الآثار والفنون الصناعية
(١) لماذا استعمل الكلدانيون الآجر خصوصًا
إن بلاد كلديا مكونة من طمي الأنهار؛ ولذلك فليس بها أحجار جيرية كثيفة متماسكة، ولا رخام ولا صوان ولا حجر البركان ولا شيء من الأحجار الصلبة التي استفاد منها المصريون أيما استفادة؛ ولذلك آل الأمر بالمهندسين من الكلدانيين إلى أن يأخذوا من الأرض نفسها المواد التي يبتنون منها العمائر والآثار فاستعملوا اللبن نيئًا أو مطبوخًا أو مطليًّا بالمينا وآجرهم عريض جدًّا ويكتبون في العادة على أحد وجوهه السطحية اسم الملك الذي صُنعت في أيامه.
(٢) أقدم الآثار في كلديا
إن أقدم الآثار توجد في كلديا السفلى في خرائب أوروك، ولارسام، وايريدو، وأورو، ولاجاش، وهي هياكل وقصور شادها ملوك كانوا معاصرين للفراعنة الذين أقاموا الأهرام في مصر، وكلها قائمة على أساس من اللبن النيئ، وقد يبلغ طول ارتفاع الأساس عشرين مترًا بحيث يتكون منه شبه تل صناعي، يكون البناء عليه في مأمن من مياه الفيضان، وكان الوصول إلى السطح بواسطة مزلقان خفيف يمكن للخيول أو العربات أن تسير عليه، والسلالم كأنها منقورة في هذا الأساس، وأما القصر نفسه فكان أشبه شيء بكتلة مربعة أو مستطيلة وله جدران عالية عارية ليس فيها من النوافذ والفتحات سوى باب واحد أو أكثر، وكانت هذه الأبواب محلَّاة بفرض طويلة منشورية الشكل، وداخل القصور يضل فيه الإنسان لكثرة الفناءات الواسعة والحجرات الصغيرة ذات الحيطان السميكة التي يزيد طولها على عرضها، وتعلوها القباب ينفذ إليها النور من كوة صغيرة في أعلاها وكانت عادتهم أن يضعوا في أحد الأركان البرج الهرمي (زجُّورات) وهو العنصر الذي تتميز به العمارات الكلدانية، وكانت الزجورات لها سبع طبقات لكل طبقة لون خاص وإله معين، وكانت الآلهة السبعة التي للطبقات السبع هي الشمس والقمر والسيارات الخمسة، وهذه الطبقات هي عبارة عن سبعة مكعبات بعضها فوق بعض وفوق أعلاها في الغالب هيكل صغير يعبد فيه الإله الوطني.
(٣) آثار آشور
قد كمل الآشوريون ما سنَّه الكلدانيون في فن العمارة والبناء ولم يعدِّلوا فيه شيئًا يُذكر، والآجر هو المادة الأولى في بناياتهم، ولكن الحجارة الكلسية التي وجدوها بكثرة في جبال كردستان مكنَّتهم في كثير من الأحيان من طلاء عمائرهم بطلاء من الحجر، وكانوا يضعون في قاعدة التراب المركوم مداميك من الدبش الصغير بعناية وترتيب محكم، وفي الداخل كانوا يؤثرون استعمال صحائف رقيقة لتبليط الغرف أو لطلاء الجدران، وأن ترتيب المعابد والقصور بوجه العموم على الكيفية التي عرفناها في الآشور؛ كلخ، ونينوي، ودورشاروكين (خرزاباد)، هو نفس الترتيب المتبع في المعابد والقصور الكلدانية؛ أي إنك ترى فناءات واسعة وغرفًا ودهاليز مبنية بالعقد يجيئها الضياء من أعلاها وأبراجًا ذات طبقات بعضها فوق بعض. أما الزخرفة في الداخل والخارج فالظاهر أنها كانت متوفرة أكثر بكثير مما في كلديا، فكان على الأبواب أنوار لها رءوس بشرية وتماثيل بالغة في الفخامة والضخامة تمثل البطل جيلجاميس، الذي افترس الأسد وفتك به. وأسفل الحيطان في بعض الأحيان يكون مزدانًا بسطوح مربعة وفتحات الأبواب محلاة بسطور من الآجر المموه بالمينا، وهذه السطور ترافق قنطرة الفتحات التي تعلوها صور ورموز دينية، وقد وجد على مدخل باب الحريم في أحد قصور خرزاباد نخلتان من البرونز المذهَّب، وأما النوافذ (الشبابيك) القليلة التي كانت في بعض الأدوار العليا من البرج فكانت مزدانة بأعمدة صغيرة لها تيجان تحاكي الطرز الأيوني في بلاد الأغارقة، ولها درابزينات من الخشب المشغول، وفي قاعات الاستقبال كانت الحيطان مطلية إلى منتصفها بنقوش بارزة؛ تمثل مواقع الملك المؤسس للقصر ومصايده وطرائده.
(٤) النقش الكلداني
(٥) النقش الآشوري
(٦) الفنون الصناعية
عندنا قليل من آثار الفنون الثانوية مثل صناعة الزجاج والنقش على الخشب والوشي والتدبيج والخزف، وكان الآشوريون ولا سيما الكلدانيون بارعين في تطريز منسوجاتهم بأشكال وصور مشابهة لما نراه الآن على حيطان قصورهم، ولكن الدهر قد ذهب بهذه النقوش التي كانوا يسمونها نقوشًا «من شغل الإبرة» وكان اليونانيون والرومانيون يعجبون بها إعجابًا كثيرًا فائق الحد.
وهذا الإتقان يشاهَد أيضًا في الأشياء القليلة المصنوعة من سن الفيل، التي لم تعبث بها يد الضياع وخصوصًا في الأسطوانات العديدة أو الأختام التي من حجر صلب من أنواع مختلفة وهي توجد بكثرة في خرائب المدائن أما النقش الصناعي؛ أي النقش الدقيق فكان بالغًا في الإتقان مبلغ النقش في الأشياء الجسيمة، بل كانت صناعة الآشوريين والكلدانيين ذات مقام جليل في العالم القديم يحاكي ما كان لصناعة المصريين.
خلاصة ما تقدم
-
(١)
لما كانت كلديا مكونة من طمي الأنهار فلذلك ليس فيها شيء من أحجار البناء، وهذا ما حمل أهلها على استعمال اللبن النيئ أو المطبوخ في مبانيهم.
-
(٢)
أن أقدم الآثار في كلديا السفلى؛ أي في مدينة أورو، ولارسام، وأوروك، ولاجاش، هي عبارة عن معابد وقصور مشيدة على أساس من اللبن النيئ، ويتوصل إليها بسطوح مائلة أو سلالم عرضية ويشرف عليها في العادة برج هرمي ذو أدوار يسمونه زجُّورات، وهذا البرج الهرمي هو أهم ما تتميز به العمارة الكلدانية فكانت هذه القصور والمعابد مزخرفة في الداخل والخارج برسوم على بلاط، أو بطوب مطلي بالمينا.
-
(٣)
العمارة الآشورية هي نفس العمارة الكلدانية، وكانت قصور نينوي وغيرها، من عواصم آشور مطلية في الغالب ببلاط طويل من الأحجار المنقوشة أو المرسومة.
-
(٤)
وقد بقي لنا قليل من آثار النقش الكلداني القديم وأقدمها وأجملها، قد عثر عليه الموسيو دوسارزك في خرائب تللو وهي محفوظة في متحف اللوفر؛ وهي عبارة عن تماثيل جوديا وملوك لاجاش الذين من عائلته.
-
(٥)
أما النقش الآشوري فإنما هو تتميم وتكميل للنقش الكلداني، وليس لدينا إلا قليل من التماثيل أحسنها تمثال آشورنازرهابال، والنقوش البارزة كثيرة، وهي تصور الحركة والحياة أحسن تصوير وعلى أكمل منوال.
-
(٦)
ولم يبقَ شيء من التطريز والتدبيج عند الكلدانيين، وهما مشهوران جدًّا عند السلف، وإن فن طرق المعادن هو الذي نقدر أن نحكم عليه حكمًا صادقًا من دون جميع الفنون الثانوية، وذلك بواسطة الأسد الجميل المحفوظ في اللوفر، والنقوش البارزة على بعض قطع البرنز الصادرة من بالوغات.