الكلام على نينوي وذكر سرجون وخلافائه
(١) آشور ومدائنها
لم يكن للمدائن الواقعة على القسم الأوسط من دجلة شأن يذكر في تقدم هذه المدنية ونمو هذه الحضارة، وكانت كمتعاهدة مع بعضها، وأطلق عليها من مبدأ الأمر آشور، وهي واقعة على حافتي نهر دجلة من الجهة التي فيها ينصب إليه نهر كورنيب إلى المكان الذي فيه يدخل دجلة في سهول كلديا، التي تكونت من طمي النهر، وكانت منفصلة من جهة الشرق عن القبائل القاطنة في هضبة إيران بنهر الزاب الأكبر وأواخر أسناد الجبال الجوردية، وأما من جهة الغرب والجنوب الغربي فكانت تمتد نحو نهر الخابور والفرات دون أن تكون لها حدود معينة هناك، وكان القسم الشرقي منها ترويه نهيرات كثيرة وفيه كثير من الفلزات والمعادن، وهي خصبة جدًّا تنبت القمح والفاكهة على اختلاف أنواعها، وكانت تشقها في الأزمان القديمة ترع كثيرة مشتقة من دجلة ومن الأنهر التي تصب فيه، فتقوم مقام الأمطار التي يندر نزولها في مدة الصيف.
وكانت نينوي وكلخ وأربلة هي المدائن الثلاثة الأصلية فيها، وهي قديمة جدًّا؛ إذ كان تأسيسها في أول أزمان التمصير الكلداني وفي غربي النهر يمتد سهل أرض الجزيرة، وليس فيه خصوبة كثيرة، كما أن الري فيه لا يجري على طريقة الانتظام؛ فلذلك كانت موارد الثروة فيه أقل منها في الأول ومع ذلك كانت مدينة الآشور قائمة فيه، وهي أقدم المدائن الملوكية الآشورية.
(٢) المملكة الأولى الآشورية وذكر قصة نينوس وسميراميس
إن أقدم الملوك الآشوريين الذين وقفنا على أسمائهم لم يكونوا قبل القرن العاشر قبل الميلاد، وكانوا يعيشون خاملين تابعين بعض التبعية لملوك بابل، أما خلفاؤهم فقد تملكوا مع توالي الزمان على معظم الجزيرة، وحينما كان المصريون حاكمين على بلاد الشام كان هؤلاء الملوك معادلين لملوك بابل ولهم مثلهم صلات ودية وعلاقات حبية مع الفراعنة، ثم افتتحوا شيئًا فشيئًا البلاد الواقعة في الحوض الأعلى لدجلة، وانتزعوا كورًا وقلاعًا من الكلدانيين ومن القبائل المتوطنة على سطح هضبة إيران، فكان لآشور بهذه الكور وهذه القلاع مأمن من كل هجوم وعدوان، ثم في حدود سنة ١١٣٠ق.م عبر نهر الفرات الملك تغلا ثفلاصر الأول وهو من كبار الفاتحين النينويين، واخترق بلاد الشام الشمالية وضرب الجزية على أمم الخيثي، ولم يفعل الملوك المصريون من العائلة المتممة للعشرين شيئًا ما لإيقاف سيره أو لصد هجماته، ولكن خلفاءه لم يتمكنوا من حفظ فتوحاته؛ فقد هزمهم الشاميون وكسرهم البابليون؛ حتى اضطروا للبقاء في أرض آشور الحقيقية مدة لا تنقص عن قرنين.
ولما انتقل ذكر هذه الدولة الأولى إلى اليونان بالإبهام والخبط والاختلاط نقلوه إلى حكايات عجيبة وأقاصيص خارقة للعادة. فقد حكوا أنه في مبدأ التاريخ جاء أحد الرؤساء واسمه نينوس وبنى مدينة نينوي، وأحدث لنفسه في آسيا الغربية مملكة تشتمل على أرض بابل وبلاد الماديين وأرمنية وجميع البقاع الكائنة بين نهر السند والبحر الأبيض المتوسط، ولاقى سميراميس أثناء حصار بلخ؛ وهي ابنة رجل عادي تزوج بالإلهة درسيتو فاتخذ سميراميس حليلة، له وجعلها وريثته، فلما جلست على سرير الملك ابتنت بابل وجعلتها أوسع وأكبر من نينوي، وزخرفتها بالمباني العجيبة والآثار العظيمة، ثم سافرت لإتمام الحروب وشن الغارات. وكانت أينما مرت تخرق الجبال وتحطم الصخور وتمهد سبلًا طويلة جميلة وتبتني مدنًا مثل أكباتان (همذان) في بلاد الماديين وسميراموسرتا في أرمنية وطرسوس في كيليكيا، ولم تخلص منها مصر واتيوبيا ولكنها لاقت في بلاد الهند ما أوقف سيرها وفتوحاتها؛ فقد غلبها الملك ستارتوباتيس ورجعت إلى بابل. وإن ما كان لها من البأس والمجد لم يمنع القوم من المؤامرة والكيد على حياتها، فإن ابنها نينياس مالئ على قتلها، فتنازلت له عن الملك وانقلبت حمامة، فلما وقعت مملكتها في أيدي ملوك كسالى ضاق نطاقها شيئًا فشيئًا حتى ضاعت بالكلية في وسط الفتن والهيجان.
(٣) آشورنازرهابال (من سنة ٨٨٤ إلى سنة ٨٦٠ق.م) والدولة الآشورية الثانية
عاود آشورنازرهابال الأعمال التي بدأ بالشروع فيها تغلا ثفلاصر الأول، فجعل كلخ الواقعة على الشاطئ الأيسر لدجلة عاصمة بلاده، وقد أقام بها خلفاؤه مدة قرنين متواليين، وكانوا كلهم من المجاهدين المقاتلين الذين لا يأخذهم كلال ولا ملال ولا ينفكون عن ارتكاب القسوة والجفوة في محارباتهم، وهم سلمناصر الثالث (من سنة ٨٦٠ إلى سنة ٨٢٤) وسميرامان الرابع (من سنة ٨٢٤ إلى سنة ٨١٢) ورامَّانيراري الثالث (من سنة ٨١٢ إلى سنة ٧٨٢ق.م).
وقد استجمع هؤلاء الملوك الآشوريون جميع الصفات اللازمة للمقاتلين والمجاهدين كأحسن ما يكون من قوة جسدية ونشاط وحذق وثبات جأش وشجاعة صادقة وبأس شديد، فكانوا يجالدون بأنفسهم الأثوار الوحشية والآساد، وقد كانت كثيرة في تلك البقاع على أن هذه الفضائل الجميلة كانت تحف بها كل رذيلة ورذيلة. فكان أولئك الرجال سفاكين للدماء قد أشربت قلوبهم العنفوان والبهتان وانهمكوا في اللذات البهيمية، وتعمقوا في الختل والخداع والغدر والخيانة، واتصفوا بالكبرياء والقساوة. فكانوا أينما ساروا يهدمون المدائن ويحرقونها ويخوزقون من يعصاهم من الرؤساء أو يكشطون جلودهم وهم على قيد الحياة؛ فلذلك بقوا هم وأممهم متوغلين دوامًا في الهمجية والتوحش مع ما كان لهم من بهاء التمدن الخارجي ورونق الحضارة الظاهرية.
(٤) تغلا ثفلاصر الثالث (من سنة ٧٤٥–٧٢٦ق.م)
ثم تقلص ظل دولتهم بعد الملك رامَّانيراري الثالث مدة قرن ونصف تقريبًا، وضعفت مملكتهم حتى صارت منحصرة في أراضي آشور الحقيقية؛ حتى إذا جاء تغلا ثفلاصر الثالث (من سنة ٧٤٥ إلى سنة ٧٢٦) أعادها إلى ما كان لها من رفعة الشأن، فإنه أخذ بابل ودمشق وعاث في أرض إسرائيل، ونقل أهاليها إلى بلاد آشور، وقد شرع في تخريب مملكة السَّمَرَة، واقتفى أثره في ذلك ابنه سلمناصر الخامس (من سنة ٧٢٦ إلى سنة ٧٢١). وتم تدميرها على يد سرجون (في سنة ٧٢١ق.م) ولم يكن سرجون هذا من سلالة العائلة الملوكية مثل سلفائه الذين وليهم، فأسس عائلة جديدة وصلت آشور في أيامها إلى أوج الفخار ونهاية العز والاقتدار، وكان ملوك آشور إلى عهده يدركون معنى الفوز والانتصار بمثل ما يدركه فراعنة العائلة الثامنة عشرة؛ أي إن النصر هو عبارة عن سلب المغلوب كما يشاء الغالب، وضرب الجزية عليه، وأما بلاده فلا تدخل في حوزة المنتصر ولا تندرج ضمن مملكته. أما تغلا ثفلاصر الثالث وسرجون وخلفائهما فقد كان همهم استلحاق البلاد واستعمارها، فكانت الأقطار التي يرون فائدة في حفظها يخلعون العائلات الحاكمة فيها، ويضعون بها جنودًا من الأسارى الذين أصلهم من بلاد بعيدة، ثم يعهدون بحكومتها إلى بعض من قواد الآشوريين، ويلزمون أهاليها بالخدمة العسكرية بحيث يجندون منهم في كل عام عددًا معينًا من الشبان، وكانت المدائن تدفع ضريبة معلومة من المحصولات ومن المعادن.
(٥) السرجونيون (٧٢١–٦٠٦ق.م)
حكم سرجون مدة ست عشرة سنة قضى معظمها في حرب تكاد تكون واحدة، امتدت في أرمينية حيث قاومه الملك أورسا مقاومة عنيفة، وفي مادي والشام؛ حيث أخضع ممالك الخيثي وجعلها عمالات تابعة لمملكته، وفي فينيقية ويهوذا، حيث ردع الملك حزقيا عن الطموح إلى الجهاد والقتال. وقد أراد الملك سباقون الأتيوبي بعد تملكه على مصر أن يتداخل في أمور الفلسطينيين، فكسر سرجون جنوده في رافيا سنة ٧٢٠. وكانت بلاد بابل أهم النقط التي تولى فيها الحرب والكفاح، وقد ظهرت في الوجود أمة جديدة هي أمة الكلدانيين؛ تألفت من اجتماع القبائل الآرامية القاطنة على مصاب نهر دجلة والفرات، وجعلوا لهم سيطرة على المدائن القديمة، بل إن أحد ملوكهم وهو ميروداخيالادان نجح في الاستيلاء على بابل، وكانت هذه الأمة ذات عزيمة وصلابة؛ جمعت بين الفضائل والرذائل التي امتازت بها في القدم أمم دجلة والفرات، وقد أوقع تغلا ثفلاصر بملكهم ميروداخيالادان (في سنة ٧٣٢) ثم هزمه سرجون، مع أن عيلام كانت تساعده وتعاضده، فاضطر لأن يلتجئ إلى البطائح ويحتمي فيها. وحكم سرجون في بابل إلى أن أدركته المنية في سنة ٧٠٥.
خلاصة ما تقدم
-
(١)
إن بلاد آشور واقعة على ضفتي دجلة، والقسم الشرقي منها متوفرة فيه الثروة والري، وفيها ثلاث مدائن قديمة جدًّا وهي؛ نينوي وكلخ وأربله أما الكور الغربية فهي فقيرة قليلة الخصب، وقصبتها الآشور وهي أقدم المدائن الملوكية الآشورية.
-
(٢)
كان أقدم ملوك آشور تابعين لكلديا ثم استقلوا مع توالي الزمان ومدوا سلطانهم على بلاد الجزيرة كلها، ولما جاء تغلا ثفلاصر الأول (في حدود سنة ١١٣٠) أخضع بلاد الشام الشمالية وجزَّأ من البلاد الجبلية التي يخرج منها الفرات ولكن خلفاءه لم يتمكنوا من حفظ فتوحاته؛ فسقطت آشور مدة قرنين في مهواة العجز والانكسار. وقد حوَّل اليونان تاريخ هذه الدولة الأولى الذي فيه اختلاط واختباط إلى أقاصيص وخرافات يدور الكلام على نينوس وسميراميس.
-
(٣)
ثم عادت الشوكة لآشور على يد ملكين مقاتلين مغازيين هما؛ آشورنازرهابال (من سنة ٨٨٤ إلى سنة ٨٦٠) وسلمناصر الثالث (من سنة ٨٦٠ إلى سنة ٨٢٤) وكان في مجالداتهم مع ملوك دمشق توطئة وتمهيد إلى إذلال الشام واستعباد أهاليها.
-
(٤)
ولكن ضعف خلفائه أوجب تأخير ذلك مدة قرن ونصف، فلما جاء تغلا ثفلاصر الثالث (من سنة ٧٤٥ إلى سنة ٧٢٦) وسرجون (من سنة ٧٢١ إلى سنة ٧٠٤) تمما هذا الاستعباد وتملكا على تلك البلاد.
-
(٥)
وقد وصلت شوكة نينوي إلى منتهاها في عهد خلفائه، وهم سنحاريب (من سنة ٧٠٤ إلى سنة ٦٨١) وأشرحدون (آشور أخي الدين) (من سنة ٦٨١ إلى سنة ٦٦٨) وآشوربانيبال (من سنة ٦٦٨ إلى سنة ٦٢٥) وأخضع سنحاريب كلديا واستولى آشور أخي الدين على مصر وآشوربانيبال على عيلام، ولكن هذه الحروب المتوالية هدَّت قوى مملكة آشور وعجلت بخرابها.