دارا – تنظيم مملكة الفرس
(١) بردية الكذاب (سنة ٥٢٢-٥٢١)
لم يكن ملك فارس الجديد إلا رجلًا كذابًا دعا نفسه ببردية زورًا وبهتانًا واسمه الحقيقي جوماته، وكان له أخ اسمه باتيزيتس قد وكله كمبيز (لهراسب) بالنظر في شئون بيته، وكان هذان الرجلان يعلمان ما حل ببردية ويعلمان أيضًا أن أغلب الفارسيين يجهلون هذا الأمر ويعتقدون أن هذا الأمير ما زال على قيد الحياة، فلما مات كمبيز (لهراسب) لم يدُر بخلد أحد من الفارسيين والماديين بل ولا من آل أخيمنيس أن ينازع الملك الجديد، فكان الكل موقنين بأنه الوارث الشرعي للملكة وأنه ابن كورش (كيكسرى) العظيم، على أن تصديق العموم له لم يبقَ ثابتًا وطيدًا في نهاية الأمر؛ إذ علم القوم من نساء السراي أن هذا الذي يدعي بأنه بردية هو رجل آذانه مقطوعة، وأنه لص مختلس من هلافيت العامة وشناتير الناس.
(٢) السنوات الأولى لدارا٢
فإن أهالي ماداي استهواهم رجل اسمه ستارتيا كان يقول إنه من سلالة كياكسار، ونادى بنفسه ملكًا باسم فراورت واعترفت بسلطانه أرمينية وآشور، وقام في أثناء ذلك السجرتيون وأهل المرج مع رؤسائهم الوطنيين، وقد انشقوا على مواليهم الفارسيين وخلعوا طاعتهم، فأرسل دارا جنوده لإطفاء نار هذه الفتن المتواصلة ولكنها لم تظفر بالفوز في معمعة القتال حتى إن ولايتي هرقانية وفرطيانة انضمتا إلى الثائرين، بل إن ولاية فارس الحقيقية نفسها انحازت إلى دعوى كذاب جديد سمى نفسه بردية؛ فلما جاء دارا تغيرت الأحوال وتبدلت الأمور فدخل ماداي من مضيق كرند وانتصر نصرة عظيمة بالقرب من قرية كوندوروس، كانت هي الحاسمة لكل هذه المشاغب (يونيو سنة ٥٢٠) فهرب فراورت الكذاب إلى الشمال ولكن قُبض عليه بالقرب من رغا، ثم سيق إلى أكباتانة (همذان) فلاقى فيها العذاب الأليم الفظيع؛ إذ جُدع أنفه، وصُلمت أذناه، وقُطع لسانه وفُقئت عيناه ثم رُبط بسلسلة متصلة بباب القصر الملوكي، ثم وُضع على الخازوق حتى اكتفى العامة والرعاع من رؤية ما ألمَّ به من الإحن والمحن، وأمر الملك بوضع بعض شيعته على الخوازيق وقطع رءوس الآخرين.
(٣) انقسام المملكة إلى مرزُبات٤
ولم تكن إدارة كل واحدة منها في يد رجل واحد بل كان يقوم بالحكومة فيها ثلاثة كل منهم مستقل عن صاحبيه، وتابع للملك مباشرة؛ وهم المرزبان، وكاتب السر الملوكي، وقائد الجيش، فكان الملك يختار المرازبة من أية طبقة من طبقات الأمة بين الفقراء والأغنياء ومن الأغراب أو أهل فارس على حد سواء، ويقومون بوظائفهم ما شاء الملك أن يقوموا، ولهم الإدارة المدنية المطلقة من توزيع الضرائب وإقامة رسوم العدل وحق إعدام الحياة وإبقائها، وكان بجانبهم كاتب السر الملوكي يقوم في الظاهر بخدمة ديوان الإنشاء، ولكنه في الحقيقة عين من عيون الملك يراقب المرازبة وكل مساعيهم فيخبر بها من له الشأن في جميع أعمالهم، وكانت الجنود الفارسية والوطنية والمرتزقة في الأقاليم تحت إمرة قائد الجنود الذي يكون في أغلب الأحوال معاديًا للمرزبان ولكاتب الأسرار، فكان هؤلاء الأخصام الثلاثة بعضهم على بعض رقيب؛ بحيث إن الفتنة كان يصعب وقوعها إن لم نقل باستحالتها. وكانت علاقاتهم متصلة على الدوام مع الملك بواسطة سعاة البريد الذين يسيرون بانتظام تام، فينقلون الرسائل من أقصى المملكة إلى أقصاها في بضعة أسابيع، وكان الملك يرسل في كل عام نوابًا من طرفه إلى الأقاليم «يسمونهم عيونه وآذانه» لأنهم كانوا مكلفين بأن يروا ويسمعوا بالنيابة عنه ما يقع في الأصقاع القاصية من مملكته، فكانوا يجيئون في الوقت الذي لا يتوقع أحد مجيئهم فيه ويبحثون في أحوال البلاد ويعدلون بعض ما يرون لزوم إصلاحه في جزئيات الإدارة ويعنفون المرزُبان أو يوقفونه عن وظيفته عند الاقتضاء، وكانوا يستصحبون معهم جماعة من الجند لتؤيد نصائحهم بالقوة وتعضد أحكامهم بالاقتدار. فكان التقرير السيء في حق المرزبان أو أقل مخالفة منه لأوامر النواب بل مجرد الشبهة في هذه المخالفة يكفي لسقوطه بل وهلاكه؛ لأن الملك كان يأمر بخلعه، وقد يحكم عليه بالموت من غير محاكمة، فيجيء نجاب بغتة ويسلم للحامية أمرًا بقتل رئيسهم فيمتثلون الأمر بمجرد رؤية فرمان الملك.
(٤) مالية الدولة الفارسية
فلم يرُق هذا الإصلاح في أعين أعيان الفرس، وانتقموا بالاستهزاء والاستخفاف بالطاعة التي ظن دارا إلزامهم بها، فكانوا يقولون «قد كان كورش والدًا وكمبيز سيدًا وأما دارا فليس إلا خمارًا شرهًا للمكسب.» فإن تقسيم المملكة كان في الحقيقة عملية يقصد بها جمع المال كما يقصد بها انتظام السياسة، فإن أعظم واجب على المرزبان هو توزيع الضرائب وجبايتها وتوريدها خزينة الدولة، وأما فارس الحقيقية فقد أعفي أهلها من بعض الضرائب الشرعية وأما بقية العمالات فقد فُرضت عليها الضريبة بحسب اتساعها وثروتها، وتدفع الضريبة نقدًا وعينًا؛ ولأجل تسهيل الدفع على كل إنسان أمر دارا بتداول نقود من الذهب والفضة سُميت بالدارية، وقد استعملها على الخصوص في دفع أرزاق الجند، ولم ينتظم تداولها في الأقاليم التي على سواحل البحر الأبيض المتوسط. وأما في أواسط آسيا فاستمر الناس على استعمال الوزن في تقدير المعادن اللازمة للمعاملات التجارية وحاجات المعيشة اليومية.
ولم يكن تحصيل الضريبة العينية بكيفية واحدة في جميع العمالات، فكانت مصر تقوم بما يلزم من القمح للجنود المحتلين لها احتلالًا عسكريًّا وعددهم ١٢٠٠٠٠ رجل، والماديون يدفعون في كل سنة ١٠٠٠٠٠ رأس غنم، و٤٠٠٠ بغل، و٣٠٠٠ فرس، والأرمن ٣٠٠٠٠ مهر، وكيليكيا ٣٦٥ فرسًا قرطاسي اللون (أشهب أي أبيض) ولم تكن الضرائب الملوكية فادحة، ولكنها لا تدل على مقدار التكاليف والأحمال التي على كل عمالة، وذلك لأن المرازبة لم يكن لهم مرتب معلوم يصرف من خزينة الدولة بل كانوا يتعيشون هم وحشمهم وخدمهم من البلد الحاكمين فيه، ويلزمون الأهالي بأن يدفعوا لهم النفقات الزائدة والمرتبات الباهظة؛ مثال ذلك أن حكومة بابل وحدها كانت تدفع إلى حكامها مبلغًا معينًا في السنة من المعادن توازي قيمته ٢٦٠٠٠٠٠ فرنك، وكان حكام مصر ومادي والشام يستغلون من ولايتهم ما لا ينقص عن ذلك القدر إلا بيسير، وإن أفقر العمالات لم تكن أقلها في تأدية الرسوم الزائدة عن الحد للموكلين بها، وما ذلك إلا لأن نفقات المرزبان كانت على الأقل مساوية للنفقات التي يحتاج لها الملك نفسه.
(٥) دارا في الهند
خلاصة ما تقدم
-
(١)
اعترفت المملكة كلها بسلطان جوماته وهو بردية الكذاب مدة شهور كثيرة، ثم جاء دارا ومعه ستة من وجوه فارس فقتلوه هو وكل من شايعه من المجوس، وكان ذلك في سنة ٥٢١.
-
(٢)
ثم ابتدأ دارا في أول الأمر بقمع جملة فتن أولها في بابل تحت قيادة كذابَين، أعقب الواحد منها الآخر، وسمى كل منهما نفسه بختنصر، مدعيًا أنه ابن نابوناهيد (٥٢١–٥١٩) وثانيها فتنة عيلام، وثالثها فتنة مادي تحت قيادة رجل سمى نفسه فراورت، وادعى أنه ابن كياكسار، ولم يتم لدارا إخضاعه إلا بعد محاربتين عظيمتين بالقرب من كوندوروس (سنة ٥٢٠) بل إن فارس نفسها قامت عليه وعلى رأسها رجل كذاب آخر سمى نفسه بردية، ولم تنتهِ هذه الثورات إلا في أواخر سنة ٥١٩.
-
(٣)
وقد نظم دارا مملكة الفرس وقسمها إلى مرزبات يحكم كل واحدة منها ثلاثة، وهم؛ المرزبان، وكاتب السر الملوكي، وقائد الجند، وكل منهم مستقل عن الآخرين وكان الملك يرسل «عيونه وآذانه» إلى تلك الأقاليم لمراقبة سير هؤلاء العمال وتعرف أحوالهم.
-
(٤)
وقد أعفيت فارس الحقيقية من الضريبة، وأما باقي العمالات فقد فرض عليها خراج تدفعه من النقود الدارية أو من عين الأصناف والمحصولات، وذلك بحسب إيرادها، وقد التزمت أيضًا بالقيام بنفقات حكامها الفارسيين وحواشيهم.
-
(٥)
وما زال الفارسيون يفتحون الأقاليم حتى بلغت أطراف مملكتهم الجبال والبحار، فلم يكن لهم للخروج منها إلى غيرها سوى منفذَين؛ أحدهما في الشرق نحو الهند، والآخر في الغرب نحو إغريقية. وفي سنة ٥١٢ فتح دارا بلاد بنجاب ثم تحول على إغريقية، وابتدأ الحروب المادية.