الديانة – حروف الهجاية – التجارة – الصناعة
(١) آلهة الفينيقيين
(٢) عبادة أدونيس وعشتاروت
قالوا؛ ثم توالت الأزمان على هذه الآلهة المتعددة؛ حتى إنها حلت كلها في زوج واحد سماه القوم إيل وإيلة، أو بعل وبعليت؛ بحسب الجهات المعبود فيها. وصارت بقية الآلهة الآخرين لا تُذكر بجانب هذين الإلهين، بل كان لها شبه وجود فقط، ويقول بعضهم إن بعل هو رب السماء والزمان والأبد والشمس، وأما زوجته فهي القمر. ويقول آخرون إن الآلهة الخالقين هم سبعة، اسمهم الكبراء أبناء الصديق، وكلهم يجتمعون تحت راية ثامن اسمه أشمون، وينقادون لأحكامه. وقد كانت خرافاتهم الدينية شائعة في المدائن البحرية وفي بيروت وصيدون (صيدا)، فانتشرت على سواحل البحر المتوسط بواسطة أهل البحر منهم، بل بقيت إلى ما بعد انقراض المستعمرات الفينيقية وبقي لها محراب وأسرار مشهورة في جزيرة ساموتراس، واستمر ذلك إلى أن تلاشت الديانة الوثنية مرة واحدة.
وكانت البعليم كلها مستنفرة مستوحشة ومتشبعة بالحسد والغيرة، وكانت تفرض على عبادها أن يكون قربانهم لها من الحيوان بل ومن بني الإنسان، وخصوصًا أول مولود للرجل، وعندما يقع خطر عام يتهدد المملكة كان الملك والأعيان لا يقربون إليها ضحية واحدة فقط بل جميع أولادهم الذين يطلبهم الإله فكانوا يحرقون أمام الإله هذه الضحايا وهي على قيد الحياة، ولا يسكن غضبه إلا إذا شم قتار اللحوم ورائحتها، وكانوا يطبلون ويزمرون منعًا لسماع الأنين الصادر من هؤلاء المساكين الذين يعانون عذاب الحريق، ولكي يكون القربان صحيحًا مقبولًا كان من المحتم أن تحضر الأم بملابس الفرح والمهرجان وتقف ساكتة ساكنة لا تبدي حراكًا.
وكانوا يحتفلون بأسرار الآلهة الكبيرة بالقرب من مدينة بيلوس في وادي نهر أدونيس، وذلك أنه متى جاء الانقلاب الصيفي؛ أي متي «قتل الصيف الربيع» أخذت هي في دفن زوجها أدونيس رب الأرباب (أدون أدونيم) إذ قتله حلوف وحشي هائل فتشترك البلاد كلها في حزنها وتلبس الحداد مثلها، فيضعون في الهياكل نعوشًا وعليها تماثيل الإله من الخشب المدهون بالألوان والأصباغ، وكانوا يسهرون عليه قبل دفنه، وكانت النساء تخرج زرافات زرافات وتهيم في المدائن والغابات والجبال راخيات الشعور أو حالقات الرءوس شاقات الجيوب بصدور مرضوضة ووجوه مخموشة، وهن يولولن بالعويل الطويل علامة على الحزن الشديد ثم يأخذ القوم في دفن تمثال أدونيس ويصطنعون بساتينه؛ وهي عبارة عن أوانٍ يغرسون فيها فروعًا خضراء من غير جذور، ثم يعرضونها للشمس فلا تلبث أن تعتريها الذبول والجفاف؛ حتى إذا جاء الخريف انهالت السيول بمياه ضاربة إلى الحمرة، وانصبت في البحر عقيب الأمطار فتهطل على لبنان. وكانوا يعتبرون هذه المياه الحمراء كأنها دم أدونيس، ويتضاعف حينئذ حزنهم ووجدهم بمجرد رؤيتهم لها. وكان الحداد الأكبر يستديم سبعة أيام وفي اليوم الثامن ينبئ الكهنة بأن أدونيس عاد إلى الحياة، وأنه يتأهب للاجتماع بزوجته فيفيض عليهم السرور ويشتد بهم الفرح والابتهاج إلى ما يتجاوز حد الاعتدال.
(٣) ألف باء الفينيقية
لما استطال حكم المصريين على فينيقية أثر تأثيرًا قويًّا على أفكار أهاليها الدينية فتأصلت في مدينة جبيل خرافة أوسيرس وإيسيس، واختلطت بخرافة أدونيس وعشتاروت، وصار الإله توت المصري فينيقيًّا أيضًا، وحفظ في وطنه الجديد مقامه في مصر؛ أعني مؤرخ الآلهة ومخترع الآداب.
وقد نقلوا هذه الحروف الهجائية إلى الأقطار التي كانت تجارتهم تسوقهم إليها، فصارت أصلًا اشتقت منه جميع حروف التهجي المعروفة وقتئذ من بلاد الهند والمغول إلى بلاد الغالية (فرنسا القديمة) وإسبانيا، وجاء في أشهر الروايات اليونانية أن قدموس الفينيقي مؤسس طيبة في البيوثيا (بلاد اليونان) هو الذي أدخل حروف الهجاء بهذه البلاد ووصلت إلى أوروبا عن طريق إيطاليا والحروف التي يستعملها الإفرنج الآن في الكتابة هي مشتقة عنها بالطبع.
(٤) الفنون الفينيقية
وقد كان لتأثير التمدن الآشوري والكلداني موازنة وقتية مع التمدن المصري، ولكنه لم يُزله بالمرة، ولم يتوصل للحلول محله بل نشأ عن ذلك التوازن اختلاط غريب في الأشكال والصور المأخوذة عن هذين التمدنين العظيمين اللذين كانا متناظرين يتنازعان المقام الأسمى في بلاد المشرق، فلما كان الفتح المقدوني بعد ذلك جاءت فنون الفاتحين اليونانيين وطرائقهم الفنية على أثر ما قد سبقها من الصنائع والفنون، ثم بقيت هي دون غيرها وتناسى الناس صنائع المصريين والآشوريين، فلم يكن للفينيقيين قط فنون وطنية خاصة بهم متأصلة فيهم؛ لأنهم اقتصروا في كل عصر على تقليد أعمال الأمم التي تحكمهم، فكانوا يصطنعون على الطراز المصري أو الآشوري المتوسط أيام كانت حكومة بلادهم في أيدي المصريين أو الآشوريين، فلما حكمهم اليونان ثم الرومان حاكوا الصنائع اليونانية، وكانت أعمالهم حينئذ من الطراز الغير الجيد.
(٥) الصناعة الفينيقية والكلام على الأرجوان
لذلك لم يشتهروا عند عموم السلف إلا بكونهم من أهل التجارة والملاحة، ولا صحة لما زعمه البعض من أنهم أول من اصطنع الزجاج؛ لأن المصريين كانوا يعرفونه قبلهم بزمان طويل ولكن الفينيقيين جعلوا طرق اصطناعه سهلة بسيطة، وهم أول من اصطنع زجاجًا بلا لون ينفذ النور منه قليلًا بدلًا من الزجاج الملون الغير الشفاف، الذي كانت تصطنعه مصر وتصدره إلى الخارج، وكانت مصوغاتهم ومطرزاتهم وأقمشتهم الملونة مرغوبًا فيها في كل مكان، وكان أرجوانهم مشهورًا في الدنيا كلها ومضى زمان طويل ولا يعرف أحد من الأمم كيف يكون تركيبه.
وكانت الصباغة وصناعة الزجاج أخص ما يصطنعه الفينيقيون، ولكنهم لم يكونوا يجدون في مصنوعاتهم هذه ما يكفي لوسق سفائنهم وتسفيرها؛ فكانوا يزيدون عليها المحصولات الطبيعية أو المصنوعات التي كانوا يذهبون لاجتلابها من أقاصي الأرض، أو التي كانت تأتي بها قوافل آسيا وأفريقيا إلى ثغورهم. ومضت عليهم الأعصار الطوال وهم الذين يتعاطون نقل البضائع والمتاجر في البحر الأبيض المتوسط؛ بحيث كانت وساطتهم لازمة بين المغرب الذي لم يزَل ضاربًا في فيافي الهمجية والتبربر وبين المشرق الذي علت فيه كلمة التمدن وارتفع شأن الحضارة.
خلاصة ما تقدم
-
(١)
كان لكل مدينة في فينيقية رب خاص بها (بعل) وله عشتاروت (أسطارطوس وهي إلهة أنثى) وكانت البعليم والعشتاروتات تمثل قوى الطبيعة والشمس والكواكب، أو الأغراض التي تتجه إليها نفوس بني آدم مثل العشق والقتال. وكانت هذه الآلهة متوطنة في المرتفعات والمشارف وفي الغابات وفي المياه وفي الأحجار الخام (بيت إيل – بيت الإله).
-
(٢)
وكانت هذه الآلهة تؤول إلى زوج واحد أعلى أو إلى سبعة آلهة كبراء تحف باشمون الذي هو الإله الخالق، وكانت عبادة هذه الآلهة غير منتظمة ومحفوفة بأساليب القساوة، فكان القوم يحرقون الأطفال تمجيدًا لها، وإذا حل الانقلاب الصيفي أخذوا يندبون موت أدونيس، ثم إذا جاء الخريف احتفلوا ببعثه ونشوره.
-
(٣)
ثم دخلت بعض القواعد الدينية المصرية في ديانة الفينيقيين، وكذلك أخذت فينيقية عن مصر حروف الهجاء، ومن الحروف الهجائية الفينيقية اشتقت حروف الهجاء الأوروباوية.
-
(٤)
أما فنونهم من صباغة ونقش ونحت وعمارة وعمل زجاج فقد أثرت عليها صنائع مصر تارة وصنائع كلديا أخرى تأثيرًا عظيمًا.
-
(٥)
وكانت صناعة الفينيقيين مشهورة عند القدماء؛ فقد أتقنوا طرق اصطناع الزجاج، وحفظوا زمانًا طويلًا سر تحضير الأرجوان، وكانوا ينقلون إلى الجهات القاصية مشغولات بلادهم ومصنوعات الأمم الأخرى. وكانوا هم الذين يتعاطون مهنة نقل البضائع في البحر المتوسط مدة أجيال طوال.