المستعمرات الفينيقية
(١) استعمار قبرس
كانت سفائن الصوريين مثل سفائن بقية الأمم المشرقية عبارة عن مراكب لها نصف كويرتة (أي نصف سطح) تسير بالقلع والمجداف، وكان أصحابها يمخرون بها بحذاء الساحل، وما كانت تسافر إلا نهارًا فإذا جاء المساء لجأت إلى جونٍ بجانب رأس داخل في البحر.
وفي بعض الأحيان كانوا يجرون المراكب على البر حتى تبقى واقفة على الرمل، فينزل من فيها إلى الأرض لقضاء الليل ثم يسافرون في اليوم الثاني، وما كانوا يخاطرون بالسير في الغاطس بعيدًا عن الشواطئ إلا إذا لم يكن لهم عن ذلك مندوحة لأجل عبور بوغاز فاصل بين قارتين أو لأجل الذهاب إلى جزيرة بعيدة.
وكانت قبرس أول جزيرة احتلها الفينيقيون وكثرت فيها مستعمراتهم منذ القرن السابع عشر قبل الميلاد، وكان الفينيقيون يستغلون ما أودعته فيها الطبيعة من أصول الثروة وموارد الرزق. واعلم أن هذه الجزيرة يخترقها جبلان من المشرق إلى المغرب يكادان يكونان متوازيين وبينهما وادٍ يعجب السائحين إلى الآن بنضرته وكثرة خصوبته، وأخص محصولاته القمح والكرم والزيتون، وأكثر ثروته من المعادن خصوصًا وكان نحاسها مشهورًا جدًّا حتى إن الرومانيين اعتادوا على تسمية هذا المعدن بالقبرسي «كبريوم»، ومن هذا اللفظ اشتقت أسماء النحاس المستعملة في أغلب لغات أوروبا، وقد أقامت مدينة ببلوس المحراب الأكبر المخصص لبافوس (باف) على الساحل الغربي، وأما باقي الجزيرة فكان منقسمًا إلى ممالك صغيرة وهي كيتيوم (كيتين واسمها الآن شيتي) وأماثونت (أماثونطا) وكوريوم (كوري) وكل هذه الولايات كانت تعترف تارة بسيادة صور وأخرى بسيطرة صيدون، وبالأمة المصرية أو الآشورية التي كان أسيادها الصوريون أو الصيدونيون يؤدون لها الجزية.
(٢) الفينيقيون في بحر إيجه (المعروف الآن بالأرخبيل) وفي البحر الأسود
لم يكن للصوريين في الجنوب مستعمرات مستقلة بنفسها، إذ كانت مخازنهم في أغلب مدائن الدلتا تحت مراقبة الحكام المصريين. ولقد كثر عددهم في منف حتى صار لهم قسم منها استقلوا بسكناه ثم صرفوا وجهة عزيمتهم نحو آسيا الصغرى، فلم تلبث سواحل كيليكيا (لواء أطنه) المحاذية لقبرس أن كثرت بها المخازن التجارية العامرة الزاهرة، غير أن أهالي ليكيا (صوف زاوية) منعوهم من دخول بلادهم كل المنع وقاوموهم في ذلك أشد المقاومة، وأما الكاريون فما كان أسهل امتزاجهم بهم؛ إذ سمحوا للصيدونيين بالاستحواذ والسيادة على رودس، وخالطوهم بالمصاهرة وتشبهوا كل التشبه بأسيادهم المستجدين حتى صارت بلادهم تعرف باسم فينيقية؛ أي الأرض الفينيقية.
(٣) الفينيقيون في بلاد اليونان وتأثير هذه البلاد على فينيقية
من يرمي بنظره إلى الجنوب وهو برودس يرى شماريخ جبال أقريطش (كريد) على بعد، وهذه الجزيرة واقعة في مدخل بحر إيجي وكأنها قارة قائمة بذاتها تكفي نفسها بنفسها، فإن فيها وديانًا خصبة وجبالًا تكسوها الغابات، وقد اتخذ الفينيقيون مصائد للأرجوان في إيتانوس، وصاروا أصحاب الكلمة النافذة في الساحل وأقصوا الأهالي إلى ثنيات جبال إيدا (بسيلوريتي) ومنعرجاتها، ثم انتقلوا إلى كِثِيرا (جزيرة سيريجو) وأحدثوا بها معبدًا لعشتاروت.
ولما كانت بلاد اليونان التي في القارة تحصرها من الجنوب جزيرة كِثِيرا، ومن الشرق جزاير سقلادس؛ فلم تنجُ منهم، بل طرقوا أبوابها وجاسوا خلالها فظهروا في برزخ قورنثة ثم في إيجين (إيجينا-إيجيا) فسلامين (كولوري) فالأرجوليد فالأتيكة. وجاء في إحدى الروايات المعتبرة عند السلف أن الذي أسس مدينة ثيبة في بيوسيا هو قدموس الفينيقي واضع حروف الهجاء اليونانية، فانتشر بسبب ذلك تمدن الشرق ومقالات أهلية في الديانات عند قبائل اليونان التي لم تكن تجاوزت الهمجية تمامًا، ثم تلاشت عبادة عشتاروت إلهة الفينيقيين واستبدلت بعبادة الزهرة (أفروديت بلسان اليونان) إلهة قورنثة وإلهة سيريجو، ثم اتخذ صناع الأرجوليد الأولين الأشياء الدقيقة المصطنعة في مصر نموذجًا يحاكونه في أعمالهم.
ومن هذا الوقت لم يتيسر للصيدونيين والصوريين البقاء في بعض الجزائر المنعزلة مثل: ثاسوس (طاشيوز)، وميلوس (ميلو)، وثيرا (سنتورين)، ورودس وكِثِيرا (سيريجو) إلا بشق الأنفس، بل إن اليونانيين ما لبثوا أن بادؤهم بالشر، وناصبوهم العداوة، وذهبوا يطلبون الثروة في البقاع التي بها الفينيقيون بلا مناظر ولا مزاحم، ولما طرد منفتاح ورمسيس الثالث الأكائيين من ديار مصر نزلوا بقبرس، وقاموا بجهاد استمر قرونًا طويلة، ثم انتهى بخراب المستعمرات الفينيقية القديمة.
ولما كان يونان قبرس على تخوم العالم الشرقي؛ تحضروا ببعض حضارته، وكان أرباب الفنون منهم واقعين تحت تأثير الطرائق المصرية والآشورية مباشرة، أو بواسطة؛ فكانوا يميلون تارة إلى الأسلوب المصري، وطورًا إلى المنهاج الآشوري.
(٤) استعمار صقلية وإفريقية وإسبانيا
على أن الفينيقيين استعاضوا هذه الخسائر بما فتحوه من البلدان في أصقاع البحر المتوسط القاصية، فإن الصوريين كانوا قد انجذبوا قبل ذلك بزمان إلى جهات المغرب لما اشتهرت به أرضه من كثرة معادنها وخصوبتها وكل ما يلزم لرفاهية الحياة؛ فانتقلوا بغير عناء من بلاد اليونان إلى إيطاليا فصقلية، ومن صقلية إلى مالطة فإفريقية (في حدود القرن الثالث عشر) فلما تم طردهم من مياه بحر إيجي انتقلوا بقوتهم كلها إلى تلك الأقاليم التي لم يكن فيها مناظر لهم.
(٥) خراب مملكة الصوريين الاستعمارية
وقد أتمت قرطاجة ما بدأ به اليونان، فإنها ما لبثت أن أزالت كل بهجة لجارتها أوتيكة وهادروميت ولبتيس ثم تنازعت في التجارة والمكسب مع تلك المدينة (صور) التي كانت هي سببًا في وجودها من العدم، وإذ كانت صور غير قادرة على حماية الأمم والمخازن المتجرية التابعة لها لاشتغالها بمجالدة آشور وكلديا؛ اضطر الفينيقيون في صقلية بعد أن طردهم اليونان إلى غرب الجزيرة وشمالها إلى الدخول تحت حماية قرطاجة كما فعل إخوانهم المتوطنون بسواحل إسبانيا وإفريقية، بعد أن أعيتهم الحيلة في التخلص من إيقاع البرابرة بهم وإيذائهم لهم فلما كان منتصف القرن السابع لم يكن لفينيقية مستعمرة واحدة تعترف بسيطرتها حتى ولا قبرس، فقامت المملكة القرطاجية بدلًا عن المملكة الفينيقية.
خلاصة ما تقدم
-
(١)
كان الفينيقيون لا يعرفون سوى الملاحة بجانب السواحل، فكانوا لا يبتعدون عنها إلا عند الضرورة القصوى، كاجتياز زقاق في البحر يفصل بين قارتين، وقد بدءوا باستعمار قبرس لما فيها من المعادن الوافرة، وخصوصًا النحاس.
-
(٢)
ثم أحدثوا كثيرًا من المستعمرات على ساحلي كيليكيا وكاريا وفي جزيرة رودس وجزائر الأرخبيل وشطوط بحر مرمرا، بل ويقال أنهم أوغلوا في سيرهم حتى بلغوا منتهى البحر الأسود.
-
(٣)
وانتقلوا من رودس إلى اقريطش (كريد) ثم إلى بلاد اليونان التي بالقارة، وقد جاء في الروايات أنهم أسسوا مدينة ثيبة في بيوسيا، ثم طردهم مينوس من جزيرة أقريطش ومن جزائر سقلادس ثم جاء الأكائيون فاستقروا بجزيرة قبرس وانتزعوا منهم قسمًا من الجزيرة (في حدود القرن الثالث عشر).
-
(٤)
فاستعاض الفينيقيون هذه الخسائر بمستعمرات كثيرة في صقلية وسردانية وجزائر الباليار وفي إفريقية وفي إسبانيا وكان من نتائج تأسيس مدينة قادر في نحو سنة ١١٠٠ تأييد السيطرة الصورية في إقليم بيتيكا.٩
-
(٥)
وفي حدود القرن الثامن جاء اليونان واستقروا بجوار الفينيقيين في صقلية ثم تعقبوهم وطردوهم إلى إسبانيا فلما وقع القتال بين صور وبختنصر انفصلت عنها قرطاجة وانتُزعت منها سيادة المستعمرات في إفريقية وإسبانيا؛ حتى إأنها لم يبق لها في زمن كورش ولا مستعمرة واحدة، فسبحان من له الملك على الدوام!