مقدمة المترجم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المنفرد بالبقاء والقدم، مبيد الأمم ومعيده من العدم والصلاة والسلام على نبيه الذي بعثه بلسان الصدق لهداية الخلق إلى صراط الحق، وعلى آله وأصحابه الذين خلَّدوا من المآثر والآثار ما يتجدد لنا به الافتخار، على تعاقب الليل والنهار.
وبعد؛ فهذا كتاب في تاريخ الأمم القديمة ببلاد المشرق مهبط أسرار الحكمة، ومشرق أنوار العرفان. وضعه باللغة الفرنساوية العلامة الثقة الحجة الموسيو ماسبيرو، الذي يُرجَع إلى معارفه في بيان ظلمات التاريخ القديم، ويُعتَمد على أقواله في شرح أحوال الأمم الماضية والقرون الخالية وخصوصًا أجدادنا المصريين؛ لوثيق معرفته بكتاباتهم وكناياتهم، وتمام درايته فيما يتعلق بحياتهم؛ حتى أصبح ببلاد أوروبا، وهو عمدة أهل التحقيق والتدقيق وأستاذ المستنبطين والمستكشفين، وقد ضمنه الرجل كثيرًا من آثار بحثه وتنقيبه، واجتهد في تقريبه للأذهان بعبارة امتزجت فيها الفائدة بالطلاوة، وشخصت للقارئ معيشة أولئك الأقوام، كما هي بالتمام في تلك الأيام. لذلك ما لبث هذا الكتاب أن ظهر بفرنسا حتى أُهرعت الأمم المتمدنة إلى ترجمته للغات أوروبا كلها بعد أن تعدد طبعه في فرنسا جملة مرار.
ولما اطلع عليه سعادة يعقوب باشا أرتين وكيل نظارة المعارف العمومية، ورآه منطبقًا على برنامج التدريس بالمدارس الأميرية أراد أن لا تكون مصر محرومة من ثمراته، فإن أهلها أولى الأمم بمعرفة أحوال أسلافهم، فقد بنى لإتحاف أهل مصر بل أهل اللغة العربية بهذا الكنز الثمين؛ فشمرت عن ساعد الجد في تعريبه، طبق الأصل بالتمام، مع العناية بضبط ما فيه من الأعلام واختيار الألفاظ الموفية بالمرام.
وقد رأيت من باب الواجب تعليق بعض الشروح في متن الكتاب أو في حواشيه، بحسب المقام، وكلها فيما يختص بالتاريخ والجغرافية والترجمة ونحو ذلك من أبواب العرفان. وأظن أن المطلع عليها سيعرف لي تعبي؛ إذ يرى في هذه الحواشي كثيرًا من الفوائد المتشتتة في كتب العرب، مما اعتاد الناقلون عن ألسنة الأعاجم في هذا الزمان على إهماله، أو عدم التنقيب عنه من باب التكاسل أو التجاهل.
وقد حلَّيت ترجمتي هذه بالصور التي ازدان بها الأصل الفرنساوي، كما أني بذلت في تعريب الخرط وضبط أسماء المواقع الجغرافية عناية وتعبًا لا يشعر بشيء منهما إلا من كابد مثل هذا العمل الشاق، الذي يوجب ضياع الأيام بحثًا في المطولات المتنوعة والمعاجم المتعددة؛ للوقوف على حقيقة اسم واحد، خصوصًا وأن هذه الخرط أغلبها يختص ببلاد الشرق. وقد نقل الإفرنج أسماءها محرَّفة مشوهة أو تعارفوها مختلة معتلة، فكان إرجاعها إلى أصلها موجبًا لتعب كثير قد لا يخلو الخائض عبابه من الزلل والتقصير، ولكني أقدر أجاهر بأنه لم يظهر في اللغة العربية إلى يومنا هذا خرائط أكمل من التي ترجمتها ضبطًا وإتقانًا، أو أوفى منها إحكامًا وبيانًا.
ولي حينئذ أمل وطيد في أن يكون لترجمتي هذه نصيب وافر في استفادة الدارس، وتذكير الباحث؛ حتى تكون حسنة من حسنات مولانا وولي نعمتنا الخديو الأعظم «عباس حلمي الثاني» الذي رفع رايات المعارف، وسعى بهذه الأمة في طريق الجد والمجد والكمال أدامه الله بدرًا في سماء مصر وفخرًا لهذا العصر آمين.