وصف فينيقية وذكر صيدون وصور وتأسيس قرطاجة١
(١) وصف فينيقية
وقد جاء في روايات القوم أن أصل الفينيقيين من الأمم التي على شواطئ الخليج الفارسي، وأنهم اضطروا لترك مواطنهم على أثر زلازل هائلة خربت ديارهم ومحت معالمهم، فلما استراحوا مدة من الزمان على شاطئ البحيرة الكبيرة التي في آشور (لا شك أنها هي والبحر الميت شيء واحد) جاءوا إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط واستقروا عنده في نحو القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد، وكانت مدائنهم منفصلة عن بعضها بمسافة عشر مراحل أو اثنتي عشرة بالأكثر، ثم ما لبثت أن امتزجت ببعضها، وتكون منها ثلاث طوائف مستقلة كانت لكل واحدة منها خواص تميزها عن الأخرى.
وكانت جبيل أو جبون التي يسميها اليونان بيبلوس على رأس الطائفة الثانية من المدائن، ويروون أن قد بناها الإله إيل في أول الزمان على بضعة مراحل داخل الأراضي بالقرب من الشاطئ الشمالي لنهر الكلب، ثم انتقلت بعد ذلك إلى ساحل البحر من قرب من نهر أدونيس (وهو إبراهم نهر)، قالوا؛ وكانت بيروت تشاركها في الافتخار بأن الإله إيل بناها أيضًا، وكانت مرسى أمينًا واقعة في نهاية أخصب السهول بفينيقية، والظاهر أن جبيل وبيروت كان لهما شأن مهم في السياسة في الأزمان التي أعقبت مجيء الفينيقيين، ولم تتمكنا من المحافظة على مقامهما هذا مدة طويلة، ولكن نفوذهما لم يضعف بهذا السبب بل بقيتا إلى أواخر الأزمان الوثنية مركزًا لديانة أدونيس؛ وهي من أرسخ الديانات الشامية وأثبتها.
(٢) صيدون (صيدا) وصور
(٣) ابتداء السيطرة الصورية
إن مبلغ العلم عندنا أنه لم يتفق قط لهذه المدائن المتفرقة على ساحل البحر أن تتفق في أي زمن من أزمان تاريخها، وترتبط بمعاهدة تجعلها متحالفة أو مملكة قادرة على صد هجمات الأمم الكبيرة الفاتحة مصرية كانت أو آشورية أو كلدانية أو فارسية، وكثيرًا ما اضطر الفراعنة إلى النكاية بأرواد وسميريا، وقد تعب تحوتموسيس الثالث في إخضاعهم، أما مدائن الوسط والجنوب وهي جيبل وبيروت وصيدون وصور، فقد استكانت إلى الخضوع والامتثال من غير حرب ولا قتال، وأخلص أهلوها في طاعة مواليهم الأجانب إلى ما بعد حكم رمسيس الثاني، وكان هذا والحق يقال هو عين الحكمة والصواب، فقد ترتب على رضائهم بحمل نير العبودية أنهم توصلوا إلى احتكار جميع تجارة مصر مع أمم آسيا والبحر الأبيض المتوسط، ثم تحصلوا على استقلالهم في أواسط القرن الثاني عشر قبل الميلاد حينما عدل الرمسيسيون من العائلة المتممة للعشرين عن المحاربة في البلدان القاصية والأقطار الشاسعة، واكتفوا بالاعتكاف في وادي النيل.
وحينئذ كانت كل من صور وصيدون عبارة عن دولة صغيرة تطمح إليها أنظار مجاوريها؛ بسبب ما أحرزتاه من توفر أسباب الثروة واليسار، ولكنهما قاومتا هذه الأطماع مدة من الزمان بما كان لهما من الحصون والأسوار غير أنهما لم يتأتَّ لهما الاستمرار على هذا الدفاع؛ فقد حدث في السنوات الأخيرة من القرن الثالث عشر (في حدود سنة ١٢١٠) أن أقلع من عسقلون (عسقلان) أسطول فلسطيني وتلاقى بعمارة الصيدونيين؛ فدمرها تدميرًا، ثم استولى على مدينة صيدون. فالذين تيسرت لهم أسباب النجاة من أبنائها فروا إلى مدينة صور ولاذوا بها؛ فأصبحت أقوى دولة في فينيقية كلها، وكان يحكمها في أول الأمر قاضيان يفضَّان المشاكل ويدبران شئون الدولة، إلى أن اتخذت لها ملكًا هو أييبعل، وكان ذلك في نفس الوقت الذي فيه اختار اليهود سيدنا داود ملكًا عليهم.
فلما خلفه ابنه حيرام الأول (من سنة ٩٨٠ إلى سنة ٩٤٦ق.م) جعل لنفسه مع داود ومع سليمان عليهما السلام علاقات عادت عليه بالفائدة والمنفعة الزائدة، ولما كان واثقًا من صداقتهما له انهمك في المشروعات البحرية، وتفرغ لها بكليته حتى صارت مدته أعظم وقت بلغت فيه صور، على ما نعلم، نهاية الشوكة وغاية الرفاهية.
(٤) ثورات صور
كانت صور حينئذ متفرقة في جملة جزائر يفصلها عن بعضها ألسنة من البحر ليست بالعميقة، بل تتخللها صخور طافية رءوسها على صفحات الماء من جنس الصخور التي يتعذر معها اقتراب السفائن في بعض المواضع من سواحل الشام، وعلى أكبر هذه الجزائر وفي أعلى نقطة منها قد أقام أول المستوطنين بها قبل ذلك بثمانية عشر قرنًا هيكلًا لملكارث، وكان في إحدى الجزائر المجاورة هيكل لإلههم بعل السماين، وهو الذي قال اليونان فيما بعد إنه زفس أو لمبيوس، وقد ردم حيرام البوغازات التي كانت تجري المياه فيها فيما بين أقسام المدينة وبعضها، فصار له أرض فسيحة بواسطة الردم الذي عمله والجسور الحصينة التي أقامها لصد الماء، ولكنه مع هذا الاتساع ما زالت البقعة التي فيها المساكن غير فسيحة؛ بحيث لم تكن لتسَع إلا ثلاثين أو خمسة وثلاثين ألفًا من النفوس، فأفاض أهلوها على الأرض القارة، وأقام «تجارها الذين هم من الملوك وبائعوها الذين هم أكرم وأشرف أهل الأرض» قصورهم ودساكرهم على أواخر سفح جبل لبنان، ولكن الجزيرة بقيت مركز الحكومة بالنسبة لحسن موقعها وللخندق الذي يفصلها عن العالم.
ولما توفي حيرام عقبه ابنه بعليسترت على الملك، ولم يحكم سوى سبعة أعوام (من سنة ٩٤٦ إلى سنة ٩٣٩)، وخلفه ابنه ابدسترت فحصلت ثورة من الأهالي لاقى فيها حتفه؛ وذلك أن أولاد مرضعته الأربع قتلوه وولوا أكبرهم مكانه، وقد عضددهم الأرقاء والجنود المرتزقة والعملة الموجودون في المدائن الفينيقية، فاستمروا على منصة الأحكام اثني عشر عامًا (من سنة ٩٢٠ إلى سنة ٩٠٨)، وترتب على حكمهم عواقب وخيمة ونتائج سيئة؛ إذ هاجر قسم من الأعيان والأشراف، ولو استمر الحال على هذا المنوال لانقضت سيطرة صور ودخلت في خبر كان، ولكن حصلت ثورة أعادت السلالة الملوكية القديمة على تخت المملكة، غير أن مدينة صور لم تنَل من ذلك ما تحتاجه من الهدو والسكينة، فتعاقب أولاد بعليسترت الباقين بعد موت أخيهم وتناوبوا الملك الواحد بعد الآخر في مدة قصيرة (من سنة ٩٠٨ إلى سنة ٨٨٧) وكان آخرهم فيلي وقد قتله بعد أن حكم تسعة أشهر أحدُ أقاربه؛ المدعو إيثوبعل الأول كاهن عشتاروت، وحفظ الملك لنفسه مدة اثنين وثلاثين عامًا (من سنة ٨٨٧ إلى سنة ٨٥٥).
(٥) تأسيس قرطاجة
تحالف إيثوبعل مع جيرانه الإسرائليين وتزوج أحاب بابنته إيزابل، فتمكن من حفظ السلام بين الأحزاب المختلفة المشارب، ولكنه بعد موته وقعت ذات الوقائع التي حدثت بعد حكم بعليصور الأول بستة أعوام (من سنة ٨٥٥ إلى سنة ٨٤٩)، وخلفه موتون الأول (من سنة ٨٤٩ إلى سنة ٨٢٠) ولم يكن له من الذراري سوى ابنته إليصار فتزوجها عمها سيشاربعل الكاهن الأكبر لملكارث وترك طفلًا صغيرًا اسمه بغماليون.
(٦) صور تحت حكم الآشوريين والكلدانيين
ليست بقية تاريخ الفينيقيين إلا عبارة عن ذكر علائقهم مع الدول العظيمة التي تنازعت امتلاك الشام من القرن الثامن إلى القرن السادس قبل المسيح، فكان الآشوريون قد ظهروا مرة أولى في فينيقية أيام إيثوبعل، وحاولت مدائن الشمال مقاومتهم من غير أن يكون لها من النجاح أدنى نصيب؛ فوقعت أرواد وسميرا جملة مرار في قبضة آشورنازرهابال وشلمناصر فانتهبوهما أما صور فإنها اقتفت مع هؤلاء الأعداء الحديثين طريق السياسة التي عاملت بها المصريينح إذ حسبت أن الأفضل لها أن تخضع من غير مقاومة بدلًا من أن تقاتل مع عدم مقدرتها على المقاومة ورضيت بدفع الجزية لتعيش في أمان وسلام.
ولكنها لم تستمر على هذا الاحتياط المقرون بالحزم والحكمة؛ إذ في أواخر حكم تغلا ثفلاصر الثالث قام ملكها إيلولي (من سنة ٧٢٨ إلى سنة ٦٩٢) فحارب شلمناصر الخامس وسرجون وسنحاريب محاربات عنيفة انتهت بهلاكه، وكانت هزيمته سبب انقراض الدولة الصورية، فلم تكن فينيقية بعد ذلك إلا عمالة تابعة للدولة الآشورية، ولا يعتد بما حصل بها من الثورات التي ما لبثت أن انخمدت نارها حتى كأنها لم تكن، ولما سقطت نينوي عاد لها استقلالها فدافعت عنه دفاع الأبطال وفازت بدفع نبوخذنصر عنها بمعاونة الفراعنة الصاويين، واحتملت الحصار ثلاث عشرة سنة (من سنة ٥٨٧ إلى سنة ٥٧٤) من غير أن ترضى بالتسليم أو تلتزم بالاستسلام، ولكنها حدثت فيها ثورات أخرى فكان فيها كمال انتزاف قوتها. ففي سنة ٥٦٤ صار قلب الحكومة الملوكية وفي سنة ٥٥٧ أعيدت تحت سيطرة الكلدانيين، ولما سقطت بابل في سنة ٥٣٨ حصل لصور وفينيقية ما حصل لها، فدخلتا في قبضة الفرس من غير حرب ولا قتال.
خلاصة ما تقدم
-
(١)
«لم تكن فينيقية قطرًا من الأقطار بل كانت جملة مواني لها أحواز ضيقة» محصورة بين جبل لبنان وبين البحر، ويقال أن أصل الفينيقيين من البلاد المجاورة للخليج الفارسي، وتنقسم موانيهم إلى ثلاث طوائف متمايزة عن بعضها، وهي طائفة أرواد وسميرا في الشمال ثم طائفة بيبلوس وبيروت في الوسط (وهي الطائفة الثانية).
-
(٢)
والطائفة الجنوبية «الثالثة» كانت تتألف من صيدون (صيدا) ومن صور، وقد كان تأسيس صور على الجزائر المجاورة للساحل في سنة ٢٧٥٠ تقريبًا.
-
(٣)
وقد رضيت عن طيب خاطر بالدخول تحت حكم المصريين، ولم تنَل حريتها إلا في أواخر عهد الدولة المتممة للعشرين، وفي نحو سنة ١٠٠٠ق.م جعلت أبيعل ملكًا عليها، وخلفه ابنه حيرام الأول (من سنة ٩٨٠ إلى سنة ٩٤٦) وكان صديقًا لداود وسليمان.
-
(٤)
وسعى هذا الملك في تحسين صور وتوسيع نطاقها وتحصينها؛ حتى إن الثورات التي وقعت بعد وفاته إلى عهد إيثوبعل الأول (من سنة ٨٨٧ إلى سنة ٨٥٥) لم يكن فيها عائق قوي يحول دون ازدياد عظمتها.
-
(٥)
وبعد ايثوبعل وقعت حروب مدنية أخرى أوجبت مهاجرة الأعيان منها إلى إفريقية تقودهم إليصار ديدون، وأسسوا مدينة قرطاجة في سنة ٨١٤.
-
(٦)
وفي نحو منتصف القرن الثامن اشتبك العراك بين صور وبين آشور فحاصرها سلمناصر وسرجون على غير طائل، وقاومت نبوخذنصر ثلاث عشرة سنة (من سنة ٥٨٧ إلى سنة ٥٧٤) ثم اعترفت أخيرًا بسيادة الكلدانيين عليها، ولكن مقاومتها الطويلة أضنتها وأنهكتها، ثم دخلت من غير قتال تحت حكم الفرس في سنة ٥٣٨.