وصف مصر القديمة والكلام على النيل
(١) النيل
يخرج النيل من عيون وراء خط الاستواء في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، ثم يذهب مستمدًّا بالمياه الجارية من البحيرات الكبيرة بأفريقية الوسطى، ويأخذ نحو الشمال مارًّا بسهول فسيحة وفدافد واسعة تتخللها غابات ومستنقعات، ويمده بحر الغزال من جهة اليسار بما يزيد من مياه الحوض الذي يمتد بغير انتظام بين دارفور والكونجو.
ومن جهة اليمين يجيئه نهر سوبات والنيل الأزرق ونهر تقزى بالمياه التي تنحدر من جبال الحبشة، ثم لا يلبث أن يمر بالهضبة الكلسية (الجيرية) التي في الصحراء، ويمر في أخدود متعرج بتلك الهضبة، ثم يأخذ مجراه بتثنٍّ وانعطاف، فيقاطعه خمسة من الجنادل، ثم يسير الهوينا غير مستمد بعد بشيء من المياه، إلى أن ينصب في البحر الأبيض المتوسط. ومصر هي القسم الشمالي من هذا الوادي فيما بين شلال أسوان والبحر المالح، وما زالت معتبرة كذلك في كل عصر.
(٢) النيل في مصر
(٣) فيضان النيل
تهطل الأمطار الغزيرة في شهر فبراير من كل عام في البقعة التي فيها البحيرات الكبيرة، فيكون من ذلك ازدياد النيل وفيضانه ويمتد هذا الفيضان بسرعة من الجنوب إلى الشمال وينتشر في الوادي كله في بضعة شهور، وتصل مياه الفيضان إلى مدينة الخرطوم في أواخر شهر أبريل، ويظهر أثرها بما يرد إليها من مياه النيل الأزرق، ثم تسير الهوينا فيما بين أراضي النوبة حتى تصل مصر في أواخر شهر يونيو ويظهر أثرها في أسوان يوم ثمانية منه، وفي القاهرة يوم سبعة عشر منه، وبعد ذلك بيومين تعم أراضي الدلتا بأكملها.
وقبل ذلك بخمسين يومًا تهب على مصر ريح الخماسين، وتتوالى عليها من جهة الغرب من غير انقطاع، فتلفحها بنارها وسمومها؛ حتى إن كثيرًا من جهات القطر تكون كأنها قطعة من البادية متصلة بهذه الديار، ومتى طلعت عليها الشمس علاها الغبار وثار فوقها وهي جرداء قحلاء. فأينما رمى الإنسان بطرفه رأى الأرض على مدى البصر مشققة تشقيقًا متقاطعًا، ثم ترتفع في الجو طبقة من الغبار الأزرق فتحيط بالأشجار وتعدمها البهجة والحياة. وأما النيل فيقل اتساعه إلى نصف عرضه المعتاد، وتهبط مياهه حتى تكون نصف عشر ما كانت عليه في شهر أكتوبر، ثم لا يلبث أن يعود زاخرًا حتى يركب الجسور. وفي نحو منتصف شهر يوليو يخشَى من تجاوزه لها وطغيانه عليها؛ فتقطع السدود المانعة له فتنساب مياهه إلى أرض المزارع، وتعمها في بضعة أيام حتى تضرب من الجبل الشرقي إلى الجبل الغربي؛ فيصبح الوادي وهو لجة من الماء العكر يجري بين امتدادين من الرمال والصخور، تطفو عليها القرى والروابي وتلوح للرائي كأنها قمم خضراء ونقط سوداء، وتخترق اللجة جسور تجمع بين القرى فتقسمها إلى مربعات غير منتظمة. ويكون منتهى الزيادة في بلاد النوبة في آخر شهر أغسطس، وفي القاهرة والدلتا بعد ذلك بشهر واحد. ثم يقف الفيضان فلا يزيد النهر ولا ينقص نحو ثمانية أيام متواليات، وبعد ذلك تأخذ المياه في التناقص والهبوط بسرعة حتى إذا ما حل شهر ديسمبر عاد النيل إلى مجراه فلا يتعداه.
(٤) نباتات مصر وحيواناتها
وقد اشتهر من هذه النباتات نوعان هما؛ البردي والبشنين بما كان لهما من الشأن والأهمية في تاريخ مصر المقدس والملوكي. فكان البردي علامة رمزية على الدلتا واتخذوه ورقًا للكتابة في قديم الزمان، وأما البشنين فجعلوه عنوانًا لإقليم طيبة (الصعيد). وكان القدماء يطلقون اسم البشنين على ثلاثة أنواع من النبات ما بين زرقاء وبيضاء وحمراء، من غير تفرقة في الإطلاق، وقد كاد البردي يكون معدومًا، وأما البشنين فهو نادر الوجود. وكان سكان وادي النيل يتناولون كلًّا من النباتين غذاء مسلوقًا أو مشويًّا أو مطحونًا ومتخذًا خبزًا، وكان هذا الغذاء خاصًّا بالفقراء والمساكين، وكان القوم يؤثرون عليه ما تخرجه الأرض من غير كبير عناء ولا شديد عمل؛ كالترمس والفول والحمص والبامية والعدس والقمح خصوصًا، وغير ذلك من أنواع الحبوب؛ مثل الشعير والأذرة والأذرة العويجة. وكثير من الحيوانات المستخدمة المعروفة عندنا الآن كانت مجهولة في مصر الأولى؛ فإن الفَرس لم يدخلها إلا في حدود القرن العاشر قبل الميلاد، والجمل في أيام البطالسة، أما الثور والضأن والعنز والخنزير فقد وجدت صورها ورسومها على أقدم الآثار، وكذلك كثير من أنواع الكلاب الأهلية المستخدمة، والغزلان المستأنسة، وأما الأوز والبط فكان كثيرًا فيها، ولكن الدجاج لم يظهر له أثر بها وبقي نادرًا مدة طويلة من الزمان. وفيها شيء كثير من الأسماك منها ماهو كبير جدًّا، وأغلبها صالح للأكل. وأما الحيوانات المضرة المؤذية فهي قليلة، وكانت الآساد وبعض وحوش من فصيلة السنور؛ كالفهد والغيلس والبَبَر، وكثير من أصناف الضباع، وبنات آوى، والذئاب، تختلف إلى أطراف الصحراء. وكثير من العقارب والثعابين السامة مثل الحية القرناء، والثعبان الناشر تدب في المزارع والمساكن. أما فرس البحر فقد غادر بطائح الدلتا في أواخر القرن السادس عشر بعد الميلاد، وقد بقي التمساح في مكانه إلى أيامنا هذه حتى جاءت البواخر فطردته إلى ما وراء الشلال الأول.
(٥) الإله النيل وعبادته
خلاصة ما تقدم
-
(١)
يخرج النيل من البقعة التي بها البحيرات الإفريقية الكبرى، ويستمد في سيره بمياه الحبشة الواردة إليه بواسطة النيل الأزرق، ونهر تفزي ثم يجري بها في خلال النوبة ومصر الحقيقية حتى يصب في البحر الأبيض المتوسط.
-
(٢)
ومصر هبة من هبات النيل وتمتد من شلال أسوان إلى البحر المالح، وليست في بدئها إلا واديًا ضيقًا جدًّا، يبلغ متوسط عرضه ١٥ كيلومترًا. وفيما وراء القاهرة يكون هذا الوادي مثل سهل فسيح أو دلتا يتفرع فيها النيل فروعًا كثيرة وترعًا ثانوية، قبل أن ينصب في البحر من الفروع الثلاثة الأصلية التي لم يبقَ منها سوى اثنين في هذا الزمان؛ وهما فرع رشيد وفرع دمياط.
-
(٣)
يفيض النيل في كل عام وتصل الزيادة إلى أرض مصر في أوائل شهر يونيو، ثم تغمر الوادي بأكمله إلى أن يحل شهر أكتوبر، وفي أوائل ديسمبر تكون قد بلغت نهاية الكمال.
-
(٤)
إن تعاقب الفيضان في أوقات معينة يجعل الحيوانات والأشجار غير متوفرة في مصر بكثرة، تشبه ما هو حاصل في بلاد أوروبا وغيرها. وليس في هذا الوادي إلا قليل من الأشجار الكبيرة؛ مثل أصناف الأقاقيا والجميز وغابات من النخيل، وفيها كثير من النباتات المائية مثل البردي والبشنين. وأغلب الحيوانات الأهلية كانت معروفة فيها من قديم الزمان، ولكن الفَرس لم يدخلها إلا في حدود القرن المتمم للعشرين، قبل التاريخ المسيحي. وقد تلاشى منها كثير من الحيوانات الكاسرة والوحوش الضارية؛ مثل الأسد وفرس البحر، ولم يبقَ من التمساح إلا عدد قليل.
-
(٥)
وكان المصريون يعتبرون النيل إلهًا من آلهتهم، ويحتفلون له بمواسم عظيمة؛ تمجيدًا لشأنه وتعظيمًا لقدره.