الديانة الكلدانية
(١) الآلهة الإخاذيون
كانت كلديا شبيهة بمصر في وجود الآلهة الأخاذيين بها، فكان لكل إله منهم مدينته الملوكية يحكم فيها حكمًا مطلقًا على الأرض والسماء؛ فكان إيع إله إيريدو، وبعل في نيبتور، وسن في أورو، وشمش في لارسام (لرسن)، وميروداخ في بابل، وكان آشور إله بلاد آشور على العموم. وانتشرت عبادة هذه الآلهة من مدينة إلى أخرى بالسرعة حتى صارت عامة في جميع الأقطار الكلدانية، ولكن القوم لم يحيدوا عن ملاحظة كل إله مضافًا إلى أهل جهته وتخصيصه بها عند التوجه والعبادة، فإذا قاموا بعبادة ميروداخ مثلًا في غير بابل فإنما كانوا يوجهون عبادتهم إليه بعنوان أنه إله بابل.
(٢) البانثيون الكلداني
إن اختلاط الأمم المختلفة الأجناس المتوطنة على ضفاف دجلة والفرات قد أحدث اختلاطًا في الأديان؛ بحيث لا يسهل على الإنسان أن يتعرف أصول كل منها أو أن يوفق بينها وبين بعضها. فإن الآثار القديمة التي عثرنا عليها مهما كانت بعيدة العهد ترينا آلهة الأمم المختلفة متحدة وممتزجة ببعضها، كما حصل مثل ذلك في الأمم أنفسهم؛ فكانوا كالمرتبطين مع بعضهم بمعاهدة إلهية؛ وكان لكل واحد منهم وظيفته الخاصة به ومقامه المُعيَّن له تعيينًا واضحًا ظاهرًا.
وفوق هذا الترتيب التدريجي مجلس مؤلف من ثلاثة آلهة؛ آنو وبلع وايع. فالأول هو السماء وهو «القديم وأبو الآلهة وملك الدنيا والليل ورب الظلمات.» وبعل خلق الدنيا وهو «رب جميع البقاع وملك كل الأرواح.» وأما ايع فهو «رب العلوم والفخار والحياة.» ولكل واحد منهم إلهة تزوج بها تعاونه في إنجاز الخلق والإيجاد، وهن أَنَتْ، وبعليت، ودمكينا. وليست وظائفهم محدودة تحديدًا معينًا محصورًا بحيث لا يكون لأحدهم فرصة في الاعتداء على ملك الآخر، بل كثيرًا ما اغتصب بعل سلطة آنو، كما تعدى ايع على سلطة بعل.
وتحت هؤلاء الآلهة القديرين الذين يحيط بهم الإبهام والاختلاط؛ آلهة آخرون أعرق منهم في الحياة والغرابة، وهم سين الذي هو القمر، وشمش الذي هو الشمس، ورامانو الذي هو الجو. وكان الكلدانيون يقدمون الإله القمر على الإله الشمس، وكانوا يعتبرون الإله سين «الرئيس والقادر والمتلألئ، وإله الثلاثين يومًا التي يتركب منها الشهر.» وأما رامانو فكان يرسل العواصف والزوابع والغرق ويستل الصاعقة ذات الأربعة الأطراف كالصارم البتار. وأما الآلهة الأخرى فكان مقرها السيارات الخمس أعني أن آذار في زحل، ومردوك في المشترى، ونرجال في المريخ، وأشتر في الزهرة، ونيبو في عطارد. وخلاصة القول أن الكلدانيين إنما كانوا يعبدون الكواكب والسماء وهذه هي أكبر آلهتهم.
(٣) الشياطين والسحر
وبجانب هؤلاء الآلهة الذي كان القوم كلهم يحترمونهم ويعظمونهم، كانوا يقولون بوجود الجن وأنهم عالَم من الأرواح الثانوية؛ منهم الأخيار ومنهم الأشرار وكلهم لا يراهم الإنسان ولكنهم قادرون على إفادته أو أذيته كما يشاءون، وأنهم يدخلون في كل مكان ويتشكلون بأشكال ممسوخة؛ ترى فيها أعضاء الإنسان ممتزجة بأعضاء الحيوان، وكان بعضهم يدخل في العائلات فيزرع فيها الشقاق والبغضاء، وبعضهم يحل في الأجسام ويبث فيها الأمراض والأسقام، فكانت الأوبئة والحميات والخيالات والأزوار والعفاريت من هذا النوع المزعج أصنافًا متنوعة.
ولما كان الإنسان على الدوام عرضة لأذاهم فكان أشبه بسائح ضل الطريق في بلاد مجهولة فيما بين أقوام متوحشين، فكان يلزمه أن يتخذ لنفسه أولياء من بين الآلهة والأرواح ليكون في مأمن من كيدهم، وأن يتخذ له أسلحة من التعاويذ والتمائم للمهاجمة أو المدافعة، وبالجملة أن يلتجئ في ذلك إلى تعلم السحر؛ فلذلك كان يحفظ عن ظهر قلبه تعاويذ مخصوصة ويحمل أحجبة وتمائم تقيه منهم. وكان الشخص الذي يحمل تميمة لا يمكن مسه بشيء أو الإيقاع به حتى من الآلهة أنفسهم؛ لأن الطلسم كان «حدًّا لا يُنزع ولا تنفذ منه الآلهة، وحدًّا للسماء والأرض لا يمكن نقله من مكان، ولم يستأصله أي إله من الآلهة بل هو حاجز ثابت للوقاية من الشر والسوء، ولا يفقد مفعوله بل تقاوَم به الشرور وتدفَع به الأسواء.»
ولذلك كان السحرة كثيرين في كلديا، وكان بعضهم مترفقين بالإنسان ميالين إليه؛ فكانوا يداوونه من الأمراض ويحمونه من الجان الذين يتهددونه. وكان البعض الآخر على العكس فيبيع السموم ويلقي السحر ويستدعي الأرواح الشريرة بدعوات ورُقيات معلومة. فكانت حياة الكلداني مشوبة بالأكدار على الدوام؛ لأنه كان لا يفارقه الفزع من الجان العادين والسحرة المشائيم، وكانت حياته تنقضي هكذا في مجالدتهم ومقاومة تأثيرهم بكل ما يمكن تصوره من الوسائل.
(٤) الآلهة الآشوريون وذكر الإلهين آشور وأشتر
لم تكن ديانة الآشوريين في مبدأ الأمر إلا ديانة موضعية خاصة ببلادهم، وكان الإله آشور هو الإله الأخاذي لها كما كان ميروداخ إلهًا إخاذيًّا في بابل، وكما أن رجحان طيبة على سائر المدن المصرية؛ كان مرجحًا لآمون إلهها الإخاذي على سائر الآلهة بوادي النيل ومسوِّدًا له عليها، فكذلك كان اتساع بلاد آشور واستمرارها في النمو والارتقاء مسوَّدين لإلهها آشور على سائر آلهة الكلدان مدة من الزمان، فلم يكن إله آشور مساويًا لبقية الآلهة بل هو ربهم ومليكهم ولا يجسر إله منهم أن ينازعه في ذلك، فباسمه يقاتل الملوك ويحرقون المدائن وينهبون المعابد ويقتلون الأمم أو يستعبدونهم. ولم يكن خاصًّا بمدينة بابل؛ فلو انتقل كرسي المملكة من مدينة إلى أخرى لا تنتقل معها؛ ولذلك بارح الآشور إلى كلخ، ومنها إلى نينوي أو غيرها وهو هو الإله الأكبر، وليس ميروداخ، ونيبو، وايع، وبعل، آلهة كلديا القدماء إلا عبيده الخاضعين الذليلين يسجدون له، كما أن الأمم التي تعبدهم تخضع وتخنع لمدينة الآشور ولبلاد آشور.
وليس له زوجة أو أولاد يشاركونه في ملك السماء، وغاية ما يفعل أنه يسمح لامرأة اسمها اشستر بالحضور بجانبه؛ وهي امرأة حرب وقتال تشابهه في القسوة والجفوة. ولو أن دولة الآشوريين كانت بقيت واستمرت لما كان يبعد أن ينتهي الأمر بآشور إلى إبطال الآلهة الأخرى والانفراد بالألوهية دون سواه. وكما أن سقوط طيبة استتبع سقوط سيادة آمون فكذلك سلطان آشور تلاشى بخراب نينوي.
(٥) ميروداخ إله بابل
كان ميروداخ يمكنه أن يرث سلطان الآشور ونفوذه في نفس الوقت الذي أخذت فيه بابل تركة نينوي، وكان هو سيد (بعلو) المدينة، وكان يُعرف بعنوان بعلو (بعلوس أو بعل) كما كان يُعرف باسمه الحقيقي الذي هو ميروداخ من غير فرق، وقد صار في أيام نابوبولاصر ونبوخذ نصر أعظم آلهة الكلدانيين شوكة واقتدارًا، ثم لما جاء نابوناهيد حاول أن يجعله الإله الأكبر والإله الوحيد كما كان الآشور في بلاد الآشوريين؛ فأخذ الآلهة الأخاذيين من مدائنهم ونقلهم إلى بابل وجعلهم حول ميروداخ كالأتباع والأشياع، ولكنه أخفق في مسعاه فإنه فضلًا عن إثارته لسخط المدائن التي أذل آلهتها فقد جعل بابل نفسها تتذمر منه وتنقم عليه، فإن كهنة ميروداخ نظروا بعين الكراهة إلى هؤلاء الآلهة الدخيلين الذين جاءوا وشاركوا إلههم في التحيات والتعظيمات التي كانت مخصصة له وحده إلى ذلك العهد، فمرَّدوا الأمة وحرَّضوها على عصيان نابوناهيد، وترتب على سخطهم تسهيل السبيل أمام الفرس في الفوز والانتصار، فإنهم رأوا في كورش منقذًا أرسله لهم ميروداخ؛ ليعيد العبادة إلى ما كانت عليه من الطهارة، فاستقدموه باشتياق واشتهاء وأيدوه وعضدوه بعد نصرته، ولكنهم لم ينالوا مبتغاهم من جعل إلههم متفردًا بالعبادة بين جميع الكلدانيين بعد أن كان معبودًا في مدينة واحدة.
(٦) بقاء العبادات الكلدانية مدة طويلة من الزمان
قد بقيت الديانة الكلدانية مدة طويلة بعد خراب المملكة، بل إنها بقيت إلى أن جاء الفتح الإسلامي، وقد اختلطت بخرافات وأفعال بربرية وحشية. وما زالت المحاريب (المعابد) القديمة التي بالفرات الأسفل وأخصها أوروك (أوركيو) إلى الأجيال الأولى من التاريخ المسيحي حافظة لشيء من الاشتهار بالعلوم والمعارف، فقد تخرج بمدارسها أشهر أولئك الكلدانيين الذين كانوا يذهبون إلى المملكة الرومانية، ويمارسون فيها صناعة التنجيم والسحر والكهانة (الإخبار بالمغيبات) ثم ما لبثت هذه الخرافات القديمة أن تلاشت شيئًا فشيئًا أمام التعاليم اليهودية والنصرانية والفارسية (أي المجوسية) حتى إذا جاء الفتح الإسلامي انمحى أثر ما بقي منها بالمرة، ولم يبقَ إلا بعض فرق انقرضت الواحدة بعد الأخرى من القرن السادس إلى القرن الرابع عشر للميلاد.
خلاصة ما تقدم
-
(١)
كان لكلديا مثل مصر آلهة أخاذيون في أول الأمر، وهم؛ ايع في ايريدو، وبعل في نيبور، وميروداخ في بابل وآشور، في بلاد آشور.
-
(٢)
ثم اتحد هؤلاء الآلهة ببعضهم فتشكل شبه معاهدة إلهية على رأسها مجلس مؤلف من ثلاثة أعضاء وهم؛ آنو الذي هو الشمس، وبعل خالق العالم، وايع رب العلوم والحياة، وتحتهم آلهة أقل منهم في الإبهام وهم سين أي القمر، وشمش أي الشمس، وآلهة السيارات مثل نيبور (عطارد) واشتر (الزهرة) وأذار (زحل) إلخ.
-
(٣)
وبجانب هذه الأشخاص العليا يوجد آلاف من الأرواح الثانوية بين طيب وخبيث تؤذي الإنسان أو تقيه وتحميه، وله عليها سلطان مطلق بواسطة تمائم وتعاويذ سحرية؛ فلذلك كان للسحرة العديدين في كلديا تأثير بالخير أو بالشر بحسب طبيعة الجان والأرواح التي يتعلمون تسخيرها لهم.
-
(٤)
كان الإله آشور أخاذيًّا في أول الأمر بمدينة الآشور ثم صار إلهًا وطنيًّا لجميع بلاد آشور ثم كبر وصار ربًّا لسائر الآلهة بمقدار ما اتسع نطاق المملكة الآشورية، وازدادت أملاكها ثم سقط في زوايا النسيان على أثر خراب نينوي.
-
(٥)
أما ميروداخ بعلو بابل؛ أي ربها المعروف أيضًا لهذا السبب باسم بعل؛ فقد كاد في عهد نابوناهيد أن يحصل على ما كان للإله آشور من السيادة والسلطان، ولكن سيطرته التي كانت قصيرة الأجل زالت بسقوط بابل.
-
(٦)
وقد استدامت الديانة الكلدانية ممسوخة عن أصلها إلى ما بعد الفتح الإسلامي بزمان.