضوا أول معركة ضد العدو، قد بدوا مثل الشياطين تمامًا، وعندما انعكست شمس الغروب على جلود الكلاب التي يلتحفون بها، راحوا يسيرون في سرب واحد مُسرِعي الخُطَى حينًا ومُبطئين حينًا آخر.

وكان القائد العام جيانغ يسير في المقدمة ملتحفًا بجلد كلب أحمر كبير — وكان ذلك الجلد الأحمر الكبير يخص كلب عائلتي الأحمر — يسير ببطء وقد راح جلد الكلب الأحمر يتدحرج فوق جسده، بينما يتدلى ذيل الكلب بين قدميه وهو يتحرك ملامسًا الأرض. والتحف تشينغ ما تزه بجلد كلب أسود، وعلق أمام صدره كيسًا من القماش يمتلئ بثمان وعشرين قذيفة يدوية. وكانوا قد التزموا بشكلٍ واحدٍ في الْتِحافِهم بجلود الكلاب: ربطوا قدمي الكلب الأماميتين بحبل، وجعلوا هذا الجزء من جلد الكلب يتدلى أسفل رقبة الواحد منهم، ثم أحدثوا فتحتين في جانبي جلد بطن الكلب، ثم ربطوا الفتحتين بحبلين، وربطوا الحبلين عند صرة كل واحد منهم.

كانوا قد دخلوا قرية ما ديان في منتصف الليل، وقد امتلأت سماء القرية بالنجوم وكان البرد شديدًا، وكان أعضاء فريق جياو قو الملتحفون بجلود الكلاب قد شعروا بالبرد الشديد في صدورهم، بينما كانت ظهورهم دافئة، وما إن دخلوا القرية، حتى استقبلتهم مجموعة من الكلاب بحفاوة. قام أحد أعضاء الفريق، وكان يتمتع بروح فكاهية، بتعلم نباح الكلاب، وعندها أحس جميع أعضاء الفريق برغبة قوية في ضرورة تعلم صوت النباح، وسمعوا صوت القائد جيانغ من المقدمة يأمرهم بأنه: غير مسموح بتعلم نباح الكلاب! غير مسموح بتعلم النباح! ممنوع النباح منعًا باتًّا!

ووفق استطلاعهم للمنطقة وخطتهم المُعدَّة سلفًا، قام الفريق بنصب كمينه في منطقة تبعد حوالي مائة متر من مدخل القرية الرئيسي، كانت تتكوم في تلك المنطقة كميات الطوب والأحجار التي جمعها القائد العميل جانغ لإعادة بناء الحصن.

قال القائد العام جيانغ مخاطبًا تشينغ ما تزه الذي كان يتبعه مباشرةً: «يا ما تزه، فلتتحركوا الآن!»

فنادى تشينغ ما تزه بصوت خفيض: «فلنتحرك يا ليو تزه وتشون شينغ.»

ولكي يمكنه التحرك بسهولة، قام تشينغ ما تزه بفك الكيس القطني الممتلئ بالقذائف والمعلق أمام صدره، وأخذ قذيفة ودسها عند خصره، ثم قدم كيس القذائف إلى رجل من أعضاء الفريق ذي قامة عالية قائلًا: «سلمني هذا الكيس عندما أنجح في اختراق الباب.» فهز ذلك الرجل ذو القامة العالية رأسه بالموافقة.

وانعكس ضوء النجوم الخافت على الأرض من تحتهم، ورأَوا هنالك ما يزيد على عشرة مصابيح مُعلَّقة فوق معسكر جيش العملاء، حتى بدا فناء المعسكر مضيئًا كوقت الغروب؛ فقفز أحد أعضاء فريق جياو قاو من خلف كومة الطوب والأحجار، ثم تبعه ثلاثة من رفاقه الذين كانوا جميعًا يلتحفون بجلود الكلاب، وراحوا يجاهدون حتى اقتربوا من الباب الرئيسي. وتجمَّع ثلاثة منهم إلى جانب كومة من الأخشاب، كانت تلك الكومة تبعد ما يزيد على عشر خطوات من الباب الرئيسي، وراحوا ينظرون إلى الباب من بعيد وكأنهم يتنافسون على وجبة شهية دسمة.

كان القائد جيانغ يتابع من خلف كومة الطوب والأحجار راضيًا ما يقوم به تشينغ ما تزه ورفاقه، وراح يتذكر منظر تشينغ ما تزه فوق التحاقه بالفريق، حيث كان آنذاك جبانًا جدًّا، وكان مثل النساء العجائز لا يتوقَّف عن البكاء من شدة الخوف.

استمر تشينغ ما تزه ورفاقه في النباح بصبر وسط المنطقة المظلمة عند كومة الأخشاب، وهنا راح يستمع إلى صوت نباحهم اثنان من جنود الحراسة، وهما في ذهول مما يسمعان. فانحنى أحد جنود جيش العملاء على الأرض وأمسك بحجر ورمى به إلى تلك المنطقة المظلمة، ثم راح يسب قائلًا: «آه من هذه الكلاب المريضة!»

راح تشينغ ما تزه يقلد صوت الكلاب عندما تتعرض لهجوم من قِبَل طرَف آخر، وكان صوته قريبًا جدًّا من صوت الكلاب، حتى كاد القائد جيانغ ألا يتمالك نفسه وينفجر ضاحكًا.

وكان أعضاء فريق جياو قاو قد بدءوا يتعلمون جميع ما يتعلق بنباح الكلاب فور وضع خطة الهجوم على قرية ما ديان. وبما أنَّ تشينغ ما تزه كان يَتغنَّى من قبل بأعمال أوبرا بكين، وكانت له تجارب في نفخ الأبواق، وكان يتمتع بحنجرة قوية وصوت جهوري، فقد أصبح أفضل من يقلد صوت نباح الكلاب بين أعضاء الفريق، كما بلغ كل من ليو تزه وتشون شينغ مستوًى جيدًا في تَعلُّم نباح الكلاب، ومن ثم، فقد أُوكِلَت إلى ثلاثتهم مهمة استدراج جنود الحراسة في جيش العدو والقضاء عليهم.

وهنا لم يستطع جنود حراسة جيش العملاء الصبر أكثر من ذلك، فتقدموا في حذر شديد إلى جانب كومة الأخشاب حامِلِين الرشاشات المزودة بالحِراب، وعند ذلك ازدادت حدة النباح. وعندما كان جنود جيش العملاء على مسافة ثلاث أو خمس خطوات من كومة الأخشاب، انخفض صوت نباح الكلاب، وكأنهم بدءوا يشعرون بالخوف من العدو القادم إليهم، ولكنهم لم يُغادِروا أماكنهم بعد.

تقدم اثنان من جنود حراسة جيش العملاء خطوة إلى الأمام في حذر شديد.

وهنا انقضَّ عليهم تشينغ ما تزه ورفاقه، وقد انعكس ضوء المصابيح على جلود الكلاب التي يلتحفون بها، ثم ألقى تشينغ بقذيفة نحو رأس أحد الجنديين، بينما طعن كل من ليو تزه وتشون شينغ الجندي الثاني بحراب رشاشاتهم في بطنه. فتساقط الجنديان على الأرض محدثين صوتًا مسموعًا.

وانقض باقي أعضاء فريق جياو قاو الملتحفون بجلود الكلاب على معسكر جيش العملاء، وقد استرد تشينغ ما تزه كيسه القطني الممتلئ بالقذائف عند الباب الرئيسي، وراح يلقي بالقذائف نحو غرف المعسكر بجنون.

وهكذا، حطَّم دَوِي الطلقات النارية والقذائف اليدوية والصياح المتعالي وصراخ الجنود اليابانيين وجنود جيش العملاء الخونة، حطَّم ذلك كله الصمت الرهيب الذي كان يلف قرية ما ديان، وملأ نباح الكلاب جميع أرجاء القرية.

وحدَّد تشينغ ما تزه هدفه نحو إحدى نوافذ غرف المعسكر وألقى بداخلها عشرين قذيفة يدوية، حتى إن دَوِي الانفجارات وصراخ الجنود اليابانيين المصابين جعله يتذكر مشهد قيام الجنود اليابانيين قبل عدة سنوات بإلقاء القنابل على ورش صناعة الأحذية، إلا أن التشابه الكبير بين المشهدين لم يجعله يشعر بنشوة الثأر وغسل العار، وأحسَّ بألم شديد وكأن سكينًا حادًّا يمزق قلبه.

وتُعتَبر هذه المعركة أكبر المعارك التي خاضها فريق جياو قاو منذ تأسيسه، كما أنها حقَّقتْ أعظم انتصار على مدار تاريخ حروب المقاومة ضد اليابان في منطقة بين خاي بأكملها. ومِن ثَمَّ فقد أصدرت لجنة الحزب الشيوعي بمنطقة بين خاي آنذاك أوامرها بمكافأة فريق جياو قاو. وفي تلك الأيام، كان أعضاء فريق جياو قاو يعيشون أسعد أيام حياتهم، إلا أن هذه السعادة البالغة لم تَدُم طويلًا، فبعد أيام قليلة وقعت حادثتان عَكَّرَتا صَفْوهم: أما الحادثة الأولى فهي قيام سَرِيَّة بين خاي المستقلة بالاستيلاء على كميات الأسلحة والذخيرة الكبيرة التي حصل عليها أعضاء فريق جياو قاو خلال معركة قرية ما ديان. وكان القائد جيانغ قائد فريق جياو جيانغ قد أدرك بصفته قائدًا أن قرار لجنة الحزب الشيوعي في ضم الأسلحة والذخيرة قرار صائب تمامًا، إلا أن أعضاء الفريق من الجنود العاديين كانوا متذمرين ومستائين من هذا القرار ولا يتوقفون عن توجيه اللوم والسباب للجنة. وعندما جاء أعضاء سرية بين خاي المستقلة لنقل الأسلحة والذخيرة، كانوا قد رأوا أعضاء فريق جياو قاو شاحبي الوجوه، وقد بدَا عليهم الندم على ما كان منهم، أما الحادثة الثانية فهي موت تشينغ ما تزه الذي كان قد أبْلَى بلاءً حسنًا خلال معركة قرية ما ديان شنقًا معلقًا على شجرة صفصاف عند مدخل القرية، وأشارت جميع الأدلة إلى أنه قد انتحر، ولم يكن قد خلع عنه آنذاك جلد الكلب الذي كان يلتحف به، مما أدَّى إلى أنه كان يبدو من الخلف، وكأن المنتحر كلب، بينما كان يبدو من الأمام إنسانًا.

٩

ومنذ أن قامت جدتي بغسل جسد زوجة جَدِّي بالماء الساخن، توقَّفَت زوجة جَدِّي تمامًا عن الصياح والصراخ، كانت الابتسامة الرقيقة لا تُفارِق وجهها الممتلئ بآثار الجروح، لم يتوقف النزيف من الجزء الأسفل من جسدها، وكان جَدِّي قد أحضر لها طبيبًا من القرية، وأخذت كمًّا كبيرًا من الأدوية، إلا أن النزيف كان يزداد يومًا بعد يوم. امتلأت غرفة جدتي آنذاك بكميات كبيرة من الدم، فقد كانت زوجة جَدِّي قد نزفت تقريبًا كل دمائها، حتى بدت أذناها شفافة تمامًا مثل هلام النشاء.

أما آخِر طبيب جاء لعلاج زوجة جَدِّي فكان شيخًا أحضره الجد لوو خان من مدينة بينغ دو، وكان ذلك الطبيب شيخًا فوق الثمانين، ذا لحية فضية ورأس أصلع وأظافر طويلة، يعلق في عروة عباءته مشطًا من قرن الأبقار لتمشيط لحيته الطويلة، وخلة أسنان من العظم وقطنة لتنظيف أذنه، وكان أبي قد رأى هذا الطبيب وهو يضغط بأصابع يده على معصم زوجة جدي. وما إن انتهى من الضغط على معصمها الأيسر، راح يضغط على معصمها الأيمن، وبعْدَ أن انتهى من الضغط على المعصم الأيمن حتى قال: «جَهِّزُوا لجنازتها!»

راح جَدِّي وجدتي يشيعون الطبيب الشيخ، وبدَءُوا يشعرون بحزن شديد. انشغلَتْ جدتي طوال الليل في حياكة ثوب الحداد لزوجة جدي، بينما أرسل جَدِّي الجد لوو خان إلى النجار ليصنع لها تابوتًا.

في اليوم التالي، استطاعت جدتي بمساعدة عدد من جاراتها حياكة ثياب جديدة لزوجة جدي، وارتدت زوجة جَدِّي الثياب الجديدة، كانت عبارة عن عباءة من الحرير الأحمر وسروال من الساتان الأزرق وتَنوُّرة من الحرير الأخضر، وحذاء مطرز من الساتان الأحمر، ثم رَقدتْ زوجة جدي أعلى مصطبة التدفئة، وعَلتْ وجهها ابتسامة مشرقة.

وفي الظهيرة رأى أبي بومة سوداء تقف أعلى سقف الغرفة، أصدرَت صوتًا حزينًا، فعثر أبي على حجرٍ صغيرٍ وضربها به، فقفزت البومة مسرعة حتى لاذت بالفرار من أمامه.

وفي موعد إشعال المصابيح، عاد مجموعة من عمال فرن صناعة النبيذ بالتابوت الخشبي، وقامت جدتي بإشعال مصباح الزيت داخل الغرفة ووضعت بداخله ثلاثة من أعواد الإضاءة نظرًا للظروف الخاصة استعدادًا لجنازة زوجة جدي، وانتشرت من ذلك المصباح رائحة ذكية مثل رائحة لحم الغنم المحترق، وراح الجميع ينتظرون قلقين تلك اللحظة التي ستلفظ فيها زوجة جَدِّي أنفاسها الأخيرة. اختبأ أبي خلف باب الغرفة وراح ينظر إلى أذني زوجة أبيه التي كانت تبدو شفافة تمامًا مثل الكهرمان، وقد انتابه شعور بالغرابة الشديدة مما ترى عيناه. شعر أبي بأن طوب الغرفة يتساقط بفعل تلك البومة السوداء، وأحس وكأنه يرى عيني البومة البارقتين، وأنه يسمع صوت نعيبها. كان شعر رأس أبي يقف مثل السلك المعدني عندما يحيره أمر ما. وفجأة فتحت زوجة جدي عينيها، وبدت عيناها ثابتتين، وجفناها يتحركان وكأنهما قطرات من المطر المُركَّز. بينما كان لحم وجنتيها يتحرك وشفتاها تهتزان بشكل متواصل، ثم سمعها تصيح بصوت أسوأ من مواء القطط. وانتبه أبي إلى تَحوُّل لون الفتيل داخل المصباح إلى اللون الأخضر، وفَقدَ وجه زوجة أبيه ملامحه البشرية تحت ضوء المصباح الأخضر.

وفي بداية الأمر كانت جدتي في غاية السعادة بعودة الروح إلى زوجة جدي، ولكن لم يَكَد يَمُر وقت طويل حتى تَحوَّلت تلك السعادة إلى رعب شديد.

قالت جدتي: «ما الذي أصابكِ يا أختي الصغيرة؟»

فراحت زوجة جَدِّي تسبها قائلةً: «أيتها العاهرة! إنني لن أرحمك أبدًا، لقد قَتلتِ جسدي، ولكنك لن تستطيعي قتل قلبي، إنني سوف أنتقم منك شر انتقام، سأسلخ جلدك سلخًا لا هوادة فيه!»

وقد استطاع أبي أن يميز أن الصوت الذي يسمعه الآن ليس صوت زوجة أبيه الذي يعرفه، إنه أقرب ما يكون لصوت عجوز طاعنة في السن.

استطاعت زوجة جَدِّي بسبابها أن تجبر جدتي على السكوت.

وهكذا راح جفْنَا زوجة جَدِّي يرتجفان بشكل سريع، بينما كانت لا تتوقف عن الصراخ حينًا والسباب حينًا آخر، وقد هز صوتها جميع أرجاء الغرفة، وسرَت داخل الغرفة نوبة هواء باردة جدًّا. واستطاع أبي أن يرى بوضوح أن حنجرة زوجة جَدِّي كانت متصلبة تمامًا، وعجز عن أن يعرف مصدر ذلك الصراخ.

كان جَدِّي في حيرة وقلق شديدين، فأرسل أبي إلى الفناء الشرقي ليستدعي الجدو لوو خان. وقد كان بإمكانه أن يسمع وسط الفناء الشرقي صوت صراخ زوجة جَدِّي المرعب. كان هناك سبعة أو ثمانية من عمال فرن النبيذ يَتحدَّثون داخل غرفة الجد لوو خان، وما إن رأوا أبي يدخل إلى الغرفة، بادَرُوا بالصمت، فقال أبي: «أيها الجد لوو خان، إن أبي بالتَّبنِّي يدعوك إليه.»

فدخل الجد لوو الغرفة، وبدأ بإلقاء نظرة على زوجة جدي، ثم سحب جَدِّي من طرف ثيابه إلى خارج الغرفة، وتبعهم أبي إلى الخارج، وقال الجد لوو خان مخاطبًا جدي: «سيدي الفاضل، لقد ماتت منذ وقت طويل، ولا أعرف أي روح شيطانية سكنت جسدها.»

لاذ الجد لوو خان بالصمت ولم ينبس ببنت شفة، وعندها سمع زوجة جدي تكيل له السباب المقذع بصوت مرتفع قائلةً: «وأنت أيها الكلب لوو خان! يجب أن تموت شر ميتة، فسأسلخ جلدك وأقطع لك مذاكيرك.»

فنظر جَدِّي والجد لوو خان إلى بعضهما البعض مرعوبين دون أن يتفوه أحدهما بكلمة واحدة.

وفكَّر الجد لوو خان قليلًا، ثم قال: «فلتصبوا عليها قدرًا من مياه الخليج، فإن مياهه قادرة على طرد الأرواح الشريرة.»

هذا بينما كانت زوجة جَدِّي داخل الغرفة تكيل له السباب المقذع.

فحمل الجد لوو خان قدرًا من مياه الخليج المتسخة، واصطحب معه أربعة من عمال فرن النبيذ ذوي بنية قوية، وما إن وصلوا إلى وسط الفناء حتى سمعوا صوت زوجة جدي، وهي تضحك بصوت مرتفع قائلةً: «أيها الكلب لوو خان، فلتصب مياهك، فلتصب مياهك، فإن سيدتك ستشربها كاملة!»

ورأى أبي أحد العمال، وقد راح يحشر قمعًا معدنيًّا من الأقماع المستخدمة في بيع النبيذ داخل فم زوجة أبيه، بينما رفع عامِل آخَر قِدْر المياه، وراح يصب الماء داخل فمها، وقد انسابت المياه داخل القمع بسرعة، حتى يكاد الناظر أن يشك في أن تلك المياه قد انسابت جميعها داخل جوف زوجة جدي.

وما إن انتهوا من صب قدر المياه داخل جوف زوجة جدي، حتى هدأت تمامًا، وبدت بطنها منبسطة وصدرها يتحرك، وكأنها تأخذ نفسًا عميقًا.

وهنا التقط الحضور أنفاسهم مسرورين بعودة الحياة إليها من جديد.

فقال الجد لوو خان: «حسنًا حسنًا!»

وأحس أبي مرة ثانية أن هناك وقْعُ أقدام فوق سقف الغرفة، وكأنه وقع أقدام تلك البومة السوداء.

وعاوَد وجه زوجة جَدِّي الضامر يشرق بابتسامة جذابة، وبدت رقبتها مشدودة مثل رقبة دجاجة لحظة الصياح، ولمع جسدها، وقد خرجت كمية من المياه من داخل فمها في أثناء الصياح، وتَجمَّعَت المياه للتَّفرُّق فجأة في جميع الاتجاهات وكأنها براعم زهور الأقحوان، وتناثَرت لتملأ ثوب حِدَادها.

شعر العمال الأربعة بالرعب من خروج تلك الكمية الكبيرة من المياه من فمها، ففروا من جانبها، بينما راحت زوجة جَدِّي تصيح فيهم قائلةً: «فروا، فروا، فروا، ولكنكم لن تتمكنوا من الهروب مني ولن تفلتوا من يدي.»

شعر العمال بالرعب الشديد من صراخها وتهديدها لهم.

وراح الجد لوو خان ينظر إلى جَدِّي متوسلًا إليه، وجدي يبادله النظرة نفسه. وتقابَلتْ عيونهم لتصدر عنهما تنهيدة تمتلئ بالرعب الشديد مما يرون.

اشتدت حِدَّة سباب زوجة جدي، حتى إنها لم تكتف بالسباب فقط، بل راحت تهز ذراعيها وقدميها هزًّا قويًّا. قالت: «أيها الكلاب اليابانية، وأيها الكلاب الصينية، إنكم سوف تنتشرون بعد ثلاثين عامًا في كل مكان، وأنت يا يو جان آو، لن تَفلِتَ مني أبدًا، فالنصر دائمًا للأقوى، ومصيبتك الأكبر لم تأتِ بعدُ!»

فانحنى جسد زوجة جَدِّي مثل القوس، وكأنها تستعد للجلوس.

وصاح الجد لوو خان بصوت مرتفع: «لا تتركوها هكذا، يجب حمل الجثة كما هي! أسرعوا وائتوا بمنجل معدني!»

فألقت إليهم جدتي بالمنجل.

فتشجع جَدِّي وراح يحكم سيطرته على زوجته، بينما تقدم الجد لوو خان وراح يضغط على قلبها بالمنجل، ولكن أنَّى لهم ذلك؟

قام الجد لوو خان، وهمَّ أن يغادر المكان، فخاطبه جَدِّي قائلًا: «لا يمكن أن تغادر أيها العم لوو!»

فصاح الجد لوو خان: «فلتسرعي يا سيدتي وتأتي لنا بمِجْرَفة معدنية!»

وهكذا هدأت زوجة جَدِّي بعد أن قاموا بالضغط على صدرها بواسطة مجرفة تستخدم في تجريف الأرض الزراعية.

وهنا تَحرَّك جَدِّي والجد لوو خان، ثم تبعهم أبي إلى خارج الغرفة.

وبقيت زوجة جَدِّي وحيدة تتعذب داخل الغرفة، وقد تركها جَدِّي والجد لوو خان وأبي وخرجوا إلى الفناء الكبير.

راحت زوجة جَدِّي تصيح داخل الغرفة قائلةً: «يا يو جان آو، إنني أرغب في أكل دجاجة ذات أقدام صفراء!»

فقال جدي: «فلتصطادوا لها الدجاجة التي طلبَتْها!»

فقال الجد لوو خان: «مستحيل، مستحيل، إنها قد فارقت الحياة منذ وقت طويل!»

فقالت جدتي: «أيها العم لوو خان، فتفكر بسرعة في حل يرضيها!»

فقال الجد لوو خان: «أسرع يا جان آو بالذهاب إلى باي لان جي واستدْعِ أحد ساكني الجبال!»

وعند فجر ذلك اليوم، اشتد صوت سباب وصراخ زوجة جدي، وقد راحت تسب الجد لوو خان قائلةً: «أيها الكلب لوو خان، لتكن بيني وبينك عداوة إلى أبَدَ الآبِدِين!»

ورافق الجد لوو خان ذلك الرجل من أهل الجبل إلى داخل الفناء، بينما كان صوت سباب زوجة جَدِّي قد تَحوَّل إلى مُجرَّد تنهدات.

كان ذلك الرجل من أهل الجبال في حوالي السبعين من عمره، يرتدي عباءة سوداء، مرسومًا عليها من الأمام والخلف صور غريبة جدًّا. يحمل فوق ظهره حربة تستخدم في تقطيع الأخشاب، ويقبض بيده على صرة.

واستقبله جَدِّي عند مدخل الغرفة، وعرف أنه هو الشيخ لي الذي كان قد ساعد زوجة جَدِّي في طرد روح ابن عرس الشريرة التي لبستها منذ عدة سنوات مضت، ولكن الشيخ لي بدَا الآن نحيفًا أكثر مما كان عليه آنذاك.

وضرب الشيخ لي ستارة النافذة بحربته، وراح ينظر إلى داخل الغرفة، ثم حوَّل نظره عن الغرف، وقد علَا وجهه الشحوب، ثم راح ينحني أمام جَدِّي بخضوع قائلًا: «سيدي الفاضل، إن قوة هذه الروح أقوى من قدراتي بكثير، وأخشى أن أعجز عن طردها.»

انتاب جَدِّي قلقٌ شديدٌ، وقال مخاطبًا الشيخ الكبير: «أيها الشيخ لي، إنه لا يمكنك مغادرة هذا المكان إلا بعد أن تساعدنا في التخلص من هذه الروح، وعندها سأشكرك شكرًا جزيلًا وأجزل لك العطاء.»

فرمش الرجل بعينيه الغريبتين، ثم قال: «حسنًا، ولتدعوني أرتشف رشفة من حساء دم الخنزير، وسأظهر بعدها قوة تحطم الجبال!»

وهكذا، فإنه لا يزال أهل القرية حتى يومنا هذا يتداولون فيما بينهم حكاية نجاح ذلك الرجل من أهل الجبل في طرد تلك الروح الشريرة من جسد زوجة جدي.

قيل بأن ذلك الشيخ لي كان يسير وسط الفناء، وهو يتلو بعض الكلمات، ويُلَوِّح بحربته، بينما كانت زوجة جَدِّي تَتقلَّب على المصطبة ولا تتوقَّف عن البكاء بصوت يهز المكان هزًّا.

وفي نهاية الأمر، طلب الشيخ من جدتي أن تحضر له طستًا خشبيًّا، وتملأه حتى منتصفه بالمياه الصافية، ثم أخرج الرجل من صرته بعض أكياس الدواء وصبها داخل الطست، وراح يخلطها بالمياه الصافية بواسطة حربته، وأثناء ذلك كان لا يتوقف عن تلاوة بعض التعاويذ، وبدأت مياه الطست تتحول تدريجيًّا إلى اللون الأحمر في حمرة الدماء، ثم قفز الرجل قفزة على الأرض، وقد تصبب وجهه عرقًا، وراح يقفز لأعلى ثم يتساقط على الأرض وهو يبصق هنا وهناك حتى سقط مغشيًّا عليه.

وعندما أفاق الرجل من غيبوبته، كانت زوجة جَدِّي قد لفظت نَفَسها الأخير، وخرجَتْ رائحة جسدها المتعفن عبر النافذة.

وعندما همُّوا أن يلفوها بثياب الحداد، كان الجميع يضعون على أفواههم فوطًا تم نقعها في نبيذ الذُّرَة.

١٠

مرت عشرة أعوام كاملة على هَجْري لمسقط رأسي، ثم عُدتُ بعدها مُحمَّلًا بمشاعر المودة الزائفة التي أُصِبتُ بالعدوى بها من الطبقة الراقية، عُدتُ بجسدي الذي لوثته حياة المدينة، ووقفت من جديد أمام قبر زوجة جدي، بعد أن قمت بزيارة الكثير من القبور التي صادفتني في طريقي إلى قبرها. تركَتْ حياة زوجة جَدِّي المُشرِقة ذكرى مثيرة للانتباه الشديد في تاريخ مسقط رأسي «الذي يُعتبر تاريخًا مليئًا بالأبطال والشجعان والصعاليك». استطاعت من خلال تجربة موتها الغريبة أن تثير كمًّا كبيرًا من المشاعر الغامضة التي كانت تكمن في أعماق نفوس أهل قرية دونغ بيي بمدينة قاو مي، هذه المشاعر الغامضة لا يمكن أن تنبت وتنمو وتتعاظم وتصبح سلاحًا فكريًّا بإمكانه مواجهة عالَم المجهول، نقول إنها لا يمكن أن تحقق ذلك إلا في العالم الفكري لشيوخ مسقط رأسي الذي يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ سُكَّر البنجر حلو المذاق، والذين يشغلهم تاريخ هذه البلدة. كنت في كل مرة أعود فيها إلى مسقط رأسي، أكتسب الكثير من وحي هذه القوة الغامضة من خلال عيون أهل هذه البلدة المخمورة. وكنت في ذلك الحين لا أرغب في عقد أية مقارَنات أو مقابلات، إلا أن ذلك القصور الذاتي في فكري المنطقي قد أجبرني على الخوض في دوامة المقارَنة والمقابلة. اكتشفتُ مذعورًا من خلال الفكر المتواصل أن تلك العيون الجميلة التي تَعرَّفْتُ عليها جيدًا خلال بُعدي عن مسقط رأسي على مدى عشرة أعوام، اكتشفتُ أن جزءًا كبيرًا من تلك العيون إنما هي مثبتة في رءوس أرانب منزلية ذكية بارعة، وأن الرغبة القوية هي التي جعلت تلك العيون تبدو محمرة مثل التفاح الجبلي، وتظهر بها بعض النقاط السوداء. حتى إنني أعتقد من خلال المقارَنة والمُقابَلة، في وجود نوعين مختلفين من البشر، وأن هؤلاء جميعًا يَتطوَّرُون وَفْق نُظُم تخص كل جماعة منهم، وأن كل نوع منهم يسير نحو ذلك العالَم الكامل الذي تُحدِّده قيمه الخاصة. وأخشى كثيرًا أن تُصاب عيناي بالعَدْوى وتظهر مثل ذلك الذكاء البارع، أخشى أن يكرر لساني تلك الكلمات التي سرقها آخرون من كُتُب آخَرِين، وأخشى أيضًا أن أصبح كتابًا رائجًا من كتب «مقتطفات القُرَّاء».

وهنا خرجَتْ زوجة جَدِّي من داخل قبرها، ممسكة بمرآة نحاسية مُذَهَّبة، وقد ظهرَتْ بعض التجاعيد على جانبي شفتيها المكتنزتين، وقالت: «أيها الحفيد الذي لم ألده، حافِظْ على كرامتك!»

بدت زوجة جَدِّي في تلك اللحظة في ثياب أنيقة، كما كانت لحظة لفها بثياب الحداد، وبدت ملامحها أكثر شبابًا وجمالًا مما تخيلت، ومضمون ما تحدثت به إليَّ يشير إلى أنها تمتلك فكرًا أعمق بكثير من فكري المحدود، فهي تمتلك فكرًا ومشاعر تفيض بالحنو والوقار والمهابة والمرونة، بينما يبدو فكري مثل غلاف مزمار يهتز في السماء.

رأيتُ نفسي في مرآة زوجة جدي، واكتشفتُ أن عَينَيَّ تمتلكان ذكاء وبراعة تلك الأرانب المنزلية، وأن هناك صوتًا لا يَخصُّني يخرج من فمي، تمامًا مثل ذلك الصوت الذي كان يصدر عن زوجة جَدِّي أثناء احتضارها والذي لا يخصها على الإطلاق، وإنني أصبحتُ ممهورًا بختم الأشخاص المعروفين.

وكاد الخوف يقتلني.

قالت جدتي بلهجة يملؤها التسامح واللين: «عُد يا حفيدي! عد حتى تُكْتَب لك النجاة. إنني أعلم جيدًا أنك لا ترغب في العودة، أعلم أنك تخشى أكوام الذباب والناموس والحشرات، أعلم أنك تخشى الأفاعي التي تملأ حقول الذُّرَة الرفيعة. أعلم أنك تُقدِّس الأبطال، وأنك تَكرَه الصعاليك. ولكن مَن مِنَّا لا ينتمي إلى هؤلاء الأبطال والشجعان والصعاليك؟ إنني الآن أشم رائحة الأرانب المنزلية الماكرة التي عُدتَ بها من تلك المدينة، فلتسرع يا حفيدي إلى نهر موا شوى وتغطس بداخله ثلاثة أيام بلياليها — ولكنني أخشى أن تشرب صغار الأسماك من المياه الكريهة التي تغتسل بها، وأن يظهر في رءوسها آذان مثل آذان تلك الأرانب المنزلية الماكرة!»

اختفَتْ زوجة جَدِّي فجأة داخل قبرها، وعمَّ حقول الذُّرَة صمت وهدوء شديدان، وانعكست على المكان أشعة الشمس الحارقة، وسكنت الرياح. وقد تغطَّى قبر جدتي بكميات كبيرة من الأعشاب المختلفة، عَبَّقَت المكان برائحتها الزكية، وكأن شيئًا لم يحدث، وجاء من بعيد صوت غناء الفلاحين الذين كانوا مُنشغِلِين بعزق الأرض.

كان قبر زوجة جَدِّي قد أحاطت به مساحات شاسعة من الذُّرَة الرفيعة المهجنة التي جاء بها الفلاحون من جزيرة خاي نان، وامتلأت تلك المساحات الشاسعة من أراضي ريف دونغ بيي بمدينة قاو مي بتلك الذُّرَة الرفيعة المهجنة. وها هي الذُّرَة الرفيعة الحمراء في حمرة الدم، والتي كثيرًا ما تَغنَّيتُ بها، قد اختفت تمامًا بفعل فيضان الثورة العارم، لتحل محلها هذه الذُّرَة الرفيعة المهجنة ذات السيقان القصيرة والأوراق الكثيفة والمسحوق الأبيض والسنابل الطويلة مثل ذيول الكلاب، والتي تتمتع بمحصول وفير جدًّا، ومذاق مر لاذع أدَّى إلى حالات إمساك كثيرة بين جموع الشعب. كانت وجوه جميع أهل القرية فيما عدا سكرتير الحزب والقيادات الأعلى منه، كانت وجوه جميع الأهالي تبدو شاحبة كَالِحة ضامرة مثل قطعة حديد أصابها الصدأ.

إنني أكره الذُّرَة المهجنة كرهًا شديدًا.

فهذه الذُّرَة المهجنة تبدو لي وكأنها لن تنضج إلى الأبد، وأنها ستبقى إلى أبد الآبِدين على هذه الحالة عيونها الرمادية الخضراء شبه مُغْلقَة. وقفتُ أمام قبر زوجة جدي، ورُحتُ أنظر إلى حقول الذُّرَة المُهجَّنة القبيحة، التي احتَلَّت مساحة كبيرة جدًّا من مساحة الذُّرَة الرفيعة الحمراء الأصيلة. إن الذُّرَة المهجنة تملك على أية حال اسم الذُّرَة، إلا أنها لا تمتلك السيقان العالية التي تتميز بها نباتات الذُّرَة. تملك اسم الذُّرَة، ولكنها تفتقر إلى لون الذُّرَة المشرق، أهم ما ينقص هذه الذُّرَة المهجنة هو روح نباتات الذُّرَة، لقد استطاعت أن تلوث بملامحها الغامضة ذلك الجو الصافي الذي يتميز به ريف دونغ بيي بمدينة قاو مي.

شعرتُ بيأس شديد، وأنا محاصَر وسط المساحات الشاسعة من الذُّرَة المهجنة.

وقفتُ وسط معسكرات الذُّرَة المُهجَّنة وانشغلتُ بالتفكير في تلك الصورة الجميلة الخلابة التي لم يَعُد لها أثر في أرض الواقع، في تلك الحمرة الشديدة التي كانت تمتد على مدى مساحات الذُّرَة الحمراء في شهر أغسطس وتحت السماء الصافية والهواء المنعش. وإذا ما فاضت مياه الخريف، تَحوَّلَت عندها مساحات الذُّرَة إلى محيطات صغيرة، وبَدَت أعواد الذُّرَة الحمراء ترتفع نحو السماء العالية، وهي منغرسة داخل المياه الصفراء المُعكَّرة. وإذا ما طلعت شمس الصباح وانعكسَت على مساحات المياه الكبيرة الممتدة وسط حقول الذُّرَة، فإنها تملأ الأرض بألوانها المُتعدِّدة الجميلة الخلابة.

تلك هي البيئة الإنسانية الجميلة التي أتطلع وسأظل أتطلع إليها إلى الأبد.

لكنني أبدو الآن محاصَرًا وسط حقول الذُّرَة المهجنة، وقد طوقتني أوراقها مثل حية كبيرة حتى عجزتُ عن الفكاك منها، تَسمَّمت أفكاري بسمومها الخضراء الداكنة، حتى أصبح من الصعب أن أتنفس وهي تحاصرني حصارًا شديدًا. وهكذا، غرقتُ في الحزن الشديد لعجزي عن أن أنجو بنفسي من هذه المعاناة.

عندها سمعتُ صوتًا حزينًا من أعماق الأرض، بدَا صوتًا مألوفًا وغريبًا في الوقت نفسه، صوتًا يشبه صوت جدي، صوت أبي، صوت الجد لوو خان، صوت جدتي، ويشبه صوت زوجة جَدِّي الثانية. وهنا سمعت أرواح عائلتي يدلونني إلى طريق النجاة: أيها الابن المسكين، الضعيف، الغيور، الحقود، كثير الشك، الذي أضَلَّه شراب النبيذ السام، أَسرِع أيها الابن إلى نهر موا شوى وانقَعْ جسدك داخل مياهه ثلاثة أيام بلياليها، تَذكَّر جيدًا هذه المدة، لا يمكن أن تزيد أو تنقص يومًا واحدًا، حتى تغسل جسدك وروحك مما عَلق بهما، عندها سَيُمكِنك العودة إلى عالمك الذي تبحث عنه. هناك جنوب جبل باي ما شان وشمال نهر موا شوى، توجد شتلة ذرة رفيعة حمراء أصيلة، عليك أن تبذل قصارى جهدك حتى تعثر عليها، ارفعها عاليةً واخترق بها عالمك المليء بالأشواك المستبدة، هي تَمِيمَتك، وطُوطِم شَرَف هذه العائلة ومَجْدها، إنها رَمْز رُوح تراث ريف دونغ بيي بمدينة قاو مي!

١  «نظام الضمانات الخمسة» ويشير إلى نظام الضمانات الذي سنَّته الحكومة الصينية لمساعدة الشيوخ وذوي العاهات والقاصرين الذين تتوافق ظروفهم وشروط هذا النظام، حيث تضمن لهم الدولة المأكل والملبس والعلاج والإقامة ومصاريف الجنازة ومصاريف التعليم لأبنائهم اليتامى. (المترجم)
٢  شيان تساي قه دا: وتعني في اللغة الصينية عناقيد الخضر المملحة، حيث يقوم أهل شمال شرق الصين بالاحتفاظ بكميات من الخضر بتمليحها واستخدامها في فصل الشتاء القارص. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤