طيبة والرمسيسيين
(١) ذكر العائلة الثانية عشرة والثالثة عشرة وحدوث المملكة المصرية الكبرى
لما تقلد أمراء الجنوب زمام الأحكام وقبضوا على مقاليد الإدارة، ساروا بمصر في وجهة جديدة، واختطوا لها طريقًا لم تكن سارت فيه من ذي قبل، فبقدر ما كان سلفاؤهم المنفيون يجنحون إلى السلم كان هؤلاء الملوك ميالين للقتال مولعين بافتتاح البلدان. ففي أوائل حكمهم؛ أي في الدولة الوسطى كانوا لا يكادون يشنون الغارة إلا على بلاد إتيوبيا وذلك لأن موقع عاصمتهم ومقر حكومتهم هو الذي قضى عليهم بانتهاج هذا المنهج فإنهم لقربهم من تخوم النوبة أكثر من سلفائهم كانوا أشد منهم شعورًا بالحاجة إلى الاستيلاء على الأقاليم التي يرويها النيل الأعلى، ولكن لم يكتفوا مثل بيبي الأول ببعض غزوات كانت نتيجتها وقتية، بل شرعوا في افتتاح البلاد، واحتلالها بكيفية دائمة مستمرة.
وقد اتسعت مصر في أيام العائلة الثانية عشرة (التي حكمت من سنة ٣٢٠٠ إلى سنة ٣٠٠٠ق.م) فإنها أبعدت بحدودها إلى ما وراء الشلال الثاني، فإن ملوك هذه العائلة المعروفين باسم أَمِنْحَعِت، وباسم أوسرتسن قد أسسوا بين أسوان ووادي حلفا مستعمرات مصرية عززوها بقلاع وحصون، كان لها السيطرة والأمر على ملاحة النهر. وأما العائلة الثالثة عشرة فقد تقدمت بالتدريج في فتوحها إلى ما وراء الشلال الرابع، وما زالت آثار ملوكها تشاهَد إلى يومنا هذا في جهات متفرقة قبلي وادي حلفا فإنهم استولوا على تلك البقاع استيلاءً تامًّا. أما السكان فمنهم من تبدد شملهم، ومنهم من قضى عليه ناموس النسخ والحلول، فتمثلوا بالفاتحين وتشبهوا بهم، فتلاشت لغتهم وكتاباتهم وأخلاقهم وديانتهم وحلت محلها لغة الطيبيين وكتابتهم وأخلاقهم وديانتهم، ثم قسم المصريون البلاد ورتبوها على الأسلوب المتبع في ترتيب الكور (الأقسام) التي بشمالي أسوان.
وبهذا تم للعائلتين الأوليين الطيبيتين توسيع دائرة مصر، فبعد أن كانت تنتهي عند الشلال الأول صارت مملكة كبيرة بعيدة الأطراف؛ بما ضموه إلى جنوبها من أقاليم أفريقية، فإن استمرارهم على القتال مع قبائل قليلة عاجزة عن المقاومة ما كان يحوجهم إلى كبير قوة؛ فلم يكونوا يخشون من هذه الحروب أن تجر وراءها الفقر في القطر المصري أو الضعف في سكانه. وقد نالت مصر على يد الدولة الوسطى من الرفاهية والهدو ما استمر فيها نحو خمسة قرون على الأقل.
(٢) الهيكسوس (أي العمالقة)
ولكن الملوك الخارجين من هذه المدينة لم يقدروا على صد غارات الأغراب، قال مانيثون: «تولانا ملك اسمه تيماوس، وما أدري لماذا أرسل الله علينا في عهده ريحًا عاكسنا بها، فقدم على بلادنا أناس من المشرق محتقرون مهينون، فأغاروا عليها وأخضعوها بسهولة ومن غير قتال، وهذا أمر بعيد الاحتمال ولم يكن في حسبان إنسان.» فإن الأعراب انقضوا على الدلتا وانتشروا في أنحائها انتشار الجراد، وما لبث أولئك الرعاة أن اختاروا سلاطين أحد رؤسائهم فولُّوه ملكًا عليهم، وألزموا جميع الأمراء الوطنيين الاعتراف به والخضوع لسلطانه (وكان ذلك فيما بين سنة ٢٣٠٠ وسنة ٢٢٠٠ق.م) وقد استمر حكم الهيكسوس (الملوك الرعاة) ستة قرون، وبقيت هذه العشائر وهي متحصنة في معسكر أواريس على حالتها من الخشونة والفظاظة، ولكن ملوكهم ما لبثوا أن رقوا في سلم المدنية ومعراج الحضارة حتى صاروا يشبهون الفراعنة تمام المشابهة، فشادوا المعابد والهياكل، وأقاموا التماثيل والأنصاب، واتخذوا اللسان المصري لغة رسمية لهم، ونشأ منهم عائلتان (الخامسة عشرة والسادسة عشرة) معترف بهما من الجميع، ثم قام ولاة الأقاليم القبلية ورجعوا إلى استقلالهم، وساعدهم على ذلك بعدهم عن الدلتا، ثم مالؤا ملوك طيبة على الملوك المتناسلين من الأغراب فظهرت العائلة السابعة عشرة «الطيبية»، واستمرت مدة قرن ونصف وهي تحاول استرجاع الفيوم والدلتا، وقد استولى الملك أموسيس أول فراعنة العائلة الثامنة عشرة على معسكر أواريس، وطرد من بقي من الرعاة العمالقة إلى بلاد الشام (وذلك فيما بين سنتي ١٧٠٠ و١٦٥٠ قبل الميلاد)، وحينئذ صارت طيبة مرة ثانية عاصمة للديار المصرية.
(٣) العائلة الثامنة عشرة وحروبها في حوض النيل
(٤) فتوح الشام وذكر تحوتمس الثالث
وكانت الرابطة التي تجمع بين أجزاء هذه المملكة غير وثيقة، فكان يتكرر انقطاعها ويتوالى فصمها؛ بسبب امتناع بعض الأمراء عن دفع الأموال في أكثر الأحيان، أو بظهور الفتنة في بعض المدائن، أو في جميعها، وكان الفرعون وأعوانه دائمًا يتوصلون إلى استئصال شأفة الثورة وقمع الخوارج وإعادة السكينة على قدر ما يصلون إليه، واستمرت سلطة الدولة المصرية على هذا المنوال من غير أن تكون وطيدة الأركان، ومن غير أن يعتريها تأثير عظيم من الاضمحلال مدة قرن من الزمان؛ أي من عهد تحوتمس الثالث إلى أيام أمينوتيس الرابع، بل إن نفس ملوك الآشوريين والكلدانيين اعترفوا بهذه السيطرة للدولة المصرية، ورأوا من الحزم والحكمة تحسين صلاتهم مع جيرانهم المصريين ذوي الاقتدار والبطش المبين.
(٥) العائلة التاسعة عشرة، ومحاربتها مع طوائف الخيثي (الخيثيين)، وذكر رمسيس الثاني
(٦) رمسيس الثالث وذكر انحطاط مصر عما كان لها من الشوكة والاقتدار
وقد ظهر الانحطاط بأكثر من ذلك في القرن التالي، فإن أمم الأرخبيل وسواحل آسيا الصغرى أو إغريقية (أي بلاد اليونان) المعبَّر عنهم ﺑ «أمم البحر» تواطئوا مع اللوبيين فشنوا الغارة جميعًا على الوجه البحري في عهد منفتاح بن رمسيس الثاني، فهزمهم وردهم على أعقابهم خاسرين. ولكنهم عاودوا الكرة في أيام خلفائه، وساعدهم على نجاح مشروعهم ما حصل من ثورة ولاة الكور، فخلعوا الفرعون من الملك واستبدلوه بصعلوك أفَّاق مِقحام من أبناء الشام، وبقي على رأس الدولة بضعة أعوام، حتى جاء رجل من سلالة الأسرة القديمة الشمسية، وهو رمسيس الثالث، فأعاد مصر كلها تحت سلطان العائلة المتممة للعشرين، وهزم أمم البحر وكسر جنود اللوبيين وافتتح سورية الجنوبية ثانيًا (في حدود سنة ١٢٥٠ق.م) وقد تلقب الملوك الذين خلفوه باسم رمسيس، وحافظوا مدة قرن أيضًا على بضع مدائن في أرض الفلسطينيين وعلى سيادتهم على جزء من البلاد المجاورة لها (من سنة ١٢٠٠ إلى سنة ١١٠٠ق.م).
خلاصة ما تقدم
-
(١)
إن جلوس ملوك الجنوب على منصة الأحكام غيَّر أحوال مصر وبدَّل الطريق التي كانت سائرة فيها بطريق أخرى؛ وذلك لأن العائلات الطيبية كانت مولعة بالقتال كَلِفَة بافتتاح البلدان؛ فالعائلتان الأوليان منها (الثانية عشرة والثالثة عشرة) وجهتا معظم همتهما وجل عزيمتهما إلى أقاليم النيل الأعلى واستعمرتا النوبة لحد الشلال الرابع، فأحدثتا بهذه المثابة مملكة مصرية كبرى كانت مدينة طيبة قاعدتها ومركزًا لها، ثم تبدلت الأمور وتقلبت الأحوال فعاد السلطان مؤقتًا إلى عائلة من الدلتا هي العائلة الرابعة عشرة السخاوية.
-
(٢)
ولم تتمكن هذه العائلة من حماية القطر وصد هجمات الهيكسوس؛ فأغاروا عليه في حدود سنة ٢٣٠٠ قبل الميلاد وحكموه نحو ستة قرون، ثم تم طردهم من البلاد بعد أن طال أمد الجلاد بينهم وبين الملك الطيبي أموسيس مؤسس العائلة الثامنة عشرة.
-
(٣)
وقد حافظ فراعنة هذه العائلة على البقاع التي افتتحها ملوك الدولة الوسطى في حوض النيل، بل وأضافوا إليها فتوحات أخرى.
-
(٤)
على أنهم فضلوا مهاجمة آسيا، حيث افتتح تحوتمس الثالث بلاد الشام إلى نهر الفرات (فيما بين سنتي ١٥٦٠ و١٥٣٠ق.م)، غير أن مملكتهم المؤلفة من مدائن وأمم مضروبة عليهم الجزية وخاضعة لطاعتهم بواسطة بعض الحاميات المصرية قد بقيت محفوظة كما هي مدة جيل تقريبًا (من سنة ١٥٣٠ إلى سنة ١٤٣٠ق.م).
-
(٥)
ثم أخذ ظل دولتهم يتقلص على إثر الحروب الأهلية التي كان سببها مسعى أمينوتيس الرابع في استبدال عبادة آمون بعبادة قرص الشمس ولم يتيسر للفرعونين الغازيين سيتي الأول ورمسيس الثاني (سيزوستريس) من العائلة التاسعة عشرة (فيما بين سنتي ١٤٠٠ و١٣٠٠ق.م) أن يعيدا المملكة إلى ما كانت عليه بالتمام والكمال، وأضحت مملكة الخيثي (الخيثيين) من ذلك العهد دولة مستقلة في سورية الشمالية.
-
(٦)
ثم ازداد الانحطاط في القرن التالي مع ما كان من انتصار منفتاح ورمسيس الثالث على اللوبيين وأمم البحر في وقائع عديدة، ثم أضاع الملوك المعروفون بالرمامسة من العائلة المتممة للعشرين في مائة سنة من الزمان جميع البلدان التي فتحها أسلافهم في آسيا وإلى الله المآل (١٢٠٠–١١٠٠ق.م).