الكلام على منف والدولة القديمة
(١) العائلة الرابعة وذكر الملك خيوبس وخفرن وميقرينوس والكلام على احتلال المصريين شبه جزيرة الطور
على أن الفراعنة الأقدمين صمموا على الخروج من ديارهم إلى نقطة واحدة أسسوا فيها مستعمرة باقية مستمرة، وهي شبه جزيرة الطور؛ لأنها كانت تحتوي في بعض وديانها المواجهة لمصر على معادن يكثر فيها النحاس والفيروزج، وما لبثت هذه الجهة أن توطنت فيها العمال واشتغلوا باستخراج هذه المعادن مدة أجيال طوال، وقد أقاموا في مواضع مختلفة جسورًا لحبس مياه الأمطار، فكانت منها بحيرات صغيرة أمكن بواسطتها فلاحة بعض الأراضي وتربية قليل من الماشية، وكان البرابرة من أهل الجيزة ينازعون أولئك المستعمرين في امتلاك هذه الواحات الصناعية، وبعد سنفرو قد صد هجماتهم كثير من الفراعنة، ولكن لم يقُم بفكر أحد من هؤلاء الملوك أن يتمم غزوته ويستقصي نصرته. ولم يكن بين كور آسيا الممتدة خلف الصحراء التي نشأت منها فيما بعد بلاد فلسطين ويهوذا وبين الديار المصرية؛ إلا علاقات تجارية، وكانت القوافل تتردد بانتظام فيما بين أفريقيا وآسيا، وأما الجيوش فلم تسلك هذه الدروب.
(٢) الأهرام الكبرى
كان الأمن والسكينة ضاربين أطنابهما في داخل البلاد المصرية، ويظهر لنا من الأوراق المكتوبة في ذلك العصر أن الفلاحة كانت في غاية الفلاح، وأن الصناعة ارتقت في معاريج النجاح، وهناك مئات من القبور تفصح بلسان الحال عن الدرجة السامية التي بلغها فن العمارة والنقش في ذاك الزمان.
(٣) الملوك المنفيون الأخيرون من العائلة الخامسة والسادسة وذكر افتتاح بلاد النوبة
الظاهر أن العائلة الخامسة «المنفية» لا تختلف عن العائلة الرابعة في شيء، فإنها تشبهها في توفر أسباب الثروة واليسار وتوطد دعائم الأمان والنظام والولوع بالترف في العمائر، ولكنها مع ذلك كانت مبدأ لسقوط الدولة المصرية وانحطاطها.
(٤) العائلات الخارجة من هيراكليوبوليس وجلوس العائلات الطيبية على سرير الملك
إن السيطرة التي حصلت عليها مدينة هيراكليوبوليس لم تبقَ لها إلا قليلًا من الزمن (حكمت فيه العائلتان التاسعة والعاشرة) فقد ظهر لها في الجنوب أخصام ذوو بأس شديد، ولم تكن مدينة طيبة إلى ذلك العهد نالت من الظهور ما يجعل لها حديثًا في التاريخ ولم تنَل الأهمية ورفعة الشأن إلا بعد سقوط المنفيين وخروج الأمر من يدهم. وكانت في أول الأمر تابعة لهيراكليوبوليس ولكنها ما لبثت أن جاهرتها بالعصيان، وأشهرت عليها الحرب العوان، وجالد أمراؤها فراعنة العائلة العاشرة، وفازوا بالظفر والانتصار حتى استبدوا عليهم وانتزعوا الملك من أيديهم (في حدود سنة ٣٢٠٠ق.م).
واعلم أن تولي العائلة العاشرة الطيبية انتهت به تلك الحركة التي ابتدأت في الوجود عقب سقوط العائلة الخامسة، فقد كانت الحياة السياسية في القُطر حالة بأكملها بمصر الوسطى في مبدأ الأمر، ثم انتقلت منها قليلًا قليلًا حتى كأنها صعدت النهر ووقفت في متوسط مجراه برهة من الزمان، ثم بارحت هذا المكان فأخذت مدينة طيبة الرياسة والتصدر بعد مدينة منف، وبقيت على ذلك أكثر من عشرين قرنًا بالتمام.
خلاصة ما تقدم
-
(١)
لم تتوجه همة ملوك العائلة الرابعة وهم؛ خيوبس وخفرن وميقرينوس، ولم يمدوا يد اجتهادهم إلى ما هو خارج عن الديار المصرية، ولم يخرجوا من مصر إلا لاحتلال شبه جزيرة الطور؛ حيث أنشئوا فيها مستعمرات وطيدة الدعائم خصصوها لاستخراج المعادن.
-
(٢)
وفي داخل القطر كانت السكينة تامة والأمنية عامة، وكان الفراعنة يتفننون بكل ما في وسعهم في تشييد قبورهم؛ وهي أهرام متقاطرة وراء بعضها فيما بين الفيوم والقاهرة على حافة صحراء لوبيا. وأشهر هذه الأهرام هي التي بجوار الجيزة؛ بنى الملك خيوبس أكبرها، والملك خفرن أوسطها، والملك ميقرينوس أصغرها. وقد دار على ألسنة العامة من الأهالي فيما بعد أنها من صنيع ملوك قست قلوبهم، وكانوا من الزنادقة الملاحدة.
-
(٣)
لما قامت العائلة الخامسة أخذت منف في السقوط عما كان لها من السيطرة، وازدادت أهمية الولاة الإخاذين في مصر الوسطى ثم جلست على سرير الملك عائلة أصلها من جزيرة أسوان، وهي العائلة السادسة، وابتدأ أحد ملوكها وهو بيبي الأول في افتتاح النوبة، وظهر على الأمم المتوطنة في شرقي الدلتا وغربيها، وبعده بقليل عاد المجد والعز إلى مدينة منف (في أيام العائلتين السابعة والثامنة) ثم ما لبثت أن فقدت هذه السيطرة إلى أبد الآبدين.
-
(٤)
وجاءت عائلتان من مدينة هيراكليوبوليس (وهما التاسعة والعاشرة) وجلستا على سرير الملك، فتمهدت طريقة الانتقال من الدولة القديمة إلى الدولة الوسطى، ثم دبت الحياة السياسية في مصر الجنوبية، واستقرت فيها إدارة البلاد؛ إذ قام ملوك العائلة الحادية عشرة وبعد طول الجلاد استولوا على جميع ما في القطر من البلاد، واتخذوا مدينة طيبة عاصمة لهم، وكان ذلك في حدود سنة ٣٢٠٠ق.م.