في أصل المصريين وتكوين بلادهم
(١) روايات المصريين عن مبادئ العالم
في الأزل كان «نو» أي البحر المحيط الأول، وكانت أصول الأشياء وعناصر الموجودات تسبح في أقصى أعماقه مختلطًا بعضها ببعض، ثم خرج منه «رع» الذي هو الشمس، وخلق الكون بادئ بدء من غير سماء، فأوجد الأرض وحدَّها بنباتها وحيوانها وأهلها، ثم حكمها قرونًا طويلة وأجيالًا عديدة إلى أن تآمر عليه الناس في أيام شيخوخته، فذبح فريقًا منهم، وخلق السماء على دعائمها، ثم استقر فيها وهو الذي يتراءى في كل صباح في المشرق؛ ليضيء اليوم الجديد.
فلما كمل العالم بخلق السماء تولى الملك بعده أربعة من أكابر الآلهة، وكان القوم ينسبون إلى الثالث منهم وهو أوسيرس وزوجته إيسس إيجاد جميع الاختراعات، التي جعلت الإنسان قادرًا على احتمال الحياة، فإنه نظم حقوق الملكية ورتب العائلة ووضع الشرائع وعلم النسيج وحراثة القمح والكرم وتربية الماشية، وقد قتله أخوه تيفون وتولى مكانه، ولكن لم تمضِ عليه سنون قليلة حتى هاجمه ابن أخيه حوروس واضطره لأن يتنازل له عن أرض الدلتا، وأن يبقي لنفسه الوادي الكائن فيما بين ضواحي منف ومدينة أسوان، ومن ذلك الوقت لم يبقَ العالم دولة واحدة. ولما انقسمت مصر إلى مملكتين بارحها أولياء تيفون وأشياعه وانتشروا في البلاد المحيطة بها؛ فزنوج كوش في الجنوب، وأهالي آسيا في الشمال، واللوبيون في الغرب، والأعراب من البدو في الشرق.
ثم حكم على مصر بعد حوروس عائلتان إلهيتان من طبقة ثانية، وبعد ذلك صعد الآلهة إلى السماء، وقام الناس مقامهم في ولاية الأحكام فجاء مينيس من مدينة ثيتيس، وأسس أول دولة بشرية.
(٢) مصر الأولى والكلام على مينيس
وفي رواية لا تخلو غالبًا من الصحة التاريخية أن منا أومينيس أحد عرفاء ولاية ثينيس، هو الذي حاز الشرف وأحرز الفَخار بضمه المملكتين إلى بعضهما، وبتشييد دعائم الدولة المصرية عليهما، وكان ذلك في حدود سنة ٥٠٠٠ قبل المسيح.
(٣) الفرعون والكلام على العائلات: بحسب ترتيب مانيثون
- (١)
فأقدمها وهي العائلة الأولى فالثانية إلى العاشرة قد حكمت في أيام كان مستقر الحياة السياسية والدينية فيها بالجزء من مصر الكائن في مدخل وادي النيل، وهذه هي الدولة القديمة أو العصر المنفي.
- (٢)
وأما العشر عائلات التي جاءت بعدها فقد رفعت شأن الصعيد وأعلنت مكانته على الوجه البحري، فسمي عصرها بالعصر الطيبي، وقد أغارت الرعاة وهم العمالقة (العائلتان ١٥، ١٦) على أرض مصر في وسط ذلك العصر، فانقسمت الدولة إلى دولتين؛ وهما الدولة المتوسطة من العائلة العاشرة إلى العائلة الرابعة عشرة، والدولة الأخيرة من العائلة السابعة عشرة إلى العائلة المتممة للعشرين.
- (٣)
ومن ابتداء العائلة الواحدة والعشرين كان لمدائن الدلتا الشأن والسيطرة على بلاد الصعيد، وكانت هي مقر الحكومة وفيها تصاريف السياسة في مصر، إلى أن أتاها المقدونيون وهذا هو العصر الذي حكمت فيه العائلة الصاوية.
(٤) الثلاث عائلات المنفية الأولى
لا يكاد يكون لدينا تاريخ للعصر المنفي (فيما بين سنة ٥٠٠٠ وسنة ٣٥٠٠ق.م) وقد جاء في الروايات والنقول أن مينيس نظم مجرى النيل بجسور متينة مكينة فوق رأس الدلتا بقليل، وشيد على هذه الأرض المستحدثة مدينة منف أو منفيس واتخذها مقرًّا لحكومته، وعاصمة لمملكته، ولم يرِد عن خلفائه إلا أحوال خصوصية وأشياء خوارق للعادات؛ مثل ظهور غرنوق له رأسان، والطاعون الجارف، وقحط توالى سبع سنين، وانفجار هوة عميقة على مقربة من مدينة بوباسطة ابتلعت كثيرًا من الناس. ولذلك لا يمكن للإنسان إلى اليوم أن يحكم على معظم ملوك العائلتين «الأوليين الطيبيتين» هل كان لهم مسمى في عالم الوجود حقيقة أو أنهم من اختراع الوهم والخيال.
وقد نشأ التمدن المصري على يد الأجيال المجهولة لنا، التي تعاقبت تحت أقدام هذا التمثال الهائل، وسعت في إنماء حضارتها وترقيتها محصورةً في بلادها لا تتخطاها. ولا بد أن آثار هؤلاء الأقوام موجودة باقية، ولا شك أن الأيام ستكشف لنا مخباها وتوقفنا على مكنوناتها.
خلاصة ما تقدم
-
(١)
كان المصريون يعتقدون أن آلهتهم حكمت الدنيا مباشرة في مبدأ الأمر وأن رع؛ أي الشمس، هو أول الملوك. وبعد أن توالت الأجيال الطوال على حكم الآلهة جاء مينيس من مدينة ثينيس وأسس العائلات الدولية البشرية.
-
(٢)
والظاهر أن أصل المصريين من آسيا، وأن أقدم مواطنهم كانت بالدلتا، وقد حصروا النيل وأبعدوا حدود الصحراء، فظهرت بذلك أرض مصر وأحدثوا فيها ولايات صغيرة تجزأت وانتظمت فيما بعد وتعدلت، فتكوَّن منها ٤٤ قسمًا إداريًّا أو كورة، ثم اتحدت هذه الولايات فصارت مملكتين اثنتين؛ وهما الدلتا أي الوجه البحري والصعيد أي الوجه القبلي، وقد ضمهما مينيس إلى بعضهما، وأقام عليهما مملكة الفراعنة.
-
(٣)
وعلى هذا يصح القول بأن الفرعون هو ملك مزدوج، واسمه مشتق من لفظة بيرعوي المجعولة عَلَمًا على قصريه وهو عندهم من سلالة الشمس مباشرة، وكان يلقب نفسه بابنها، وكان عبارة عن إله منتعش بالحياة على وجه الأرض.
وقسم المؤرخ مانيثون الفراعنة إلى إحدى وثلاثين عائلة، فالعائلات العشر الأول يسمى عصرها بالعصر المنفي أو الدولة القديمة والعشر عائلات الثانية (العائلة ١١ إلى ٢٠) عصرها هو المسمى بالطيبي، وقد شطرته إغارة العمالقة (الهكسوس) إلى قسمين هما؛ الدولة الوسطى، والدولة الأخيرة، وأما العائلات الباقية فهي داخلة في العصر الصاوي.
-
(٤)
لا يكاد يكون عندنا تاريخ للعصر المنفي (فيما بين سنتي ٥٠٠٠ و٣٥٠٠ق.م) ولا نعلم شيئًا عن أمر العائلات الثلاث التي جاءت بعد مينيس إلا أسماء بعض الملوك وبعض الأقاصيص عن حوادث خارقة للعادة، وأول فرعون حصلنا على أثر صحيح له هو آخر ملوك العائلة الثالثة، وهو سنفرو، الذي قاتل بدو الأعراب في جزيرة الطور.